الدين.. والتقدم
مهندس: إبراهيم عادل
ثمة قفزة كبيرة فى الصناعة والعلوم حققتها اليابان فى السنوات اللآخيرة، وتتبعها عن كتب شعوب جنوب شرق أسيا اللآخرى، ويصعب تفسير هذه الظاهرة كلية بالأسباب المادية الشائعة، وهذا المقال محاولة للتعرف على الدوافع (غير المادية) وراء هذا التقدم، واستطراد للتساؤل عن حالنا: وما الذى حدث لنا فجعلنا فى آخر الركب؟.. وهل أمامنا فرصة حقيقية؟..
نشهد فى هذا العصر تقدما كبيرا يكاد يشبه الطفرة لشعوب الشرق الأقصى فى مجالات العلوم وتكنولوجيا الصناعية. وكذا فى مختلف مجالات الحياة التى يرتبط التقدم فيها بالتقدم فى العلوم والتكنولوجيا، وا نمكن إلا أن نجد سؤالا يلح متحديا: كيف استطاعت هذه الشعوب احراز هذا التقدم فى ذلك الوقت القصير؟ هل كان ذلك يشبه للكم الهائل من المعلومات الذى استطاعت هذه الشعوب تجميعه وما صاحب ذلك من تقدم كبير وسريع فى تصميم الحاسبات والعقول الالكترونية، وتقدم كبير فى رياضيات تداول المعلومات، مما أمكن معه تجميع ذلك القدر الضخم من المعلومات وتنظيمه واستخدامه؟ أن الرأى العائد يرجح الاجابة بالايجاب، كما يضيف أن هذه الشعوب استطاعت بدأب شديد نقل علوم الغرب والتكنولوجيا الأمريكية بدقة تامة واعتبرت نقطة بداية تنطلق منها. وأنها استطاعت أن تستفيد من كارثة تدمير الصناعة اليابانية أثناء الحرب، ومن عدم وجود صناعة أصلا فى معظم بلدان الشرق الأخرى، إذ أن ذلك أتاح لها أنشاء صناعة حدينة بنظم جديدة وبآلات جديدو، غير مقيدة فى ذلك بميراث ثقيل من الصناعة التقليدية المرتبطة بنظم وآلات من طراز عتيق، تبدو هذه الاجابة مقنعة لأول وهلة، ولكنها تجر بالضرورة إلى تساؤل أخر: ألم تكن هذه المعلومات متيسرة للجميع بنفس الدرجة، ألم تكن هذه الظروف متاحة لشعوب أخرى أيضا؟ مما يجعل سؤالا آخر يفرض نفسه، هل وراء هذا التقدم الهائل إرادة للتقدم؟ وراءها دفعة روحية هائلة؟.. أن من يزور هذه البلاد ويختلط بالناس فيها، أو حتى يتاح له الاقتراب فى بلده- بدرجة كافية – من بعض مواطنيها، ليصعب عليه ألا يحزم بأن السر هو فى الإنسان نفسه وليس فى شئ أخر.
يجرنا ذلك إلى نظرة موضوعية ومتأنية إلى أديان الشرق الأقصى – بفرض أن الدين كان دائما مرتبطا بالتقدم – وليس هذا مجال دراسة مقارنة للأديان وأن كان سيجرنا بالضرورة إلى الحديث عن بعض السمات المشتركة لأهم أديان الشرق الأقصى وهى: الهندوسية والجينية والبوذية والكونفوشيوسية والشنتو.
طبيعة الآلهة وفكرة الألوهية:
تتميز الآلهة بالقدرة، ولكن قدراتها محدودة (ليست لا نهائية) كما أن ارادتها ليست نافذة دائما، فالنصر فى الحرب ليس مضمونا تماما بالاستعانة بألهة الحرب ولا سيما وأن هناك ألهة أخرى متداخلة فى الأمر، وسقوط المطر ليس مضمونا تماما إذا لجأنا للآلهة، كما أن عدم سقوط المطر لا يعنى دائما أن الآلهة لا تريد بل قد يعنى أنها لا تستطيع.
