عدد اكتوبر 1985
حـوار (2)
الحاجة إلى الابداع: شروط اللعبة ومخاطرها
1– العقل فوق الواعى: مصطفى حامد
2– العقيدة السرمدية: عبد الوهاب أ.س.
3– سوسيوبيولوجيا شرقية: صلاح الدين محسن محمد
– 1 –
العقل فوق الواعى(1)
مصطفى حامد
(تحية للمحاولة، وحفظ على المحتوى)
مصطفى حامد: لا أعرف لماذا أكتب، ولا أعرف مصير خطابى هذا، هل سيصلك؟ هل ستقرؤه؟ هل سترد عليه؟
الرخاوى: بل تعرف، وعذرا لتأخرنا عليك، تعرف لأننا أشرنا فى العدد السابق أن موضوعك سيكون مجال حوارنا بشكل أو بآخر.
مصطفى: …. هل تعتبرنى مدعيا … مغرورا ….. نصابا؟
الرخاوى: يا سيدى، عذرا مرة أخرى، ولابد أن نميز إبتداء بين هذه الصفات فمن حقك أن تكون مغرورا إن شئت، ومن حقى أن أخالفك، أما حكاية الإعاء فأمر غريب عليك، وعلينا أمام محاولتك؟ تدعى ماذا؟ تدعى فكرا؟ ثم تأتى حكاية ‘النصب’ هذه، ماذا أخذت مقابل كل هذا العناء لنتهمك بالنصب؟ وأنا لا أوافقك منذ البداية على وضع الأمر هكذا: “أما أن ننشر أفكارك كلها، وكأنها الفتح الجديد فعلا، وأما أن تظن بنا، وبنفسك كل هذا الظن”….. أبدا، لن يكون.
مصطفى: ….. شبهتنى أنت بفقاعات تخرج من تحت طبقة الشحم التى تغطى حياتنا الثقافية.
الرخاوى: لعلى أخطأت التحديد، فأنا لم أقصد أن أشبهك أنت يا سيدى بفقاعة، وإنما وصفت فكرتك عن “العقل فوق الواعى” بأنها عادية، ومعادة، رغم الاسم الذى خيل إليك أنه جديد، حتى الاسم ليس جديدا وإن كان يسمى أحيانا: الوعى المتجاوز، أو الوعى الفائق، رغم أن استعمالات هذه الأسماء تختلف باختلافات مستعمليها، وأعذرنى ألا أنشر فكرتك ابتداء، فأتكلم عنها ضمنا ومباشرة، لأن هذا هو الحجم الذى رأيت بمسئوليتى هنا أنها يمكن أن تأخذه، لا أكثر ولا أقل، ومع ذلك فكونك تصل، إلى هذه الفكرة التى بدت لك جديدة بنفسك، وتغامر بكتباتها، ثم تدافع عنها كل هذا الدفاع، فإن كل ذلك كان عندى دليلا أن حركة ما تسرى تحت الركود اللزج الذى حصرنا فى قضايا قديمة ميته، ما بين كلام الفخر عن فكر سلف لم نرع حتى فكرهم هذا، وبين تلفيق معاد فى قضايا المعاصرة والمناصرة (!!) وكأن الحياة إنتهت من تحدياتها الآتية التى تصرخ فى وجهنا كل ثانية إنه : أما الاقدام الإبداعى وإما مصير الدينصور، فمحاولتك – رغم رفضى لها جملة وتفصيلا، هى إعلان حركة مغامرة فى إتجاه سليم، رغم نتائجها المتواضعة، والمرفوضة منى حتما، وبكل مسئولية.
ولكنى بعد هذا التشبيه (الفقاعة والسطح اللزج) راجعت نفسى، فقد أكون آذيتك، فالدهن لا تظهر فقاقيع على سطحه إلا إذا تعفن فالفقاعة قد تعنى – دون قصد – “مظهر العفن” لا “إعلان حركة” وأنا لم أقصد هذا أصلا .. فعذرا سيدى، لكنى لن أخدعك ولن أجاملك، ولن أوافقك، فقط .. سأحترمك بكل ما أملك من أمل فى تحريك، وتحمل مغامرات الابداع، ولنخفق مئات المرات، فنجاحك مرة واحدة قد يكفى، ليس أمامنا إلا الاصرار على الأمل … رغم كل شىء … كل شىء.
مصطفى: ولماذا أفقد الأمل فى أن يوجد فى حياتنا الثقافية مصدر للصدق والحماس النبيل الحقيقي؟ نعم … ليس من اسهل أن تنشر مجلة بحثا يعلن فيه كاتبه إكتشاف نظرية جديدة … لكنى لم أقل أنها نظرية .. إنها فكرة فرض .. فكيف نشجع الابداع إذا لم نفتح الباب للأفكار والفروض حتى لو كانت خاطئة؟
الرخاوى: معك كل الحق، وهذا بعض ما تحاوله، لكن هناك قدرا أدنى من الجهد لابد وأن يتوفر قبل أن نسمى هذه الاقتراضات بالأسماء التى تفضلت بذكرها، وأنا شخصيا ضد الموسوعية التى نظل نشعر تجاهها بالنقص حتى تموت عقولنا نتيجة لفرط التلقى لجاهز الأفكار، دون الحوار معها، أو تعديلها، أو إبدالها بما نرى، وهذا القدر الأدنى فى “مجال ما” هو الجهد الذى لابد وأن يتصف بصفات محددة، بعضها أو كلها مثل:
(أ) معايشة خاصة مغامرة لأفكار الناس السابقين والمعاصرين المتلعقة بالموضوع – أقول ‘معايشة’ وليس مجرد الحفظ أو الجمع والرص، وأحسب أنك مررت ببعض ذلك، ولكنى أتكلم على “قدر أدنى” وأحسب أنى لم أستشعر هذا القدر الأدنى فى محاولتك، وإنما استشعرت ‘قدرا…ما’ من الصدق والمحاوله،
(ب) إختبار نتاج المعاناة الشخصية بالمقارنة بالمتاح من التراث، ولو التراث التقليدى إن لم نستطع أن نلحق بالتراث الحديث، ولو حتى ما شاع حول مثل هذا التراث عند عامة الناس وليس بالضرورة المختصين، وهذا ما افتقرت إليه محاولتك،
(جـ) مجال عملى لتطبيق محتمل لهذه الأفكار …. أما بالحوار أو بإعادة تنظيم المعطيات القائمة فعلا من خلال الفرض المقترح، وقد لاحظت أنك حاولت المحاولة الأخيرة (إعادة تنظيم المعلومات) – ولكن بأقل قدر من البحث المقارن الحقيقى .. – فكيف إسمح لنفسى بعد ذلك أن أنشر ما تريد، وأنا شخصيا لم أصل إلى الحد الأدنى من الاقتناع .. أليست أجازة النشر هو بعض مسئولياتى أمام ضميرى وأمام القاريء؟ دون أن يكون فى ذلك ما يقلل من صدق محاولتك؟
مصطفى: لكنك قلت لى أن فكرتى ليست غريبة عن مجال علم النفس، وأن هناك من بحث فيها فى أنحاء العالم .. إذن أنا لا أخرف، فما المانع إذن؟ هل لابد أن ننتظر الخواجات حتى ينتهوا من أبحاثهم ويبعثوا لنا بالنتائج؟ لماذا لا نبحث معهم على التوازى ونناقشهم ونتبادل معهم الأفكار.
