رحلة استكشاف المخ
د. يسرية أمين سليم
ان رحلة استكشاف المخ التى تمتد عبر التاريخ – منذ ما قبل الميلاد الى يومنا هذا – لابد وأن تكون رحلة شيقة ومثيرة تبعث على التفكير والمراجعة والملاحظة بل وربما الدهشة والاضطراب (بمعنى الحيرة).
ولقد تعرض مؤخرا لهذا الموضوع كاتب انجليزى هو ب. ل. لانتوس[1] P. L. Lantos فى مقال بعنوان “”Changing images of the brain أو الصور المتغيرة للمخ[2] حيث استعرض باستفاضة اختلاف منظور المخ من مرحلة الى مرحلة أخرى عبر احقاب الزمن المتتالية، ولقد أثار فى هذا المقال بعض الأفكار وكثير من الاعجاب وقليل من النقد أردت أن أنقلها للقارئ[3].
وربما ترجع أهمية هذا المقال الى ثلاثة أسباب: السبب الأول هو موضوع الدراسة نفسه فأهمية هذا العضو غنية عن التعريف هذا بالاضافة الى عظمة تعقيده. أما السبب الثانى فهو نوع الدراسة من حيث أنها دراسة طولية، أذ أن ربط الأحداث – المتتابعة فى الكشف عن المخ – طوليا يعطى غالبا أبعادا جديدة قد نفقدها عند فحص النتائج الجزئية منفصلة عما سبقها وعما تلاها والنقطة الثالثة والأخيرة التى أثارتنى هى ملامسة هذا المقال لموضوعات مرتبطة ارتباطا وثيقا بمتاهات البحث العلمى من حيث موقف وحيرة العالم وسط صعوبة المنهج وعناء الوصول الى حقائق دائمة التفكير.
وليسمح لى القارئ ان أبدا بتقديم المادة التاريخية لتطور دراسة المخ ثم أتعرض لبعض التعليقات على مسار تقدم هذه الدراسة وأخيرا أن أناقش سريعا بعض النقاط الخاصة بموقف العلماء من المنهج ومن النتائج ومن أنفسهم.
المادة العلمية التاريخية:
يقسم الكاتب مراحل استكشاف المخ الى ثلاثة مراحل: أما المرحلة الأولى فموضوعها المخ ككل، فى حين أن المرحلة الثانية تتناول المخ كشبكة من الخلايا المتناهية التعقيد وأخيرا المرحلة الثالثة لم تكتف بتجزئ المخ الى خلاياه وانما رفعت النقاب عن مكونات الخلية فكانت البناءات التحت الخلوية والتنظيمات الجزيئية فى داخل الخلية العصبية هى موضوعها.
المرحلة الأولى:
تمتد المرحلة الأولى فى رحلة استكشاف المخ على مدى ثلاثة آلاف سنة وبالطبع فهى تحكى لنا المحاولات الأولى لوصف المخ فكان المصريون القدماء من أوائل من لمس المخ، كما ورد ذلك فى ورق البردى المنسوب الى ادوين سميث Edwin Smith يرجع الى 1600 ق. م. ولكن لم يكن الغرض من تناول المخ هو الدراسة وانما كان الهدف هو تحنيط جثث الموتى وهكذا صار القائم بعملية التحنيط ودون أن يدرى – بمثابة الدارس للتشريح، فقد كان يقوم باستخراج المخ من خلال نقب يقوم بعمله فى عظمة الجمجمة وبالطبع كان لهذه العملية أهمية فى شد الانتباه فى عظمة الجمجمة وبالطبع كان لهذه العملية أهمية فى شد الانتباه الى هذا العضو ثم ظهرت محاولات استهدفت ملاحظة ودراسة المخ بصورة مباشرة وليست عرضية كم كانت عند الفراعنة فكانت هناك محاولات للتمييز بين اجزاء المخ والتعرف على الاغشية المحيطة به والتجاويف الكامنة فى داخله[4]
وفى مراحل طفولة التفكير العلمى التى غلب فيها الحدس على المنطق والتضمين على التحليل نجد الكمون المنسوب الى كروتون Alcmacen of Croton يصرح فى القرن الخامس عشر بأن مركز النشاط العقلى وموضع الحواس هو المخ وليس القلب كما كان يعتقد مسبقا.