– كثير من الآلهة لها صفات شبيهة بصفات الإنسان، فهى تحزن وتفرح، وتصادق وتعادى وتغضب وترضى، ومن الممكن استمالتها واكتساب صداقتها ومن الممكن خداعها أيضا.
– هناك العديد من الآلهة وهناك تناقض أحيانا بين إرادتها، وعلى الإنسان أن يوائم بين ما يريده وبين طباع هذه الآلهة وإرادتها وأن يقرر أسلوب عمله على ضوء ذلك.
– هناك ما يسمى (بالإنسان الاله) و (النصف اله) و (ابن الاله).
– بوذا وكونفوشيوس هم بشر حقيقيون كل منهما وصل شخصه إلى مرتبة عليا من الاحترام والتقديس.
والنتيجة: أن الإنسان إزاء ارادات الآلهة المتصارعة والتى لا يتصف أحدها بالتفوق الساحق، يمتلك حرية كبيرة وقدرة لا يستهان بها، وهناك أمثلة فى الأساطير اليابانية عن تحالف الإنسان مع آله الشمس لهزيمة آلهة العواصف واحراز النصر عليها – ذلك النصر الذى لم تكن آلهة الشمس بقادرة عليه وحدها.
تحدى الآلهة والتمرد عليها ممكن بل أن تغيير اراداتها – بمعنى تغيير القدر – ممكن أيضا، مما يستبعد تماما فكرة الحتمية ويزيد من مسئولية الإنسان ويؤكد دوره فى صناعة القدر ذاته.
يبدو أن الصلة الحية بالآلهة المتعاية خارجة عن الإنسان والمتمثلة أحيانا فى (أنسنة) الآلهة، قد يؤدى إلى قوة فكرة الاله داخل الإنسان، أو مسئولية الإنسان غير المحدودة، والمثال على ذلك هو بوذا نفسه، فبوذا هو إنسان حكيم لم يدع الألوهية ولم يدع نزول وحى عليه ولكنه اكتسب حكمته وقدسيته بعد طريق طويل من المعاناة والتفكير والتأمل والممارسة، اعتبر نفسه خلال مراحله مسئولا عن البشر جميعا وأثر فيهم بصدقه مع نفسه ومعهم.
الأساطير والخرافات فى هذه الأديان:
– تمتلئ هذه الأديان بالأساطير والخرافات والأحداث التى تجافى المنطق، مما يدعو إلى النظر أن هذه الأديان لا تتخاطب مع التفكير فقط فى الإنسان ولا تتعامل مع المنطق وحده فيه، وأنها تتعامل مع الإنسان فى ذلك الجزء منه الذى ينظر إلى ما وراء المنطق، فى الرمزية الكامنة وراء أشخاص الآلهة، وفى الايقاع الروحى المختفى فى الأحداث البسيطة اللامنطقية.
– يبدو أن المضمون الموضوعى للأساطير عن الآلهة لم يكن هو العامل المسيطر، بل كان العامل المسيطر هو علاقة الإنسان الشخصية بما ترمز إليه الآلهة، وموقفه مما ترمز إليه أحداث الأساطير.
– بدون هذه النظرة سوف يصعب علينا فهم موقف عالم أو مهندس أو مفكر يقدس البقرة أن لم يكن ينظر إلى معنى الأمومة والعطاء وراء هذا التقديس، أو يقدس الشمس أن لم يكن ينظر إلى معنى الخلق والمداومة وراء تقديس الشمس.
قابلة الأديان للاختلاط والتطور وحرية التفكير:
– إن أكثر مما يعجب له من ينظر إلى تاريخ أديان الشرق الأقصى هو الاختلاط العجيب بين هذه الأديان، وتغيرها المتلاحق، وقابليتها للانتقال والانتشار والاختلاط وقدرة كل منها على التواجد والبقاء جنبا إلى جنب مع الأديان الأخرى، والمثال على ذلك هو أن البوذية نشأت فى الهند ولكنها ازدهرت فى الصين واليابان، بعد أن اختلطت بالأديان القديمة فى كل منهما، لذا فالبوذية فى الهند غيرها فى الصين وغيرها فى اليابان.