الرخاوى: ها أنت ذا تقوله، ولا أحسب أنك تفعله، ثم دعنا من حكاية الخواجات هذه كبداية، قد نلجأ إليها حين نحتاج، لأنى – مثلا – (لأسباب خاصة جدا) لا أعتبر هيجل خواجة، وقد لا أعتبر باسبرز خواجة، فالفكر فى مرحلة قصوى من التفرد والتجاوز لا يصبح ملكا لأحد، وأنت تكتب عن العقل فوق الواعى، ولم تشر – وهذا ليس ضروريا – ولم ألمح فى كتابتك أنك مررت بهيجل – مجرد مرور – ولا أعرف أين يقع حديثك من تدرج الوعى عنه، وعند غيره، أؤكد لك يا مصطفى أنى لا أريدك أن تملأ أدمغتنا بسرد القديم، ولكن لابد أن يشعر القارىء المفكر أن هذه المعلومات الأساسية قد مرت بعقلك، وأنك حاورتها، وأنك رفضتها أو أضفت إليها أو عدلتها أو استبدلت بها ما تشاء، وخاصة وأنت تكتب من موقع ‘مفكر’، بل دعنى أترك هيجل خشية ظنك أنه ‘خواجة إبن خواجة’ أين تدرج الوعى وأقاصيه عند ابن عربى، ألست معى أنه كان لزاما أن أطمئن لبعض هذا، أو مثله، دون تباع بموسوعية، قبل أن أجيز النشر؟ فأنت لا تمارس مواجهة العقول الأخرى، وأنواع الوعى، لا فى المجال الاكلينيكى ولا فى المجال التجريبى، فلا أقل من أن تواجه وتحاور عقولا طرقت نفس المجال قبلك وبعدك معا، ولا أخفى عليك أنى لم أفهم هيجل – حق فهمه – إلا قليلا، وكلما عدت إليه إزددت قربا، وإستنارة لأتركه فأعود، وهكذا هذا مجرد مثال، فإذا انتقلنا إلى ماكتب عن درجات الوعى، بالمقارنة بالاسهامات الأحدث عن طبقات الوعى، فى علم النفس الأحدث، فحدث ولا حرج، ولكنى دعنا من هيجل وابن عربى الآن، فأنا لم أشعر أنك قرأت أبسط مؤلفات مواطنيك المصريين، حقيقة أن أغلب ما يكتب بالعربية هو أما مترجم أو منقول بتصرف، ولكن لابد أن نصر على أنه ‘أغلب’ وليس ‘كل’ – وهذا ‘الأقل’ يحتاج إلى أن تقرأه، بل إن هذا القلم الذى ينكتب الآن لك فى هذا الحوار، قد حاول فى نفس اتجاهك، وأنت – كمحاور يقظ – لم تلم لما حاوله رغم أنه منشور، وبعضه فى هذه المجلة، وقد يكون خطأ، وقد يكون صوابا، لكنك لم ترجع إليه، ولم تسأل عنه، فلماذا حكاية الحساسية ضد الخواجات والوصاية المستوردة كحجة لنشر كل ما تريد؟ باعتباره أنه – حتما – يستحق النشر لجدته، وربما هو ليس كذلك؟ مجرد ألا ننشر لك نصبح كذا وكيت؟ المسألة يا سيدى ليست شعورا بالنقص نعوضه بالنشر دون تحفظ، وليست إستهانة بفكرك، ولكنها مسئولية الكلمة، وأمانة وظيفة عرضها على من يهمه الأمر، ورغم هذه ‘الخطبة’ المطولة، فقلبى معك بشكل أو بآخر، صدق أو لا تصدق رغم قولك:
مصطفى: لماذا نفعل هذا بأنفسنا؟ وهل ينطبق علينا قول حافظ إبراهيم:
فلا أنت يا مصر دار الأديب ولا أنت بالبلد الطيب
الرخاوى: يا شيخ حرام عليك، أرجو أن تراجع نفسك، وتعال ننظر فى منهج تفكيرك بما قد يسمح للقاريء أن يشاركنا فيه، ودعنا نأخذ إيضاحك للفكرة من خطابك إلى غيرى، الذى أرسلت إلى صورته:
مصطفى: المنهج الذى اتبعته من البداية بالنسبة لهذه الفكرة، هو خليط من الاستبطان والملاحظة ثم التحليل والاستنتاج.
الرخاوى: أما الاستبطان فلك ما تقول، وإن كانت الكفة الآن تضع هذا الطريق حيث لا تحب، وليس هو هو المنهج الفينومينولوجى بحال من الأحوال، أما الملاحظة، فلست أدرى ماذا تعنى بالملاحظة، وفى أى مجال وبأية وسيلة، ولعلك لاحظت فيما سبق لى نشره بتحفظ زشد التحفظ أمام وصاية ما يسمى بالملاحظة المقننة أو ما يسمونه خطأ ‘بالموضوعية’، لكن هذا لا يعنى أن نجعل الملاحظة ‘هكذا’ دون إلتزام أكثر فأكثر بما هو أصعب فأصعب، أما بالنسبة للتحليل والاستنتاج فلك ذلك – طبعا.
مصطفى: أصل الفكرة عندى هو ملاحظة استنباطية حيث لاحظت أن سلوكى أحيانا تحكمه أحوال نفسية لا يدركها وعيى، أو لا يعترف بها. وإلى هنا يمكن تفسير هذا بأنه نزعات نفسية لا شعورية، لكن هذه الملاحظة دفعتنى إلى ملاحظة سلوكى وسلوك الآخرين لسنوات عديدة، وانتهيت إلى أن السلوك يحكمه نوعان من السيناريو: السيناريو الواعى .. وسيناريو أخر لا يشترط أن يلاحظه وعى صاحب السلوك أو أن كان من الممكن استنتاجه بالتحليل.
الرخاوى: لابد أن أعتذر بدءا من هنا يا سيدى، وأحسب أن هنذا حقى وحق القاريء، فبرغم صدق محاولتك التى قد تكون فى متناول القاريء ولو بشكل مستقل، وفلقد ظللت تغير فى الألفاظ، وتؤكد أنك أتيت بالجديد الذى لم أره، أن كل ما لفت نظرى هو تجاوزك لمقولة فرويد عن ‘الهو’، ذلك أن ما أسماه فرويد الـ ‘هو’ إنما يشير إلى كيان مشوش، وطاقة عامة، ولكنك أدركت بحدس إبداعك أنه ‘تنظيم بديل’ ولو أن فرويد، فى عمق آخر جعل اللاشعور هو السيد الهادف المحاور العنيد، ثم إنى لم ألمح إدراكك إن آخرين مثل يونج، وأريك بيرن، وهنرى آى، وهوجلج جاكسون وكاتب هذه السطور، بل والغزالى وابن سينا قالوا بهذه التنظيمات البديلة لما هو وعى ظاهر، بإعتبارها ‘وعى آخر’ (وليس بالضرورة تحت الوعى أو لا شعور) إذن فلا يكفى يا سيدى بحال أن تقول ‘الوعى فوق الواعي’، ‘والمنطق فوق الواعي’ لتحسب أنك قلت ما لم يقله أحد – ولكن هذا لا يحرمنا من حقك علينا فى التقدير فى إنك وصلت – وحدك – إلى ما وصل إليه متميزون غيرك، لكنى لابد أن أعترف لك أنك كنت أكثر تسطيحا وإختزالا ومباشرة بما لم يسمح بالنشر أصلا.
مصطفى: قلت لك فى البداية … أنا لا أعرف مصير هذا الخطاب، لكنى كتبته دفاعا عن أمل أحببته.
الرخاوى: وها أنت ذا تعرف مصير بعض خطابك، وأرجو ألا تفقد أملك، وإن كنت أرى أنه لكى لا تفقده لابد أن تعيد تنظيم أوراقك سواء فيما هو فكر، أو ما هو أدب، فقد وصلنى منفصلا عن فرضك أو فكرتك، وصلنى منك فى كتيب صغير ما أسميته شعرا بعنوان ‘التصميم على الغناء’ وهو من ناحية الفكرة أبسط من أن يكون أدبا: لا شعرا ولا غيره لكنه: طيبة، وحسن نية، وحماس كريه، وأمل رومانسى، أما من ناحية الشكل فهو – عندى – ليس شعرا أصلا، لكنى أصر أن به ‘تصميما’ على شيء; ليكن، ولكنى أرجو أن تحافظ على حماسك الرائع هذا، وأن تواصل،- معنا أو بدوننا – مسيرتك التى لا بديل عنها إلا ما لا تحب، ولا نحب، ولا ينبغى، وأدعوك – بهذه المناسبة – أن تحضر معنا حوار صديق آخر وثق كذلك فى وعودنا بالنشر، لدرجة جعلته ‘يبوح’ لنا بما ‘باح’ به: (لم باح؟) !!!
– 2 –
تجاوز الحواجز “العقيدة السرمدية”(2)
عبد الوهاب: لقد قرأت فى عددكم الأخير رقم عشرين ‘أنكم مستعدون لنشر كل الأمور المتعلقة بماهية الانسان … والخبرات الخاصة ما حوت إضافة إبداعية، ووعدت بإثارة حوار … لأى عقل بشرى مجتهد دون إشتراط مؤهل بذاته أو تاريخ علمى خاص’.
الرخاوى: حصل، وهذا موقنا من أول عدد من المجلة وليس فى العدد العشرين فقط.
عبد الوهاب: كنت زقول لنفسى لو أنى أدعت شيئا فليس أسهل من عرضه.
الرخاوى: يا حسن نيتك، وما أبلغ ألم صديقنا مصطفى فى الحوار السابق مباشرة حين يواجه صعوبة النشر رغم مغامرة الإبداع.
