الناس والطريق
الجزء الثانى
الفصل الأول
بعد الأخير (بعشر سنوات)
مسافر رغم أنفه: إفاقة لم تتأخر
الاثنين 21/6/1993:
سفر ليس كالسفر….
كان لابد أن أعود…. – ولو بالقوة الجبرية- وأنا أستعد لاستقبال ما تبقي….بعد أربعة شهور وعشرة أيام، أوهـم نفسى دائما أننى فرح ببلوغ هذه السن: ستين عاما، لماذا؟ أحاول أن أجمع أوراقى فأتورط فيما لا أريد، ومالا أحب، وما لم أعمل له حسابا، فى الاعوام الثلاثة الأخيرة حدثت أشياء كثيرة أغلبها سخيف لا يقال، وأقلها وقفة لم تثمر، ثم ماذا؟ يقولها شاب يستعد لأشياء كثيرة، آتية، ومجهولة، أما حين تصدر من شيخ مثلى فالأمر قد يشير إلى ما يسمونه باسم من الأسماء السخيفة التى شوهوا بها مشاعر الناس: قال “اكتئاب”!!! هل هذا يصح؟ أعظم الألم وأشرف المـراجعة تسمونها لا أدرى ماذا يا خلق الله، ومع ذلك قبل هذه السفرة قال الشيخ: ثم ماذا؟ قال لماذا؟ لماذا أسافر الآن هكذا؟ لماذا أوافق؟ أدعى أنى سأقبل لكى أكتب الكتاب الذى لا أريد أن أكتبه، لأناس لن يقرؤوه، الكتاب الذى لن أتقاضى عليه أجرا من قادرين كلـفونى به، لا يهمهم إن كانوا سوف يدفعون أو لن يدفعوا- كتاب فى الأمراض النفسية والعياذ بالله، قال ماذا، قال لأن فلانا أصدر كتابا سخيفا لم يقرأه هو، جمع فيه أجزاء معلومات كثيرة، ووضعها بجوار بعضها مرصوصة مشتتة، توحى بجهد مــنهكين مأجورين مجهولين مختلفين، وأنا لا أذكر أيا من هذا إلا لأعلن أننى شوهت هذا السفر بالانشغال بهذا الكتاب الذى شعرت أننى ملزم بكتابته لطلبتى أساسا لأنسخ به مالا يصح أن يجثم على وعيهم دون مبرر، بالله عليكم هل هذا إسمه كلام؟ أسافر إلى سويسرا مرغما ثم أكمل إلى باريس مختارا لأكتب كتابا مـكـرها عليه، سجين حجرة ليست أهدأ ولا أجمل من أى حجرة لى فى أى مكان فى مصر؟ وما أكثر حجراتى وأماكنى الجميلة، لكن يبدو أن ضباب الشك وجفاف الوحدة قد حالا بين نقاء الحس ونبض الجمال.
المهم أننى سافرت، ليس لأسافر كما كان الأمر حين كنت أسافر لأتعري، وأعيد النظر، لعلى أتجدد، وأبدأ ثم أبدأ ثم أعاود البداية، كل هذا لم يخطر على بالى ولا سمحت له أن يطوف حتى بظاهر وعيى لكى لا آمل فيه، لكى لا أكذب فأدعيه. سفر شكله جديد، غريب علي، سفر مـيت منذ البداية، تذكرت كيف بدأت “الناس والطريق” وأنا أعلن أنه إما سفر للتعري، وإما جلوس فى عقر الدار والطيـب أحسن، وهأنذا أسافر هامدا، أكاد أقول كاذبا.
عشر سنوات مضت على الرحلة الأولى على ما أذكر أو قل ثمان، فما الفرق،ولكن المؤكد أنه ربع قرن مضى بين ولادتي-إقامتي- فى باريس سنة 1968-1969وبين ما هو أنا الآن
ولكن ما هو هذا الذى هو أنا الآن؟
إلا أنه هو هو السفر، فلا بد أن يكون مثله مثل غيره من عمق آخر، فلتكن تجربة، فمازال من حقى أن أجرب، حتى لو لم أتبين ماذا تم خلال ربع قرن: أنا (؟) أنا كل ما لم أحسب حسابه ولم أسع إليه، ولولا كل ما فعلته بالصدفة وأنا أنتظر ما لا أحبه، وأتحمل من لم أختره، وأكتب ما لا يعنيني، لولا هذا الذى تم بالصدفة التى أرغمتها أن تكون اختيارا، ما كان عندى ما أقوله الآن ردا على تساؤلى الآن: ماذا تم خلال ذلك؟ من هذا الذى يسافر الآن؟
أنا رئيس قسم فى الجامعة، ورئيس مجلس إدارة جمعية، وعضو لا أعرف ماذا، ومستشار كذا وكيت، وحين اضطررت أن أكتب ما يسمى “التاريخ العلمي” أو سيرتى العلميةC.V. منذ عامين تعجبت أننى أكتبه لأول مرة. وتعجبت أكثر أننى “كل هذا” – كتيب بأكمله كان آخر ما ينبغى أن يضاف إليه هو الزمالة فى الكلية الملكية البريطانية للطب النفسى التى حصلت عليها هذا العام، وماذا؟ ثم ماذا ؟ ثم طبيب كبير، وثرى مستور، ولى أولاد ليس بهم عيب ولا عاهة، وعندى عربات لا تقف ولا أغير إطاراتها فى السفرة الواحدة عدة مرات بعد أن أكون قد ركبت لكل إطار طاقية، وفى كل طاقية لحام، كم كان ذلك معطلا مؤلما، وكم كان ثريا بالناس يستعيرون رافع عجلات بعضهم من بعض، ويشيرون إلى أقرب محل لحام، وكان كل محل يوصلنا إلى المحل التالى إلى المحل التالى على الطريق، لم يكن الطريق طريقا إلا بالناس، أما الآن، مع الرفاهية والطرق السريعة، فإما الناس وإما الطريق (!!)، كانت عدد الرقع تفوق طواقى لاحمى الإطارات جميعا، تأبى الإطارات حاليا – على مايبدو أن يركب لها رقع، لكن العالم كله أصبح مرقعا، بل هو مجموعة من الرقع بجوار بعضها، يلضمها شيء هلامى قبيح إسمه النظام العالمى الجديد، واسم الدلع، هو الرضا السامى من العم السامى (كان زمان إسمه العم سام، ولكن الغيظ يستجلب السخف، والسخف يستجلب السجع)، هذا النظام ضرب العراق أول أمس، وأنا لا أحب صدام حسين أكثر من كرهى لهذا الكلينتون، ولكن أين المحاكمة وأين حقوق الإنسان، يا مصنفى أوراق البشر: المتهم بريء حتى تثبت إدانته، والعربى مجرم حتى تـمنح براءته، براءة لزجة مشروطة، تصدر من غير ذى صفة، ذات عمر افتراضى محدود، أقول لكم سافرت ياناس مضطرا.
وحياتى – مادام “الناس والطريق” هى فى واقع الأمر سيرة ذاتية – أعلنتها أم لا، حياتى هى مجموعة من الاضطرارات والصدف، ولا أحسب أن هذه الأطروحة: أطروحة “الاضطرار والصدف” قد أخذت حقها بأى درجة من العناية الواعية، إن حياة الفرد – دع المجموع والجنس البشرى وتطوير النوع جانبا حياة الفرد هى مجموعة ذكية أوغبية من الاضطرار والصدف. فأين الحرية يا أبناء الغباء والإدعاء ؟ الحرية هى أن تقبل الاضطرار لتجعله اختيارا، وأن تتجاوز الصدفة حتى تصبح من فعلك الذى أهداه الغيب إليك وقد نسيته، هذه هى الحرية يا مذيعى الأخبار ومعدى البرامج وخبراء الأرصاد ومدرسى علم النفس الذى ليس له علاقة لا بالعلم ولا بالنفس.
أوصلنى إلى المطار إبنى المقهور على دراسة علم النفس، وبالتالى المتوقف عن لبس العمامة تحت وهم حرية الاختيار، ولو علم معنى الاضطرار والصدفة لانطلق بما يكره إلى ما يفجر، تمنيت لذلك (وحتى لا يصله داخلى فيزداد رفضا) أن كان معه ابنه عمر -صديقي- يخفف الحوار الجانبى الصامت، أحيانا أتصور أن كلامنا -أنا وابنى هذا- يلبس خنجرا معقوفا، يلفه حول وسطه، يتدلى على جنب، وهات يا حوار من تحت لتحت، عمر ابنه وحفيدى كان سيخفف كل ذلك فما زلت أذكره وهو يوصلنى إلى المطار فى رحلتى قبل الأخيرة، وهو يطلب من أبيه أن يفتح نافذة السيارة، وكان الهواء باردا نقيا، فاستنشقه عميقا، وكأنه يرتشف شرابا سائغا بإرادته، وهو يقول: “أنا أحب هذا الهواء”، ففرحت به، نعلم أطفالنا أن يحبوا اللعب البلاستيك وجنجا ترتر (أنا لا أعرف لها نطقا إلا هذا، وقد عانيت كثيرا لأحفظها، ولم أنجح إلا حين رحت أذكر نفسى أنها على وزن بمبة كشر) نعلمهم حب اللعب البلاستيك وضفادع التليفزيون القبيحة، ولا نعلمهم حب الهواء والشجر، وصديقى عمر هذا أول كلمة نطقها كانت بحح، وكان يشير إلى البحر فى رأس الحكمة، قبل أن ينطق بابا وماما، ومرت عليه بضعة أشهر قبل أن يلحق بالحاء راء، أما أبوه فأول كلمة نطقها كانت إوآ (يعنى إوعي)، وكان ذلك فى اليوم السابق لبلوغه عاما، وكان قد تعلم المشى منذ بضعة أيام فوجدنى واقفا أكاد أسد بابا يريد أن يمر منه. فأخذ يزيح ساقى من طريقه بيد عنيدة ناقدة، يزيحنى إلى جانب، بعيدا عن طريقه، ونطق إوا ( ومازال يفعل ذلك حتى الآن) – افتقدت عمر صديقي، ولم أبلغ والده وهو يودعنى أن يسلم عليه، لكنه سمعني، ولم يسلم عليه.
المهم سافرت والحمد لله، وكلى مقاومة، مغلق تماما عن السماء والسحاب، جلستى فى الطائرة بالصدفة بجوار جناح قبيح يحجب عنى المدى والأفق، كرسى منفرد، أحسن، لا أريد ناسا، لا أقطع طريقا، يشيلنى هذا الجسم الحديدى مكبـلا ليلقينى حيث لم أعمل حسابي، بجوارى كرسى مقلوب وجهه عكس كرسي، أول مرة ألاحظ ذلك، لكن ما إن تحركت الطائرة حتى جاءت المضيفة وجلست عكسي، وربطت نفسها فى هذا الكرسى القبيح المقدد الذى يعطينى ظهره بجانبي، كأنى أنا المسئول عن خلـوه وقبحه، أو كأنى آذيت قريبه فلم أضف إليه درجات فى امتحان البكالوريس، المهم قامت المضيفة بعد أن استقرت الطائرة فى الجو، فحاولت أن أحرك الكرسى المقلوب فإذا بى أتأكد أنه هيكل كرسى فقط، جعل خصيصا لجلوس طاقم الطائرة عند الإقلاع والهبوط، الكرسى عيرة، وجناج الطائرة مثل جثة حوت لفظته أمواج السماء فحال بينى وبين الله الذى أناجيه أكثر حين أصـعد فى السماء، حين أتقدم بين الموج على عجز عومي، هو أقرب دائما كلما اختفت الحدود وصحا الجسد كلا يشمل الوجود الذاتى فيه، اعتدت أن أحقق بعض ذلك فى بحيرة مارينا عائما وابتعد عنى هذا الآن رغم تحليقى لعدة عشرات الألاف من الإقدام، فلماذا السفر؟ هذا السفر !!؟
…. هذه المـرة، ليست ككل مرة.
أخذت أزيح جثة الحوت من فوقى لأسترق النظر- بالرغم من كل شيء- لعلى أفهم لماذا أنا فى الطائرة، وحدى هذه المرة، نعم كنت أحتاج جدا أن أكون وحدى جدا هذه المرة، زوجتى ظلمتها معي، وأكاد لا ألتقى بها إلا حين نسافر معا، وكانت آخر مرة رأيتها فيها (رأيت زوجتى رغم أننا ما زلنا نعيش تحت سقف واحد، ونعمل بعض الوقت فى مكان واحد، لكن هذا هو الذى حصل !!) ا كانت هذه المرة التى رأيتها فيها فى البتراء فى الأردن لمدة ثمان عشر ساعة قابلتها هناك قبل وبعد شجار له دخان خانق، وركبنا خيلا يترهون داخل المدينة القديمة، ومررنا فى دروبها يقود كل منا فتى حافى القدمين شديد الذكاء، وتجولنا فى مدينة قديمة يتزايد السائحون فيها على حساب مصرنا، ورأينا المحكمة، والديوان، والمدافن، وحولنا الخواجات يتمتعون بما لا نعرف، ثم يسهرون ضاحكين فى سعادة لم أعد أقول إنها غير حقيقية، وإلا فأين السعادة الحقيقية؟ الحلم مع وقف التنفيذ؟ المهم : يشربون نبيذا أردنيا معتقا، بأمر مجلس النواب ذى العدد الوفير من الإخوان المسلمين جدا، ما هذا الذى يجرى فى مصر الآن، “إشمعني” مصر؟ ياربنا كفاية كذا،
ولكن دعنا من كل هذا الآن لأن المسائل لا تحتمل - مضت الساعات وأنا لا أدرى بها، اكتشفت أنى لم استمع لتعليمات النجاة، ولا لتعقيبات الطيار وهو ينبه إلى بعض معالم الطريق بين الحين والحين، ثم بدأت أستيقظ من اللا نوم واللا يقظة (على وزن اللاسلم واللا حرب) ببطء ثقيل أستيقظ، وكأنى أعوم منهكا فى بحر لزج، أستيقظ من خـدر ممتد على مساحة مجهولة طولها عدة سنوات.
وتأكدت أنى وحدي، نعم، وجـدا، إذن فأنا مع كل الناس بلا استئذان، وليكن ما يكون، أزحت جناح الطائرة بإصرار هذه المرة، وكنا قد اقتربنا من باريس دون أن أدرى كيف مـر الوقت. فإذا بالخضرة والمربعات الزراعية المقسمة بالمسطرة، والبيوت الأكواخ الممتلئة بالحياة والرقة الغربية والنبيذ والحضارة الآفلة والنظام والاستعلاء والتكنولوجيا والتأمينات الاجتماعية وغير الإجتماعية، كل هذا أطل على رغم الجناح، فماذاك الذى كان وأنا أقلع؟. أعنى والطائرة تقلع؟
إذن فأنا مسافر الآن بالرغم مني، ومن كل شيء، مسافر وليكن ما يكون.
