عدد اكتوبر 1985
حـوار (1)
المسموحات والممنوعات فى مسألة عروض الشعر
رضا عطية x أحمد زرزور
رضا عطية: دعنى أقول – قبلا – أننى كنت أكتب الشعر، وأعتقد أننى سوف أفعل ذلك دائماً، بقدر من الحدس الفنى وهو مدرب بقدر ما لى من خبرات ومعارف فى هذا المجال حتى الآن، ولم أكن ولا أحب أن أنشغل كثيرا بالأسس النظرية والنقدية لأنها حسبما يقولون مفسدة للابداع، واتلاف للتلقائية الصادقة والحساسية، وجور على فيض اللحظة.
أحمد زرزور: ها أنت تستدرجينى فى البداية – الى المنطقة الأهم فى الشعر، حيث تستطيع أن تتنفس بحرية وأن تتحدث بطلاقة، وأن تحب بعمق، وأن تكتشف الكون بروحك المنفلتة من أسر العادة ومن مافيا القوانين، فلا أحد يختلف معك يا دكتور رضا حول الشعر – الحدس، ولكن المشكلة تكمن أساسا فى أننا مدفوعين بحماسنا الطيب – قد نغض الطرف أحيانا عن الوقوف على “الماهية الأساسية” لما نندفع باتجاهه، والا فما الذى “يبوصل” اندفاعنا هذا ويحدد مساره ..
ولذا أجدنى لا أتفق معك حول رفضك للأسس النظرية والنقدية، فالشعر فن قبل أن يكون (جيشانا وجدانيا)، له ماهيته الخاصة بلا شك، والا فكيف نستطيع أن نميز بين الفنون شعرا / قصة / مسرحا .. الخ، ثم أن هذه الأسس النظرية والنقدية ضرورية لكى “يتدرب” الشاعر فيكتسب “الخبرات والمعارف” التى تؤهله لاجتراح القصيدة، ثم أن هذه الأسس النظرية والنقدية – لو استوعبناها جيدا – تقوم بدور جوهرى فى تشكيل ملامح حدسنا الفنى، والا كان (حدسا هيوليا)، فما الذى يمنحه صفة الحدس الفنى الشعرى على وجه التحديد ؟! ..
ثم أننى لا أعتقد بوجود تلقائية مطلقة أو فيض لحظة لا متناه، ذلك أن الحرية – وكما توافقنى بالتأكيد – هى أكبر قيد يواجهنا ويصطدم معنا، ولذا فالشاعر الحق مطالب بأن يدجج شاعريته الطليقة باسلحة الفن القاطعة فلا يصيب هدفا غير الشعر، والشعر وحده !
رضا عطية: لكننى غير معتاد أن أكتب فى هامش قصائدى عبارات من نوع “تعدد التفعيلات هنا مقصود أو ضروب البحر مستخدمة هنا عمدا” الخ، ايحاء للقائمين على النشر أننى أفهم ما أفعل، بل وارى أنها مسألة مضروبة – بلغة التجارة السائدة الآن – فلا الشاعر، والشاعر تخصيصا، يملك هذا القدر من التدخل الادراكى الواعى أثناء لحظة الابداع، ولا قائمو مقام النشر بقادرين على أن يدركوا مدى التزام القصيدة فنيا !
أحمد زرزور: اسمح لى يا عزيزى أن أقول وبصراحة أننى لا أميل مطلقا الى هذه التبريرية، ذلك أن من اختار أن يكتب قصيدة تفعيلية عليه أن يمارس فنيتها كاملا، وأن يكون فارسا متأهبا مزودا بخبراته الكاملة فى مضمارها، وألا يلجأ الى “التوكأ” على عصا تبريرات من نوع ما ذكرته، والا فهل هناك فارس لا يجيد البقاء على ظهر جواده الجموح أثناء عبور المنحنيات أو القنوات الصغيرة …
بل أننى أعتقد أنه مهما كانت وعورد المنحنيات أو القنوات (الشعرية)، فلا يوجد على الاطلاق ما يبرر للشاعر الفذ الاحتماء من هذه الوعورة بهذا (الزحاف) أو تلك (العلة)، اللهم الا اذا كان من غير الأصوب – حسب السياق الفنى العام للجملة الشعرية – اللجوء لغير ذلك وفى أضيق نطاق، وهنا يجب أن نميز بين نوعين من التدخلات الادراكية:
أولا: تدخل ادراكى من نوع ما ذكرته يا دكتور رضا بعبارات “تعدد التفعيلات مقصود .. الخ”.