عبد الوهاب: ولقد تعبت كثيرا جدا، ولم أتنازل عن مطلبى، حتى أنى فضلت الموت على عدم الإبداع.
الرخاوى: هذا أمر أعرفه، كان الله معك، ومعنا، ومع كل من هو فى مأزقك ومأزقنا، تذكرنى بصلاح جاهين ‘يا عندليب ما تخافش من غنوتك …. كتم الغنا هو اللى حيموتك’. فماذا حدث.
عبد الوهاب: بعد جهد جهيد وفقت إلى الابداع من خلال تجربة نادرة لا تحدث فى البشرية إلا بصورة نادرة كل عدة قرون.
الرخاوى: يا رب سترك فأين المشكلة؟
عبد الوهاب: فإذا بالمشكلة التى لم تكن بحسبانى على الاطلاق هى أننى لا أستطيع أن أعرض أو أنشر إبداعى لمن عملته لهم، ومنذ عام 1979، وحت اليوم، وأنا أبحث عن إمكانية نشر هذا الإبداع.
الرخاوى: موقف صعب بلا شك.
عبد الوهاب: هذا يكشف لنا جيمعا أن أبناء هذا الوطن يختزنون طاقة قادرة، ولكن هذه الطاقة لا تستعمل لأن البيئة غير مرنة وغير مخططة لأن تستفيد من الجهود البشرية الممكنة خارج نطاق العمل الأساسي.
الرخاوى: طمأنك الله، يا زين ما قلت.
عبد الوهاب: أن أى سلالم الإرتقاء مكسورة برغم وجودها، وبرغم كثرة الإعلان عن وجودها، فأنتم تقولون وغيركم يقول، لكن ينكشف الواقع عن أنكم وغيركم قد قلتم كلاما رنانا أكبر من القدرة الفعلية، وتفسير ذلك هو أنه يوجد فى مجتمعنا شيء بغيض يجثم على الصدر الاجتماعى ويمنع من وصول المعنى المقصود بالكلام الرنان إلى قمته ومقصوده الحقيقى، فبالإضافة إلى أن المفكرين قلة بحسب المخطط الطبيعى، يأتى الواقع ويمنع هذه القلة من البروز، فكيف يمكن التطور؟
الرخاوى: صحيح، لابد من فرصة، ومغامرة، وإصرار.
عبد الوهاب: إن أساس البلاء هو إعتقاد كل إنسان كما كل حيوان أنه الوحيد، … ومن ثم تجد أناسا لا يقررون أنك تتكلم صوابا إلا إذا كنت تكرر ما يقولونه، سواء كان هذا المكرر من سلطة تربوية أو من مصدر ثقافي.
الرخاوى: أصبت عين الحقيقة.
عبد الوهاب: وأحيانا ما يمدنا العقل بمضاد حيوى معنوى يجعلنا نحمى أنفسنا من الانحراف المتحمس فى أى إتجاه، وبذا نصاب بالفتور، ونفقد عزيمة الاصرار على الاستمرار والالحاح فى إنجاز ما نريده، وبذا نفتقد عزيمة الأبطال الذين غيروا معالم التاريخ ودفعوا الانسانية إلى التقدم.
الرخاوى: والحمد لله أنه لم يكن أمامهم طب نفسى جاهز (مثل الآن)، أو فيديو، أ وهيئة أمم وإلا، فالله أعلم كيف كان سيصير مآلهم … ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عبد الوهاب: لقد تشيعت البيئة بالمفاهيم الروحية حتى وصلت إلى حالة من الثبات أشبه بالتيار المستمر داخل ملف، فذلك التيار مهما كان مقداره لا يمكن أن يولد مجالا مؤثرا من الملف.
الرخاوى: تشبيه رائع.
عبد الوهاب: إن الجماعات الدينية الكثيرة التى تنشط اليوم تنشط من خلال الاحساس الغامض الذى يحسه الجميع بأن الدين فى حاجة إلى دفعة من الطاقة لكى يولد أثرا جديدا يزيل الركود الاجتماعى، وأنتم باجتماعكم على إسم ‘الاسنان والتطور’ تحسون نفس الاحساس، وإن كنتم تتجهون إلى معالجته بطريقة أخري.
الرخاوى: لم نختلف
عبد الوهاب: فكل جهة من الجهات الاجتماعية العديدة تتلقى نفس التيار الذى يغمر الجميع ويصرخ قائلا: إرفعوا هذا الركود من المجتمع وأزيلوا ذلك الشيء الذى يجثم على صدر التطور الاجتماعي.
الرخاوى: إذن فقد وصلتك صيحتنا، فكيف الخلاص؟
عبد الوهاب: لحسن الحظ، لا يوجد فى العالم من يمتلك مادة هذه الهزة التقديمة إلا واحد من أبناء مصر.
الرخاوى: نعم؟ نعم؟؟ واحد فقط؟ ومن أبناء مصر بالذات؟ دون العالم أجمع؟ يدى على قلبى هذه بعد هذه المقدمة الرائعة.
عبد الوهاب: هذه العبارة لا تمثل تعاليا أو غرورا، وإنما هى حقيقة وليس من اللائق إنكارها، وفعندما إنشق بوذا على أخوة الكفاح فى أسلوب البحث عن الإستنارة قالوا لقد مرق بوذا ، وعندما عاد إليهم ولم يعرفوا ما ألم به قالوا لقد عاد الأخ بوذا فقال لهم لا تناودنى بالأخ بوذا، بل بالسيد بوذا، وبنفس الطريقة قال النبى محمد أنا سيد ولد ادم ولا فخر، وقال المسيح ثقوا أنا غلبت العالم، فثمة ظاهرة واحدة ألمت بهم جميعا جعلتهم ينطقون هذه الأقوال التى ربما لم تقبل فى وقتهم ولكن أقرها المجتمع الإنسانى كله فيما بعد.
الرخاوى: سيدى، الفأر يلعب فى عبى تعاطفى الشديد مع بدايتك وتوجهاتك عامة، فأنا أحتاج إلى من يصر على المحاولة .. ولكنى أعلم لغة العصر … وألعاب القهر.
عبد الوهاب: أما أنا، فبوصفى مفكرا إنسانيا أصيلا فقد صرت أنظر إلى المسرحية العالمية وفى رأسى أقصى حكمة ممكنة فى العالم أجمع، وأعرف كيف يمكن تحريك الركود العالمى، وذلك الواقع المرير.
الرخاوى: سيدى، سيدى، أرعب من حكاية ‘أقصي’ و ‘العالم أجمع’ و ‘الركود العالمي’، سيدى … أخشى من الحل الفردي.
عبد الوهاب: التجربة كانت حلا فرديا، ولكن يمن أن يتبناها العالم أن تصير حلا حضاريا جماعيا.
الرخاوى: كل شيء جائز، … لا أبدا غير جائز …، أو هو جائز غير جائز، وعذرا لقد أربكتنى، فزدنى إيضاحا.
عبد الوهاب: هى فى الحقيقة تجربة نادرة متشعبة الأركان لكنها محققة، وخالية من أى تشنجات مرضية أو توهمية؟
الرخاوى: لك الحق أن تؤكد خلوها من المرض أو الوهم، هذا رأيك، ولكن كيف أنها محققة؟
عبد الوهاب: على قدر علم السامع يكون الحكم عليا (…….)*، وأعتقد أنها تجربة تعد بالحوار.
الرخاوى: نحن عاشقوا الحوار، كل الحوار.
عبد الوهاب: لو أن غيرى قال لى عن نفسه بأنه المسيح، لسألته كيف؟ وإذا لم أقتنع سألته عن ما يدعو إليه، ولظللت معه حتى أفهم منه كل أبعاد تجربته.
الرخاوى: هذا هو عمق السماح، وعين الأمانة.
عبد الوهاب: أن أعلى مستوى من مستويات العقل المثقف فى العصر الحاضر، من المفروض أن يكون على الإلحاد، أو على الأقل عند الاعتقاد بأن الأديان من صنع الإنسان، وأن الله قوة غامضة خلقت جميع القوانين، الحاكمة للطبيعة، وخلف ظهور الأنبياء قانون إجتماعى طبيعي.
الرخاوى: هذا ما يقوله أغلب الملاحدة والماديون، وأحيانا يكونون معذورون أمام الركود القاهر، والفكر الجاثم، والتسليم الحرفى، ولابد من إحترام مأزقهم، رغم الاحتمال الأرجح لخطئهم نتيجة الاختزال المشوه لما هو عقل ولما هو علم.