مازالت مسامى مغلقة تماما- السيدة الفاضلة خلف نافذة المكتب فى المطار (فاضلة والله العظيم ثلاثا، وحق وجهها السافر) تشير السيدة إلى بوابة ب 2 حتى أنتظر أربع ساعات وهو ميعاد إقلاع الطائرة إلى جنيف حيث أقصد، ذهبت فوجدت ناسا قليلة تنتظر، فماذا سأفعل هذه الساعات الأربع، معى هذا الصديق الجديد الذى إسمه الحاسوب، وهو ليس كذلك، حاولت أن أنحت له كلمة المـكـمـبـت، أو المـكـمـتـر، فلم يرض عن ذلك إبنى المناقش الأعظم، كمبت يكمبـت، وفى الخليج يقولون عن ثقب إطار السيارة “بنشر” (يبنشر فهو مبنشر) وهى كلمة معربة من puncture، فلنكن شجعانا ونرعى لغتنا بإثرائها، معى هذا الشيء الصديق المطيع (كمتر، يكمتر)computer ، قلت أحاوره وأمتطى صهوته وأعبر به، وأناجيه وأتجـول معه فيه، حتى تأتى الطائرة إلى جنيف، ولكن أبدا، حالت الظروف، وفرح هو لي، عدت للسيدة الفاضلة ذات الوجه السافر، وقلت هل يمكن أن أدخل فرنسا هذه الساعات الأربع، فنظرت فى جواز سفرى فى ثوان، وقالت ياسلام يا “سيد” أنت تشرف، وهذه هى الترجمة من على وجهها لا من كلماتها، وأضافت أن عندى تأشيرة لعدة مرات، فما هى المشكلة، ولم تكن ثمة مشكلة إلا فى وقفتى أمام سيد آخر فى نفس الموقف، فى بلد عربى شقيق جدا كنت ذاهبا إليه فى مهمة رسمية، ويستقبلنى ناس رسميون تمام التمام، ومع ذلك وقفت أمام من هو مثل هذه السيدة هناك من الساعة الحادية عشر وثلث مساء إلى الساعة الثالثة صباحا حتى خرجنا، وقيل فى تفسير ذلك أن رجال الطيران الوطنى لهذا البلد العربى فى حالة شد مع رجال الجمارك، فأقسم رجال الجوازات أن يخرجوا ديننا (لا يخرجوننا من ديننا، فأنا لا أعرف تحديدا معنى هذا التعبير المصري)، وللحق فقد سرى تطليع الدين هذا على العرب والأسيويين والهنود والأوربيين والأمريكيين العاديين على حد سواء. حسب التفسير العربى لحقوق الإنسان، حدث ذلك بعد أن كان قد جرى لى ما جرى كى أخرج تأشيرة الدخول رغم الدعوة الرسمية، دخلت فرنسا والدنيا سهلة، وكنت خارجا من بلدى – بلدى الطيب- والدنيا صعبة، الحوادث هنا أكثر، والإرهاب وارد، وكل شيء يعدو ويحتاج إلى آلة إدارية عملاقة لتديره، لكن الأمور تسير بيسر أزعجنى على بلدي، منذ شهرين فقط كنت مسافرا بالعربة من نويبع إلى سوريا وعند العودة إلى نويبع انتظرت ساعتين حتى حضر من مرر العربة فوق بئر مثل بئر التشحيم ليرى رأى العين فى منتصف الليل إن كنت أنا أو غيرى (بما فى ذلك دبلوماسى نرويجى وزوجته كانا يتقدماني)، إذا كنا نخبيء إرهابا فى شاسيه السيارة من تحت أم لا، أليس هذا هو ما يجعل الناس القادمين إلينا يتصورن أن سائحا عندنا يموت كل يوم، كيف يحقق هؤلاء الناس هنا فى مطار شارل ديجول العملاق هذا النوع من الإدارة السلسة، وحوادث الإرهاب عندهم أكثر من عندنا عشرات المرات، ولكن صبرك، لنا عودة.
دخلت المطار الذى كنت أكرهه، رغم علاقتى الخاصة والسرية بحامل إسمه، أحسب أنى كنت أكره هذا المطار لكثرة زجاجه، مثل مركز بومبيدو الزجاجى أيضا والذى كتبت فيه قصيدة قبيحة (البيت الزجاجى والثعبان) والأقبح أننى سميت ديوانى الذى احتواها باسمها، دخلت شارل ديجول ولم أر زجاجه (لأنه لا يرى من الداخل ذلك الزجاج) فوجدت نفسى فجأة فى فرنسا شخصيا، لم يتح لى من قبل أن أمكث فى هذا المطار عدة ساعات مثل هذه المرة، فشعرت أن فرنسا كلها قد جاءت تستقبلنى فى المطار لتفتح مسام وعيى الذى أغلقته الرئاسة والمركز والخوف والطمع والروتين والسن وتفرق الثلة القديمة، وكهولة أصدقائى الأطفال، وسفر الباقين للرزق والرفاهية والهرب جميعا، كل ذلك أغلق مسامى فلم يبق إلا تقطيبة وجه، وعربة مكيفة، ووحدة متفاقمة، وهذا المنظـم الصديق (المكمتـر) الجديد الذى حل محل كل هؤلاء ولا حول ولا قوة إلا بالله، جاءت باريس بنفسها تستقبلنى فى المطار، يبدو أنها تعرف ظروفى الجديدة، وأهلا يا مسيو، فى الكافتريا، وعلى الوجه المنمنم ذى الصوت الـمـنـونـو (من نونوة القط) من جنوب شرق آسيا الذى أرشدنى إلى كيفية استعمال الهاتف آتوماتيكيا بكارت جديد على أن أشتريه من أى بوتيك مثل علبة السجائر، فوضعت حقيبتى الصغيرة بجوارى وأنا أتكلم فى الهاتف، فمر آخر(ممن كانوا فى استقبالى أيضا) فحمل حقيبتى من جوارى ووضعها فوق اللوحة أمامى تحت التليفون، وغمز بعينه ضاحكا، إستولوا منـا حتى على شهامة أولاد البلد، فهمت أن ذلك يحمى حقيبتى من أن يحملها عنى ويمضى أحد الجماعات الدينية الفرنسية (!!!) أثناء انهماكى فى الحديث فى التليفون، ثم يذهب يحارب- بثمن ما فيها-الكفر والالحاد!! فلتكن أمامى أفضل، فغمزت له بعينى أن الرسالة وصلت، وضحكت لأول مرة من سنتين ونصف، فأنا لا أذكر أننى غمزت بعينى هكذا منذ هذا الوقت إلا لابن بنتى ( أصبحت جدا لثلاثة) من بضعة أيام، لكنها – الغمزة لحفيدى هذا- كانت غمزة المداعبة التى تستجدى ابتسامة اجتماعية لا يقصدها طفل فى الشهر السادس ونتصورها نحن كما يحلو لنا، أما هذه الابتسامة التحذيرية من الرجل المهذب الفرنسى ذى الأصل الأصفر، فهى رسالة كاملة تستوجب هذا الشكر الغامز الذى فك حصري، الناس للناس يا رجل، وكما أن الإرهاب على أذنه، فالابتسام على وجوه المستقبلين، هؤلاء المستقبلون المجهولون أحبهم أكثر وأكثر وأكثر من المستقبلين الرسميين، وأكثر فقط من المستقبلين الخصوصيين، الإستقبال الأهلى عادة يكون حارا لكن عمره قصير، وربما شروطه الخفية لم تعد تصلح لي، لكن هؤلاء المستقبلين المجهولين شيء آخر. جاءت باريس كلها تستقبلني، فأنا أعرف باريس من عازفى العود، والجيتار فى محطات المترو، وعلى الأرصفة، ومن السكارى النائمين على سلالم أنفاق تحت الأرض، ومن الرقص فى الشوارع، ومن فتح عينك تأكل ملبن، وفيما عدا السكارى النائمون وجدت كل ذلك قد حضر لاستقبالى فى المطار، مطار هذا أم ملهى ليلى ظريف. أنا لا أعرف الملاهى ولا أحبها، مطار هذا أم “يورو دزني” التى انتقلت لأوربا أخيرا، فضبطت أن الابتسامة التى رددت بها على صاحب الغمزة مازالت على وجهي، ياخبر كيف استطاعت أن تبقى لكل هذه الفترة، ابتساماتى فى الثلاث سنوات الأخيرة موقوتة بعدة ثوان لابد أن تنطفئ بعدها مثل عود الكبريت الفاسد، والذى تتناثر شراراته وأنت لا تكاد تنجح فى إشعاله، ثم ينطفئ حتى قبل أن يؤدى مهمته، نعم كانت ابتساماتى فى السنوات الأخيرة هكذا، أما هذه الابتسامة فقد ظلت على وجهى دون استئذان وأنا ألوح للمستقبلين يمينا ويسارا، وكأننى رئيس دولة طيب يسير فى عربة مكشوفة، لا لا داعى لرئيس دولة هذه، كأننى مستر مانديلا.وقد خرج من السجن بعد عشرين عاما وأهله السود يستقبلونه دون زوجته (مع أنها كانت بينهم) صاحبة الحكايات إياها، طالت غيبة زوجها وهى ثائرة جدا جدا، فماذا تفعل؟
ظلت الابتسامة على وجهي، ولم تختف حتى حين ضبطتها بغير مناسبة، لكن مسامى تأبى أن تتفتح أكثر، فعرجت على فرقة الموسيقى التى لابد وأنهم أحضروها لتصاحب حرس الشرف فى استقبالي، فوجدتهم يضبطون أوتارهم كالعادة، وكانت مكبرات الصوت والأنغام جميلة، والصدى أجمل، وعندى شغف بحكاية ضبط الأنغام بشكل عشوائى هكذا، وأتصور أحيانا أنه لو جمعها ملحن عبقرى لأعاد توزيعها بما يخرج لحنا يستأهل، المهم وجدت أن المطار قد أعد لهؤلاء الناس ومثلهم أماكن مستديرة، عالية نسبيا، فاستبعدت فكرة أنها فرقة مسافرة مثلي، أوعائدة تنتظرالعربة التى ستنقلهم من المطار، وهم يتسلون حتى تحضر، استبعدت هذه الفكرة حين رأيت المكان الخاص بهم، وحين بدأوا يعزفون بحق وحقيق، ثم دخلت البنات السيدات العاريات الكاسيات، من باب المطار دخلن مسرعات قافزات، مهيصات، وصعدن على الدائرة العالية قليلا وهات يا رقص ويا غناء، يا خبر!! أين أنا بالذمة، لكن ذلك لم يستغرق عشر دقائق كانت كافية لتقول لى أشياء كثيرة، لا أحد دفع، ولا أحد اعترض، ولا أحد أرهب، ولا أحد قتل، ولا أحد اندهش إلا شخصي، إذن فما زلت قادرا على الاندهاش، وعلى الابتسام، الحمد لله، أنا حي، وإلا كيف يعتبر حيا من لا يندهش ولا يبتسم، وكيف يا أولادى وتلاميذى وكافة المنتفعين أشعتم عنى أنى جاد طول الوقت، وكذا وكذا، سامحكم الله مهما بررتم، هذه الرحلة هى بدونكم، ليست كمثل رحلة “الناس والطريق” حين كنتم معى أحاول أن أتعرف عليكم، وماذا يعنى أن أتعرف عليكم صغارا، ثم تكبرون فلا أعرفكم، كانت آخر رحلة مع ابنتى الأصغر فى أسبانيا، تباعدت عنها وتباعدت عنى حتى كدنا نتشابك، كنا فى طريقنا إلى أختها التى تزوجت وحدها بدوننا فى لوس أنجلوس، فذهبنا مثل الفلاحين نقدم لها “الصبحية” أنا وأمها وأختها، وكانت أغلى صبحية عرفتها، ومررنا على أسبانيا، فى الذهاب والعودة، ورغم افتراقنا أنا وزوجتى عن ابنتى الصغرى تاركين إياها مع صديقاتها، إلا أن الوقت الذى اجتمعت فيه مع ابنتى كان من أصعب وأكثر الأوقات إيلاما لسبب لا أعرفه حتى الآن، حتى الإعياء الذى أصابها من تغيير الإيقاع الحيوى نتيجة للانتقال عبر المحيط من الشرق إلى الغرب، حتى هذا التعب الجسدى رفضتـه بشكل لم أفهمه، وجرحتـها، إبنتى الصغرى الشديدة الرقة والقسوة والحدة والمسئولية، جرحتها حين لم أحتمل مرضها، ولا عنادها، وأكتشف بعد هذا العمر معا أننى لم أكد أعرفها، ولا أعرفني، عبر “الطريق” ووسط “الناس”، إذن فأنا لم يعد لى أولاد بالمعنى الذى حلمت به وأنا أرتب لرحلة الناس والطريق الأولي، وأولادى لا أراهم إلا فى الوقت بدل الضائع إذا تفضل بعض أصدقائهم واعتذر عن لقائهم أو السفر معهم، يقولون إن هذه هى سنة الحياة، لتكن، ولكن من حقى ألا أقبل سنة الحياة، ثم إننى لا أطالبهم بحق خاص بالمعنى التقليدي، وإنما بذكرى صداقة آملة، وبعض الاحترام، لا أكثر، – نعم هذه رحلتى أنا، عكس رحلة الناس والطريق الأولى تماما، “تلك” خططت لها، وأملت فيها، واشتريت لها أتوبيسا صغيرا جديدا، وأخذت خيمتى وقروشى القليلة وأبوتى الشديدة وانطلقنا بلاد الله لخلق الله، أما “هذه” فهى قد فـرضت علي، وأنا فى أشد حالات مقاومة الرحلات ومقاومة كل شيء، “تلك” كانت معهم، وهذه أنا معى فقط لا غير، تلك كانت سيرا أرضيا وئيدا وإيقاعا سريعا، “وهذه” نقلات سمائية فى خدر غامض، إلى استقرار فندقى مرفـه، وصاحبى فيها منظـم (كمبيوتر)، ومعى نقود وفيرة وكارت سحرى اسمه “الأمريكانى السريع”american express، أسافر مسلحا بمصادر طمأنينة متعددة ضد مجاهيل ومفاجآت السفر، فهل هذا هو السفر، ومع ذلك فقد شعرت من بعد آخر أن “هذه” هى “تلك” بشكل ما، هكذا تبدى لى رغم كل الفروق السالفة الذكر.