وهذا أفلاطون يلمس ذات الفكرة ويصبغها بصبغته المثالية فيرى أن المخ – من حيث شكله الدائرى هو الجزء الأكثر الوهية، فهو الوعاء الأمثل للحكمة والعقل. أما بالنسبة لأرسطو الذى كان يزعم أن القلب هو مركز الحياة والذكاء فان المخ قد بعث لكى يعمل كغدة تقوم بافراز السوائل الباردة التى توازن الحرارة المنبثقة من القلب ويصيب هيبوقراط فيصرح بوضوح أن مشاعرنا تنبعث من المخ ومن المخ فقط. وفى القرن الثالث الميلادى ظهر عالم تشريح ينتمى الى المدرسة البطلمية بالاسكندرية اسمه هيروفيلاس المنسوب الى شلسدون Herophilus of Chalcedon فقد رأى هذا العالم أن الروح تسكن فى التجويف الرابع للمخ ثم استطاع أراسيستراتس المنسوب الى كيوس Erasistratus of Chios بفضل ملاحظته الدقيقة ان يرى ان سطح المخ يتكون من تلافيف Gyri وأخاديد Sulci كما أضاف أن هذه البناءات تكون أكثر نموا فى الانسان عنها فى الحيوان، بل انه ربط بين حجم وشكل هذه البناءات وبين الاداء العقلى الاعظم عند الانسان ولقد بنى كل من هيروفيلاس وأراسيستراتس ملاطظاتهما على اساس تشريحى وكان هذا السبق والفضل معا هو السبب فى ادانتهما!.
أما العصر المسيحى فقد سجل تأخرا كبيرا فى علم الطب حيث تدهورت المدرسة السكندرية – التى سبق أن أشرنا اليها أعلى – اذ دمرت مكتبتها العظيمة، هذا بالاضافة الى أن تشريح الأجسام فى روما أصبح محرما وظل هذا القانون مشروعا حتى النصف الأخير من العصور الوسطى بل صار الطب عملا دنيئا من نصيب العبيد والمهاجرين وفى وسط هذا الظلام الهابط والغامر نبضت وومضت موهبة جالن Galen فكانت باعثة للجدل فقوم ما نسبه السابقين من أهمية لتجاويف المخ على الجزء الصلب فأكد على أهمية وعظمة الجزء الصلب للمخ بالمقارنة لتجاويفه وكان له السبق فى تقديم تقسيم وظيفى للمخ فأشار الى أن الخيال يحدث فى المخ الأمامى Forebrain أما التفكير بمعنى[5] Cogitation فيحدث فى المخ الأوسط mib brain أما الذاكرة فتقع فى المخ bmd brain كما انه وصف الجسم الجاسئ[6] أو Corpus Callosum ولكنه أهمل الوظيفة الهامة لتلافيف المخ القشرية.