عبد الوهاب: فمن هذا المستوى تظهر قيمة التجربة كحل فردى حين تعيد صاحبها للإيمان بالله من خلال اتصالنا الحقيقى بالله، والمشابه زتماما لاتصال قدامى الأنبياء به.
الرخاوى: هذا ما يقوله بعض الصوفية، ولكن حكاية ‘تماما’ هذه صعبة على، وعليهم، تجربة المعرفة المباشرة مطروحة، ولكن الخبرة الصوفية شيء، والدفع الاجتماعى والحضارى من موقع نبى مرسل شيء آخر …، ومرحلتنا المعاصرة لا تحتمل هذا النوع الأخير من المخاطرة، ومهما كانت الخبرة الفردية صادقة، فلابد أن تترجم إلى لغة العصر، وأن تصب فى أبجدية العطاء الابداعى المتاح من علم وفن وثورة، وأما أن نعيش نفس التجربة مهما صدقت، فنسلك نفس السبيل .. فهذا هو الخطر الأعظم، أم ماذا؟
عبد الوهاب: ها هنا تتكشف الحقيقة كاملة حول معظم الأصول، وبتقديم صورة جديدة لعلاقة الانسان بالله نكون على خط الايمان والتوحيد فى ظل ألفاظ جديدة تأتى بهزة للفكر الدينى، وتدعو للنشاط العقلى فى ظل المحافظة على الأخلاق التى يدعو إليها كل كتاب مقدس، وفى هذا الدين الجديد نحصل على معرفة حقيقية خالدة.
الرخاوى: أظن أنه قد آن الأوان أن نذكر هنا الجملة التى فضلت تأجيلها فى الصفحة السابقة، وهذا (التأجيل) مسئوليتى وحدي.
عبد الوهاب: فى تلك التجربة تذكرت أنى المسيح، ولذلك أساس غير توهمى، وغير جنون العظمة.
الرخاوى: لاحظ كلمة ‘تذكرت’ بما لا يتفق مع كل حديثك عن أفكار ‘تعو لنشاط العقل’، ثم ‘ الدين الجديد، فأين الجديد فى التذكر؟ ولكن دعنا لا نتوقف عند كلمة، فكم من الابداع هو تذكر خاص، ولكن ما حكاية هذا ‘الدين الجديد’
عبد الوهاب: فى هذا الدين الجديد نحصل على معارف حقيقية خالدة، ولذلك أسميناه العقيدة السرمدية، ونأمل فى إنتشار هذه العقيدة فى العالم كله لأنها تجلب نصرا لكل الأديان السماوية والروحية والمادية من خلال نصر الله.
الرخاوى: لا أريد أن أحرمك من حماسك، ولكن يبدو أن الضائقة التى مررت بها أمام القهر والجمود دفعت بك أبعد مما تحب، ونحب، ثم ما هذه الأديان المادية التى تعنى، اللهم إلا أن كنت تعنى الايديولوجيات الشاملة، وأحسب أنه يحق لى ألا أتمادى فى نشر ما ذهبت إليه فى الصفحة الباقية من خطابك، ليس لأنى أدافع عن القديم على طول الخط، ولكن احتراما لبداياتك دون التمادى فى تشويه صورتك بتفاصيل حلك، لا أريد أن يتهمك أحد بالكفر أو بالجنون، هكذا مباشرة، وعليك أن تحتروم التجربة، ولكن لتبحث لها عن تعبير معاصر، ومع ذلك حتى لا أكون ظالما تماما، فلنخاطر بنشر بعض ألفاظك عن العقيدة الجديدة.
عبد الوهاب: العقيدة ذاتها التى تنضوى تحت إسم السرمدية لابد وأن تأخذ وقتها للتمكن من النفوس …. وهى تنطوى على تجربة حقيقية كاملة تفسر سر تطوير الله للأديان ومعنى النموذة الدينى، ومعنى مجييء المسيح مرتين وما هو الارتباط بين شخصيتين يمثلهما المسيح أحدهما ظهر باسم عيسى ابن مريم والثانى عاد للتجسد باسم عبد الوهاب.
الرخاوى: ما زلت أصر على ألا تفقد حقك فى صدق التجربة، وأن تحاولإعاد تنظيمها بلغة معاصرة: فنا أو علما أو عملا، لكنك تحوم حول الحمى، وحتى من الناحية النفعية البحتة، فان قدر الرفض الذى يثيره دين جديد فى عالمنا المعاصر قد بلغ درجة تجعلنا – حتى لو صدق هذا الاحتمال المستحيل نظريا – ندرك أنه أمر غير عملى، وغير نافع لأحد، لا لصاحبه، ولا للناس، وأذكر أنى كتبت مرة: ‘نحن لسنا فى حاجة إلى دين جديد، ولكننا فى حاجة إلى ملايين الأنبياء’ دون إسم النبوة.
عبد الوهاب: …. نحن ندعوكم للمشاركه فى هذه الوليمة الجيدة وعلى استعداد لاثراء الفكر بالحوار وبالكلمة التى صنعت كل شيء فى العالم.
الرخاوى: تذكرنى يا سيدى بحماس الصديق ‘محمد جاد الرب’ (أين أنت يا جاد؟) فى إختراع مذاهب، ونواد، ومناهج جديدة لحل مشكلة مصر والعالم، ولكنها كانت كلها فنية، أحيائية، خفيفة الظل، صادقة النبض، ثم ان كل أنبياءه، أو أغلبهم لم يكونوا ‘هو’ نفسه أبدا، وهذا فرق هام جدا، بل كان يستعيرهم من التاريخ، تاريج أجدادنا القدماء المصريين خاصة، وبالذات حبيبه وحبيبى إخناتون، لكن المسألة يا عبد الوهاب؟ رغم أنك أكثر تسلسلا فى مقدماتك، قد تجاوزت عندك العام الى الخاص..، وأرى أن أسلوبك هذا، نجحت فكرتك أو عقيدتك أم فشلت، هو أسلوب سينتهى بنا إلى قهر جديد، ذلك أن نجاحك لن يضيف فكرا جاهزا جديدا، فماذا فعلنا؟ (وتكر مصير البهائية مثلا) وفشلك سيحرمنا من مقدماتك المبدعة التى ظهرت – فى بداية خطابك – أنها واعدة حقا ،،،، لولا..
وليعذرنا الأخ مصطفى حامد لذا نحن استشهدنا بك، لنعلن موقفنا من الاصرار على تجربة الابداع، وفى نفس الوقت الالتزام بالجهد على أرض الواقع، وبالعصر ولغته، وبعملية الفائدة وتوسيع الدوائر دون تعصب جديد أوقهر خاص.
ألا عذرا، شكرا هدانا الله وإياكم إلى ضبط الجرعة ومواصلة المحاولة – مثلما فعل صديقنا صلاح الدين محسن ضيف الجزء التالى من الحوار.
سوسيو بيولوجيا شرقية
صلاح الدين محسن محمد
الرخاوى: أعلم أنك أرسلت لى كتيبك الجديد “سوسيولوجيا شرقية” دون أن تطلب نشره أو التعليق عليه أو محاورته، لكنى استأذنك فى أن أستعير بعضا منه بما يتناسب مع حوار هذا العدد، لأنى حريص كل الحرص على الحفاظ على جرعة الإبداع، واستعادة ثقة الإنسان وأكبر قدر من المسئولية، ولعلك صاحبتنا مع الصديق مصطفى حامد، وكيف أننا اختلفنا من حيث المبدأ وحق نشر فكرة معادة، رغم حماس صاحبها وصدق رؤيته، ثم لعلك لاحظت كيف بدأ موقف الصديق عبد الوهاب أ. س. جاداً وعميقاً، ثم إنتهى إلى أنه نبى مسيح جديد، رغم وجاهة دوافعه ومبرراته، أما أنت، فقد رأيت أنك تطورت مع فكرتك المتواضعة، التى هى أيضا ليست جديدة، وإن كانت تثير قضايا متجددة، ولكن بأسلوب هادئ وتسلسل أستأذنك أن نتعلم منه.
صلاح الدين: إنها ثمة ملاحظات أثارت دهشتى البالغة أثناء ممارستى هوايتى وشغفى بحب وتأمل سلوك الكائنات المختلفة من طيور وحيوانات وحشرات وكذلك الإنسان، وبصفة خاصة الأطفال حديثى الولادة، وحتى السنوات الأولى من العمر.
