تشبيه اللا انسانى بالإنسانى (الأنثروبومورفيزم)
(أنسنة العوالم) أو الفشل الفكرى الأكبر
د. محمد السماحى
الملخص:
فى محاولة الانسان لفهم الظواهر الطبيعية لم يتمكن من تجاوز نطاق خبرته اليومية فظن أن الأشياء الخارجة عنه تسلك سلوكا يشبه سلوكه هو وتتصف ببعض ما يتصف هو وبيئته المعتادة به.
وهذا لا ينطبق على فكر القدماء وحدهم (مثلما فسروا تتابع الشروق والغروب برحلة يومية تقوم بها الشمس كترحال البشر) بل أيضا على فكر اليونانيين ثم العصور الوسطى وأخيرا العصور الحديثة حتى يومنا هذا.
عرض تمهيدى:
كمثال تقديمى لمن قد يدهشه أننا لا نزال نفكر بطريقة أنثروبومورفيةأورد طريقة استعمال العلم والتكنولوجيا الحديثة لتصورات مأخوذة من حياتنا العادية, والتصورات كلها مأخوذة ومقتبسة كنموذج من الواقع تسير الذرات والجزئيات والخلايا الحية بل والآلات الهندسية على طريقته وهذا ما أريد أن أوضحه لمن يظن أن هذه العلوم تقتبس فقط وتحت ضغط الحاجة وقصور اللغة كلمات عادية من الواقع اليومى على سبيل التشبيه السطحى اللفظى. عندما يقول التكنولوجى أو مهندس التعدين أو الكهرباء أن المعدن أو القضيب المعدنى أو الآلة بها درجة من الاجتهاد فأنه يقصد قصورا كاملا يشبه عجز الانسان عن انجاز فعل ما بكفاءة بسبب كثرة الشغل فهو لا يستعير اللفظ وحده وانما يستعير التصور كاملا. كذلك عندما يقال المقاومة الكهربائية والقدرة وزيادة العبء…. الخ.
وفى الكيمياء والفيزياء لا تستعمل كلمة اتحاد العناصر كمجرد مجاز وأنما كمفهوم كامل لترابط يجمع عنصرين فى وحدة كما يحدث عند اتحاد الأفراد سويا, قس على ذلك قوى الترابط binding forces فى الذرة أو فقدان واكتساب الشحنة… الخ.
وفى البيولوجيا يقال الوظيفة بمعنى يشبه العمل المكلف به شخص وكذلك المناعة بمعنى الحماية التى تتوفر للأقوياء و الوقود الذى تستهلكه الخلية وكل هذه تصورات منقوله بالكامل ولم تنقل الألفاظ وحدها.
بل آن ميكانيكا الكوانتم التى تجرات وأدخلت عددا من المفاهيم المجردة لم تقاوم الفشل الفكرى الأكبر فى الجزء الأعظم من بنائها فهى تتحدث عن الانتقالات مكانية لأجسام من نقطة مكانية الى أخرى على غرار الحركة التى نمارسها أو نراها يوميا وعن تعادل القوى المتضادة مما يؤدى الى السكون أو الاستقرار كما يحدث على أرضنا تماما والأمثلة تفوق الحصر.
افتراض حول منشأ المشكلة:
فى اعتقادى أن منشأ المشكلة هو فى حاجة الانسان الى وضع تفسير لأى ظاهرة يفكر فيها فلما يصعب تخيل التفسير فان نقل أو اقتباس تفسير لظاهرة معروفة قد يغرى بأنه سيؤدى المهمة( نظرا لاحتمال تشابه الظاهرتين) يصبح هو الحل الأسهل.
وعادة وضع التفسيرات هذه قد نشأت منذ عصور بعيدة اذ يمكن تتبعها بسهولة فى الأساطير التى وصلتنا من كل أنحاء العالم ولكن لا أدرى كيف تكونت هذه العادة العقلية لدى الانسان ولست أظنها آبدا فطرية بل لابد أنه قد اكتسبها خلال محاولات فهمه للعالم لأننا نصادف كثيرين من الكبار والأطفال ممن لم تتكون لديهم( بالتعليم الجيد) عادة البحث عن تفسير الظواهر المطروحة للبحث والتفكير اللهم الا المثير للأنفعال أو الشاذ فيها.
أن معظم الناس يلاحظون مرور القمر بأطوار عديدة مختلفة من ناحية مظهره فى السماء(هلال وبدر وماالى ذلك) ولكن لا أحد يحاول التساؤل عن سر ذلك الا اذا وقع مرة فى وهم أن مرحلة البدر مثلا تجلب الحظ السئ له.