المرحلة الثانية فى استكشاف المخ:
وهكذا مضى ركب البحث يتقدم تارة ويتعثر تارة اخرى ويضل طريقة تارة ثالثة حتى ان علم التشريح الذى يعتبر من أهم الطرق المؤدية الى معرفة المخ لم يبدأ الا فى سنة 1156 حيث أجريت فحوصات لجثت موتى من خلال دراسات فى الطب الشرعى على يد أول أستاذ فى التشريح اسمه موندينو دى لوزى Mondino De Lozzi ولقد اعتقد هذا الباحث أن وظيفة العقل محكومة بواسطة “دودة حمراء” هى الشبكة المشيمية Choroid plexus “وهى تعمل كصمام يتحكم فى سريان النفس أو الروح خلال التجاويف المخية” وهكذا بدا التفكير فى تلك الفترة أنه ما زال محتفظا بصبغة ساذجة بالنسبة للتفكير الحديث بمعنى أن رؤية حركة السائل النخاعى الذى يفرز من الشبكة المشيمية قد اعتبر أنه الباعث للروح ربما لملاحظة حركى السائل النخاعى خلال تجاويف المخ وذلك لتلازم الحركة مع الروح ولكن أول دراسة منظمة للمخ لم تظهر الا فى سنة 1543 حيث قدم اندرياس فيزاليوس Andreas Vesalius بحثا شاملا يتكون من سبع كتب الرابع فيهم تعرض الجهاز العصبى ككل والخامس كان مخصصا لدراسة المخ والى هذا العالم يرجع سبق دراسة المخ من خلال قطاعات مستعرضة وهى نفس الطريقة التى تستخدم حديثا جدا فى فحص المخ بواسطة الرسم السطحى المعامل بواسطة الكومبيوتر ومن هنا بدأت نقطة التحول فى تاريخ دراسة المخ ووضع ويليس Willis 1664 وصفا ثابتا – حتى يومنا هذا – للدورة الدموية وظل الاعتقاد بأن يعمل بصورة كلية دون وجود تخصص وظيفى مرتبط بأجزاء معينة باستثناء – بالطبع – تقسيم جالن Galen للمخ الى ثلاثة اجزاء كما سبق أن أشرنا وفضل ويليس على دراسة المخ لم يقتصر على وصف الدورة الدموية وصفا دقيقا وانما امتد ليشمل كسر قاعدة أن المخ يعمل ككل فوضع مخططا لتقسيم المخ فرأى أن كل نصف كرة مخية يحتوى على ثلاثة مراكز هى (1) الجسم الجاسئ Corpus callosum وتكمن فيه قدرات الخيال و (2) الجسم المخطط Corpus striatum الذى يقوم باستقبال كل الأحاسيس أما (3) القشرة المخية فهى تختزن الذاكرة، وأضاف ويليس أن المخ هو مصدر الحركات الارادية أما المخيخ فهو يحتوى على منبع الحركات اللا ارادية بما فى ذلك حركة القلب والرئة وعلى الرغم من أن بعض المفاهيم التى قدمها ويليس بالنسبة للتقسيم الوظيفى كانت خاطئة الا أن اليه يرجع الفضل فى شد الانتباه الى بعض اجزاء المخ المختلفة على الأخص تلافيف القشرة المخية التى كانت قد نالت حتى تلك الآونة القليل من البحث والاهتمام.
وفى أواخر القرن الثامن عشر، أعتنق كل من جول Gall و “سبيرزهايم” Spurzheim الفكرة القائلة بأن القدرات العقلية والأخلاقية تكون ممثلة على سطح المخ ثم تتابعت محاولات تقسيم القشرة المخية على أساس وظيفى على يد كل من جاكسون Jackson وبروكا Broca وفرنيك Wernicke وفريه Ferrier وبنفيلد Panfield وآخرون وقد عرفت بعض اجزاء القشرة المخية باسمائهم حتى الآن كما لو كان ذلك اشارة الى أن هذا العالم أو ذاك قد قام بغزو وفتح هذا الاقليم من المخ، وخريطة المخ مثلها فى ذلك مثل خريطة العالم يعاد تخطيطها بين الحين والحين لكى يبدو ان خريطة بردمان Brodman قد بقيت كمرجع قياسى فى هذا الموضوع.