الرخاوى: وهذا ما أحببت أن أؤكده لقارئنا ولأصدقاء حوار هذا العدد، أن المسألة لابد أن تكون “رحلة الخارج / الداخل، وبالعكس” .. لابد .. نعم، فى كل مجال، “ملاحظات”.. ثم ماذا؟
صلاح الدين: وقد قمت بتجسيل هذه الملاحظات بدفتر مذكراتى لاعتقادى فى احتمال اكتشاف أهمية لها ذات يوم.
الرخاوى: وبعد آخر للموقف الموضوعى، (للإنسان العادى) وهو ضرورة التسجيل فى أغلب الأحوال وعدم الاكتفاء بالاعتماد على الذاكرة مهما بدا ذلك مغريا، اللهم إلا فى مناهج أخرى لا مجال لذكرها هنا.
صلاح الدين: وكانت المفاجأة عندما قرأت مقالا بإحدى المجلات العربية الشهيرة والواسعة الانتشار (الدوحة: الصادرة من قطر بالعدد رقم 72 فى ديسمبر 1981 بالصفحة 115) حيث يتحدث الماقل عن علم جديد اسمه السوسيولوجى، أسسه العالم البيولوجى إدوارد ويلسون، وأهم ما تقضى إليه أبحاث هذا العلم وخلاصته هو أن السلوكيات والأخلاق تورث وهو ما تؤكده تلك الملاحظات التى سبق أن سجلتها بدفتر مذكراتى لشدة غرابتها وطرافتها فى نفس الوقت.
الرخاوى: وهذا أساس ثالث لتطور التفكير المسئول، حتى يسمع أو ينشر، حتى يزيد ويطور، “ألا نكتفى بالملاحظة فالتسجيل (ما زلت أتكلم للشخص العادى، ناهيك عن العلماء) بل نمضى نقارن بالتراث قديمه وحديثه”.
صلاح الدين: ولكن ما احسسنى بالضجر ودعانى لجمع تلك الملاحظات لنشرها .. أن المقال كتب تحت عنوان “علم جديد .. أم نظرية متخلفة” وتضمن هجوما شديدا على هذا العلم وعلى مؤسسة، ومحاولة غير علمية لدحضه وتفنيده، تقوم على دوافع من التعصب للعقيدة التى يعتقد كاتب المقال – وربما يستمرئ ذلك جموع المتعصبين وكثيرون معه فى إعتقاده هذا .. بأن هذا العلم إنما يحمل تجاوزا عليها (على العقيدة) وهذا ما ندهش له أشد الدهشة.
الرخاوى: أعترف لك يا سيدى أنك قد أثرت بتمهيدك هذا قضايا عديدة شغلتنى طويلا، وما زالت تشغلنى حتى الآن، فمنذ لامارك وأنا على “يقين” من أنه (رغم بعض التجاوزات) هو الذى على حق، وحين لحقه داروين (وأعطاه التاريخ حق “لامارك” و “ولاس” معا)، بدأت هذه القضية تهتز، قضية كيف تورث العادات عامة، والمكتسبة خاصة إن كانت تورث أصلا، ثم جاء الداروينيون المحدثون (فيتسمان (أو : وايزمان) ثم مندل) وعملوا أبحاثاً (أقرب إلى الهزل فى نظرى – لا داعى لتقنيدها هنا) وحسموا القضية لصالح “عدم توريث العادات”، وإذا كان “العلماء” قد رضوا بهذا الحل السلبى، فإن “المفكرين” أبوا أن يستسلموا لتجارب محدودة تدمغ تاريخ التطور عبر مئات الآلاف من السنين، وظل هربرت سبنسر كفيلسوف يردد ما معناه “إذا لم تكن العادات المكتسبة تورث، فأنا لا أعرف سببا آخر للتطور، أو تفسيرا له” وقد ظللت متحمسا لهذه الفكرة (فكرة وراثة العادات المكتسبة) فى مجالى فى كل الظروف، وخاصة لما أملته على ممارستى فى خبرات الجنون بشكل خاص لذلك فرحت بكتيبك فرحا شديداً، فما أعظم شهادة الشخص اليقظ العادى.
صلاح الدين: فى هذا الكتاب ننقل للقارئ تلك الملاحظات والوقائع سالفة الإشارة والتى يستطيع أى إنسان، وبقليل من الاهتمام والملاحظة، أن يكتشف ما هو أكثر منها إثارة ودهشة، كما يستطيع من خلال ذلك أن يتأكد من مدى صدق ما يذهب إليه هذا العلم المفترى عليه “السوسيوبيولوجى” حتى وإن لم يكلف نفسه بالإطلاع على المؤلفات العديدة التى وضعها العالم إدوارد ويلسون تجنبا للحساسية التى تصيب البعض تجاه كل ما هور وارد من الغرب حول هذا الموضوع أو ما كتبه فلاسفة الإغريق.
الرخاوى: نعم، نعم، وإنى شاكر لك ملاحظاتك وإصرارك، وإن كنت أعتذر عن عدم نشر أغلبها، فقد نشرتها أنت وتكبدت المشقة وحدك، ولكنى أقول إن بدايتى فى رفض هذه بأمانة مطلقة، ولكنى أقول إن بدايتى فى رفض هذه الوصاية على الفكر التطورى كانت مثل بدايتك، حيث كانت تصرخ ممارستى الإكلينيكة فى وجهى “ألا تصدقهم” (تعنى: الدارونيين المحدثين المنكرين للفكرة)، بل إن ما أتكبده فى علاج عميق مكثف لإنسان متنثار، لا أحسب إنه يساوى الجهد الذى يبذل فيه، ما لم يكن فى الحسان أن الإصلاح الفردى ينتشر عرضيا بالتعليم وإتجاه الموجة الإيجابية التى ترجح الحياة للحياة والتوزان التوليدى ضد الموت والتناثر، وأن هذا ينتقل بالوارثة حتما إلى أجيال لاحقة، وبالتالى تكون مسئولية وجودنا غير قاصرة على تحسين حياتنا “هنا أو الآن”، وإنما هى مسئولية عن إتجاه تطور نوعنا، فالإنسان هو الكائن الحى الوحيد (المعروف لنا) الذى يتطور جزئيا بإرادته الواعية، من خلال هذه المقولة البسيطة “أن العادات المكتسبة تورث”، ثم أطمئنك يا سيدى أن ثمة علم جديد (نسبيا) هو علم الأثولوجى، يبحث فى ظاهرة “البصم” Imprinting، وهى ظاهرة تؤكد كل ما ذهب إليه علم السوسيوبيولوجى، وما أكدته أنت بأمانة ودقة ملاحظاتك، ودعنا نكتفى بتسجيل ملاحظاتك الأولى للقارئ كمثال (وإن كنت تمنيت أن أنشر كل ملاحظاتك) فهات بعضا منها.
صلاح الدين: الطفل (ع) الذى يبلغ عاما واحدا من العمر أثار حيرة والديه وعائلة والدته التى يقيم معها الوالدان فى مبنى واحد .. بسلوك معنوى ذى أبعاد معنوية كبيرة على طفل فى مثل عمره.
راحت الأسرة تعلق جميعاً على سلوك طفلها.. والده ووالدته وأخواله الخمس، وجده لأمه واثنتنان من زوجات أخواله، وجميع هؤلاء يقيمون فى شقق يضمها منزل واحد راحوا جميعا يتساءلون عمن أخذ الطفل (ع) هذا السلوك؟ أخذوا يستعرضون جميع من يعاشرهم طوال يومه ويتساءلون .. عن أبيه؟ .. عن جده؟ .. كلا .. عن جدته التى يحبها ولا يود مفارقتها صبح مساء؟ كلا .. عن أحد أخواله الخمسة الذين يعيشون معه فى نفس المبنى، ويحبون الإكثار من مداعبته كابن أول ووحيد لشقيقتهم الوحيدة؟ .. كلا .. لا أحد فيهم جميعا يعتبر هذا السلوك الحركى من مميزاته.
هؤلاء هم كل المقيمين معه بالمسكن من أهله وأقاربه الملازمين له الذين أن تأثر بسلوك فسيكون نقلا عنهم وها هم جميعهم لا أحد منهم يحمل هذا السلوك الحركى لهذا الطفل .. فمن أين إذا أتى به؟؟
ظلوا جميعا يضحكون كلما رأوه يفعل ذلك ويمزحون ويفتشون فى نفس الوقت عن الشخص الذى يمكن أن يكون الطفل (ع) قد نقل عنه هذا السلوك.. وفى النهاية اتضح ما اتفق الجميع حوله وبإجماع تمام، وهو أن جده لأبيه الذى يقيم بمدينة أخرى، هو المتميز وحده بسلوك الطفل (ع).. وقد ورث عن جده لأبيه هذا الذى لا يراه إلا لماما ولفترات قصيرة وفى كل مرة يحتاج لمن يعرفه به حيث يكون قد نسيه .. وكان لا يقبل مداعباته فى كل مرة إلا بعد أن يأنس له ويتذكره بصعوبة لقلة التقائهما وبحكم الإقامة المتباعدة.