– النظرة الغالبة هى عدم تكثير أو احتقار أى دين مما ساعد على حرية الانتقال من دين إلى آخر. وحرية اختيار أجزاء من أحد الأديان لتطعيمها بأجزاء من دين أخر وقد يكون ذلك مما ساعد على (تجديد شباب) هذه الأديان وبقائها حتى الآن بالرغم مما تحتويه من تناقضات.
– لا يوجد حظر على الفكر الحر، بل أن التفكير والتأمل عبادة، وبوذا وصل إلى الحكمة (الاستنارة) عن طريق التفكير الحر والتأمل المستقل، وبالتعارض مع جميع الديانات السابقة، فالإنسان يكتسب الحكمة بالفكر والتأمل أساسا وليس بالتلقين، ويؤذى هذا النوع من التفكير إلى اكتشاف الأفكار الصائبة الجديدة كما يؤدى إلى ما يمكن تسميته بإعادة اكتشاف الأفكار القديمة، مثل إعادة اكتشاف بوذا لما دعاه القانون الأول للحياة (وهو من الخير يجب أن يأتى الخير، ومن الشر يجب أن يأتى الشر) فالأفكار قد تكون معروفة بل ومبتذلة ولكن إعادة اكتشافها بتأملها ووضعها تحت الاختبار يكشف عن أعماق أخرى لها ويجدد من حياتها ويجعلنا نعلم أننا لم نكن نعلمها وأن كنا نرددها.
امتزاج الديانة بالفن والفلسفة والحياة:
– تمتزج الديانة بالفن امتزاجا كبيرا. وفى اليابان يعتبر الشئ مقدسا إذا كان شيئا جميلا ومحبوبا ويمتزج معنى القدسية بالجمال والحب امتزاجا غريبا، وتكتسب الأشياء الجميلة القدسية لجمالها، والأعياد الدينية هى مهرجانات جميلة للفنون، يرقص الناس فيها ويغنون على أنغام الموسيقى فى معابد جميلة العمارة مملوءة بالتماثيل والرسوم الجميلة المقدسة، لذا فإن الدين الذى يخاطب الوجدان يوقظ فى نفس الإنسان أرقى المشاعر وأعلى القيم.
– البوذية والكونفوشيوسية هى بالدرجة الأولى تيار من الأفكار الفلسفية القابلة للتجدد، ولما كانت الفلسفة تسمح بالتفكير الحر بل وتقوم عليه، فقد ساعد ذلك على استمرار تجديد الديانة.
– الدين عند اليابانى هو أسلوب الحياة، وليس هناك خط فاصل بين ما هو دينى وما هو دنيوى، فالدينى دينوى بالضرورة، والإنسان المتدين هو: الذى يحيا حياة أفضل وأكثر فائدة.
السؤال المرير:
إن المناقشة السالفة لأديان الشرق الأقصى ليست دفاعا عن هذه الأديان، ولا ينبغى أن تجرنا فكرة “أن وراء تقدم الشرق الأقصى قوة روحية” إلى استنتاج أن أديانهم أفضل من غيرها، فمن ينعم النظر يجد أن العجيب حقا أن ايجابيات هذه الأديان التى سبق مناقشتها أنما هى صفات لجميع الأديان الأخرى، وقد تكون من أهم خصائص الدين الاسلامى بصفة خاصة، والأعجب أن اليابانيين قد استطاعوا بالرغم مما فى أديانهم من بعض النقص والتناقض أن يطوروا معها، ولم يجعلوا من الدين قيدا على تطورهم، بل جعلوا منه دفعة هائلة للتقدم، أما المؤلم حقا فهو كيف أننا بالرغم من احتواء ديننا الاسلامى على ذخيرة هائلة من الحضارة والفكر والفلسفة والفن جعلنا الدين ذريعة ندافع بها عن تقاعسنا أحيانا، ومهربا نهرب فيه من مسئوليتنا وقيمنا الإنسانية أحيانا أخرىو وقيدا يكبل حركتنا وتطورنا فى معظم الأحيان.