ووقع حدث هام فى القرن السابع عشر هو اكتشاف الميكروسكوب الضوئى فكان فاتحا لآفاق جديدة فى مجال المخ كما أدى الى حدوث تطور هام فى مفهومنا عن المخ فى حالتى المرض والشفاء وأول من قام بتصميم ميكروسكوب ضوئى هو لويينهوك Leeuwenhock وهو فى الأصل كان تاجرا للملابس وحاجبا لمجلس مدينته ولقد قام بتصميم ميكروسكوبا ضوئيا أوليا فى أوقات فراغه وهكذا استطاع أن يجسد عالما كان غير مرئيا حتى ذلك الحين ولكن الميكروسكوب الضوئى فى صورته الفعالة مرتبط بأسماء كل من مالبجياى Malpighi وروبرت هوك Robert Hooke بالاضافة الى لويينهوك، ومع بداية هذا العصر اصبحت اجزاء المخ المختلفة هى موضع الدراسة ولكن التقدم الحقيقى لم يحدث حتى عامى 1838 و 1839 حينما قدم كل على حدة ولكن على التوالى كل من شيوان schawn وشليدن schleiden المبدأ الأساسى فى بنية الكائنات الحية وهو مبدأ الخلية وبالطبع فأن قبول هذه النظرية أدى تباعا الى الاعتراف بأن المخ خلوى فى تركيبه مثله فى ذلك مثل بقية انسجة الجسم فهو يتكون من خلايا عصبية ومن زوائج تلك الخلايا الكثيرة التعقيد والغموض والتداخل وفى عام 1846 أشار فيركاو Virchow وهو عالم فى علم الامراض – الى نوع آخر من الخلايا اعطاها اسم Glia وهى كلمة تعنى المادة الغروية ولقد اعتبر هذه الخلايا بحثا به اسانيد أو دعائم للخلايا العصبية كما أنها تكون المادة التى تشد الخلايا بعضها الى البعض الآخر.
ولكن لابد من الرجوع الى الوراء بعض الشئ، الى القرن الثامن عشر مرة أخرى وذلك للاشارة الى عاملين اساسيين أثرا فى تشكيل مسار المخ: فهناك أولا فكرة مورجاجنى من بادووا Morgagni of Padua فهذا العالم قدم فى سنة 1761 كتابا يعتبر صرحا فى علم الأمراض ويرجع له السبق الأول فى محاولة التوفيق بين الظواهر الاكلينيكية والمعطيات التشريحية وبذلك وجه علم الامراض وجهة مختلفة فتحت آفاقا جديدة فى تفهم الأمراض أ/ا الحدث الهام الثانى فهو ما رآه فيركاو من أن المرض ظاهرة خلوية بمعنى انه يحدث تغيرات على مستوى الخلية وتلك التغيرات هى المسئولية عن ظهور المرض على المستوى العضوى ثم الاكلينيكى، وبالطبع فان انتصار هذه النظرية ادى الى التركيز على دراسة وملاحظة التفاصيل الدقيقة للخلايا للوقوف على التغيرات المرضية التى تحدث فيها.
ولما كانت الاداة اللازمة لذلك هى الميكروسكوب فلقد تبع هذا الكشف الجديد اجتهاد فى تطوير كل من الميكروسكوب[7] والصبغات المستعملة، مما أدى الى الحصول على قدرات أكبر للتكبير كما تقدمت اساليب الصباغة[8] فقد كانت تستعمل فى أول الأمر الصبغات الطبيعية ثم ادخلت صبغة Aniline ولقد ارتبط اسم كل من جولجى Golgi وكاجال Cajal وهما عالمان فى علم الانسجة بطريقة جديدة فى صباغة خلايا المخ وفحصها بالميكروسكوب فلقد استعمل الأول حبات الفضة لأول مرة فى صباغة الخلايا العصبية فبدت الخلايا فى كامل شكلها وظهرت زوائدها فى كامل تفرعاتها أما كاجال فلقد قدم أسلوبا جديدا فى صبغة الخلايا العصبية أحدث ثورة فى فحص المخ ولقد استحق هذان العالمان جائزة نوبل على هذا العمل أ/ا دل ريو هورتيجو Del Rio Hortego وهو تلميذ كاجال فقد ساهم مع استاذه فى تطوير الأساليب الفنية لصبغة خلايا المخ حيث اكتشفا طريقة جديدة لصبغة الخلايا الغروية.