أنا لا أذكر على وجه التحديد تاريخ آخر يوم فى رحلة الناس والطريق، آخر يوم فى السفر، وآخر يوم فى الكتابة، ذلك الكتاب الذى لم يصدر أبدا، ولا أقول لم يصدر بعد، وهو سوف يصدر حتما حتى لو لم يصدر أصلا، ذلك لأننى رحت أعتقد أن الكتاب ليس بصدوره، وإنما بحضوره، لماذا ؟ لست أدرى تحديدا، لكننى يوم سافرت هذه المرة، وكان سفرا مفاجئا جدا، حضرنى هذا الكتاب الذى ألفتـه تحت اسم الناس والطريق، وظهر فى حلقات لم يقرأها إلا ندرة نادرة، ولم ينشر، حضرنى فاحتل وعيى بشكل مثير ودون استئذان، ربما ليزيح عنى ذلك الثقل الفظيع الذى تسبب عن ذلك الكتاب الآخر الذى كنت مشغولا به تماما قبيل سفري، والذى أشرت إليه واسمه ” الأساس فى الطب النفسي” هو كتاب ثنائى اللغة (عربي/إنجليزي- ليس مترجما فأنا أكتبه شخصيا على موجتين) المهم حل كتاب الناس والطريق محل هذا الثقل الجاثم، “أساس الطب النفسي”، فكانت النتيجة أن أخرج “ذاك” “هذا” “هكذا”، هربت “منهم” “إلي”:
فخرجت من باب المطار لأتأكد أننى فى باريس شخصيا، وأن سماح تلك السيدة الفاضلة السافرة كان سماحا حقيقيا وليس أى كلام، أنا فى الشارع، وشركة إير فرانس تعلن عن أتوبيساتها التى هى مستعدة لتوصيلى بالسلامة إلى مونبارناس وخلافه، هذه هي، هذه هى باريس، حتى وأنا بعد على أطرافها، لكن من هؤلاء النسوة العاريات الكاسيات اللاتى يسرعن عدوا أو هرولة ليعبرن الشارع إلى المطار، هن هن الراقصات اللاتى أشعرننى أن باريس تستقبلنى فى المطار، ولكن ما الذى أخرجهن هكذا عاريات كاسيات فى الشارع بعد أن كن يتمايلن فى المطار فرحا باستقبالي، لعلهن كن يقضين شيئا عاجلا ثم يرجعن، أو لعلى أخطأت وكلهن مثل كلهن، و أنا لا أستطيع أن أميز وجه هذه السمراء، عن سيقان هذه الشقراء، لكن ما للوجوه كئيبة، والأثداء متهدلة، والخطوات نشاز، هل هؤلاء حقيقة هن هن اللاتى كن يرقصن ويتمايلن ويضحكن ملء الأشداق، نعم هن هن، وأخذتنى الشفقة الدفاعية التى كانت -ومازالت- تملؤنى على بائعات الهوى على أبواب الفنادق الرخيصة فى ميدان كليشي، وعدت إلى المطار، كلمت أحد أبنائى (تلاميذى = زملائي) الذى يعمل فى “رين” فى بريتانى شمال فرنسا، ورد على ولم يرحب بى كما تصورت، وأنا أعرف أن عنده أسبابه لكن هذا ما كان، وقد صدق ظنى بعد ذلك حين لقيته وعاتبته، فاعتذر بانشغاله ومفاجأته، باريس استقبلتنى كلها، وأحد تلاميذى لم يفعل، حتى فى الهاتف. ليكن، معه الله فى غربته.
شبعت من كل هذا ومازالت نفس الابتسامة فى وجهي، آه لو رأيتـها يا منى يا بنتى لكففت عن اتهامى بالـ 111 الدائمة بين حاجبي، قال إيش وضع بين حاجبيك المائة وأحد عشر، قال الألف ومية التى تعملونها فى يا أولاد الحلال، “هنا” الابتسامة لا تزال فى وجهي، “وهناك” الرصاصة لا تزال فى جيبه، إبن الرفضي، يلقيها فى القللى ونفق الهرم وأمام جامع شبرا، يا شيخ إخص عليك، بل جاءتك نيلة فى ليل ليس له نهار، نعم الابتسامة -رغم أنفه – ما زالت فى وجهى (لاحظ “في” وليس “علي” وجهي)، ساعة واحدة فى مطار شارل ديجول أحيت فـى 368 يوما، سنة وثلاثة أيام سنة 1968-1969، هذه السنة التى لم أذكرها بالدرجة الكافية فى الناس والطريق، ولو أن هذا العمل سيرة ذاتية بحق لاستغرقت هذه السنة نصف السيرة بالتمام، الذى عاد لي، أو عاد بى الآن هو “أنا” وحيدا بين ناس كـثـر، وأنا “كثير” بين ناس حقيقيين، “الطريق” هو هؤلاء وأنا هى “الناس”، ساعة واحدة قلت بعدها كفي، ولأذهب إلى مهمتى فى جنيف وأنا فى شوق أن أرجع باريس هذه المرة، لا سائحا ولا مؤتمرا والعياذ بالله، ولا حامل حقائب الأولاد، ولا أمين صندوق المشتروات، ولا دارسا لم يدرس شيئا، أعود إلى باريس بعد أن كنت قد خاصمتها أو خاصمتنى فى كل مرة رحلت إليها بعد تلك السنة الطويلة العظيمة، خاصمتها فى قيظ 1986 الخانق حين ذهبت مع الأولاد لمدة 24 ساعة ثم تركتهم متجها مع زوجتى إلى بوسطن فى مهمة طبية لم تنجح إلا فى أن حشرتنى فى أمريكا التى كنت قد نذرت ألا أدخلها حيآ، لكن الله أراد، كانت باريس فى تلك الأربع وعشرين ساعة تختنق فى رطوبة حارة وثقيلة أحسب أنه قد سبق أن أشرت إليها فى الجزء الأول، من “الناس والطريق” كانت رطوبة ثقيلة تحتاج معها إلى شفاط هواء حتى يمكن أن تسمح لبعض الهواء الذى مثل قلته أن يزور رئتيك بلا فائدة، كان الناس فى غابة بولونيا ملقون على الحشائش كالكلاب الضالة التى ارتمت فى صحراء قاحلة بعد أن أنهكها العطش فاستسلمت ليأس تنتظر الشيء (نسيت كلمة الماء أصلا) ونسينا نحن فى ذلك اليوم معنى الهواء، فما نجذبه إلى صدورنا هو شيء لزج أشبه بالعجين الذائب فى صمغ خفي، ثم عدت إلى باريس منذ سنتين فى مؤتمر علمى مدفوع الأجر (كالعادة) مازلت أعانى من آثاره الأخلاقية حتى الآن، وكانت ابنتى معي، وحضرت المؤتمر، وكان الطقس أخف والناس أثقل..، فخاصمت باريس مرتين، وشعرت فيها بعدم الأمان، رغم أنها لم تبخل على فى ذلك العام البعيد بكل الحنان والأمان، حين خاصمتها أصبحت أرى الوجوه الجزائرية أكثر قسوة وجفافا، والوجوه البيضاء أكثر تسطيحا ولا مبالاة، والقبل فى المترو أكثر ميكانيكية، وقلت لم تعد باريس هى التى أعرفها فيما عدا المونمارتر والمقاهى الصغيرة فى الشوارع الصغيرة، أما هذه المرة، وأنا لم أدخلها بعد، فقد شعرت أنها جاءت تعتذر فعلا، وقبلت اعتذارها، ساعة واحدة كانت كافية لكى نتصالح وفى المطار، ما أحلى الرجوع إليها، وذهبت إلى مكتب الطيران أتأكد من إجراءات الحجز إلى جنيف، فنظرت إلى السيدة الأقل فضلا نظرة استغراب بعد أن نظرت إلى الساعة أمامها وقالت: ما هذا يا سيدي، ليس قبل ساعة و احدة من الإقلاع، وماذا لو أنهيت الإجراءات الآن، ثم أركب بعد ساعة، هكذا قلت فى نفسى ما لم أجرؤ أن أعلنه، فما خرج منى غير”شكرا حسنا”، وهذا التعبير بالفرنسية هو تعبير دال يحتاج أن يدخل لغتنا بشكل ما، فماذا أفعل وأنا أنتظر هذه الساعة، أخرجت كتاب “آلان واتس” “Alan Watts” عن العلاج النفسى بين الشرق والغرب، صدر سنة 1964 وكنت قد وددت لو أقرأه طول عمري، ولم أتمكن إلا فى هذه الرحلة، وهو يشير إلى خبرة الشرق الأقصى وليس إلى شرقنا الأراجوز المشوه، لكننى لم أجد فى نفسى رغبة فى القراءة، فذهبت إلى المقهى داخل المطار ووجدت الناس جالسين يتحدثون وكأنهم لن يسافروا أبدا، وطلبت ما طلبت وأخرجت بقايا نقود فرنسية كانت متخلفة معى من رحلات سابقة، فاكتشفت أن عملة العشرة فرنك المعدنية قد ألغيت، ماشي، فقدت عشرين فرنكا لا غير، هكذا يا صدام يا حسين، وليس إلغاء الورقة ذات العشرين دينارا تخرب بها بيت جيرانك فى الأردن الذين وقفوا بجوارك وأنت لاتستأهل، قمت من المقهى أتجول وأنا ألاحظ ابتعاد الابتسامة قليلا قليلا، لكن لا، لن أتصنع وأحبسها عن مستقرها فى الداخل ولو لم تعد ابتسامة، لتذهب من حيث أتت إن كان هذا ما تريد، لن أحبسها تصنعا،، فسمعت أصوات ضبط الآلات، فى مكان أخر، مربع هذه المرة ليس مستديرا، فاتجهت إليه فوجدت شبابا سودا ثلاثة وواحد أبيض وفتاة شقراء (أعضاء الفرقة)، والسود فى منتهى القوة والحضور الفطرى الجنسى إن صح التعبير، أخذوا يضبطون الآلات أيضا، قلت لا، الآن ثبتت الرؤية وتأكد أن هذا استقبال معد لى بلا شك، وإلا فلماذا كل هذا والناس مسافرة تجرى فى الطرقات ولا يجلس مثلى أربع ساعات إلا القليل، فأنا لست فى صالة الترانزيت، أنا فى بهو المطار شخصيا، فلمن يعزف هؤلاء الناس؟ ولمن يرقصون؟ طبعا لى شخصيا والباقى ليس على تفسيره (صوت عربة البوليس يصيح خارج حجرتى الآن، فنظرت، واكتشفت أن المطر يهطل كما تمنيت، فقلت هذه إشارة إكمال هذا الفصل) – نعم هو استقبال خاص بالمعنى المناسب لعلاقتى بربى وما كنت أحتاجه، فتوقف الشاب الأكثر شبابا (وليس الأكبر عمرا) وقال بالإنجليزية : “سيداتى سادتى أقدم لكم فرقتنا المكونة من فلان الفلانى من الكاميرون” (فانحنى فلان هذا سعيدا بنا) – فجلست على مقعد من المقاعد حو ل المربع، وقلت ليس بدا منها – “وفلان من غانا”، وانحنى هذا أيضا وكدت أنحنى أنا بدوري، وعليكم السلام يارجل يا طيب، (لم يبق فى سيدنا الحسين، حتى فى رمضان غير القهوة على الناصية البعيدة هى التى فيها حياة، الباقى خـفـت حتى مات، حتى حمص الشام لم يعد ساخنا لاسعا، لماذا يا مصر؟؟؟ إلى أين؟ لا تطردينى بالله عليك فلست منهم) و”فلان الفلانى من نيجيريا” وإذابفلان الفلانى الأخير هذا هو هو الذى يقدم نفسه، فانثنى ونحن نحييه، والظاهر أنى لم ألتقط تقديمه لنفسه بأنه العبد الفقير إلى الله، خدامكم فلان، ثم أكمل: وفلان من الولايات المتحدة (الشاب الأبيض) فنظر إلى زملائه بامتنان أن سمحوا له بأن ينتمى إلى هذا اللون الأقوي، ثم “فلانة” الشقراء، التى لم أعرف من أين تحديدا، لم أسمع تقديمها تفصيلا، وصفقنا من جديد، ثم بدأوا فى الغناء بكل المكبرات المميزة، وكأنهم فى مسرح يحضره بضعة ألاف (كنا أقل من عشرة جلوس ومثلهم وقوف)، وتساءلت لمن يغنى هؤلاء الناس، ومن الذى سيدفع لهم، وطبعا كففت عن المضى فى مسألة أنهم فى استقبالى وهذا الكلام، كانت أغنية جميلة فعلا، لم أفهم كلماتها طبعا، لكنها شديدة الاختراق، وصفقنا بعد أن كدت أهم بالانصراف قبل أن يمر على أحدهم بقبعته يطلب المعلوم، لكنى بقيت وصفقت مرة أخري، ولم يمر على أحد، وهم فى غاية السعاده أن بسطونا جدا، “هكذا جدعنة”، من أين يأكلون، كيف يصرفون؟ ولماذا هنا؟ فى المطار؟ ومن الذى أعد لهم المكان؟ ولماذا. بأى هدف عام أو خاص؟ وأنا مالي، ربنا مهيئ الأرزاق، وسبحان من غذى الطيور فى أوكارها، وقبـض موظفى المجالس المحلية مرتباتهم وهم فى منازلهم طول الوقت، ولكن لماذا يا مصر؟ إلى أين؟
ولم يثنوا تلك الأغنية، أهى تجربة لما سيحدث فى المساء؟ أهى دعاية لفرقة فى مكان آخر يدفع فيها الشييء الفلاني؟ أنا مالي، جاء الميعاد، وذهبت وركبت كأنى أركب أتوبيس من موقف أحمد حلمى باريس الشهير بشارل ديجول، أتوبيس “باريس -جنيف” وبالعكس؟ ومن قال أن جنيف أبعد سياسيا أو اقتصايا من باريس من بعد المهندسين عن الفيوم، وقبيل وصولنا جنيف شعرنا بمطبات هوائية عنيفة وقال الطيار أننا سنهبط فى خلال دقيقة أو أقل، لكننا لم نهبط، وحمدت الله أن زوجتى ليست معي، فهى لا تحتمل مطبات هذه الطائرات الصغيرة، فى حين أغفلها أنا تماما وخاصة إذا شغلتنى الأجواء الدولية وما تولـد من شعر، شغلتنى عن الحياة والموت، مازلت أذكرها (زوجتي) بجوارى ونحن راجعون بطائرة صغيرة من أبو سنبل راجعين إلى أسوان، وكانت تمسك بذراعى بين الحين والحين وأنا أنظر إليها متسائلا صامتا ثم أمضى فيما أنا فيه، كنت أكتب قصيدة فى “رثاء الفخر” بعد أن شاهدت وجه رمسيس الثانى وهو ينتظر شعاع الشمس يسقط على وجهه يوم مولده ويوم توليه العرش، وحين نزلنا وكانت زوجتى قد شبعت زغرا وزغدا، بلا فائدة، ظلت تلعن الطيار وكأنه مسئول عن مطبات السماء شخصيا، فلما سألتها عما أزعجها اتهمتنى بفقد الإحساس، بمعنى أن “الذى فى مخى هو الذى فى مخي”، وأننى لا أهتم بما يجرى حولى إلا فيما يعنيني، فحمدت الله أنها ليست معى الآن ونحن نعلو ونهبط، وإلا كان من المحتمل أن أكون مسئولا عن المطبات، وأننى لو تركت ما فى مخى (لست أدرى كيف) فإن المطبات سوف تختفي، ثم أعلن الطيار-هنا فى جنيف- أن الهبوط قد تأجل لسوء الأحوال الجوية، وأننا سنحاوله ثانية خلال عشر دقائق تقريبا، نحاوله؟ لم يقل سنهبط، لنفرض أننا حاولناه، ولم ننجح، لابد أن زوجتى كانت على حق، ولا بد أن أخاف، فبحثت عنه (عن الخوف) فلم أجده، ولم أكن ساعتها أكتب شعرا مثل رحلة أسوان أبو سمبل، مات الشعر من زمان مثلما ماتت أشياء كثيرة، ولم أكن أهمل زوجة، وهأنذا راجع من استقبال باريسى حافل وبداية إفاقة واعدة، فليأت الخوف لأثبت لنفسي، ولزوجتي، أننى أحس، وأن الذى فى مخى ليس هو هو الذى فى مخي، فنظرت إلى الوجوه حولي، ولا حاجة، لكنها معتادة دائما، دائما معتادة، وهبطنا فى المحاولة الثانية، وفى ثوان استلمت الحقيبة الوحيدة (الحمد لله لست حاملا حقائب هذه المرة) ووجدت وجها أسمر فى انتظاري، ومعه ورقة مكتوب عليها اسمي، وفى رقة عربية لها طعم آخر قلت وعليكم السلام، نعم هو أنا، ولكن كيف عرفت وجهي، فابتسم وقال حمدا لله على السلامة، حمل عنى الحقيبة وأنا خجلان لا أدرى كيف أتصرف، ولا من هو سعادة البيك هذا، إذ لابد أنه البيك السائق مادام يتصرف هكذا بهذه التلقائية والكرم والتواضع، وقلت لو تواضعت أنا الآخر وحملت حقيبتى كعادتى دائما فقد يضرب لخمة ويشك فى هويتي، فلأتركه هذه المرة رغم ما اعتدت حتى أرى آخرها.