ظهر الاسلام فى مجتمع من أشد المجتمعات فقرأ وتخلفا، وحين تقوضت امبراطوريات قوية كان الاسلام قادرا على أن يجعل الناس يغيرون ما بأنفسهم ويبثون الحضارة والتقدم فى أركان الأرض، مع أن الاسلام لم يدع أنه دين جديد، بل هو جاء متمما لجميع الديانات، يدعو إلى الإيمان بما أنزل على محمد، كما يدعو إلى الإيمان بما أنزل على إبراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط، وما أوتى موسى وعيسى، وما أوتى كل الأنبياء، لا يفرق بين أحد منهم. فالدين عند الله هو الاسلام. أن سؤالا مريرا يطرح نفسه: ألم نكن خير أمة أخرجت للناس؟ كيف أذن أصبحنا من أكثر أهل الأرض تخلفا؟.
إن الذرائع الشائعة عن الاستعمار – الصريح منه والمقنع والحرب (شبه الصليبية) التى يشنها الغرب علينا علنا وسرا قد أصبحت – بالرغم من حقيقتها – مبتذلة، لأن الاكتفاء بها ينطوى على إهانة ضمنية لنا فحواها أننا عاجزون ازاء الصراع الطبيعى الذى يفرضه كل عصر، فلابد لنا اذن – ان كنا جادين – من وقفة نبحث فيها عن عيوبنا داخل أنفسنا.
الفكر والحرية فى الاسلام:
ان تاريخ اختلاف الرأى – من إنسان لآخر – قديم قدم ظهور الإنسان نفسه، ولكن تاريخ عقاب من يجرؤ على مخالفة رأى الجماعة قديم أيضا قدم ظهور المجتمع الإنسانى، ولا يزال هذا العقاب قائما حتى الآن بالرغم من ادعائنا بالتقدم، كان العقاب قديما بالقتل أو الجلد أو غير ذلك من العقوبات البدنية، أما الآن فقد تطورت العقوبة لتتراوح بين عزل المخالف وازدرائه وحرمانه من ابداء الرأى، مما قد يعنى أحيانا قتله كمفكر يرى حياته فى التعبير عن فكره، وقد تشتد العقوبة – لاسيما إذا كان الرأى المخالف فى أمور الدين – فسرعان ما يصل الأمر إلى الاتهام بالزندقة والتجريف التى واجهت الكثير من المفكرين الذين حاولوا بجرأة اثراء الفكر الدينى (سواء أصابوا أم اخطأوا)، والحجج التى تتخذ لتبرير هذا القمع تكاد لا تخرج عن: (لا جديد فى الدين.. الاسلام هو خاتم الرسالات وقد أتمه محمد… لا اجتهاد فيما فيه نص)، لذا فطريق السلامة – لمن أرادها – يمر دائما باتباع الرأى السائد، وهو ما أجمع عليه الكافة (وما اصطلح عليه جمهور العلماء)، لقد آن لنا أن نعلم أننا بذلك نرتكب جريمة، هى جريمة قتل لأعز ما وهب لنا، وهو عقلنا وأصالة فكرنا، فإذا كان وحى السماء قد انتهى باتمام الاسلام، فإن ذلك لا يعنى نهاية دور الإنسان كمفكر، بل على العكس فانقطاع وحى السماء، إنما هو علامة للإنسان على بلوغه لرشده، وتكليف له بممارسة مسئوليته واعتبار المتخلى عنها متخليا عن أغلى جزء من إنسانيته.