وننقل الآن الى النصف الثانى من القرن التاسع عشر تلك الحقبة من الزمان التى تعتبر العصر الذهنى لعلم الامراض العصبية المعروف وامتد هذا العصر الى العقدين الأولين من القرن العشرين وفى تلك الفترة من الزمن وصفت بعض الامراض العصبية لأول مرة من خلال دراسات بعض العلماء وبرزت بعض الاسماء من امثال الزهيمر Alzheimer وبيك Pick وفون روكلنجهورن Von Recklinqhausen وفرنيك Wernick وبورنفيل Bourneville وشاركوت Charcot وجاكسون Jackson ووالر Waller وغيرهم، وأصبحت هذه الاسماء للاشارة للمرض الذى وصفه هذا العالم أو ذاك ولابد من الاشارة هنا الى أن تطور عدسات الميكروسكوب الى جانب تقدم اساليب الصبغة سمح فى كثير من الاحيان بنحديد الموضع التشريحى الذى يحدث فيه المرض بصورة دقيقة.
وفى هذه الحقبة من الزمان كان علما الامراض العصبية والامراض النفسية مرتبطين ارتباطا وثيقا الا أن ذلك التعاون ذا المنفعة المتبادلة قد ذبل تدريجيا، اذ بعد اكتشاف بعض الامراض العصبية التى تسبب بعض الاضطرابات النفسية ذات الاساس العضوى وصل هذا التعاون الى طريق مسدود او عقيم، هذا بالاضافة الى أن هناك شعورا بخيبة الأمل أصاب الباحثين لأن فحص المخ بالوسائل التى كانت موجودة فى ذلك الحين فشلت فى أن توضح طبيعة العصاب وبعض أنواع الذهان، اذ مع أن ما كان معروفا عن المخ فى ذلك الوقت كان عظيما الا أنه كان غير كاف للكشف عما هو مباطن للحياة العقلية المضطربة.
المرحلة الثالثة – نحو البيولوجيا الخلوية والجزئية:
ان الحدث الهام الذى كان بشيرا وفاتحا لتلك المرحلة هو اكتشاف الميكروسكوب الالكترونى اذ فى عام 1931 صمم ماكس كنول Max knoll وارنست روسكا Ernst Ruska ميكروسكوبا قائما على مفهوم مختلف تماما عن سابقيهم فلقد استبدلا الضوء فى الميكروسكوب العادى بشعاع الكترونى كما استبدلا العدسات الضوئية بمجال مغناطيسى هكذا ولد أول ميكروسكوب ولكن للأسف كانت هناك صعوبات فنية هذا بالاضافة الى ظروف الحرب العالمية الثانية التى حالت دون انتشار هذه الاداة الجديدة والاستفادة منها وتطويرها حتى اوائل الخمسينيات ولابد من الاشارة الى أنه اذا كانت درجة تكبير الميكروسكوب الالكترونى يصل الى مليون مرة فان تكبير الميكروسكوب العادى لا يتعدى تكبيره مقدار 200 مرة، هكذا استطاع الميكروسكوب الالكترونى أن يوضح اشياء اصغر من نصف واحد على مليون من الملليمتر وثبت لأول مرة ان الخلية تحتوى على بناءات داخلية ذات حدود واضحة وتمكن الفاحص من رؤية الجزئ المسئول عن بناء البروتين فى داخل الخلية وسمى بالشبكة الاندوبلازمية Endoplasmic Reticulum، بالاضافة الى الجزئ الذى يمكن ان يعتبر مخزنا للمواد فى داخل الخلية وسمى بمركب جولجى Golgi Complex أما الجزئ الذى يحدث فيه التنفس فهو الميتوكوندريا Mitochundria وهكذا فان الميكروسكوب الالكترونى قد احدث تغيرا مفاجئا ومثيرا فى تفهمنا للخلية لأنه كما أشرنا فان الكشف عن الاعضاء الداخلية قد واكبه كشف عن الوظيفة التى يقوم بها هذا العضو وكما يقول احد علماء العصر الحالى: ان اختراع الميكروسكوب الالكترونى ادى الى ظهور توازن حقيقى غير زائف فى نمط التفكير البيولوجى.