ركبت فى المقعد الخلفى (أمـر آخر لم أعتده، ولكنى التقطت ضرورته حالا) وكم كنت أعجب من أمر أحد الزملاء الذين اعتادوا غير ذلك إذ يصر على ركوب الدرجة الأولى فى الطائرة وحده، وبقية الزملاء فى “السكوندو”، وهو ركوب مدفوع الأجر لنا جميعا من شركات الدواء المعنية بإعادة تشكيل أدمغتنا حسب معادلات الكيمياء ودوائر الجزيئات، والفضل لهذا الزميل عادة فى هذه التسهيلات، وكذا فإن الوزر عليه فى هذه التشكيلات، ولكن..هذا حديث آخر. كنت أعجب كيف يجرؤ وكيف يستريح هذا الزميل أن يتركنا وينفصل عنا ليجلس فى مقعد أوسع عشرة سنتيمترات، وكلنا من شركات الدواء ملتمس (غورا على المخ، أو سحقا لذى القيم)، ينفصل عنا زميلنا هذا فى حركة طبيعية متعالية، وأنا لا أجرؤ أن أجلس إلا بجوار السائق حتى فى تاكسى القاهرة، أما هذه المرة فالحدس هدانى أن أفعل عكس ما اعتدت، ويبدو أن ما فعلته كان فى محله.
وانتقلت وأنا داخل السيارة الفخمة إلى عالم آخر، فالكاسيت يغنى أغانى دينية حديثة وليست تواشيح، حتى جاء صوت مألوف لدي، وهو يغنى أيضا أغانى دينية، وسألت السائق من هذا الذى يغني، قال عبد الحليم حافظ، نعم هو، ويبدو أن المتدينين الجدد، قد جمعوا أغانى كل المطربين الدينية فى أشرطة دينية، وقلت لعلها ضمن موجة أسلمة الأغانى مثل أسلمة التاريخ والجغرافيا والرياضة والطبيعة والطب وغيرها، واستغفرت ربي، ودعوت ألا تعود مسامى للانغلاق بنفس الدرجة التى بدأت بها الرحلة حتى أستطيع أن أكمل صلاتى له، وأتمم مراسم عبادتي.
الثلاثاء 22 / 6 / 1993:
استيقظت أقل إقبالا، وبحثت عن أثر الغسيل الذى غسلنى فى المطار فوجدته باقيا، لكنه لم ينجح أن يزيل البقع من على وعيى المتسخ بالسنوات الأخيرة، يا ترى ما الذى يجعلنى أكثر بياضا؟ يارب ساعدنى أن أركب الاضطرار فأجعله اختيارا أغسل به نفسى بفضلك، يارب أنت أدرى بي، وأنا عندى ما يقال للناس على الطريق، فاحمنى ربى أن أنساق إلى غيرك، أو أن أخط حرفا إلا لك، إنك سميع مجيب. فاستجاب لى ربى فتاب على ، إنه هو التواب الرحيم
فجأة، وأنا أواصل كتابة الكتاب الثقيل إياه فى بهو الفندق، وكنت مازلت متصورا أن هذه الفرصة قد هيئت لى لأنتهى من هذا الكتاب، فجأة اكتشفت أنها قد أتيحت لى لأتوقف عن هذا الكتاب لا لأكمله، أنا لست هو، لست هذا الكتاب، ولست ما دفعنى لكتابته، فوجدتنى أضع اختبارا جديدا للشخصية من أربعمائة واثنين وعشرين عبارة (لماذا هذا العدد – لست أدري) ليحل محل اختبارا يقال له اختبار الشخصية المتعدد الأوجه وضع سنة 1944 فى ولاية منيسوتا بأمريكا، وهو الذى يقيس عواطفنا وأمراضنا حتى تاريخه، أهذا اسمه كلام؟ وشعرت أن الأوان قد آن، لنكف عن قياس حتى مشاعرنا بجداول ضربهم، ثم وجدتنى أدير دفة الكتاب الثقيل مائة وثمانين درجة، فتعجبت أن شيئآ لم يتغير، فاكتشف أننى لم أكتب إلانفسي، يستحيل أن أكتب إلا نفسي، دارت الزاوية مائة وثمانين درجة أخري، فوجدتنى حيث أنا، لم أكتب إلا نفسى فعلا، ورصدت خبرتى فعلا ولكن بلغتهم، فحمدت الله ووصلت إلى عدة قرارات، يبدو أننى كنت أحتاج إلى هذه السفرة لأصل إليها، أهمها أننى سأكمل هذا الكتاب كما “هو أنا”، وليس كما تصورت أنهم يريدونه، وعليهم هم أن يحددوا إما أن يقبلوه هكذا، وإما أن أهديه للتاريخ مثل بقية أعمالي، والتاريخ هو وضميره.
الفندق الذى أعيش فيه شديد الهدوء واسع البهو، بسيط التأثيث، راقى الخدمات، سمح لى أن أجتـر آخر ما كنت فيه قبل حضورى إليه، وكنت منذ أكثر من ستة أشهر قد استجبت لبعض أبنائى وطلبتى وغيرهم أن أكون “فى المتناول” مرة أسبوعيا فيما يشبه جلسة الثلاثاء التى كان يعقدها بافلوف، أو جلسة الأربعاء (لست متأكدا من اليوم) التى كان يعقدها فرويد. كنت قد استجبت لهم لأكون “فى المتناول” عصر كل أحد من السادسة إلى الثامنة مساء، فى متناول من يريد أن يقابل هذا العقل المصرى المجرب المجتهد فى كل ناحية طرقـت وعيه، وفعلا انتظمت هذه الجلسات بلا انقطاع، وأعتقد أنها أثرتنى بقدر رجوت معه استمرارها، ولا أعرف ماذا فعلت بهم على وجه التحديد. لكننا ظللنا نتناول فى هذه الجلسات مسألة الحضارة الغربية أكثر من عشر أسابيع متفرقة، وما إذا كان ثمة وسيلة لتجاوزها، بتقليدها، أو اختراقها، أو خداعها، أو عرض بديل لها، تلك الأسئلة الأبدية التى لا تريد أن تنقطع أبدا، قنديل أم هاشم، موسم الهجرة إلى الشمال، التنوير، لم يعد يصلح أن نصدر كتب المنورين مرة أخرى نبيعها بخمس وعشرين قرشا نرشو بها شبابا أعمى لا يقرأ ولا يكتب ولا يفكر ولا ينقد أصلا، موسم الهجرة إلى الشمال، الطيب صالح يشارك فى مقيل أنا أحد أفراده، فى بيت أحد الأصدقاء فى صنعاء، ومعنا عبد العزيز المقالح الشاعر الدكتور المدير للجامعة، الصديق القديم، وآخرون، الطيب صالح يقول إن صنعاء هى روما العرب، وهذه الجلسات من العصر إلى المغرب والتى بلغ عددها فى صنعاء وحدها حوالى عشرة آلاف، إذا ضربت فى متوسط عشرة أفراد لبلغ من يلتقون يوميا مائة ألف، أى مجتمع هذا، ديمقراطية أثينا هذه؟ ليست المسألة تخزين قات، أو طق حنك، لكنه مجتمع يتنبه ويتحدث، هذا هو الجانب الإيجابى الذى سمح لى أن أسمع الطيب صالح وهو يقول قولا فى هذه القضية-قضية “نحن والغرب”: أين نحن من الحضارة الغربية، وكيف يقيسوننا بمقياسهم فنقيس أنفسنا بمقياسهم، ثم نضع أنفسنا حيث يريدون، كان الطيب صالح يقول إنه إذا سأله أحد منهم لماذا يتزوج الواحد منا نحن المسلمين أكثر من امرأة؟ لا يرد عليه أصلا، وقد يجيب “إنت مالك يا أخي”؟ هل اشتكت لك زوجتى الأولى أو الثانية، الخلاصة إن المنطق الذى طرحه الطيب صالح هو حكاية “إنت مالك يا أخي؟؟؟”، وهذا ما نحتاجه تحديدا فى هذا المنعطف الخطر بيننا وبين الغرب، نحن معطلون ليس بسبب أننا كسالى أو متخلفين أو متحجرين، ولكن لأننا نبدأمن حيث لا ينبغي، لنقيس أنفسنا بمقياس وضع لنا دون اختيار، أخذنا نطرح هذه القضية فى جلسات الأحد قبل سفري، وخاصة أنها كانت أحد وجوه مسألة المد، أو الجزر الدينى كله فى العالم العربى والإسلامى كما زاد وفاض أخيرا. هأنذا فجأة – مرة أخري، دون اختيار- وسط الحضارة الغربية، كنت قد كتبت كثيرا أن حوادث القتل والإرهاب عندهم أكثر، وكنت أفخر أن ابنتى تسير فى المقطم وحدها فى الحادية عشر مساء ، الأمور اختلفت يا سادتي، قبل سفرى مباشرة وبعد قنبلة شبرا قالت لى ابنتى هذه أنها تحاول أن تتجنب أن تخرج مع زوجها وابنها مجتمعين فى سيارة واحدة حتى إذا انفجرت قنبلة هنا أو هناك مات أحد الوالدين دون الآخر ليربى الصغير، أرفض الاستسلام لخوفها فما زلنا بلد الأمن والطيبة والصدق الحنون، هذا وهمى الذى ظللت أكرره أيام الآحاد المتتالية دون ملل، ثم اضطررت إلى السفر، فكان على أن أعاود النظر.
فعاودت النظر:
وهاتفت ابنى الأكبر، أحد أفراد جلسة الأحد، وقلت له شبه مازح إننى أوافق على أن نحذو حذو الحضارة الغربية شريطة أن أرجع وأجدهم قد فعلوها هم دون عون منى ، ذلك أن الأطروحة البديلة التى كنت مصرا عليها هو أننى مسلم أتكلم العربية، وبالتالى فأنا قريب من الفطرة السليمة، والفطرة السليمة هى أقصر الطرق للدفع إلى الحضارة والتطور، وأن الحضارة الغربية رغم إنجازاتها قد ابتعدت عن الفطرة بما أصبح نذيرا لخطر حقيقي، ونحن أعجز من أن نقلدها، وأقدر من أن نتوقف، كانت هذه هى الأطروحة التى ظل ابنى وأقرانه يعارضوننى فيها قائلين إن الإسلام الذى أتحدث عنه لم يعد موجودا، وأن أول من سيقول بكفرى هم المسلمون الذين أحاول أن أجد لهم عذرا ومخرجا ودورا وإضافة، وكنت أردد دائما أنه أنا مالي، إنه هو الذى سيحاسبنى وليس هم.
وقال ابنى فى الهاتف – مازحا أيضا- (ومزاحنا هو وأنا دائما جد أكثر من الجد الخالص) إنه وأقرانه سوف يحققون الحضارة الغربية بطريقة إسلامية، وفزعت دون أن يبدو علي، وقد اعتدت مع ابنى هذا أن نتبادل الأدوار بطريقة تكاد تكون دورية، يناقشنى حتى ليبدو أنه لا مجال لكلينا للاقتناع برأى الآخر، ثم يترك بعضنا بعضا فنلتقى فأقول له أننى عاودت النظر ويبدو أن عنده بعض الحق وإذا به قد عاود النظر هو أيضا وذهب إلى الطرف الآخر وهكذا، لكن أحدا منا لا يذهب إلى حيث كان الآخر تماما، فهو يجد له أبدا مكانا جديدا، أقرب أو أبعد أو على جنب من حيث كان الآخر، حركة عقلية دالة لعلها تعنى شيئا حقيقيا.