كاد والد الطفل (ع) أن يهم بضربه لكى يقف عن بكائه وصراخه المتسم بالعناد الاستفزازى، ولكنه تنبه وتماسك لأمر ما جعله يحجم ويتوقف عن ضرب طفله العنيد
فقد تذكر شيئا جعله يروح فى دوامة من الدهشة الشديدة، ويسبح مع الذكريات، إذ أن هذا الصراخ المتميز الذى ينفرد به طفله هذا دون سائر الأطفال الذين عرفهم طوال حياته .. ذلك الصراخ الاستفزازى الإنقسامى المثير لضجر سامعه هو بعينه نفس الصراخ الذى كان يوجهه كسلاح عندما كان طفلا صغيرا فى حالة عدم تلبية طلب له .. فما يكون منه سوى أن يتصرف بهذا الشكل .. أى بالبكاء المزعج، والصراخ الاستفزازى ذى الطابع المتفرد لكى ينزل والدته على الأذعان لطلبه.
ترك الأب طفله يفعل ما يفعله من صراخ إستفزازى (منفرد) وجلس يتأمل فى دهشة بالغة ذلك السلوك الذى كان يحدث منه هو نفسه منذ ثلاثين سنة مضت عندما كان فى مثل عمر ابنه .. وما كان يتصور أنه سيرى نفس السلوك الذى كان يحدث منه وينفرد به دون الصغار، ولم يتكرر طوال هذه السنوات ولم يره من طفل آخر، ولم يكن له وجود سوى بذاكرته فقط يتذكره كلما كر شريطها .. ولكن ها هو، ويا للدهشة الشديدة، يرى نفس السلوك من طفله على الطبيعة وكأنه يرى فيلما تسجليا لطفولته بحرفيتها.
الرخاوى: لقد اقتطفت منك كل هذا المقتطف بتفصيله، ليكون مثالا على دقة الملاحظة، وحسن الربط، وإن كنت لم أرتح لحكاية “دوامة من الدهشة الشديدة” “يتأمل فى دهشة بالغة” “ولكن ها هو، يا للدهشة الشديدة” – فهذه تعبيرات جيدة، وربما صادقة، لكنها كانت فى نظرى مثل الإفراط فى التزين مع أن الفاتنة جميلة بغير إضافة، وكانت إنشائية حماسية، أكثر منها وصفية هادئة .. المهم، أنى أعترف للقارئ أن سائر مشاهداتك بعد ذلك وطوال صفحات عدة كانت بنفس الدقة وأكثر، ثم دعنا ننتقل إلى أحلامك المبنية على هذا العلم وعلى ملاحظاتك.
صلاح الدين: لعلنا نسأل سؤالا قد ينظر إليه على أنه درب من دروبا الرومانسية .. أو ليس من الممكن أن يحقق علم هندسة الوراثة من التقدم ما يؤهله لزرع ما يراد زرعه من السلوكيات الحسنة بنفس السهولة والسرعة التى تجرى بها عملية الختان للمولود .. أو بأبسط مما تعطى الأمصال واللقاحات .. وذلك لأجل استنباط أجيال على درجة عالية من اللياقة والرقة والتهذيب…..
الرخاوى: لا اظن أن هذا ضرب من الرومانسية فحسب، ولكنه مخاطرة بمستقبل البشرية جميعا، وهذا الاستسهال مثل عملية الختان!! أو إعطاء المصل) لن يكون لصالح ضبط إتجاه المسيرة نحو مزيد من المعاناة المبدعة، وإنما – كما ذكرت – سيكون (فى الأغلب) فى إتجاه صناعة “شغالة” من البشر النحل، لصالح الملكة، أى ملكة، ذلك لأننا نعيش – الآن: فى عصرنا هذا فيما يتعلق بالعلم والهندسة، بجزء – ربما ثانوى – من عقولنا فحسب، وهذا الجزء هو الذى سيحدد صورة إنسان الغد كما “تريد” وليس كنتيجة تفاعل متغيرات بلا حصر، مع عالم متغير، معروف أقله، وأقل من أقله، لا يا سيدى، أنا أوافقك على ملاحظاتك، ولكنى أخاف مما رتبت عليها، بل لعل الذين عارضوا هذا العلم أصلا كانوا خائفين خوفى، فأنكروا الملاحظة إبتداء لصالح هذا التحفظ الذى دعاك لأفكار أخطر، وليشاركنا القارئ.
صلاح الدين: لو أعطى هذا العلم العناية والرعاية والاهتمام الكافى – فإنه باستطاعته إيجاد حل جذرى ونهائى لقضية العنصرية بسبب اللون عن طريق التحكم فى الشفرة اللونية تحكما تناقضيا بالنسبة للون الأسود ليتحول إلى الأبيض … وهذا مجرد مثال لما يمكن أن يتحقق للإنسان من الخير على يد العلم.
الرخاوى: لا يا شيخ؟ أرأيت إلى أين ذهبت، حتى لو كان مثالا؟، ومن قال لك، ولى، أن اللون الأبيض هو الأفضل، لم لا يكون هو الوجود الإنسانى الباهت المحروم من لفح الطبيعة وآثار الشمس الحياة، لم يكون اللون الأبيض هو البرود الثلجى المستغل لكل دفء العالم دون أن يذوب فيه؟ ثم أن التفرقة العنصرية ليست مسألة أبيض وأسود، ولكنها مسألة سادة وعبيد، أيا كان السادة والعبيد، فهل ستحل لنا هندسة الوراثة التفرقة بين تجار السلاح وضحايا النابالم، وهل تحل لنا التفرقة بين رجال الحزب وبقية البشر: وقود الحرب، لا .. يا عم صلاح، مع احترامى لآمالك والتماسى لك العذر كل العذر، دعنا إحقاقا للحق، نورد للقارئ مثالا آخر يظهر لنا الوجه الإنسانى الرقيق لهذه الآمال الطيبة.
صلاح الدين: … ما المانع من ان تحمل الشفرة الوارثية لشخص آخر ان صيانة ممتلكات الغير فى وقت غيابهم، والحفاظ عليها، وإعادتها لهم فى حالة سقوطها منهم أو نسيانهم لها هو تصرف يعقبه إحساس براحة لا تدانيها مقتنياته وكسب حبه واحترامه، يعقبه شعور بالسعادة بوزن الكون بأكمله – أى تحمل (الشفرة) ما يسمى فى عرف الأخلاق بصفة الأمانة. ترى ما هو المانع؟
الرخاوى: طبعا لا مانع إطلاقا، وأنى أتصور حتما أن مثل تلك وغيره ممكن تماما، لكن أخشى ما أخشاه هو أن نتصور أن تحميل الشفرة الجينية يتم فى معمل خاص، أو نتيجة لإضافات كيميائية معينة، هذا هو ما يخيل إلى انه ضد التطور وضد قوانين الطبيعة، لكنى معك إذا كنت تقصد أن سلوك الأمانة هذا، إذا أصبح عبر الأجيال صفة نافعة تطورية بالممارسة والعائد، فإنها تدعم باستمرار، حتى لتنتقل عبر الاجيال وتزيد وتتأكد بالممارسة جيلا بعد جيل،
صلاح الدين: دور المجتمع والبيئة فى غرس سلوكيات وأخلاقيات معينة أو اقتلاع أخلاقيات أخرى أيا كانت، لا نظنه يحتاج منا أو من غيرنا إلى مزيد من الإثباتات ..،.. بل أن الفرد أيضا يمكن أن يؤثر فى سلوك المجتمع.
الرخاوى: انا لا أقصد أثر المجتمع فى مقابل أثر الوراثة، ولكنى اقول إن كانت ثمة إعادة تنظيم للعوامل الوراثية هندسة للجينات) فهى لن تتم إلا من خلال أثر المجتمع جيلا بعد جيل، وهنا تتضاعف مسئوليتنا تجاه ما نحوره من سلوك أصيل وغائر فى موقفنا وموقف الأجيال القادمة من دفع الحياة، وإتجاه الإبداع التوليدى فى مقابل جذب الموت، أو التكرار النمطى (مثلا) -.