إن أزمة الفكر الدينى هى أحد أوجه أزمة الفكر فى مصر والعالم العربى والاسلامى، وأحد معالم هذه الأزمة أن الدين قد اعتبر موضعا شائكا يكاد الفكر فيه يكون حكرا على المتخصصين أو من يسمون (رجال الدين)، ولم يعد الفكر الدينى مفتوحا لكل مجتهد، كما أن هذا المجتهد – إذا وجد – فعليه أن يجتهد فى حدود معلومة ومسبقة، ذلك إذا كان يؤثر السلامة ويريد تجنب المزالق والمهالك، فندر لذلك ما يمكن أن نسميه فكرا دينيا أصيلا، والأصل فى الاسلام أنه لا يوجد ما يسمى برجل الدين، ولم يوجد فى صدر الاسلام من كان يكسب قوته بالاشتغال بالدين، فالدين مسئوليى كل إنسان، والمسلمون فى صدر الاسلام كانوا يحيون الدين ولا يتخذونه حرفة، وإذا كان المبرر الذي يساق لظهور رجل الدين المحترف هو تلهى الناس بدنياهم عن دينهم وعدم تفقههم فيه، وحاجتهم لذلك المتخصص المتعمق الذى يعلمهم أمور دينهم، فإن العكس قد يكون صحيحا أيضا بنفس الدرجة، أى أن ظهور رجل الدين المحترف قد أسهم فى جعل الناس يتركون الدين لرجاله ليشتغلوا هم بالدنيا، فأصبح ذلك جزءا من مأساة فصل الدين عن الحياة، كما أن رجل الدين المحترف الذى يكسب قوته من عمله بالدين عرضة دائما لشبهات محددة: الأولى أن رزقة ومستقبله مرتبط بالسلطة ومعتمد على رضاها، وهو فى ذلك عرضة دائما لشبهة استخدا الدين فى الدفاع عن السلطة والنظام القائم، وهو لذلك قد لا يجرؤ على انتقادها وتقويمها حين يجب عليه ذلك، ولا يبطل هذه الشبهة وجود بعض من رجال الدين العظام ممن تجرأوا على النقد والتقويم وساهموا بذلك فى الاصلاح، إذ أنهم قلة نادرة، الأمر الثانى أن رجل الدين حين ينقطع للدين ويهجر الاشتغال بمهنة أو حرفة، ينغلق على نفسه ويفقد بذلك رابطة هامة تربطه بالمجتمع ويصبح اهتمامه محدودا فى مشاكل قد لا تكون هى ما ينقص الناس وما يحتاج إليه المجتمع وبذلك يبتعد عن الجوهر الحقيقى لحياة مجتمعه ويساهم فى الانشقاق بين الدين وواقع الحياة اليومى.
إن كبت الفكى الأصيل لا يظهر عادة صريحا، بل هو يختفى وراء شعارات وستائر من المصلحة العامة أو التمسك بالدين، فيختفى أحيانا وراء ستار حماية الدين من الملحدين والمحرفين والمتطرفين، وهو اتجاه يدل أساسا على ضعف ثقة من يمارسه فى قضيته واقتناعه الداخلى بأنها قضية خاسرة، والجماعات الدينية المتطرفة – وقد وصل بعضها لدرجة الاجرام والقتل – هى بعض نتاج هذا الحظر على الفكر بدعوى حماية الدين والمجتمع، وعدم السماح للفكر بالحوار والتفاعل مع (الفكر الأخر) فى جو من الحرية، إن الفكر السلم لا ينشأ نتيجة لحدس ثاقب من أحد المفكرين يكشف له حقيقة الأمور بأبعادها وأعماقها، فينتج مجموعة من الآراء والأفار الثابتة، بل لابر للفكر السليم أن يكون دائم الحركة، ولابد له من تفاعل واختبار واحتكاك