الساعة الثانية وعشر دقائق: ذهبت إلى المطعم فى الفندق الذى هو، قال لى الرجل المسئول المجلجل ( الظريف المهذب الذى لا عيب فيه =Genellman ) إن الميعاد انتهي، وكان على أن أحضر قبل الثانية، هكذا الانضباط يا رجال، ثم إنى لا أذهب للمطاعم عادة لآكل ولكن لأجلس مع الناس، والفرنسيون يتناولون غداءهم الساعة الثانية عشر بالثانية، وحين كنت أعمل مع بيير برينتى صديقى الحقيقى الذى يحل فى وعيى قارئا مواكبا لأغلب ما أكتب رغم أننا لم نلتق خلال الربع قرن الماضى إلا مرة واحدة، حين كنت أعمل معه فى مستشفى سانت آن، كان يقوم ملسوعا فجأة إذا انتصف النهار، ويمضى جادا ومسرعا وكأن أمرا ذا بال سوف يفوته، ماذا وإلا..إلخ، فأفزع لفزعه، وأصحبه، فيلقى بى فى الشارع على أقرب ناصية توصلنى إلى المترو، فأدور وألف حتى الساعة الثانية ميعاد العودة بعد الظهر، أو أختفى إلى حيث أريد، ثم إذا به يدعونى للغداء ذات يوم، فأكتشف أن كل هذا الانطلاق واللهفة والجد كانوا لتناول الغداء، ياصلاة النبي، وأنا قد انقطعت صلتى بأولادى أو كادت، أكتشف أننى بعاداتى القبيحة لم أتبين أن للأكل وظيفة اجتماعية غير أن نـسـكت جوعا أو نملأ بطنا، آكل عادة وأنا أسير، وأنا أعمل، وأنا نائم، “الأكل معا” وظيفة اجتماعية سواء فى الحضارة الغربية أو فى عمق ريف بلدنا، فمن قديم كنت أشارك الفلاحين غذاءهم على رأس الحقل. وكان أحدهم ينادى على الآخر أن يحضر منديله ويشارك فى عمل “غديوة.. كان الفلاح العامل ينادى زميله داعيا له أن يحب (والحب عند الفلاحين هو الاقتراب، وهو أدق تعريف للحب الناضج بديلا عما شاع من معانى العشق وموت المحبين بعضهم فى بعض، يقول الواحد منهم حب يا راجل شوية خد فلان جنبك، أى اقترب من جارك حتى يتسع المكان لثالث ورابع وهكذا….) وشكرت رجل المطعم المجلجل الذى لا عيب فيه، وحمدت الله أن ظللت على لحم بطنى حتى العشاء مثلما هو الحال فى بلدي، لكن يبدو أننى صعبت على الرجل المجلجل، فاقترب منى بعد ساعة وأنا جالس فى الصالون منهمك مع هذا المكمتر قال لى الرجل وهو ينظر فى الحروف العربية على شاشة الجهاز متعجبا أن ثمة رسما مختلفا عمـا أعتاد يمكن أن يحمل معان أصلا، قال: يا سيدى : هل تفضلت فحضرت قبل التاسعة مساء إن كنت سوف تتعشى معنا، وفهمت الرسالة لأننى كنت قد ذهبت للعشاء أمس بعد الساعة التاسعة بخمس دقائق، ولم أكن أدرى المواعيد، ووجدت المطعم خاليا، والرجل المجلجل لم يـرد أن يردنى خائبا لتأخرى خمس دقائق، وقام بخدمتى وحدى تماما، وقلت فى نفسى ساعتها وأنا أطل على بحيرة ليمان، الحال من بعضه، هذه هى السياحة مضروبة أيضا فى سويسرا دون إرهاب ولا يحزنون، ولم أكن أعلم أننى أتعشى وحدى لأننى حضرت بعد الميعاد فى بلد متحضر، فلما كررتها فى الغداء تنبه الرجل المجلجل أننى لست على الخط أصلا، فمنعنى أولا، ثم نبهنى ثانيا. هذه هى الحضارة الغربية ياسادة يا كرام، فأين هذا من الأبحاث التى نجريها، والكتب التى ندعى تأليفها، والعلوم التى ننسخها لنتصنع بها ما يشبه العلم؟ ما علينا، ولكننا مازالنا أقرب إلى الفطرة، والذى يعجبه، عرض على مضيفى أن أذهب إلى لوزان أو جنيف فى وقت فراغى فشكرته، وفضلت أن أعكف على الكتاب إياه، خاصة بعد أن لم يعد هو هو الكتاب إياه.
الأربعاء 23 / 6 / 1993 :
فضلت أن أظل حبيس هذا المكان المريح على شاطئ بحيرة ليمان، تشرق الشمس فأرى شعاعها من حجرتى وهى تضيء ما يشبه الكهف الممتد إلى غور الجبل، وكأن النور يخرج من هذا الكهف وليس مجرد انعكاس شعاع قادم إليه، وأنا قد أنعم الله على فى بلدنا بفرص الإقامة بعض الوقت أمام أجمل ثلاث مناظر فى العالم، فى الإسكندرية والعلمين ورأس الحكمة، لم أر بحرا أجمل من رأس الحكمة إلا فى شمال شرق أسبانيا (سان سباستيان)، وقد اقتطع الجبل جزءا من المحيط كأنه قضم قضمة فاستطعمها فلم يبلعها خشية أن يذهب طعمها، فأحاط بها وجعلها شاطئا فى لون الزبرجد (طبعا أنا لا أعرف ما هو الزبرجد ولا مالونه، لكننى متأكد أن البحر هناك كان فى لون الزبرجد) ولم أجد هذا اللون إلا فى سيدى عبد الرحمن الذى أصبحت جاره فى مارينا العلمين – ثم فى رأس الحكمة – وكلما رحت هنا أو هناك صعب على أبناء شعبنا الذين لا يروحون معي، وفى نفس الوقت خفت أن يجيئوا فأشغل عن كل هذا الجمال بجمع بقاياهم حرصا على نظافة الشاطيء، واحتراما لظروفهم، المهم كانت الشمس هنا تشرق على الجبل وتغيب فيه، وأنا أرصدها طول النهار، وأنا بالقرب من شامونى حيث التقى توفيق الحكيم بطه حسين وكتبا كتابهما معا، ففضلت أن تكون حركتى مع الشمس جالسا، أبقى فى الفندق وأرتحل معها من الشروق إلى الغروب، وحين يجتمع الجبل والبحر أسبـح للذى خلقهما، وحين كنت فى سيناء الغالية كنت لا أستطيع أن أفصل بين سانت كاترين ووادى فيران على جانب وبين دهب وشرم الشيخ فى جانب آخر، وكنت أدعو الله أن يجمع بينهم فى مكان واحد، وقد اكتشفت أنه استجاب لدعوتى قبل أن أدعوها، رأيت استجابة الدعوة فى أكثر من مكان على البحر الأحمر، يا مصرنا الغالية ظلى غالية ياشيخة، ظلى غالية واحتوى هؤلاء الأبناء العاقين الأغبياء الذين يشوهون فطرة ربهم المتجمعة فيك فى كل مكان، ولا يخجلون وهم يذكرون اسمه أو يحتكرون رحمته، ظلى غالية ولتنضح طيبتك عليهم فإذا هم مبصرون – تقول يا محمد يا إبنى أنت وأصدقاؤك: كيف؟ أنا مالى كيف، ثم ما الذى قفز بك الآن لتوقف سيل دعواتى وأحلامي، أليس من حقى أن أحلم حتى وأنا متقوقع فى هذه الغربة المختارة اضطرارا؟ طظ فيك ياأخى أنت ومن يتعرض لك!!
ظللت فى الفندق أتحرك جالسا بين الشروق والغروب، وقلت لقد كنت محتاجا لهذا تماما وتحديدا، الآن تماما، ثم تقول لى صدفا واضطرارات، أى صدفة هذه التى تجعلنى أحصل على ما أنا محتاج إليه تماما وكأنه مقاس بجزء من المليمتر، أى صدف تلك التى تسمح لى بهذه الجلسة الآن وهذا التدفق وهذه الاستعادة وهذا الحساب؟ أى صدفة هذه ولو قالوا لى ما الذى ينقذك مما أنت فيه طوال الثلاث سنوات الماضية لما جرؤت أن أحلم لأقول: هو ما أنا فيه الآن، ولا كان عندى من القدرة ما يسمح لى أن أرسم الوقت والوحدة والمنظر والصمت والنظام الذى يتيح لى من جديد أن أتنفس بهدوء هكذا، أنا -مثل عمر حفيدي- أحب طعم هذا الهواء، طعم هذا الهدوء، طعم هذا الذى ليس له إسم، هو همس متسحب يلمس ولا يجذب، فيفسح الطريق إلى كل ما هو وسع كرسيه السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، نعم هو ذلك الذى هو ليس كمثله شيء، وتقول لى صدفة واضطرار، ياعم روح!!
حضرالسائق، لا يا سيدي، شكرا لن أنزل لا إلى جنيف ولا إلى لوزان، أجلها للغد
لكننى أخذت بعضى بعد الظهر ونزلت هنا وحدي، ناسيا أو متناسيا حكاية ركبتى وما أصابهما، متعشما فى وجه الله خيرا، بعد الظهر، لبست حذاء المشى وتوجهت خارج الفندق للمرة الثانية (بصراحة المـرة الأولى لا تحسب لأنها لم تستغرق سوى دقائق، كنت أتأكد خلالها أننى فى مدينة فيها ناس بحق وحقيق، ولست فى مكان آخر فيه نوع آخر مستورد من البشر)، نزلت على الدرج المجاور للفندق حتى شاطئ البحيرة، نسيت أن أذكر أن البلد إسمها مونتريه، وأننى كنت قد زرتها من قبل مع سيدة مصرية فاضلة أصرت أن ترينى إياها وأن تذكرنى بأن النحاس باشا قد حضر فيها مؤتمرا لست أدرى ماذا، حول الحرب العالمية الثانية، نزلت إلى شاطئ البحيرة، وهات يا مشي، ساعة ساعتين، أبحث عن آلام ركبى فلا أجدها، لقد كنت قد اعتبرت نفسى قعيدا منذ أصاب غضاريف ركبى ما أصابها، استأصلت جزءا من أحد الغضروفين بعملية جراحية، والركبة الأخرى صبرت على ما أصابها حتى خف الألم دون جراحة، لكن الإعاقة هى الإعاقة، وأيامها توجهت إلى ربى عاتبا، فى عشم والله العظيم، وقلت له إن الناس تعمل بعقلها أو بيدها وأنا أعمل بساقي، أنا أعالج مرضاى يا رب بساقى ، مثلما أعالجهم بعقلى أو علمي، أنا أسير بجوارهم، أعدو معهم، ألعب معهم ما لا أعرفه، فلم أصبتنى فى أداة أكل عيشى وتفكيري، بل إننى يارب- وأنت خير الشاهدين- قد وصلت لأحسن ما وصلت إليه فى فكرى وتنظيرى وأنا حالة كونى فى حالة عدو خلاق إن صح التعبير- حين كنت أكتب نظريتى فى الإبداع والأحلام والإيقاع الحيوى كنت أحمل الفكرة وهى على طرف القلم لا يكاد يفرزها، ولا أعرف لها صياغة أو تشكيلا، وأنطلق أعدو سائلا الله الفرج، دون أن أفكر فيها طبعا، وأعرق وأعدو ثم أعرق وأعدو، حتى إذا رجعت واستحممت بماء أقرب إلى السخونة منه إلى الدفء، وأمسكت بقلمى انساب يقول ما كنت أبحث عنه بعد أن انزاح ما كان يعوقه، فلم يارب حرمتنى من هذا، ألست خيرالعارفين أننى اكتشفت علاقة الفكر بالجسد من خلال ساقى وهى تجاور سيقان مرضاي، فنتعتع ما لا يتتعتع من أفكارنا المتصلبة، ونستقبل شمسك وهى تشرق فى وجداننا فتحل بجلالك فى وعينا، فتذوب الأفكار المتجمدة مثلما تذوب قطعة الثلج فى دفء شعاع هاديء، فلم ركبتى بالذات ؟ كانت هذه مناجاتى العاتبة، ولم أكن أعلم أنها رسالة السن قد أرسلها ربى إلى عن طريق ركبى لأعيد ترتيب أوراقي، فذهبت أتعلم العوم وأنا أقترب من الستين، وقد كان، واستعضت عن المشى بالعوم، وعاودت التفكير عائما، وكان آخر ما اهتديت إليه-عائما- وأنا أكتب كتابى الثقيل الذى أشرت إليه فى أول هذا الفصل هو فكرة أن المرض النفسى لا يحتاج إلى سبب مرسب، ولكنه موجود فى تركيبنا أصلا وهو يحتاج إلى عامل “مـطـلـق”، يحتاج إلى ما يطلقه اختناقا، لا إلى ما يـحدثه افتعالا، لكننى نسيت أن أحضر معى فى هذه الرحلة لباس العوم، كنت فى ماذا أم ماذا،- وحمدت الله على ذلك لأننى أحتاج لوقت ساكن أعيد فيه النظر، غير أنى أحتاج أيضا لحركة عضلات تساعدنى على الوعى “بكلي” بشكل أعرفه ويعرفه من أنعم الله عليه أن يفكر بجسده معا، فتوكلت على الله وهات يامشي، ساعة، ساعتين، خط السكة الحديد يفصل المدينة عن البحيرة، يعبر الجبل، اقتربت من محطة صغيرة، دخلتها آملا أن أعبر إلى الجانب الآخر لأختصر المسافة وأرجع قبل أن تحتج ركبتاي، فوجدت صبيانا وفتيات حول العاشرة وهم على كلا الجانبين من المحطة يتصايحون، وقلت لابد أنهم قد عبروا خط السكة الحديد حيث توزعوا هكذا على الجانبيين. ولم لا؟ فهممت أن أعبر، لكن الصبية تصايحوا أكثر، أو هكذا خيل إلي، فنظرت فإذا لافتة تقول ممنوع، طبعا ممنوع وهل هذا الأمر يحتاج إلى لافتة؟ لكنها شطارة أهل بلدنا تعلمتها منذ كنا نمزح مع قطار الدلتا يرحمه الله، وواصلت سيرى حتى وجدت جسرا علويا أعبر فوقه، وفعلت، وعدت راجعا من الطريق العام بعيدا عن شاطئ البحيرة، وسألت عن الفندق رغم أننى أعرف الطريق إليه بالتوجه العكسي، وكل من أسأله يقف، ولا يخاف منى رغم شكلى العربى وغرابة عـرقى وبلاء حذائي، كل من أسأله يقف، ويستدير، ويجيب، وينتظر حتى يطمئن أننى فهمت. إذن فهؤلاء هم ممثلوا الحضارة الغربية جنبا إلى جنب مع حاملى المطاوى وشاقى الجيوب،الصفقة على بعضها هى العدل بعينه.
