قصة قصيرة
أغنية حزينة عن طائر مذعور
السيد زرد
اليوم صحا من النوم متأخرا – على عادته – شاعرا بنفس الصداع والخمول المصاحبين له فى الآونة الأخيرة. بتكاسل بدأ الواقع يفد الى ذهنه: أنه للآن لم يقم من سريره الذى بالكاد يسعه .. مكتب خشبى متهالك على يمين السرير .. نافذة صغيرة بين السرير والمكتب، وكرسى قديم يوجد دائما فى نفس المنطقة، قد يتقدم خطوة نحو المكتب فـ “يكون” مقعدا، وقد يتأخر أخرى فيقترب من السرير ويكون مائدة للطعام .. على الأرض الأسمنتية فى تلك الناحية المقابلة للنافذة توجد آلات الطبخ: “حلة صغيرة”، “وابور جاز” بضعة “أطباق” قذرة على الدوام، بقايا طعام، موقد كهربى كثير العطب هو أبرز معالم التكنولوجيا بالغرفة .. وهناك “طبق بلاستيك” كبير يستخدم فى غسل الثياب والوجه واليدين الى المرفقين أن شئت.
تقلب فى فراشه بكسل، فتطايرت الأتربة من “البطانية” التى يتغطى بها، وظهرت دقائق الغبار بفعل الضوء داخل الحجرة من خلال لوح الزجاج القائم بأعلى الباب .. الباب الذى لو سولت لك نفسك أن تفتحه!لظهرت معالم السطح، والتى هى عبارة عن فراغ . ثم ماذا؟ فراغ. ثم ماذا؟ “عشة فراخ” “الست أم حامد” صاحبة المنزل، وبجوارها تنتصب دورة المياه فى كبرياء أشم، والتى تملك الكثير بحكم وظيفتها، مما يجعلها تزهو وتتألق .. اضافة الى أن إلها كسولا قد اصطنعها لنفسه مستقرا ومقاما .. انه الزير، ذلك الاله المدرك لأهميته والجالس دوما باسترخاء على عرشه الصغير وكرشه بارز أمامه، منتظرا عباده كى يغدوا عليه مبدين طاعتهم، وهم فى كل الأحوال لا يتعدون الاثنين: “حاملة الجرار” الصغيرة التى تحمل يوميا اليه قربانها فتصبه فى جوفه حتى يشبع دون أن تلقى منه جزاء ولا شكورا، والعبد الثانى المصطفى الذى اختصه الاله المستبد بكل عطفه وعطاياه، هو الكسول – شبه الاله – ساكن الغرفة المتفردة، الذى لا يفد اليه الا كلما احتاجه. يضع الكوز الفارغ بداخله، فيخرج الكوز وعلى جانبيه يسيل الماء .
بحركة واحدة، غادر السرير، وطفق يدندن باحدى الطقاطيق العتيقة. لقد خرج توا من شرنقة “الحلم” التى ظل كامنا فيها اثنتى عشر ساعة. وها هو بقليل من الماء ينثره على وجهه ينفلت تماما من زمن “ما لن يكون” ويلج زمن “ما هو كائن” .. وهو فى الحالين يشعر بالانتحار .. يتأوه .. يتلبثه حزن شفيف، حزن صباحى ليس كأحزان المساء التى تطمس كل معالم الروح بصبغتها القائمة .. يسكب قليلا من الماء فى جوفه، فتصحوا آلات الجوف الفظيعة، ويتمطى الجوع. لو لم تكن أحاسيسه بمثل هذه الحدة؟ انه كائن أحادى المشاعر، فهو عندما يحزن لا يشعر سوى الأسى، وعندما يفرح لا يحس سوى الغبطة .. وها هو الجوع يفترش كل مساحات الاحساس لديه، ويتكاثر بداخله كخلية سرطانية، فيصبح هو نفسه “جوع” بل أن الجوع يتسرب عبر مسام جلده، وينساب الى أرض الغرفة، ويزحف على الجدران ويغطى الفراش والمكتب، وها هى ذى الغرفة جوعى .. فلتمتد يده سراعا الى كسرات من الخبز مغموسة فى أى شئ، ليتبلغ بها حتى يشبع ويشبع معه العالم قبل أن يبدأ الكون فى الصراخ من ألم الجوع .. يقينا أن الأرض تزلزل حين تكبت رغبتها.
ماذا يستطيع أن يفعل المرء حين يستشعر حصارا، وفى نفسه بعض من غضب؟. ليس أمامه سوى أن يقاوم. وهذا ما يفعله صاحبنا ساكن الغرفة المتفردة. يحصن قلعته بالكآبة ويشحن روحه بمزيد من الأفكار الاشد كأبة.. ويقاوم، رغم ادراكه شبه اليقينى – اذ لا شئ يقينى لديه – بعدم جدوى المقاومة.. وها هو يقوم بأول طقوس المقاومة البطولية، فيعد كوبا من الشاى القاتم يجرعه أثناء مطالعته لجريدة الأمس، والتى يكتشف بعد مدة من المطالعة أنه قد أشبعها قراءة فى اليوم السابق.. فلا يجد أمامه سوى أن يتذكر زمن “ما كان” وتتفجر براكين المرارة فى نفسه، فيدندن بالطقطوقة العتيقة.. ويتأوه، شاعرا بالاندحار، غير قادر على ادانة نفسه أو تبرئتها .. فقميصه قد من قبل ومن دبر.