ثانيا: تدخل ادراكى يمارسه الشاعر أثناء عملية الابداع – وذلك بالتغيير والحذف والاضافة ومواءمة اللفظة باللفظة واحداث التوازن بين الدفعة الشعورية ووسائله التعبيرية …
ففيما يتعلق بالنوع الأول من التدخلات، فقد وصفته أنت (بأنها مسألة مضروبة) ليس لأنه تدخلا ادراكيا يفسد تدفقية التيار الشعرى، ولكن لأنه – فى اعتقادى – مجرد عكاز ليس الا، وتدل على نقص فى الخبرات الفنية الأساسية للشاعر..
أما النوع الثانى، فأعتقد أنه تدخل مهم وضرورى، فالشاعر المتمكن هو الذى يكتب فى المنطقة المتوهجة بين الوعى واللاوعى بحيث لا يطغى أحدهما على الأخر، ففى حين تختلج روح الشاعر على الورقة اليضاء، تمارس خبرته الواعية (التقنية الأدواتية) دورها فى صب هذه الاختلاجات فى أفضل الصياغات مواءمة واتساقا، والا كان الشاعر كمن يهدر مياه النهر فى رمال الصحراء !!.
رضا عطية: المسألة ببساطة أننى استخدم مسموحات الشعر ما وسع قريحتى، حين أخترت الشعر الحر، بل وطريقة بنائية محددة تمثلت فيها نماذج تروق لشعورى ووعى فى آن، ولم أستخدم فى قصيدة (اعتراض دامع) التى أشار اليها الدكتور الرخاوى فى بعض ملاحظاته التحليلية عنها فى العدد الثانى والعشرين – الا ما يجوز بشكل تقليدى جدا، أى وفق العروض القديم – عروض أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات – ولم أطرق حتى أيا من الضروب المستحدثة وان كنت حتما سأطرقها حالما تتسرب الى نفسى وتلقائيتى من خلال أعمال تترك أثرا …
أحمد زرزور: يا سيدى الشاعر: لا أحد يمنعك من تمثل النماذج التى تروق لشعورك ووعيك، ولكن شريطة الا تصبح هذه النماذج مثلا عليا مقيدة لحرية خيارك الشخصى، والا كان لذلك أثره الضار على ابداعك الشعرى الذى قد تنتقل اليه بعض – أن لم يكن كل – ما يعتور هذه النماذج المتمثلة من هنات ومثالب!
والمسألة هنا – ليست ما يجوز أو ما يجوز بشكل تقليدى جدا – كما تقول – وفق العروض القديم، ولكن المسألة – فى حدود فهمى للشعر – هل كان لهذا الاستخدام ضرورة فنية بحيث يشكل عدم اللجوء اليه خللا فنيا ودلاليا فى القصيدة أم لا ؟!
وبمراجعتى للمقطع من القصيدة – محل الخلاف – لم أجد لاستخدامك ما تسميه بالمسموحات الشعرية ضرورة ما، بل ان ما أجرى من تعديلات عروضية أو صياغية – كان فى صالح القصيدة عروضيا ونسقيا، ولا يضير أحدا – كائنا من كان – أن يتعلم وأن يتعرف على الأصوب والأكثر اكتمالا، بل أننا مطالبون جميعا بأن نمارس هذا الدور الجوهرى فى الحياة: أن نعلم وأن نتعلم، أن نعرف وأن نتعرف، أن نندفع دائما – كما تقول فى رسالتك الجادة – الى فهم ما لم نكن نجيد فهمه واعادة ترتيب أفكارنا من حيث يشعر المرء بقوة كثيرا ما تكون زائفة، أو قياسا على معايير ناقصة بما لا يضمن لفنان رقياً حقيقياً !!
رضا عطية: لكننى أدعى أننى أنهج نهج ما استمر من عروض جديدة، وأكثر من ذلك أقول أننى لا أخاف، لأننى على يقين أن القوانين والتنظيرات تأتى دائماً بعد استقرار الابداع على حال ونمطية معينة، هكذا كان تحليلك ذاته، وكان عروضه تاليا على واقع الشعر العربى لا سابقا عليه، وعليه فأننى أن تأتى لى أو لغيرى جديد يشكل اضافة فنية على مستوى الشكل مثلا بحيث يصبح ذا فائدة وضرورة عملية، لن أتراجع عن الأخذ به، وعلى المنظرين أن يهرولوا حينئذ!