بين الفكر (والفكر الأخر)، وبذلك يكون (للفكر الأخر)- وحتى ما كان منه فكرا متطرفا – دوره البناء فى نشوء التيار الفكرى الصحيح، أن الفكرة الأساسية للكثير من الجماعات الدينية المتطرفة هى (رفض المجتمع بشكله الحالى)- وبصرف النظر عن الحلول المتطرفة التى أنتهجتها بعض هذه الجماعات فهذه الحلول ذاتها راجعة (جزئيا على الأقل) إلى انقطاع الحوار بين الفكر و(الفكر الآخر)، ففكرة (رفض المجتمع بشكله الحالى) هى فكرة جيدة ومفيدة، وهى نابعة من حاجة أصيلة فى كل إنسان للتعبير عن عدم رضاه عن الواقع والطموح للارتفاع فوق هذا الواقع، وهذا الرفض هو نقطة البداية لكل ثورة أو اصلاح فكرى، بشرط السماح لذلك الرفض بالتفاعل مع الواقع والاصطدام بمحاولة التطبيق، ثم إعادة التصحيح، والمثل على ذلك هو موجة جماعات (الهيبيين) التى ظهرت ثم انحسرت فى المجتمع الغربى، وهى قائمة أيضا على نفس الفكرة وهى رفض المجتمع بشكله الحالى، وإذا نحن قيمنا الموقف الآن بعد انحسار هذه الموجة لوجدنا أن اطلاق سراح فكرة رفض المجتمع لتتفاعل مع واقع هذا المجتمع، قد ألقت الأضواء على الكثير من قيم هذا المجتمع وكشفت الكثير من السلبيات القائمة فيه، أن (الفكر الآخر) فى جميع المجالات بما فى ذلك الدين، وبما فى ذلك الفكر الذى قد يبدو متطرفا أو حتى ملحدا، قد يساهم فى خلق نقطة بداية للاصلاح الفكرى والدينى، وقد يساهم فى جعل الإيمان أكثر عمقا.
كما يختفى أحيانا أخرى وراء (ستار آخر) – وهو ستار حديث الظهور – وهو القول بأنه لا سياسة فى الدين – ولا دين فى السياسة، والمبرر الذى يساق مع هذا القول هو تحرير الفكر الدينى من نفوذ السياسة وإعلاء السياسة فوق التعصب الدينى، إلا أن باطن الأمر وواقعه فى معظم الأحيان هو احتماء السلطة وراء الدين من القيم التى يدعو إليها الدين ذاته، وتطويع هذه القيم ولى عنقها لتلائم السلطة وتحميها، وتدجين أى مفكر دينى وتجريده من سلاحه الطبيعى وهو صلة الدين بالحياة والواقع، فالدين إذا لم يكن قوة حية متحركة ومحركة ونابضة فى حياتنا اليومية سوف يتحول إلى كلمات باردة جامدة تحفظ وتردد فى المناسبات الدينية، ولابد للدين – لكى يكون دينا – أن يمتزج بعلاقاتنا مع أنفسنا ومع أسرتا ومع عملنا ومع حكامنا، وهذه هى السياسة فى مبدأ الأمر ونهايته. أن القيم الدينية أن لم تتجسد فى واقعنا الحى كعلاقات وأعمال يومية سوف تتحول إلى تمائم فارغة من القيمة، وفصل الدين عن السياسة هو جزء من فصل الدين عن الحياة وتحويله إلى جثة هامدة.
إن اغلاق باب الاجتهاد وكبت الفكر الأصيل فى الدين تحت أى ستار هو تشويه للاسلام وتحويل له من دين يحكم العقل إلى دين يلغى العقل، من دين ينهض بالحياة إلى دين ميت موضوعه الرئيسى هو الموت، لا يتحدث إلا عن الموتى وإليهم.