نظرت فى ساعتى فوجدت أننى مشيت ساعتين ونصف ساعة الأمر الذى لم أفعله منذ سنوات منذ أن أصاب ركبتى ما أصابهما، بحثت عن الألم الذى اعتدته، والذى خفت منه، فلم أجد له أثرا، هل شفيت؟ ولكن هذا ضمور لا يشفي، هذا حكم السن، هكذا قال لى الأطباء والجراحوين معا، إذن ما الذى حدث؟
الذى حدث هو أن الرسالة الآن اتضحت، وأن هذه الرحلة ليست بالصدفة ولا يحزنون، وأن هذا السفر ليس اضطرارا، لكنه رسالة موجهة، إما أن أحسن الاستماع إليها، وإما….- لم تشف ركبى أصلا لكننى سرت ساعتين ونصف ساعة- أليس معنى هذا أن الله سبحانه يبلغنى أنه ينبغى على ألا أكون إلا كما صنعني، وألا أكتب إلا ما أبلغه إياى من واقع خبرتى وعلمي، وألا أقلد غيري، وألا أخاف من فقر أو فشل، وألا ألقى معاذيري، وألا وألا….وكنت ما زلت أكتب ذلك الكتاب الثقيل، أو الذى كان ثقيلا، وكان من بين ما وصلت إليه هو شرح عرض يقال له ضلال التأويل، وهو هذا النوع من الضلالات التى يكتشف المريض فجأة من خلالها دلالات يقينية على غير أساس أصلا، نتيجة لتأويله الخاص جدا لبعض أحداث الحياة العادية، ففزعت بعض الشيء ، أليس تأويلى هذا هو كذلك، هل يعنى أنى مشيت ساعتين ونصف ساعة دون ألم متوقع لأسباب مرضية حقيقية لاعلاج لها ولا أمل فى شفائها، هل يعنى ذلك كل ذلك؟ هل أصابنى مثل ما أصف به مرضاي؟ أقول إننى فى البداية فزعت بعض الشيء، لكننى لست مريضا على ما يبدو لأننى أقول قولى هذا على سبيل الترجيح لا على سبيل اليقين، لا يا شيخ!!! لنقولها بطريقة أخف: هو استلهام رسالة تحفزنى إلى ما كـتـب لي، فـرحت أجعل الاضطرار اختيارا، فليكن كل ما قلته ليس له أساس من الصحة، لكننى سأجعله صحيحا بما أفعل الآن وما أقرر، الكتاب تغير ودارت العقارب 360 درجة، والناس والطريق تستكمل، فقررت أن تمتد الاجازة لغير ما سبب إلا أن أكمل الفرصة، فأجعل وجودى المنفرد هكذا لهذه الفترة هو غار حرائي، وأعود لأكون كما شاء هو، وكما شئت، جعلنى الله من عباده الذين إذا أرادوا أراد.
الخميس 24 / 6 /1993:
صدر أمر الإفراج المؤقت من هذا السجن الرائع الذى دخلته بمحض إرادتى بعد أن استسلمت لحكم الصدفة وقهر الاضطرار، وكنت قد طلبت من السائق منذ أمس أن يصحبنى إلى لوزان، وجنيف فى التاسعة صباحا، لكنه رجانى أن يكون ذلك فى الحادية عشرة حيث يبدو أن يومه يبدأ متأخرا، ولا أدرى متى ولا أين ينتهي، نفس السائق الذى صحبنى من المطار وغمرنى بالأغانى الدينية تهذيبا وإصلاحا، منعت نفسى من أى افتراضات تفسر سهره، ووافقت على الساعة الحادية عشرة، فحضرصباح اليوم ومعه أمر الإفراج الصادر من المسجون ذاته، أنا. وسألته عن الوقت الذى تستغرقه المسافة إلى جنيف فقال أكثر من ساعة (وهذا غير صحيح حسب رحلة المجئ، وكما ثبت بعد ذلك) فاستنتجت أنه يعزف عن تكبد مشقة المشوار والانتظار، فطلبت منه أن يذهب بى إلى وسط المدينة هنا، لا لوزان ولا جنيف، وقد كنت قد وصلت إلى قناعة من خلال إقامتى فى باريس وفرنسا قاطبة وهى أن كل أوساط المدن مثل بعضها، وكل الفنادق الفخمة مثل بعضها، فلا داعى للترحال لمجرد ذكر الأسماء المألوفة عند الرجوع، وقد جاء ظنى فى محله فأخذنى السائق إلى وسط المدينة، وإذا بى أكتشف أنه شديدة القرب من الفندق، فلماذا هذا الإزعاج والسائق والعربة وخلافهما، وطلبت منه أن ينتظر، وأنى راجع بعد بضع دقائق، وأضمرت فى نفسى أن أعود بعد أن يوصلنى للفندق، أن أعود على قدمى حتى أكون حرا، ألم أمش أمس ساعتين ونصف، وكنت قد أخذت قرصا مضادا للألم أستبق به حدوث الألم، وحتى لا توجعنى ركبتى بإهدار تفسيراتى التأويلية السالفة الذكر. وعدت بعد هذه الدقائق المحدودة، وبعد أن رأيت أن كل شيء هو فى أوكازيون دائم (!!) والذى لا يشترى يتفرج، لكن أى شيء فى مصر المحروسة رغم كل الغلاء هناك، هو بـعشر ثمنه هنا، وأنا أعرف-وذكرت- أن ما يزعجنى فى صحبة زوجتي، وإلى درجة أقل أولادي، هو هذا الشيء الذى يسمى تسوقا، وأنا لم أفهم أبدا ما هى علاقة التسوق بالترحال، بل إنى أراهما نقيضين لا يتفقان، والدليل عندى هو أن الرحالة الحقيقى هو من يعلق حقيبة الظهر ويضع الحذاء المطاط فى قدمية، ثم خذ عندك، بلد تشيله، وبلد تحطه، فكيف لو أنه تسوق؟ كيف يكمل رحلته أصلا، والعجيب فى أمرالتسوق هو الشطارة الحريمى والعياذ بالله، ومحاولة إقناعى أن هذا أرخص، وهذا يوفر كذا وذاك يوفر كيت، وكنت فى بادئ الأمر أحاول إقناع من يزعم ذلك – زوجتى تحديدا- أننا لا نتاجر، وأننا لانحتاج ما نشتري، وأننى على استعداد أن أدفع ثمن الشيء عدة أضعاف مقابل ألا أواصل رحلتى محملا بأثقال لا تعنيني، مضيعا وقتا أنا وهى أولى به مادمنا قد نالنا شرف السفر، لكننى فشلت دائما أبدا، وها أنذا الآن حر لا أشترى شيئا أصلا اللهم إلا بطاقة تذكرنى بالمكان، وقرار بشراء خوذة ومطواة بها ملعقة وشوكة يمكن فصلهما فى الرحلات، ذلك أننى بعد أن أصاب ركبتى ما أصابهما قررت أن أقتنى دراجة بخارية (ما أسخف الاسم: موتوسيكلا يا أخي؟ أين البخار هذا؟؟؟) وقد اشتريتها فعلا قبل سفرى مباشرة، فى الطريق من اليونان إلى يوغسلافيا، فلما أصابنى مؤخرا ما أصابنى واستعضت عن السير بالعوم، لم يحقق لى هذا الأخير الشعور بالاختراق، ففكرة أن أستعيض بالموتو (وهذا هو الإسم الفرنسي، وهو اختصار جيد وسهل نطقه بالعربية) عن الجري، كانت لأستعيد بذلك هذا الشعور الذى حرمت منه وأنا أخترق طبقات الجو أمامي، فأخترق بالتالى طبقات الوعى داخلي، ولم أصرح بهذه الفكرة لأحد، فاشتريت المطواة استعدادا لرحلات منفردة بعد أن تصورت أن زوجتى لم تعد تطيق الرحلات غيرالشرائية، وسألت عن غطاء للرأس خاص براكبى هذه الموتوهات، فدلنى أحدهم إليه على الخريطة، وكان ميعاد السائق قد أزف بعد أن بحثت عنه المرة تلو المرة، فقررت تأجيل كل شيء للغد حين أعاود التجوال على قدمى فى سرية حرة دون حمل هم من ينتظرنى خصيصا.
تعلمت أن أذهب إلى المطعم فى منتصف الوقت المحدد تماما حتى أتجنب نظرات الرئيس المجلجل الذى لاعيب فيه، كانت الساعة الثامنة حين دخلت، فإذا المطعم على آخره، وقلت لنفسى بحسرة، هاهى السياحة عندهم تسترد صحتها، عقبالنا، وانتظرت بالباب، الأدب فضلوه عن الجوع، وحضر إلى الرجل المجلجل الذى لا عيب فيه، ووجهنى إلى حيث ينبغى أن أجلس، والجلوس فى مطاعم هؤلاء الناس ليس كما تشاء، ولكن كما يشاؤون هم، فبعض المناضد عليها كروت، وبعضها لا تفهم ماذا، وبعضها أيضا لا تفهم ماذا (غير الأولي)- فتوجهت، وجلست حيث حشرنى البيك المجلجل بين منضدتين، على اليمين وجدت امرأة “فاضلة”، ومعها ابنها – فى الأغلب- ذى الأربعة عشر عاما تقريبا، وهو بدين بدانة جعلتنى أتصور أنه جاء إلى هذا الفندق الذى بدأت أدرك أنه أصبح مركزا صحيا أكثر منه فندقا – جاء يخسس نفسه (ولم لا ؟)، قلت ماشي، لكن على اليسار وجدتها هى …، امرأة فى حوالى الأربعين جامدة الوجه بشكل يكاد يكون متصلبا، لكن وجهها تجمد على حزن دفين، هكذا قدرت رغم خلو وجهها من أى تعبير، لكن الصنعة تغلب، فقررت أن طبقة ما تحت الجلد تحتوى ما أقول من حزن متقلص، وكنت قد لاحظتها أثناء الوجبات السابقة وهى جالسة فى مواجهتي، ولا حظت رعشة شديدة فى يدها وهى تصب من زجاجة المياه المعدنية الكبيرة جرعة فجرعة بنفس الرعشة القاسية العاجزة المثابرة، وغلبت على مهنتى وقلت هذا من أثر بعض أدويتنا القبيحة التى تقوم باللازم من حيث تصلب الوجود الخفي، وتصلب العضلات الظاهر، وأشفقت عليها، ودعوت عليهم، وعلى الأدوية، وانسلخت من مزيد من التفكير، لكننى تذكرت أن شعورى هذا نحوها كان قد بدأ منذ أمس، وهى تجلس بعيدا عنى فى مواجهتي، أما وأنا بجوارها اليوم محشورا رغم أنفى بينها وبين الفتى “المكلبظ” فالأمر زاد وفاض، والخدمة فى هذه المطاعم بطيئة بطئا مقصودا، واليد بجوارى بدأت فى رحلة الذهاب والعودة تنقل المياة المعدنية من الزجاجة الكبيرة إلى الكوب جرعة فجرعة، فلم أستطع- فجأة أحسست أنى أكاد أفعل مثلها، وخاصة وقد كنت قد طلبت هذه المياة المعدنية الغازية أجرب ما يفعل الناس حولي، أقول وجدت يدى تكاد ترتعش مثلها وأنا أفرغ الكوب، ففزعت، وأحسست بعضلاتى تكاد تتصلب مثلها، وتذكرت أعراضا من أعراض مرضانا تقول أن ما أنا به هو أشبه بصدى الحركة حيث يعمل المريض نفس الحركة التى تعمل أمامه، الله !!! ما هى الحكاية، مرة أتصور أن المسألة سوء تأويل ضلالي، ومرة أكاد أقلد امرأة متصلبة مرتعشة، ولم أشك فى نفسى مرة أخري، لكننى عذرت زملائى الذين يمارسون الطب النفسى من الظاهر، وقلت معهم كل الحق إذ يحمون أنفسهم من رؤية مرضاهم، ومما أنا فيه الآن بأن يعتنقوا نظريات كيميائية، وأن يغرقوا مرضاهم بفيض كيميائى يرحمهم من أن يروا وجه الشبه بينهم وبين مرضاهم، ماعلينا، لم أستطع أن أستمر مختنقا بين الصبى البدين، والمرأة المتخشبة فقمت طالبا من السيد المجلجل، بأدب يليق بأنه لا عيب فيه، أنه إما أن يبحث لى عن مكان آخر، أو أن أنتظر فى البهو حتى يجد لى مكانا آخر، وبترحيب شديد، ودون أى تساؤل عن السبب أو احتجاج أو انتظار، وافق على أن أنتظر فى البهو، وقد كان – وبعد دقائق نادانى حيث أجلسنى فى مكان رحب فى مواجهة الجبل وهو يحيط بالبحيرة مثلما يحيط الأب كتف ابنته ذات الخمسة عشر ربيعا بذراعه العارى القوى العضلات المليء بالشعر.
لكل شيء إذا ما تم نقصان
وقد تمت الحضارة الغربية على أكمل وجه وأخفاه، الجلوس بالترتيب، والنظام بالمليمتر، والاعتراض مسموح به، والتباديل والتوافيق ممكنة، والصبى السمين سمين، والأدوية المصلـبة على أذنه، والمرأة متخشبة مرتعشة بملء إرادتها الغربية الحرة، وصاحبكم يوحد الله ويحمده أن استطاع أن يمشى أمس ساعتين ونصف ساعة.