أحمد زرزور: ولكن كيف سيتأتى لك أو لغيرك ذلك الجديد الذى يشكل اضافة فنية اذا كنت – أو كنا – ما نزال ننهج نهج ما استمد من عروض، حقيقة نحن مطالبون بألا نتمرد على هذا العروض الا اذا كنا نمتلك بديلا جديدا له، ولن نستطيع ذلك الا اذا رفضنا ارتياد الطرق المسبوقة، وآن لنا بالفعل شعراء ونقادا أن نتخلص من الخطاب الشعرى التقليدى وصولا الى تأسيس علاقات مغايرة بين المفردة والمفردة من جهة، وبين الشاعر والعالم من جهة أخرى، والحداثة – التى نتوخاها – وفق هذا المفهوم هى مغامرة، وبذلك يتغير مفهوم القصيدة فى حد ذاتها، حيث تتحول من معادل موضوعى أو مؤازرة تقابلية للعالم وللأشياء الى وجود خاص مستقل يتأسس من داخله، هذا “الداخل” الذى ينصهر فى جدلية محتدمة (بالخارج) التاريخى سياسيا واجتماعيا، وهكذا فان حداثة القصيدة ليست مجرد انقطاع عن أو خروج على عروض التحليل، انها أكبر من ذلك كله، انها ابداع يطلق نار الأسئلة فى فضاء احتمالى موار بالدهشة والحلم والجنون، وفى اعتقادى أن ما تعانيه القصيدة الآن من رتابة وتكرارية ومشابهة راجع الى التمسك الصارم بالتفعيلة والوقوف عندها وعدم المساس بها واعتمادها كقانون ايقاعى تتمركز حوله الصياغة الشعرية، وأعتقد أنه آن الأوان للبحث عن نظام ايقاعى جديد يطلق للقصيدة زمام توهجها ..
وهناك محاولات تنظيرية فى هذا المجال لنقاد مثل “الدكتور كمال أو ديب” فى كتابه: “فى البنية الايقاعية للشعر العربى نحو بديل جذرى لعلم عروض الخليل” بالاضافة الى المؤلفات النقدية لأدونيس والبحوث التى نشرتها وتبنتها مجلة (شعر) البيروتية من قبل ..
رضا عطية: وان كنت أعتقد شخصيا حتى الآن أن المسألة جد معقدة لسببين هامين:
أولا: أننا لم نستنفذ بعد كل معطيات البناء القديمة للشعر، اذ أنه فى حدود البحور الستة عشر أو حتى العشرين بضروبهم وصدورهم المختلفة يصبح لدينا – قياسا – أكثر من سبعة وستين امكانية موسيقية للتعامل مع الكلمة المنظومة، ناهيك عما تتيحه البحور الصافية وحدها من تنويعات تنطوى على ثروة موسيقية هائلة لم تستنفذ بعد كل أغراضها حتى فى الشعر الجديد ذاته.
ثانيا: أن التطور فى علوم اللغويات والصوتيات والأبنية الموسيقية الداخلية، قد فتح مساحات هائلة للتعامل مع الشعر باعتباره ليس كبنية خارجيه وإيقاع سيمترى فقط، بل فتح مساحات هائلة لمكنون لغوى يكمن فى نظم ترتيب الأحرف ذاتها، ولابد للمستحدث حينئذ من أن يمر أولا أعبر أشلاء القديم وأحداثه لكى يجهر بجدية لديه!
أحمد زرزور: دعنى أتفق معك تماما فيما يتعلق بثانيا، فلابد – بالفعل – للمستحدث من أن يمر أولا عبر أشلاء القديم لكى يجهر بجديده، ولكننى أعتقد – فيما يتعلق بأولا – وكما ذكرت من قبل أن البناء القديم فى الشعر قد استنفذ- أو قارب على استنفاذ كل معطياته – ذلك أن معظم ما يكتب الآن على هدى نسقه العروضى يعانى من التكرارية والسكونية والرتابة والمراوحة، الأمر الذى يجعل من مسألة السعى وراء أحداث تغيير جذرى فى بنية الإيقاع الشعرى قضية ملحة وهامة، ولكن ذلك لن يحدث – كما يقول الدكتور كمال أبو ديب – إلا إذا تغيرت بنية العقل/ البنية الفكرية – نفسية وهو الفعل الكامل على صعيد الثقافة نفسها، أى ولادة بنية جديدة، وخلق إيقاع شعرى حديث – إذن – ليس عملا مفتعلا، أنه حتمية تاريخية ……
ومن ثم فليس أمامنا – إذا كنا مخلصين وجادين – “سوى التوجه نحو آفاق طرية رحبة تنفتح فيها مدى الرؤية الباحقة، والانفلات من شرنقة القداسة والاستسلام إلى فضاء حرية تؤكد قدرة الذات المنقبة الواعية على إكتشاف العالم وصياغته فى صورة جديدة”!