فكرة الألوهية:
فكرة الألوهية هى فكرة متكاملة، وإذا أمكننا أن نقسمها إلى قسمين كل منهما منفصل ومجرد عن الآخر، أصبح كل منهما ناقصا ومختلفا عن الفكرة الأصلية:
1- فكرة الاله المتعالى: وهو اله مفارق عال، غريب ومنفصل عن الإنسان، وهو ذو قدرات لا نهائية، أما الإنسان فهو طبقا لهذه الفكرة عاجز تماما، سلبى تماما، ومنساق تماما، ولما كان هذا الاله خارج كلية عن الإنسان – ولا يوجد له أى أثر فى نفسه، فإن الأمر يبدو وكأن الإنسان قد استأصل من نفسه كل صفاته وقدراته الحية وخلعها على وجود غريب عليه، فالقدرة والخلق والخير من صفات الاله فقط وليست من صفات الإنسان، إذ أن الإنسان عاجز بطبعه شرير بفطرته، ولا شك أن هذه الفكرة تخلص الإنسان من خوفه الضخم – اللاشعورى على الأغلب – من تحمل مسئولية القدرة والاختيار، وهى فكرة لها صلة بالوثنية، فعابد الصنم يصنعه بنفسه ويخرج من نفسه كل قوتها ويصف الصنم بها، وينظر إليه كأنما هو عال عليه فيعبده ويخضع له، والإنسان لا تربطه بهذا الاله أى صلة حية، كنتيجة لذلك يفقد الإنسان كل صلة حية بينه وبين الكون فالكون مجموعة من الأشياء الجامدة، لا تحتوى على حياة أو روح، صنعها ذلك الاله، وعلاقة الإنسان بها هى علاقة امتلاك أو خوف، والآخرون أيضا لا تربطهم بالإنسان أى علاقة حية، فهم أيضا فى نهاية الأمر أشياء جامدة، قد يمتلكهم الإنسان ليحقق بهم أغراضه أو يمتلكونه ليحققوا به أغراضهم.
2- فكرة الإنسان الاله: وهى الحاد ينفى وجود الله، ويجعل الإنسان حرا حرية مطلقة، مسئولا مسئولية مطلقة، ولكنه وحيد وشقى وممزق بين هذه الحرية والمسئولية اللانهائية وبين قدراته المحدودة وعمره الزمنى المحدود.
فكرة الألوهية فى الاسلام:
فكرة الألوهية فى الاسلام هى فكرة كلية متكاملة تحتوى على عنصرين ممتزجين، إذا جاز لنا فصلهما للدراسة – لكان عنصر منهما داخليا فى الإنسان ذاته، لا يجوز له أن يفقد الصلة بالعنصر الآخر الخارجى وهو فكرة الإنسان عن الله المتعالى:
فكرة الاله داخل الإنسان:
وهى مسئولية الإنسان اللامتناهية عن باقى البشر، بل وعن الكون كله، وهى طموحه المطلق نحو الكمال، وهى قدراته المبدعة الخلاقة، فالانسان فى الاسلام مخلوق يتصف بالألوهية: فقد فطره الله على فطرته وكرمه بعلمه فعلمه ما لم يعلم، واختار الإنسان المسئولية فحمل الأمانة التى عرضها الله عليه – تلك الأمانة التى أبت السماوات والأرض والجبال أ، تحملها – لذا فقد جعله الله خليفته فى هذه الأرض، واستحق أن تسجد له الملائكة. هذا هو الإنسان فى الاسلام وتلك هى صفات الألوهية فيه، وهى تختلف عن فكرة المسيحية عن المسيح من أنه إنسان واله، فالمسيح شخص أخر (ليس أنا ولا أنت) يسقط عليه الإنسان صفات الخير لينزعها من نفسه ويلصق بنفسه الشرور والآثام التى تستحق التكفير والندم، والمسيح هو ذلك الآخر الذى ضحى بنفسه من أجل الناس الذين صلبوه ليخلصهم، أما فى الاسلام فالإنسان الذى يتصف بالألوهية هو الإنسان العادى (أنا وأنت). وهذه الفكرة تختلف أيضا عن بعض الحالات الصوفية التى يشعر فيها الصوفى بالتوحد مع الله، وهى حالة قد تشبه حالة تقمص المحب المحبوبه.
فكرة الله المتعالى فى الاسلام:
وهى فكرة ضرورية لتعرف الإنسان على الله، فالوجود لا يتجلى إلا إذا كان خارج الذات العارفة وعلى مسافة منها، كما أن هذا التخارج هو شرط أيضا لتعرف الإنسان على ذاته وعلى فكرة الله داخلها، والإنسان يرتبط بالله المتعالى بصلات حية نابضة فهة (لله وهو راجع إليه) والله أقرب إليه من حبل الوريد، وهذه الصلات وهذا القرب يجعل فكرة الله المتعالى ضرورية لنمو فكرة الله داخل الإنسان، وبالتالى لتكوين الفكرة الكلية للألوهية، والأمر فى ذلك شبيه بدور الأب للطفل، فالأب يمثل المسئولية والالتزام خارج النفس، وهى مرحلة ضرورية لنمو وتكوين هذه المسئولية والالتزام داخل النفس، وحيوية علاقة الإنسان بالله داخليا وخارجيا تجعل العلاقة مع الناس علاقة حية، فالناس احياء وليسوا أشياء، والكون كله حى.