الجمعة 25 / 6 /1993:
الفجر هنا أوسع، لست أدرى كيف، فأنا فى هذه الأيام التى رضيت فيها أن تكون حركتى مثل عباد الشمس (اللهم إلا من تجربة المشى أمس الأول) توثقت علاقتى بكل أطياف السماء والأرض والبحيرة، طيف الفجر وطيف الشفق، طيف الكهف وطيف الجبل، فى هذه الأيام المـشـرنقـة عشت فى المساحة بين الخيط الأبيض والخيط الأسود من الفجر، حين كنت صغيرا أحاول الصيام من سن السادسة، وأفخر به، وأهرب منه، وأتصنعه، كدت أمسك بخيط أسود وخيط أبيض فى الظلام لأسمح لنفسى أن آكل وأشرب حتى أتبين الفرق بينهما، وكان يؤرقنى حرف “من” فى قوله تعالى “..من الفجر”، وعلاقتى ببعض ألفاظ القرآن علاقة عيانية مباشرة وأول ما سمعت-طفلا- أبى وهو يقرأ ” يا يحيى خذ الكتاب بقوة”، رحت آخذ منه الكتاب مستجمعا قوتى مثلما يثنى حفيدى الآن ذراعه ويشد على عضلاته قائلا ” شوف أنا قوى إزاي”، فضحك” والدى على وربـت على كتفي، ونادرا ماكان يفعلها والله العظيم، وأنا دائما أتصور أن التربيت أفضل من إسهال القبل التى نـغرق بها الأطفال حتى نغمس وجوههم فى عسل مصنع، أقول إننى هنا، وأنا أعيش فى هذه المساحة الممتدة من الفجر، أشرق مع الشروق ولا أغرب مع الغروب، حضرنى بيتا شعر كان يرددهما أبى لا أذكر منهما إلا الشطر الثانى للبيت الأول، ثم البيت الثانى :
………………… والشمس بين تبلج وتفرج
كتنفس الحسناء فى المرآة إذ كـمـلـت محاسنها ولم تتزوج
لم يعد هنا حسناء تتنهد هذه التنهيدة إذ لم تتزوج، بل إننى حين كنت عند صديقة زوجتى “كامينو” فى ألكالا (القلعة) إحدى ضواحى مدريد، انطلقت هذه الصديقة تعطينى درسا فى فائدة عدم الزواج للبنات خاصة، طبعا لم أفهم، ولكن يبدو أن ابنتى فهمت، وكانت تصيح هذه الصديقة الأسبانية وهى لا تكف عن الكلام: لماذا، لماذا يتزوج البنات ويفقدن حريتهم، ولم تكن تعنى تحديدا أى شيء من الذى يخطر ببالك الآن، لكنها كانت تقفز صائحة كلما ذكرت سيرة الزواج كمن لدغتها عقرب فى مكان حساس. فى هذا الجو هنا، والشمس بين تبلج وتفرج كان الفجر ممتدا، مساحة مرئية، أتجول فيه -جالسا – هو لا يمر بي، بل أنا الذى أتجول فيه، هذا التشرنق الحالى الذى لم أعهده من قبل فى رحلاتى السريعة الإيقاع كان فجرا خالصا، واكتشفت أن الفجر أحلى من الشروق، نعم، كانت شرفتى على شاطئ هذه البحيرة فى حضن الجبل فجرا خالصا. وكما قامت عنى الشمس بالواجب فى الحركة عبر السماء بتقلب ثري، قام التليفزيون داخل الحجرة بالواجب فى نقل العالم كل العالم إلي، والإرسال المحلى فى سويسرا باللغات الثلاث، حسب التنويعات العرقية الثلاث، وأنا أحب أن أشاهد الصور الملونة فى التليفزيون أكثر من الاستماع للكلام، حتى فى مصر، وبلغتى الجميلة، يؤنسنى فى رحلتى الأسبوعية إلى مارينا أو الإسكندرية أن أفتح التليفزيون على أى صور ملونة تتحرك، ثم أنطلق فى الكتابة أو القراءة دون أن أسمع شيئآ. تكفى الصور الملونة، بل إنهم بعد اختراع ما يسمى الضابط عن بعد remote control أصبح المنوم العظيم لى هو هذه الصور المتلاحقة بلا صوت، ثم هـب، تعيش التكنولوجيا، تصبح على خير، لكن هذا الصباح حمل لى التليفزيون خبر حريق فى مستشقى الأمراض العقلية فى رين، زميلي-تلميذي- الذى حادثته من مطار شارل ديجول إنما يعمل فى رين، فأسرعت إلى التليفون أطمئن عليه، وكان نصف نائم، فطمأننى أنه على قيد الحياة، وأن المستشفى ليست مستشفاه، وإن كانت قريبة منه، وأنه يعمل فى عيادتها بعض الوقت فحسب، فاطمأننت عليه، وإن كان الحادث قد ترك ما ترك، وتأكد ذلك بعد أن علمت أن هذا المستشفى كان به مرضى مكبلين بالعقاقير إياها لدرجة..إلخ، اللهم لا علينا وسترك، فطلبت من صديقى الذى كنت أزمع زيارته أن يحجز لى حجرة فى الريف الفرنسى الشمالى عند أسرة فلاحة أقضى فيها أغلب إقامتى فى فرنسا هذه المرة، فأنا أحتاج إلى نقلة شديدة إلى أقصى الجانب الآخر، ثم إننى مازلت مخاصما باريس من الزيارة السابقة، ماذا لى فى باريس غير الطقوس المعادة، والوجوه المتلفتة إلى غير وجهة، والخبز الذى أصبح يصنع فى مصر، فليكن الريف فى الشمال هو رحلتى إلى داخلى أكمل به شرنقتى لعلى أخرج فراشة حقيقية قادرة على البيض من جديد، وتساءل صديقي-وهو المقيم فى فرنسا إن كان هذا متاحا فعلا، إذ على حـد علمه إن الفنادق بمختلف درجاتها هى المتاحة للغريب، فأكدت له أنه متاح، وأنه متى سأل عرف، وقد سأل وعرف، وحجز لى بصفة مبدئية، ولكن….- بلغنى أيضا فى هذا الفجر من التليفزيون مسألة الجماعة السودانيين الذين أمسكوهم فى نيويورك فى اتهام بتخطيط لمؤامرة لقتل بطرس غالى وحسنى مبارك وآخرين (حسب القرعة)، وكانت الأخبار المعادة والخطيرة طول الوقت عن حادث رشوة مباراة مارسيليا، وعار جريمة البوسنة، ثم ضرب العراق تأديبا على محاولة اغتيال بوش، الله يخرب بيتك يا كلينتون يا عبيط، وبيت أبيك يا صدام يا حسين فى يوم ليس له فجر (تحوير من دعوة أمى فى يوم لم تطلع له شمس- حسب مقتضى الحال) وعلاقتى بالأخبار وإذاعات العالم علاقة خاصة، وبالذات حين أكون فى السيارة، وهذا أمر يزعج زوجتى لدرجة العزوف عن الفسحة أصلا، ذلك أننى كلما خرجت معها للفسحة أو نكون على سفر، تجد مؤشر مذياع السيارة يتحرك من لندن إلى مونت كارلو إلى صوت أمريكا وكأننى سأمسك بالخط الساخن لأعطى تعليماتى حتى لا تقوم الحرب العالمية الثالثة، فتهمس زوجتى همسة أكثر اختراقا من صيحة استغاثة: هل هذه فسحة أم مؤتمر صحفى عن أحوال العالم السياسية، وكيف نستطعم العـشـاء بعد هذا الدم الذى سال داخل العربة سواء فى البوسنة والهرسك أم فى غزة أم فى الصومال أم فى أذربيجان، فأخجل ولا أتعلم، أقول لولا خوفى من زوجتى وهى تقرأ هذا الكلام لحكيت لكم كيف عشت هذه الأخبار، تنتزعني، رغم كل دفاعاتي، سحلا على وجهى وأنا متمدد فى مساحة الفجر، وكيف يجتمع الألم الحقيقى بالمشاركة مع هذا التشرنق الرائق فائق اليقظة.
ثم تقدم الفجر الخالص ليصبح فجرا متداخلا فيما هو صباح:
هأنذا أضع نفسى فوق ساقى شاكرا لهما تحملي، فبادلتنانى ثقتى فيهما وأحالا الشكر إلى ركبتي، وانطلقت مبكرا قبل ميعاد استيقاظ السائق طبعا إلى وسط المدينة، وكنت قد ذهبت أمس خلال عودتى إلى ميدان المحطة أبحث عن خوذة الموتو، وعرفت المكان لكن المحل كان مغلقا، وقلت أول ما أفعل هو أن أذهب أشترى هذه الخوذة، ولم تأخذ المسافة من الفندق إلى وسط المدينة أكثر من عشر دقائق، فلماذا كان السائق وكل هذه الحفلة أمس، ثم إنى ما إن اقتربت من شارع المحطة حتى وجدت ما أعرف أن حدسى يهدينى له دائما، لافتة تقول إلى المحطة، وتحتها مباشرة إلى “المدينة القديمة”، إذن فأنا فى بيتي، فنظرت إلى ركبتى واستأذنتهما أن يكونا فتيتان بالدرجة الكافية، وأن يتما جميلهما هذاالصباح، فهمسا لى أنهما رهن إشارتى على شرط أن……، فسارعت بالموافقة دون أن أسمع شروطهما، وانحرفت يمينا، وفى الطريق وجدت ربوة أعرفها (لم أرها أمس طبعا فى السيارة الفخمة) بها حديقة صغيرة أعرفها أيضا، فيها أرائك محدودة كما تعودت، هى هي، وقد جلس كهل قصير على إحداها فى شمس هذا الصباح الحنون، قلت: ناداني، فعرجت إليه، وجلست، جلسنا، صامتين متحاورين، وسمحت للشمس تتخللنى أسوة بجاري، حتى وصلت درجة حرارتها ما يسهل أن نكون موصلين جيدين بعضنا لبعض، أليس البشر مثل المعادن، وأحيانا الأوانى المستطرقة يحتاجون لدرجة من الحرارة حتى يسخن التواصل بينهما فيرتفع إلى نفس المستوى الذى يسمح أن يصبح الكلام كلاما حقيقيا وعلاقات، فنصير بشرا؟ إننا حين انفصلنا عن الشمس والبحر والزرع والجبل جمدت خلايانا فى “فريزر; الكلمات والنظريات والأشياء المنفصلة عنا، المهم (تكررت هذه الكلمة كثيرا-المهم- ولن أرجع عنها حتى لو أفسدت البلاغة !!!) وصلت حرارتنا إلى ما يسمح بالتواصل فقلت لجارى صباح الخير، فرد عمت صباحا، وسألته كيف الذهاب إلى المدينة القديمة، فأجاب إننا على حدودها، وإن أى شارع صاعد فى هذا الاتجاه يوصل إليها، فتماديت وسألته إن كان يتمتع بالشمس فقال طبعا فسألته : هذا المكان هادئ فعلا، فأجاب: وأنا معتاد الجلوس فيه فى الصباح المناسب، “تعرف أنى غريب” – “يبدو ذلك”- “وأنت؟” – “أنا مولود هنا” – “تغيرت الأمور” – “جدا “- “خمن من أين أنا قادم” فنظر مليا يحاول أن يكون حاذقا، وقال
- من البرتغال؟
- بل من مصر
ولم يشعر أنه أخطأ، إذ يبدو أن السن قد جعلت البشر يتساوون عنده بشكل ما، وتشجعت وسألته عن سنه، فجاء عليه الدور ليسألنى أن أخمن، قلت: ثمانين عاما؟ قال: وخمس، فرحت، لست أدرى لماذا، ربما قدرت أننى يمكن أن أصل إلى مثل سنه، إذن فعندى خمس وعشرون عاما أستطيع أن أكمل فيها ما بدأت، قال يعني، ولم لا؟ ألم أشعر أننى فى هذه الرحلة قد بدأت شيئا جديدا تماما يجدر به أن يكمل؟، وأن خمسة وعشرين عاما تكاد تكفى بالكاد لإتمامه، فنظرت إليه: يا ترى ماذا يفعل بوحدته فى هذه السن، فسألته عن عائلته، فابتسم فرحا وقال لى أعزب، وأشار إلى بنصره الأيسر وأنه لا يرتدى خاتم الزواج، قالها فرحا فعلا لا أدرى لماذا، وكان وهو يرينى إصبعه كمن يطمئن فتاة يعاكسها فى سن الشباب أنه غير مرتبط، وأن لها أن تأمل فى علاقة أو ارتباط ما، كان قد نطق كلمة أعزب فى هدوء وبإيقاع منغم (هكذا تصورت)، وخاصة أن كلمة أعزب بالفرنسية مكونة من أربع مقاطع موسيقية، والمقطع الأخير ممتد أو يمكن أن يقسم إلى مقطعين، “سى لى با تير” celebataire أما أعزب بالعربية فهى من مقطعتين لا يصلح معهما التنغيم والارتياح، “أع” “زب”، لابد أن تشعر وأنت تنطقهما أنك سارق أو متهرب تريد أن تتخلص مما فعلت بهذا الاقتضاب ذى المقطعين الساكن آخرهما، هل هناك دلالة فى هذا الاختلاف تدل على الموقف من العزوبية بين الثقافتين ؟ فقلت له عملت طيبا، ما جدوى لو أنك أنجبت، وكان بعض أولادك الآن يقترب من سنى (الستين)، يذكرك أولا يذكرك، يزورك أو لا يزورك، (ثم أضفت فى سرى ، وغالبا ما كان سيودعك بيتا للعجزة)، فصدق على كلامى فرحا رغم أنه لم يكن يحتاج إليه، وتماديت: فمن الذى يرتب بيتك ويطبخ لك؟، فقال معتزا “أنا”، وهنا تماديت أكثر، وماذا سبقك من الأصدقاء، أظن أن الإنسان فى هذه السن يبدأ فى الوقوف فى الصف، وكلما تناقص الصف انزعج (وتعبير الوقوف فى الصف له دلالة خاصة بالفرنسية) فأقرنى بشجاعة رائعة، وقال هذا هو، لكن لاداعى للصف أصلا مادام الواحد لا يعرف مكانه الحقيقى فيه، فتشجعت سائلا سؤالا أسخف: هل تحب الحياة؟ فأجاب طبعا،
أخذت جرعتي، ودعوت الله أن أتزود منها بما ينفع، ثم وجهت خطابى للجماعات الدينية متسائلا هل يجرؤ أى منكم أن يطلب من الله أن يـدخل هذا الكهل الصديق النار؟ استأذنته، ودعوت له فى سري، وسمعت دعاءه لى فى سره (هكذا بالعافية) وانصرفت أكمل طريقى إلى محل الخوذات، وطلبت أكبر خوذة، خجلت أن أقول لمن، وقلت خوذة لابني، لكن مقاس رأسه مثلى تماما فأعطانى إياها، فقستها وكبسـت على نفسي، ورغم ذلك فرحت فرحتى بثوب العيد فى سنة بذاتها لا أذكرها، كان جلبابا مقلما ذى خطوط خضراء لامعة، وأخذتها فى يدى وكأنى أقتنى شيئا نادرا لا يوجد له مثيل، نفس الشعورالذى انتابنى ذلك اليوم وكل من حولى يلبس ثوبا جديدا، إلا أن ثوبى كان متفردا، مع أن أى واحد، كل واحد ممن من حولى من أطفال لابد أنه ظن أن ثوبه متفرد أيضا، ليس مثل أثواب الآخرين أبدا، هكذا شعرت الآن، أمسكت بالخوذة وهى كبيرة الحجم أهزها فى يدى طول تجوالى بعد ذلك وأقول أنها هي، وأنها مختلفة حتما عن كل الخوذات.