صلاح الدين: .. ما نراه (هو) أن المجتمع والبيئة هما اللذان يسجلان شرائط الوراثة قبل استنساخها بالتناسل، وهما قادران على طمسها أو طمرها وتطويعها، ومحوها أحيانا واستبدالها، ولكن كل ذلك ليس بشكل مطلق.
الرخاوى: عليك نور .. اتفقنا، وهكذا تزداد مسئوليتنا (كمجتمع وأفراد فاعلين بوعى هادف) أكثر فأكثر، حتى أنى أتصور أ ن من ينكر هذا الاتجاه الأساسى (وراثة العادات المكتسبة إنما يستسهل الأمر، حتى لا يصاب بالفزع وهو يعلم أن تقصيره اليوم فى نفسه أو رعيته أو مجتمع هو جريمة فى حق “نوعه” كله وليست فقط فى حق ذاته، الدينى) الذى يبدو أنه برفضه نقل العادات المكتسبة يعطى الإنسان حربة أكبر فى تشكيل سلوكه، وبالتالى مسئوليته، مما يخفى وراءه ما أثار تحفظك تجاه أى جمود عقائدى، أو تشنجات أيديولوجية.
صلاح الدين: من الأسئلة التى تصيب الكثيرين من ذوى العقائد بالهلع والتى يتفتق عنها هذا العلم (السوسيوبيولوجيا), ويجعلهم يسارعون بوضع الأيدى فوق الأعين خوفا من شدة وهج تلك الحقيقة العلمية:
1- اذا كانت السلوكيات والأخلاقيات تورث فلماذا يحاسب الله المجرم؟ وهل هذ من العدل؟
2- هل يصح تغيير نصوص القوانين بحيث يعفى من العقوية المجرم الذى ورث ذلك السلوك… وألا يفتح ذلك الباب لتفشى الجريمة بحجة أن مرتكبها مخلوق بها وهو أيضا ضحية؟
3- ألا يوجد ذرويعة لبعض الناس العنصريين للقول بأن العبد خلق ليكون عبدا ومهيئا لقبول وتحمل العبودية؟ وكذلك المستكين و المظلوم… الخ وما يتبع ذلك من تبرير الظالم والمستبد لجريمته؟
الرخاوى: والله معهم حق، وما أعظم أمانتك وشجاعتك وأنت تسرد خجج خصومك بهذه الدقة والحبكة، فما ردك؟
صلاح الدين: أنها لات عدو عن كونها أسئلة تقليدية كتلك التى تظهر دائما كلما ظهر علم جديد، وتقف أمامه محتجة بل ومنذرة بخطره وخطورته على الدنيا والدين.. ثم لا يلبث أصحابها بعد ذلك أن يدركوا نعمة هذا العلم عليها جميعا.
الرخاوى: هذا رد عام غير كاف، حتى لو كنت قد أثبت أمثلتك التالية للاستشهاد بالتاريخ عن بداية رفض القطار خوفا من قطع رزق الحمارة والأنعام .. الخ ثم ثبوت فائدته واستعمال كل الناس له دون قطع رزق أحد، ولكنى أذكر أنه منذ أن ثار القانونيون ضد لمبروزر، ومع تشنجات المتعصبين المتدينين فأن الخوف من التسليم للوراثة له ما يبرره من الخوف من الحتمية التبريرية، وأنا أستطيع أن أعزو ذلك الموقف الى قصر نظر الرؤية، لأنهم يضيقون القضية فى حدود الفرد (حسابه وعقابه ومسئوليته . .الخ) علما بأن هذا العلم، وما اليه، أنما يهتم أساسا بماهية النوع، ولا يصح أن نخلط بين وراثة عادة أو حتى عقيدة، وبين القدرة على تطويرها، ومسئولية تحمل ما ينتج عنها، ولن أطيل فى هذه النقطة حتى لا نفتح ملفا صعبا عن مدى أن الأنسان مخير أن مسير، ولكن دعنى أدعوك لعذر المتدينين، والاجتماعيين، والسياسيين اذا خافوا من الاستعمال السلبى لهذه المعطيات الصادقة، ولنتذكر معا أن سوء الاستعمال لا يلغى الحقيقة.
صلاح الدين: ..(و) الاعتراف بها، بينما العلم عاجز أمامها عن اتخاذ موقف.. كان من شأنه أن يدخل الجميع فى دوامات من الجدل ومتاهات من التردد،.. أما الآن، وقد وضع العلم يده على خريطة الوراثة وشفراتها وكيفية التعامل معها.. فأظنه بات لزاما على كل مفكر سياسى أو شخصى مشتغل أو منشغل بالسياسة، ويضع نفسه فى قائمة الداعين لتقدم الانسان.. أقول أصبح لزاما عليه أن يعمل أو يدعو على الأقل للاهتمام بتشجيع ورعاية وتمويل أبحاث وتجارب علم هندسة الوراثة.
الرخاوى: نعود فنختلف، وأحذرك من مصادر تمويل الأبحاث، واللعب فى الجينات، فنحن لا نعرف ماذا نريد من الانسان، أو للانسان، وخاصة انسان المستقبل، اذ نقيس الأخلاق والحسنات، بمقياس اليوم، والأمل المتصور فى حدود علمنا المحدود , وهذا وذاك هما من أوهى المقاييس وأكثرها خلطا، أنى لا أتصور أن هذا هو الحل، بل أنى أحذر منه، فالواجب علينا – ما دامت العادات تورث!!- أن نعيش بعمق، فى اتجاه الحياة عامة! الإأبداع والجدل الخلاق، ونهيئ الفرص لذلك، لا لتكرار ما خبأنا من أنفسنا، أو ما برر لنا موتنا أحياء، ثم يتولد من هذا ما يتولد مما لا نعرف تفاصيله وآن كنا نلمس اتجاهه. فينتقل الى الأجيال القادمة حتما، وأنى لحريص كل الحرص أن نحافظ على اقتناعك بهذا الاتجاه الرائع والهام، وفى نفس الوقت على تجنب وضع صورة الانسان المستقبل كما تتخيله أو تتمناه، نحن نعدل الظروف الجيدة بارساء مزيد من العدل والفرص الأوسع للعدد الأكبر، ثم نتلقى ما يكون بمسئولية مضاعفة، أما حكاية الختان، والتطعيم ضد اللا أخلاق فحذار ثم حذار، كما لا تنسى – كما ذكرت بأمانة قول أحد ناقديك الجادين – أن مفارقات السلوك (كما قال: يخلق من ظهر العالم فاسد) تجعلنا نتساءل عن أسبابها الأعمق، ولكن دعنا نسمع ردك على ناقدك هذا أولا:
صلاح الدين: أن تفسيرى لتلك الظاهرة – ظاهرة خروج عالم من ظهر فاسد، والعكس بالعكس.. هو أن هناك لو استبعدنا عامل الوراثة المحتمل عن الجدود عوامل أخرى تؤثر على الجنين .. بعضها داخلى والآخر خارجي.. فالأخداث النفسية والبيولوجية والمرضية والغذائية التى تمر بها الأم أثناء الحمل يمكن أن يكون أن يكون لها تأثير على التكوين العقلي، وبالتالى الفكرى فالأخلاقى والسلوكى بالنسبة للجنين ربما طول حياته، أما العواكل الخارجية فهى ما قد يصاحب عملية الوضع من عنف قد يتعرض له رأس الجنين، وكذلك ما قد يتعرض له من حوادث نعدها بسيطة، وتمر أمام أعيننا بلا اهتمام ثم تسقط من حساباتنا .. ومن هذه الحوادث ما نشرته أحدى الصحف عن طفل شقى (10 سنوات) ضربه فلاح على رأسه بعصا غليظة فأغمى عليه… وبعد أن أفاق. اكتشفوا بعدها بأنه قد أصبحت لديه عبقرية حسابية يسابق بها لاآلة الحاسبة! لقد نزلت العصا على المركز المخى المنوط بالعمليات الحسابية، فأدت الى زيادة غير طبيعية فى نشاطه، أعطتنا هذه النتيجة.. ,من الممكن فيما لو أن ضربة العصا كانت أقوى من ذلك أن تعطينا نتيجة عكسية.. أى بلادة حسابية. ولو نزلت العصا على مركز آخر غير مركز العمليات الحسابية لأحدثت شيئا من نوع آخر، متعلق بلاسلوك أو الأخلاقيات أو بالسمع أو، بالكلام أو بحركة اليدين أو القدمين مثلا.. وبالسلب أو بالايجاب. ومثل هذا الحادث وغيره من حوداث الحمل والوضع والصدمات الاجتماعية النفسية أو العصبية التى من شأنها أن تحدث انقلابا فى مفاهيم وسلوك الانسان وأخلاقياته وفهمه وذكائه بشكل مخالف لوالديه، وهذا فى رأيى هو تفسير ظاهرة خروج فاسد من ظهر عالم أو العكس.