وكان لاستعمال الميكروسكوب الالكترونى فى دراسة المخ أهمية عظيمة بالاضافة الى الكشف عن تفاصيل الخلايا الداخلية أشار الميكروسكوب الالكترونى الى تشابكات الخلايا العصبية Synapses وهكذا أعطى الميكروسكوب الالكترونى أهم دليل على الطريقة التى يؤدى بها المخ وطيفته، حيث أن عمل المخ يقوم أساسا على نقل الاشارات فى صورة طاقة كيميائية أو كهربائية خلال هذه التشابكات، وعلى الرغم من أن أول من أشار الى وجود تلك التشابكات بين الخلايا العصبية هو شيرنجتون Sherrington فى سنة 1897الا أن الميكروسكوب الالكترونى هو الوحيد الذى استطاع أن يظهر طبيعة هذه التلامسات بين الخلايا العصبية ومن اجل الوقوف على مدى صغر هذه التلامسات لابد من الاشارة الى ان طول مسافة الشق الذى يفصل بين خليتين عند تشابكهما يبلغ واحد على مليون من الملليمتر وحدث تطور آخر فى الميكروسكوبات هة ادخال نوع جديد من الميكروسكوبات يكون صورا للخلايا ذات أبعاد ثلاثية لسطح الخلية وهكذا أمكن رؤية وتجسيد الخلايا المبطنة لتجاويف المخ فى صورة نتوءات منتظمة ودقيقة وتساعد هذه النتوءات فى سريان السائل النخاعى وحركتها تشبه الى حد كبير أوراق العشب التى تداعبها الرياح.
واذا كان الميكروسكوب الالكترونى قد ادى الى رؤية اجزاء الخلية من خلال المنظور التشريحى فان التركيب الكيميائى لهذه البناءات بقى غير واضح ومن هنا كانت الحاجة الى علم الانسجة الكيميائى Histochemistry ويعتبر هذا العلم بمثابة القنطرة التى تربط الفاصل بين علم الكيمياء الحيوية وعلم الانسجة عن طريق التعرف على بعض المواد الخاصة.
وظهرت طريقة جديدة فى الصباغة أكثر تخصصا فى قدرتها على الكشف عن أنواع معينة من الخلايا، تلك الطريقة تقوم على اساس الكيمياء المناعية للأنسجة Immunohistochemistry وفى هذه الطريقة تستعمل أجسام مضادة Antibodies ضد مولدات المضاد Antigens الموجودة فى الأنسجة ذاتها وهذه الطريقة تتميز بدرجة عالية فى الحساسية من حيث القدرة على التعرف على انسجة معينة عن طريق مكوناتها المناعية وتطبيق هذه الظروف أدى الى الكشف عن عدد من الحزم العصبية المتميزة كيميائيا من حيث أنها تستعمل نفس نوع الناقل العصبى Neurotransmitter وهذه الحزم العصبية تسلك مسلكا معينا تعرف بنفس الطريقة بداياتها ونهاياتها وهكذا تمكن العلماء وضع المسار التشريحى للمسالك العصبية التى يفرز فى كل منها المواد الكيماوية الآتية: استيل كولين Acetyl choline والدوبامين Dopamine والنور ادرنالين Noradrenaline وغيرهما العديد من التبيدات العصبية.
وبعد أن اصطحبنا القارئ فى هذه الرحلة الطويلة التى امتدت عبر آلاف السنين كان لزاما علينا أن نشير الى بعض الملاحظات التى تدور حول العوامل المؤثرة فيه والمشكلة لمسار العلم فى مجال دراسة المخ.