جلس الى المكتب يقرأ فى كتاب متجاهلا العالم، ومحاولا أن يبدو غير مكترث، بينما هو يتلظى قلقا بالترقب والتخمين .. يستحضر كل مفردات الوجود، ليعيد مزجها مرات ومرات عله يصل الى سر “التوليفة” التى تجعل من الوجود شيئا جديرا بأن يوجد انه غير مكترث انه ليس قلقا انه لا يترقب .. أو هكذا يحاول أن يبدو، حتى لا تكشف حاله اى عين شريرة وقد تكون مختبئة هنا أو هناك، فتسخر منه .. انه فوق العالم وأفضل من باقى الموجودات، ولا يهمه فى شئ أن تسخر منه عين شريرة أو عين خيرة، ولكنه لا يحب أن يحدث هذا، فقط لا يحب .. وقد يكون هذا هو السبب فى انه لابد وأن يصطدم كلما سار فى الطريق بواحد من المارة، حتى لو لم يكن فى الطريق سواهما، فيحس مزيدا من الاندحار، وتتوارد على ذهنه – دونما سبب – صورة الفأر حين يعميه انذعر فلا يجد سوى أقدام الناس يتخبط فيها فكر ساكن الغرفة : “لماذا لا أكون سعيدا الآن؟! فلأحاول أن أكون سعيدا” حاول ساكن الغرفة، لكنه فشل .. بحث الأمر اكتشف أن مثانته ملأى بالبول، وأن المرء لا يستطيع أن يكون سعيدا ومثانته ممتلئة بالبول! .. قرر أن يسجل هذه الفكرة ضمن خواطره فتح باب الغرفة وانسل منها محاولا اتقاء الاشعة الصادرة من الشمس ومن عيون الخلق المنبثين فى النوافذ وعلى الاسطح . رجع الى غرفته وهو يبتسم ببلاهة وقرر أن يلج فورا زمن “ما سيكون” ترنحت الطقطوقة العتيقة فى فمه واكتسى لسانه بالمرارة والجفاف، ومكنسته البالية ابت أن تحلق به فقرر أن يبادر بالهجوم .. بحماس اعد فنجانا من القهوة أخذ يحتسيه ببطء، وهو يركز فكره .. انه – وهو لديه الشجاعة لأن يعترف بهذا – حين يرى شيئا جميلا، تتوارد الى ذهنه فكرة انه يرى شيئاً جميلا، وبدلا من أن يستمتع بالجمال الحى الماثل أمامه، يسرح مع فكرته الشاحبة والتى تزداد شحوبا كلما لاكها، وهنا – هكذا فكر – تكمن العلة.
بهمة غير مألوفة منه، أخذ ينفذ مخططه. بدأ بتمشيط شعره الأجعد، الذى يجعل صاحبنا يبدو كما لو كان مرتكبا لذنب عاقبته عليه عشيرته بتتويجه بهذا الاكليل من الشوك الذى لا يفارق هامته.. بدل ثيابه.. الصق بوجهه ابتسامة أبت الا أن تظهر بلهاء.. لا بأس، فمن فى هذا الزمان لازالت لديه القدرة على أن يفرق بين أنواع البسمات.. فتح النافذة الصغيرة وأطل منها.. مسح الشارع بعينيه من خلال عويناته.. عثر على بغيته فى احدى الشرفات.. أخذ يمعن النظر فى الوجه الذى طالعه، وهو وأن لم يكن جميلا تماما الا أنه يفى بالغرض.. التفتت صاحبة الوجه نحوه، فاسرع بالابتعاد عن النافذة، مقررا أنه كان يجب عليه أن يفتش عن شئ آخر جميل يبدأ به، ليس له مثل هذه العيون القادرة على النظر نحوه بجرأة، ولا له مثل هذا الوجه القادر على أن يعبس ويبش.
يختلط فى فمه طعم الطقطوقة العتيقة والمرارة والاندحار.. يشارك فى حصاره جسده المتعب وعقله المكدود وأعصابه المتوترة.. يسعى الجميع الى منعه من الوصول الى زمن “ما سيكون” لكنه يقاوم .. يزحف على الجدران الأسمنتية.. يلعق دموعه.. تخمش الجدران الخشنة بشرته.. يتألم.. يتأكد لديه أنه موجود.. يقرر أن يتسامى على اللحظة التى يعانيها، فيسقط فى كوب شاى.. يبتل ببقايا الشاى فى قاع الكوب.. يقاوم.. تبتل الطقطوقة القديمة قبل أن تصل الى أحباله الصوتيه.. يلتصق بالجدار، محاولا الصعود.
امتدت يد ساكن الغرفة المتفردة لتنتشل الذبابة التى سقطت فى الكوب، مؤكدا العزم من جديد على أن يجد ثغرة ينفذ منها الى زمن “ما سيكون” والا فسيعدو الى أعلى خازوق فى المدينة ليجلس فوقه لاعنا هى السلاطين وكل المحتبسين بالبول، ومنشدا طقطوقته العتيقة.