الرخاوى: اسمح لى هنا أن أبدا فى التحفظ، قريبا من تحفظى فى الحوارين السابقين، واليك تحفظان مبدئيان: أولا: لا حظت أنك تعتمد على معلومات الصحف بعض الشئ، وأظنه لا يخفى على ملاحظ أمين مثلك أن ما يكتب فى الصحف ليس ملاحظة دقيقة ولا نقلا مضبوطا، ولا دليلا معتمدا، ورغم حرصى الشديد على احترام ملاحظات اجتهادات غير المختص، الا أن الصحف السيارة، وخاصة ما يسمى فيها بأبواب ‘العلم’ وما شابه هى ليست ممن أعدهم من آخر، بأسلوب آخر فدعنا نضع ما تقوله هذه الصحف بين قوسين حتى حتى نرجع الى زصوله على الأقل، وليس معنى هذاأنى أرفض استشهادك بها، لكنه تحفظ واجب، ثانيا: لاحظت أنك فى سردك لملاحظاتك تتصف بالاتنباه والدقة والأمانة، لكن اذا انتقلت المسألة الى مرحلة التفسير،استعملت ألفاظا فضفاضة تقريبية، أو نقلتها فأصبحت مسئولا عنها، مثل: “لديه عبقرية حسابية” (وماسبقة الآلة الحاسبة ليست بالضرورة عبقرية حسابية بل قد تكون خللا ترجيجيا)(3) ، و “المركز المخى المنوط بالعمليات الحسابية” (ولا يوجد مركز بذاته منوط بهذه العمليات بذاتها بحيث تقع عليه العصا بالذات، وإنما عمل المخ – للأسف – عمل شديد التداخل والتعقيد والكلية والمرونة والقدرة على الإحلال) و” فيما لو أن ضربة العصا كانت أقوى” أو “لو نزلت العصا على مركز آخر”.. الخ (نفس التحفظ والتخوف من تجزئ المخ إلى مناطق ومراكز وربط الأثر بالشدة والقلة، علما بأن المسألة تنظيمية صعبة فى لا مجال للدخول فيها هنا).
وأحسب أن حماسك المفرط والآمل لانتقال العادات المكتسبة قد وضعك حيث وضعت مخالفيك، فاضطررت لفرط التبسيط، أن تعزو كل ما يخالف رأيك إلى عوامل خارج النظرية التى ملأت عقلك وكيانك، وخاصة وأنك قد رسمت صورة للتعديل الذى ترجوه لإنسان المستقبل من خلال هندسة الوراثة، باعتبارها: صورة أخلاقية وديعة بالضرورة، ومن ثم كان لزاما أن تدفع عن أى ملاحظة مضادة، هذا الدفاع الذى يحافظ على مكانة علم السوسوبيولوجى من جهة، وعلى أملك الأخلاقى من جهة أخرى.
ثم دعنى أقول لك تفسيرا آخر، غير ما ذهبت إليه، دون أن أتنازل عن حماسى لهذا العلم وما إليه، الذى أظن أنه أكثر من حماسك، وربما أصعب:
أولا: قولهم: “يخلق من ظهر العالم فاسد” هو قول العامة، ولفظ “العالم” هنا يطلقونه رجل الدين عادة، لأن المقابل كان “فاسدا” وليس جاهلا فالقياس اخلاقى، وليس علميا.
ثانيا: أن المسطرة الأخلاقية التى تحكم على “هذا العالم” بأنه هو الذى يمثل “الطيب”، حتى ليصبح الفاسد نقيضه لم تحل المشكلة الاخلاقية، حيث ما زال السلوك الأخلاقى الظاهر ليس هو الذى يدل على ترتيب الجينات، وبالتالى ليس هو هو الذى يورث، وإنما الذى يورث – فى رأيى – السلوك الحياتى الوجودى داخل الخلايا الذى له وجهه الظاهرى المتعدد الأشكال، وهذا “السلوك” من الداخل (مع التجاوز فى التعبير) إنما يورث بقدر “دلالته التطورية”، ذلك أن السلوك الأخلاقى الحسن ظاهريا قد لا يكون سوى غطاء محكما لنقيضه، الذى – للأسف – يكون هو الذى يورث (لاحظ أن كلمة الدلالة التطورية لا تعنى التطور فى الاتجاه الإيجابى فحسب، وإنما قد تعنى العكس) – على أن هذا الاستنتاج لا يعنى أن السلوك الدينى الطيب هو دائما ظاهر يخفى عكسه، وإلا فأين يذهب معنى الحديث “صهيب مؤمن نسى إذا ذكر (بتشديد الكاف وكسرها) ذكر،خلط الإيمان بلحمه ودمه، ليس للنار فيه نصيب” وألفت نظرك إلى “خلط الإيمان بلحمه ودمه” فهذا المستوى من الإيمان هو الذى يورث، ومثل صهيب هذا (الذى نسى) لا يقول عنه العامة عالما (نقيض الفاسد)، بل هذا هو الذى “إذا حضر لم يستشر، وإن خطب لم يزوج، وإن غاب لم يفتقد”، أشعث أغبر، ومع ذلك فقد خلط الإيمان بلحمه ودمه.
وليس معنى ذلك – ببساطة – أن صهيب هذا، إذا أنجب، فإنه سينجب أطفالا خلطوا الإيمان بلحمهم ودمهم – هكذا مباشرة – فلا يتغيرون إلى العكس إلا إذا أصبوا بعصا غليظة على مركز الإيمان، أو لحقتهم الإشعة السينية فى مستوى التنظيم المخى الدينى، أبدا … وإنما قصدت أن أنبه على مستويين من الأخلاق، وعلى أن هذا العلم (السوسيوبيولوجى) إذا أحسن توجيهه فسوف يحسن توجيهه للتأكد على تغيير المجتمع (وليس تغيير الجينات) إلى ما يعطى فرصا أرحب مرة أخرى للإبداع، والتوجه لما هو حياة فى الناس، ضد الجمود والإنسحاب إلى ما هو موت / فى الفرد – فهذا العلم رغم بيولوجيته المعلنة، فإنها تالية لسوسيولوجيته السابقة فاللاحقة، وهكذا دائرة بناءة، تحل محل الدائرة الجهنمية الدوامة التى تسحبنا أكثر فأكثر، إلى أسفل فأسفل.
وأخيرا تقبل شكرى واحترامى، لهذه الفرصة الرائعة مهما كانت غير متخصصة، فى الرصد والحوار، ولتكن مهمتنا – سيدى – أن نسهم فى الدعوة إلا أن نحتكر المعرفة تحت أوهام التخصص، وفى نفس الوقت ألا نستسهل الفتوى والتفسيرات تحت إغراءات الجدة .. و الاختزال.
ألا ما أصعب الموقف، وليحضرنا كل من مصطفى حامد، وعبد الوهاب.. و.. سائر قرائنا.. وعليك السلام ولك فضل الدقة والأمانة والأمل الخلاق.
[1] – كتب الصديق مصطفى حامد فكرته عن ‘العقل فوق الوعي’ (ثم المنطق فوق الواعي) فى صفحات كثيرة، ولم يجد التحرير بالفكرة نفسها ما يجيزها للنشر، ولكنه سعد بالمحاولة والأمانة، ونأسف لأن هذا الحوار يدور حول فكرة لا يعرفها القاريء أصلا، لكن الهدف من الحوار، هو تناول ‘شروط الابداع’ و ‘حق النشر’ المطلق، والفكرة ببساطة تقول إن ‘ما هو ليس وعيا ظاهرا مباشرا’ ‘ليس هو اللاشعور أو ما تحت الوعي’ وإنما هو قد يكون تنظيما هادفا أعلى (فوق) الوعى السائد – وحتى هذا الايجاز لا يفيد، فنكرر إعتذارنا.
[2] – احتفظت ببقية الاسم مكتفيا بالحروف الأولى، خوفا على صاحبه من جرعة المواجهة وله كل الحق أن يطلب نشره كاملا ان شاء فى عدد قادم، ولكن الحيطة أوجب.
[3] – أقترح أن تقرأ المقال العلمى فى هذا العدد، عدة مرات للتعرف على بعض طبيعة عمل المخ، وقيمة التفكير المنطقى “حل المشاكل”… و …. وفى إنتظار رأيك.