أولا: انه لا غنى عن التذكير أن التراث العلمى يتأثر بالتيارات الاجتماعية والسياسية السائدة بالقيم الأخلاقية والدينية المنتشرة وان لم يكن الكاتب منتبها الى هذه العلاقة بصورة مباشرة الا أنه يمكن استنتاجها فى بعض المراحل التطورية فنجد ان الفراعنة قد تعرفوا على المخ من خلال فلسفتهم الدينية وكنت أود لو يشير كاتب المقال بصورة أوسع الى نظرة الفراعنة الى المخ وربما التقصير يرجع الى صعوبة الحصول على المراجع ان لم يكن هو تحيز للحضارة الغربية ضد كل ما هو شرقى أما فى العصور الوسطى فقد سيطر عليها فكر رجال الدين المتشدد، وقد وضعوا قيودا على البحث والتفكير وكان لذلك أثره فى توقف مسيرة الحضارة وبالطبع انعكس ذلك على دراسة المخ وعلى العكس حينما انفرجت قبضة رجال الكنيسة انطلقت الدراسات فى عصر النهضة وعصر التنوير وتعددت المناهج وكثرت المكاسب العلمية فى شتى المجالات.
واذا ما انتقلنا من التيارات العامة الى الحوادث الخاصة التى أثرت على مسار تاريخ دراسة المخ فاننا نجد أن هناك من العقول التى كان لها السبق فى تناول المخ بطريقة جديدة وكان هذا المنهج الجديد فى التفكير بمثابة فاتحة الى سبيل جديد من المعرفة حتى لو لم يثبت أنه صائب كل الصواب، هكذا فأن تفكير ويليس فى التقسيم تقسيما وظيفيا كان فاتحة الى تقسيم القشرة المخية على الأخص وغيرها من اجزاء المخ كما أن تفكير عالم علم الأمراض مورجاجنى من بادوا فى محاولة التوفيق بين الظواهر التشريحية والظواهر الاكلينيكية احدث تقدما بارزا فى علم الامراض العصبية.
واذا كان منهج التفكير قد اثر على تشكيل مسار البحث فى المخ فان الادوات التكنولوجية المستعملة فى الكشف عن المخ قد أثرت بصورة واضحة على النتائج فان اختراع الميكروسكوب قد ازال الحجاب عن عالم باكمله هو عالم الخلية وبالطبع فان الميكروسكوب الالكترونى قد احدث طفرة فى تفهم بناءات الخلية فأصبحت المكونات الداخلية للخلية مثل الغشاء والنواة بين التكوين والوظيفة فى هذه البناءات الصغيرة للخلايا وهكذا أزيح الستار بصورة متتابعة عن الكثير الذى كان مجهولا بالنسبة للانسان. ويحن نشير الى تقدم الوسائل الفنية لابد وان نشير الى تقدم علم صباغة الانسجة واستعمال الكيمياء المناعية للأنسجة كوسيلة حساسة لتمييز الخلايا عن طريق مكوناتها بصورة دقيقة.
وهناك أمر اثار انتباهى ولابد من الاشارة اليه هو ان مقولات القدماء وان كانت تبدو بسيطة حتى السذاجة فهى تحمل فى طياتها العديد من الحقائق وهؤلاء العلماء من أمثال افلاطون وأرسطو وهيبوقراط وغيرهم كانوا يصلون الى نتائجهم فى البحث عن طريق التفكير وليس التجريب ومع ذلك كانوا يصيبون الحقيقة فى كثير من الأحيان وأسأل نفسى هل يمكن أن يسمى ذلك بالحدس أو أن يقال ان هؤلاء العلماء قد استقام عندهم التفكير بحيث أنه كان يصيب الحقيقة دون الحاجة الى الملاحظة المباشرة ولا املك الا أن أسأل نفسى لماذا أصبح هذا المنهج مرفوضا واجد الاجابة ولكنى لا أقتنع لا بالاجابة ولا بالرفض.