انطلقت عائدا إلى حديقتنا (هو وأنا) هكذا أصبحت: حديقتنا، فلم أجده طبعا، وقد قدرت ذلك فلم أفتقده، فانحرفت حيث أشار إلى أحد الطرق الصاعدة ووجدت الطريق يضيق رويدا رويدا، وهذه هى من علامات المدن القديمة عندي، أى نظافة ونظام، تزداد المبانى قدما وتزداد النظافة دلالة، وتزداد القلوب دفئا، فى الطريق كانت جماعات من شبان وشابات تمتلئ بالحيوية والشطائر والمثلجات-رغم برودة الجو نسبيا- وبالحب، دون إفراط فى القبل والذى منه، وكان التجمع عادة أمام مطعم صغير، أو حول علامة لمحطة أتوبيس، ولاحظت أن المطاعم الصغيرة تضع بطاقات التعامل مثل بطاقة “الأمريكى التشهيلاتي”!! ولم أجد فى المطاعم أحدا ولا سياحة ولا غيره ناسيا أننا مازلنا فى الصباح، وسع الله عليهم وعلينا، وأخذت فى الصعود، ثم الصعود ثم الصعود، وكلما صعدت ازداد المنظر إبداعا واتسع مجال رؤية البحيرة فى حضن الجبل القوى الحاني، صعدت من جديد ولم أفكر فى ركبتي، أصعد متوجها إليه، حتى وصلت – كما قال لى بعض من سألت – إلى الكنيسة القديمة، أو لعلها الكنيسة الرئيسي، وقد كان مكتوبا عليها “كنيسة مونتريه”، وكانت مغلقة، لكن ثمة صندوق مثل صندوق البريد تحته لوحة حجرية تقول “يا زائر هذا المكان تذكرالفقراء، وجـد بما ترى وأنت فى هذه البلاد المبتسمة” ولم أجـد بشيء، هل أنا هنا لأعطى ما تيسر إلى ذوى التأمينات وكل هذه الخدمات؟… الذى يحتاجه المصرى يحرم على الخواجه، لهم بعضهم ولنا الله، بخيل أنا ؟ ثم إن إعجابى بتعبير البلاد الباسمة أو المبتسمة على فقراء كنيستهم بصراحة، أكملت السير دون شعور بذنب أو خجل، بعد الكنيسة بقليل وجدت درجا صاعدا إلى جانب، فصعدت عليه، صعدت حتى وصلت إلى قضيب منفرد كقضيب قطار لكن فى الوسط قضيبا ثالثا بارزا ومدرجا، فخـمنت أن هذا لزوم “التليفريك” وفرامله، ووجدت درجا فى الناحية الأخرى من القضيب، وتساءلت هل ممنوع عبور القضبان مثلما كان الحال فى السكة الحديد بجوار الفندق، وأجبت نفسى أنه طبعا لا وإلا كيف يصعد الناس إلى الناحية الأخرى ؟ فعبرت القضيب، وجلست على الدرج الأعلي، واستدرت أنظر إلى الدنيا على امتداد كل شيء، المنظر أمامى أوسع مما ذكرت: الكنيسة، والبحيرة والجبل والله من خلفهم محيط، بل هو قرآن مجيد فى لوح محفوظ.
وسمحت لأى دعوة صادقة أن تنطلق منى فخرجـت هكذا: اللهم اجعل عملى خالصا لوجهك، وعرفت أن الدعاء قد يأتى بأثر رجعي، ذلك أن ما قررته بشأن الكتاب، وتغيير وجهته 360 درجة، ثم علاقتى بالسفر إلى المؤتمرات المزعومة، والتى قررت أن تكون فى أضيق نطاق، وغير ذلك مما أرجو أن أرجع به من هنا، كل ذلك هو الذى يجعل عملى خالصا لوجهه، وكأنى ما دعوت إلا مافعلت، وكأن الدعوة قد استجيبت قبل أن تخرج، أو أشياء من هذا القبيل كلها تصل إلى ما أريد، أم ماذا؟
جاء التليفريك يتهادى كما ظننت، وكان مليئا بالسواح وقلت يارب العقبى لنا، وانطلقت منى -دون صوت- أغنية لرباعى الأخ (أو الإخوة) “جاكو”، كانوا يؤدونها فى مسرح صغير رخيص مع عدة أغانى كنت أحسبها للأطفال، وهى كذلك، لكننا نحن الكبار كنا نحضر هذا العرض المحدد بساعة واحدة، يعرض قبل العرض البشع التالى الذى يناقضه تماما، كان ذلك منذ ربع قرن فى باريس، يقول المقطع الذى راح يملؤ ساحة وعيى راقصا :
وهذا هو الطائر “لير”
الذى يمر فى السماء
الطفل يراه الطفل يسمعه الطفل ينادى عليه
نعم كنت أنادى على الطائر “لير” رغم أنى لم أره ولم أسمعه ولم أعرف مطلقا إن كان “لير” هو اسم الطائر هكذا، أم صفة أم لفظ يمكن ترجمته،، لكن من منا من أهل الريف وهو طفل لم يخاطب عصفورا، أو لم ينصت ليمامتين يتناغيان، وأخذت أبحث عن أول الأغنية فلم أجده، وأنا حين تصيبنى هذه الحالة حالة نسيان اسم محدد أو مقطع محدد – وكثيرا ما تصيبنى الآن- أتذكر سنى على الفور، وأقول تصلب الشرايين، وأحمد الله وأدعو بالسلامة، لكننى ما كدت أترك مكانى صوب الإجليز (الكنيسة) حتى صدحت فى رأسى أول الأغنية، وقلت زال تصلب الشرايين كما زال ضمور غضاريف الركب من قبل، كان مطلع الأغنية يقول
إثنين واثنين أربعة
أربعة وأربعة ثمانية
وثمانية، زائد ثمانية: يصنعون ستة عشر
وهذا هو الطائر لير..إلخ،
يا جماعات يا دينية : إثنين وإثنين أربعة، فماذا أنتم صانعون ؟؟ إخص على بعدكم عن الله، ألم يعلمنا الطائر “لير” أن أربعة وأربعة ثمانية، ماذا تريدون تحديدا منى أو من الطائر لير أو من الستة عشر التى هى مجموع ثمانية وثمانية (بقية الأغنية)، تريدون ألا أرى الله هنا فى وجه هذه السيدة النساوية، وفى صوصوة الطيور فى الأفق، وفى حجارة هذه الكنيسة وفى قلبي، أعذركم، وأدعو لكم، وأعاتب ربى إن لم يهدكم، لا بد للإكتئآب القومى الذى نعيشه من نهاية، نزلت الدرج عابرا خط التليفريك دون خوف أصلا هذه المرة، نزلت لأجلس على أريكة فى الساحة المجاورة للكنيسة المطلة على الدنيا. كان هناك رجل وامرأة يتحدثان بما يشبه كركرة قلة متوسطة الفتحات، فعرفت أنهما يتكلمان الألمانية، فسألت الرجل وهو يمر بي، سألته بالفرنسية إن كان “هنا” هو نهاية مطاف المدينة القديمة. وقبل أن أكمل جملتى قال نو “No” وقدرت أنه لم يفهمني، فقلت له ماذا عن اللغة الإنجليزية، فكرر أنه، “نو”، ولم أعرف إن كان ذلك الصوت “نو” يعنى “لا” أم غير ذلك، ثم تذكـرت أن “نو” هذه موحدة فى أغلب اللغات (الفرنسية – الألمانية- الإيطالية-الإنجليزية) فى حين أن “نعم” تختلف من لغة إلى أخري، فابتسمت، وتصورت نقاشا مع إبنى الباحث فى سيكولوجية اللغة وانصرف الرجل وحده حتى كدت أظن أنه ليس مع السيدة (ثبت بعد ذلك أنهما معا-ركبا عربة واحدة عند انصرافهما)، اقتربت السيدة التى كانت معه منى وعلى وجهها كلام، فقلت لها: من ألمانيا؟ أنا من مصر، فقالت بفرنسية لا بأس بها : لا من النمسا، فقلت تتكلمون الألمانية هناك؟ فقالت بما يشبه الغضب، نحن من النمسا، وتذكرت أننى لم أزر النمسا رغم الإغراءات الكثيرة التى لاحت لى أثناء إقامتى فى باريس وتجوالى بالعربة المرة تلو المرة ما بين هولندا وبلجيكا، وألمانيا، ثم بين أسبانيا وسويسرا، فلماذا لم أزر النمسا أبدا؟، وقلت لنفسى إذا كان فى العمر بقية، وفى الركبتين ثقة، فلتكن ضمن ما أرجو من الله، وقلت لها عددكم قليل لكن عطاءكم كثير، فابتسمت، فأكملت خشية أن تتصور أنى سأطلب منهم عطاء تسهم به مع صندوق النقد الدولى فى حل أزمتنا الاقتصادية، أكملت أن فرويد كان نمساويا، وأن التحليل النفسى نشأ هناك وترعرع، وأن عطاء التحليل هو الذى أعني، ولا أظن أنها تابعت شيئا فقد انتقل الحديث إلى أنهم ثمانية ملايين وأننا ستون مليونا غير ساقطى القيد.
فى طريق عودتى عرجت إلى الميدان الذى كنت فيه أمس والذى حال حرصى على عدم التأخر عن السائق عن التعرف على تفاصيل أركانه، وترحيب مقاهيه، وحوار عاملات البيع فيه، كنت مشغولا بخبرالصباح الخاص بمحاول اغتيال بطرس غالى ومبارك فى نيويورك، والتى لم أستبن تفاصيلها بسبب اللغة ومفاجأة الخبر، وجدت مكتبة على رصيفها بين الصحف صحيفة ” الحياة ” العربية اللندنية، شيء طيب هذه الحركة الصحفية العربية فى الخارج،لولا الشك فى مصادر االتمويل وحقيقة الدور، دخلت وقال لى راعى المكتبة أن ثمن الصحيفة ثلاثة فرنكات سويسرية (حوالى ثمانية جنيهات مصرية)، لم أجد معى سوى فرنكين، فقلت له ذلك، فقال ما عليك ؟ هل أنت ذاهب بعيدا، قلت هنا أو هناك، قال خذها ثم نرى بعد، فأعطيته الفرنكين وتصورت أنه سيعمل مثلما كان والدى يتفق مع بائع الصحف على أن نقرأ كل الصحف والمجلات مقابل “اشتراك شهري”، فيما عدا الاحتفاظ بصحيفة واحدة، وأظن أن “الأبونيه” كان ريالا كاملافى الشهر، غير ثمن الصحيفة (خمسة مليمات)، وكنا نعانى الأمرين حتى نتمكن من قراءة المجلات التى تأتى وأغلب صفحاتها مغلقة من أعلى أو من جانب، مما يحتاج منا أحيانا إلى إتقان سلسلة من حركات اليوجا، ولم يمنحنى ذلك أنا أو أخى أن نقطع صورة لسوزان هيوارد أوإستر وليامز تحتفظ بها بين طيات كتاب الأحياء . وكان والدى يرى أن هذه العملية هى من حقنا حلالا زلالا، لأن الصحف تصدر لتــقرأ،ونحن بذلك نحقق الغرض الاساسى من صدورها، أما الأغراض الأخرى وهى الأهم عند و الدتى ، مثل تلميع نحاس وابورالغاز أو فرش الأرفف بكرانيش مزركشة كنت شديد الإعجاب بها فيكفى لتحقيقها تلك الصحيفة الوحيدة التى نحتفظ بها، ولم يكن الأمر يتوقف عند هذا الحد، فما كان يتراكم من صحف بعد ذلك ولو بعد ستة أشهركان يباع بالأقة لمقلة لب، أخذت الصحيفة من الرجل وأنا نصف فاهم ما يعنى بتساؤلاته عن جولتى وجلست وأعطيته الفرنكين والود ودى أقول له خليها باثنين فرنك “جدعنة”، فأهرام الجمعة عندنا قدرها مرتين ونصف وهو بربع جنيه، طبعا لم أقل شيئا، وأخذ الرجل الإثنين فرنك، وانصرفت ظانا أننى سأقرأ ما أريد باثنين فرنك (مثل اشتراك أبي) ثم أعيد له الصحيفة بعد قراءتها، فى القهوة المجاورة قرأت الصحيفة كلها حتى الأخبار التى لاتهمنى كى آخذ حقي، فأنا لن أحتفظ بالصحيفة رغم حاجتى إليها لزوم الوظائف البيولوجية التى حصل لها مع قراءة الصحف ارتباط شرطي، فأمعائى تأبى أن تطلق سراح ما تمسك به إلا بعد أن تطمئن على أخبار العالم وتبتسم مع مصطفى حسينن وأحمد رجب كل صباح، أخذت حقى من الصحيفة وإن كان ذلك قد شغلنى عن الناس، ولم يحضرالنادل مبكرا وأنا أعلم أن بعض المقاهى تتطلب أن تذهب أنت لتأتى بطلبك شخصيا، شيء أشبه بنصف نظام الخدمة الذاتية :”ساعد نفسك”، وبما أن الجلوس على رصيف المقهى هو هدفى الأصلى وليس تناول شيء بذاته، فقد حققت هدفى دون حرج، ومن البديهى -مثلما هو الحال عندنا أن الجلوس على مقاعد أى مقهى هو مشروط بالطلب، “… اللى حايطلب راح يقعد، واللى ما يطلبشى يبعد، ماتيالا بينا يا مسعد شارع الترماي”، لكن النادل حضر، وسألته : تقبل الأميريكان إكسبريس، قال طبعا، فطلبت قهوة، فقال الحد الأدنى للتعامل بهذا الأمريكانى هو كذا فرنك، فانسحبت وكنت قد شبعت جلوسا وحوارا صامتا فى الفترات التى استطعت أن أهرب فيها من إلحاح سطور الصحيفة، وفى طريق عودتى قلت لنفسى من أين لهذا الرجل أن يثق بى وأنا أستطيع أن أعود أدراجى دون المرور عليه، لكن ذلك لم يكن أبدا ضمن ما تعلمته من أبي، حتى الصور التى كنا نقطعها من بعض المجلات خلسة كنا متأكدين أنها ليست سرقة لأن لن تنقص المرتجع شيئا، مررت على المكتبة وأرجعت الصحيفة، وظهرت ظل دهشة على وجه الرجل، فألهيت نفسى بشكره مجددا، وهممت بالانصراف، إلا أنه نادانى وأعطانى الإثنين فرنكا، ففهمت أنه يبدو أنه كان على أن أحضر الفرنك الباقى لا الصحيفة، لكن وجه الرجل البشوش لم يوصل لى أدنى عتاب، ولإزالة الحرج بعد أن كدت أقول له خل يا رجل لا يوجد فرق،سألت عن كتاب تاريخ الجنون لفوكوه فى العصر الكلاسيكي، فذهب الرجل بمنتهى الجدية، وأخرج كتابا كبيرا كدليل التليفونات وأخذ يبحث عن الإسم، واعتذر أنه ليس عنده، وسألنى إن كنت أريد أن يدلنى فى أى مكتبة يمكن أن أعثر عليه، فنبهته أننى أريد أن أعثر عليه الانجليزية، فاعتذر أن فهرست كتب الإنجليزية ليس فى متناوله الآن، ما كل هذا ما كل هذا؟، شكرا يا أهل الطيبة والإتقان، ورحمك الله يا أبى رحمة واسعة.
انتهت مهمتى والحمد لله فى مونتريه، وتم تحديد موعد السفر غدا إلى باريس صباحا إن شاء الله،
قادم يا باريس للجولة الثانية من الحوار والرؤي، من غير إذن راعيى مؤتمرات الحوار، ومن غير ذل وهوان شركات الدواء، قادم بعد حسن استقبالك لى فى المطار، فإما أن يتأكد الصلح، أو أهرب إلى الشمال.
العدد القادم:
الفصل الثانى “الصلح خير”