هذه هى فكرة الله فى الاسلام، فكرة كلية متكاملة، لكننا نقدم لأطفالنا فى المدارس وللناس فى المساجد بدلا منها صورة أخرى، صورة ناقصة عن اله خارجى متعال ومنفصل عنا، على شاكلة اله اليهود، يعذب من يريد عذاب امراة أبى لهب، ويغرق من يريد اللذائذ من حور عين وطعام وشراب وملبس فاخر، فنزع بذلك بذرة التمزق فى نفوس أبنائنا ونبث فيهم الانهزام والسلبية، أن أحدا من أطفالنا فى المدارس لا يعلم كيف أن الله فى هذه الأرض، ولماذا علمه الله بعلمه، وما هى تلك الأمانة التى قبل أن يحملها.
كيف حدث ذلك – وهل لا زالت أمامنا فرصة حقيقية؟:
إذا أردنا أن نلهث وراء تقدم الغرب فقد فات الأوان لذلك، فالعالم اليوم ينقسم إلى قسمين: قسم متقدم وقوى وهو يزداد تقدما وقوة، وقسم متخلف ضغيف يزداد تخلفا وضعفا، فالقوة تجلب المزيد من القوة، والضعف يترتب عليه المزيد من الضعف، هذا هو القانون وذلك هو الواقع، لكن رجالا فى صدر الاسلام كسروا القانون والواقع، فاخترقوا حاجز الضعف والتخلف، فعلى حين كانت امبراطوريات قوية تنهار لأنها تأكلت من داخلها، كان الاسلام ينتشر بسرعة هائلة، ولم يكن انتشار الاسلام بقوة السلاح، فالسلاح غير قادر على بث القيم والمبادئ، بل كان الأمر شعلة الهية مضيئة فى صدر الإنسان. ثم دالت دولتنا بعد أن كنا خير أمة أخرجت للناس. فكيف حدث ذلك؟ أنها قصة محزنة: لقد فقدنا الصدارة حين فقدنا المعنى الحقيقى للدين، حين أفرغنا الدين من الحياة وجعلناه حرفة وكهانة، فأصبحت الحياة فارغة من أى معنى، وحين قتلنا مفكرينا، وعبدنا حكامنا فأفسناهم وأفسدنا أنفسنا، وحين هزمنا أبناءنا وأصبناهم بالرعب والشلل فحرمناهم حق التفكير وادارة أمور دنياهم ودينهم، حين تنازلنا عن حقنا وواجبنا فى الخلافة وحمل الأمانة، عندئذ عظم عندنا شأن التفاهة والزيف، وهان علينا شأن الحق والأصالة فهانت نفوسنا عليا وعلى الناس فأصبحنا فى ذيل القائمة.
لقد طال ظلمنا لأنفسنا، فضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت علينا أنفسنا. فهل آن لنا أن نعلم إلا ملجأ من الله إلا إليه؟.
إن فرصتنا الحقيقية الوحيدة هى إعادة الحياة للدين ومن ثم إعادة المعنى للحياة، وليست فى اللحاق بالتقدم المادى للغرب، (وقد يأتى التقدم المادى بصورة مختلفة وكنتيجة جانبية)، فرصتنا الحقيقية الوحيدة هى فى البحث داخل أنفسنا تحت الرماد عن جذوة قابلة للاشتعال، فرصتنا فى الإيمان: بمعنى الثقة فى الله داخل أنفسنا التى هى مفطورة على فطرته، وبمعنى العمل بهذه الفطرة، وأن نعلم ونعمل بأن قدرنا هو حمل الأمانة وخلافة الله فى هذه الأرض.