وبالطبع ان أساس البحث فى المخ هو الانسان ولابد أن السائر فى سبيل البحث يجد أن الطريق مضنيا وطويلا وعزيزا، ولكنه كان يتحمل العبء ويستكمل المسيرة ليسلمها لمن يتلوه ويعبر كاتب المقالة عن المأزق الذى يقع فيه العلماء متمثلا علماء عصره فيسرد مقولة عن كاتب آخر اسمه شارل باباج Charles Papage الذى كتب كتابا فى تدهور العام فى سنة 1830 فقال: “ان العاملين بالعلم (يعنى فى بلاده بانجلترا) لابد وأن يكونوا قد كفوا عن الشكوى، منهم يعرفون أو لابد ان يكونوا قد عرفوا أن الفائدة من العلم قليلة فهو يؤدى الى القليل من الشرف (التكريم) وربما أقل من الفائدة” ومما يزيد من مأزق العلماء هو تجزئ المعلومات وتعددها بحيث أصبح من العسير ان لم يكن مستحيلا مثلا وشع تصور لوظيفة المخ الكلية مع هذا التشتت فى المعلومات الذى لابد وان يزيد من صعوبة الطريق لأنه يزيد من حيرة الباحث ويجعله يحس أنه مهما فعل فان النتائج ستكون قاصرة ولكن هؤلاء القوم الذين يأخذون على عاتقهم مسئولية تقدم مسيرة الحضارة لابد وأن يتحملوا مشقة الطريق وحينما اتساءل عن السبب الذى يدفعهم فى هذا الطريق أجد أنه لابد أن يكون سببا قويا ومستمرا ومتجددا وربما يكون ذلك النوع من الايمان الذى دفع اناس مثل غاندى وعمر المختار الى تحمل ما تحملوه من مشاق فى سبيل فكرة والتمسك بموقف.
[1] – ب. ل. لانتوس هو أستاذ فى علم باثولوجيا الأمراض العصبية بمعهد الأمراض النفسية بلندن.
[2] – لقد نشر هذا المقال فى مجلة “Psychological Medecine” أو الطب النفسى فى العدد رقم 13 لسنة 1983 ويقع المقال فى 11 صفحة من ص 255 الى ص 266 وتصدر هذه المجلة بانجلترا.
[3] – تقديم هذا الموضوع ليس ترجمة للمقال الأصلى ولكن هذه الأخيرة تكون مادته الأساسية مع الكثير من الاضافات.
[4] – ان المخ فى بنائه يتكون من جسم مصمت وأربعة تجاويف والاغشية المحيطة به والجسم المصمت ينقسم الى ثلاثة أقسام هى نصفى المخ الكروى والجذع المخى والمخيخ (النظر الرسم التوضيحى) أما التجاويف فهى أربعة: تجويف جانبى فى كل من نصفى الكرة المخى والتجويف الثالث ثم التجويف الرابع والاغشية ثلاثة.
[5] – هذه الكلمة مشتقة من الفعل “Cogitare” باللاتينية وهى تتضمن معنى توجيه واضطراب وحركة مفردات بالنسبة لبعضهم وهكذا فأن معنى التفكير هنا هو معنى عميق يمتد الى مستوى نفسى وبيولوجى معا فهو معايشة تبعث على الحركة والاضطراب والتوجيه.
[6] – الجسم الجاسئ هو كتلة الياف عصبية تصل بين نصفى المخ الكرويين.
[7] – اذا استعملت العدسات الاكروماتية وهى عدسات كاسرة للضوء دون ان تحلله.
[8] – ان صباغة الخلايا عملية ضرورية لتوضيح مكونات الخلية اذ أن البناءات التحت خلوية لها حساسية مختلفة بالنسبة للصبغات مما يساعد فى التعرف عليها وتوضيح حدودها.