وربما كان منشأ حرص الانسان على الاتيان بتفسيرات هو أن طبيعة المجتمع البشرى تستلزم أن يحاورل أفراده من أجل التعايش المحقق للمصلحة أن يستميل بعضهم البعض عن طريق الاقناع والاغراء أو التحذير ولا يمكن آنجاز ذلك سوى بتقديم تفسير معين ثم يسهل تخيل انتقال هذه العادة من المجتمع الى الفكر كما انتقلت عادة التدليل والبرهنة والاستنتاج من مقدمات سابقة من القضاء والمحاماة والخطابة الى المنطق والرياضة.
ولما كان على الانسان ايجاد مبررات للظواهر فان أسهل الطرق إلى ذلك هو اقتباس نماذج جاهزة للتفسير من العالم اليومى سهل الفهم الى العالم المجرد صعب الفهم. آن التلميذ بالمدرسة يستريح عقليا الى فهم ظاهرة عدم امكان اشتعال مادة ما فى غياب الأكسجين بأن الأكجسن يساعد المواد على الاشتعال وهذا تبرير أحمق ولاشك( فهو مجرد تعريف لفظي) ولكنه وأمثاله من التبريرات يرضى عقول الناس لأنه ينقل اليهم صورة العامل الذى ينشط اجراء فعل ما من واقعهم اليومى الى الفكر النظرى.
هل يقوم العلم الحديث بتقديم مجرد تفسيرات؟
تكاد تقتصر مهمة العلم الأساسية على تقديم التفسيرات أو الاجابات على أسئلة حول كيف يحدث كذا؟ وهذا امتداد للعادة الذهنية القديمة التى أحدثت الثورة الكبرى فى الفكر ثم لم ينجح الانسان فى تنقية تفسيراته من التشبيه فكان الأكبر.
فاذا أخذنا كمثال نظرية الضوء لوجدنا أنها مجموعة من التفسيرات حول كيفية انبعاثه وانتقاله وارتداده وتداخله وانعكاسه وتحولاته الى مظاهر اشعاعية أخرى. فالعلم لا يبحث فى لماذا يوجد ضوء؟ أو فى أهمية الضوء فى الكون وانما فى كيفية سلوك أشعة الضوء.
واقتصار العلم على تقديم التفسيرات ليس ضعفا ولا قصورا فى حد ذاته وانما اضطراره الى التشبه بالانسان خاصة( الأنثروبومورفيزم) هو الذى يعد ضعفا. فالعالم يأخذ من العالم البشرى المآلوف نموذجا يصب على شاكلته نموذجا آخر لظاهرة جمادية أو فلكية ويرتاح الى تفسيره هذا.
أن خطوة كتلك والتى يقوم بها آلاف العلماء بلا انقطاع فى حسن نية وتلقائية هى جريمة منطقية لأنها تقوم على فرض غير مؤكد وهو أن الطبيعة تحاكى بيئة الانسان.
انظر الى علوم الذرة التى فسرت ظواهر الكهرومغناطيسية والانشطار النووى بحدوث تصادمات بين جسيمات أو بتحرر وانفلات جسيمات من مداراتها الأبدية. أن هذه التفسيرات منقولة من البيئة الانسانية التى يحدث التصادم بين عدة كتل فيها اقلاقا وحركة لم تكن موجودة قبل التصادم. علاوة على أن هذا الآسلوب الميكانيكى فى التفسير ليس له مصدر سوى بيئتنا الزاخرة بقوى الدفع والجذب لكتل جسمية.
هل كل تفسيرات العلم تشبيهية؟
توجد فى العلم أيضا تفسيرات رياضية كـأن تحل مشكلة عن طريق اضافة ثابت رقمى الى معادلة تفاضلية أو أن تبرر حجة فرض ما بانطباق معادلة رياضية تحقق قانون ما على مشاهدات متعلقة بالفرض. وبالطبع فهذه التفسيرات أقل اقناعا وجاذبية لأنها لا تنقل نموذجا محسوسا مألوفا وانما تنقل صيغة مجردة تقدم فكرة منطقية فى شكل رمزى تبعث حجتها الظاهرية على الارتياح. أن كثيرا من مبررات الفيزياء الكمية( الكوانتم) تقوم على ايجاد علاقة سحرية يتحقق فيها حسابيا ثابت بلانك ومادام هناك هذا الثابت فكل شئ على ما يرام !.
ولكن هذا لا ينفى أن عددا من التفسيرات الحديثة جدا لعلوم الذرة تعتمد على أفكار بعيدة عن الشبه بالبيئة وبعضها له أساس تجريبى أكثر مما هو تخيلى وهذا هو الأمل الباقى لنا فيتخطى الفشل الفكرى الأكبر والذى لن يصعب على الفكر تخطيه بمرور الزمن.
أمثلة للأنثروبومورفيزم قبل العلم:
كل قصص خلق العالم التى وصلتنا من خلال الأساطير المكتوبة تشبه الكون بالمجتمع البشرى فقد كان خربا فوضويا تعبث فيه القوى الطبعية بلا ضابط أو روابط تماما كما كانت المجتمعات القديمة. ثم لما ظهرت الحكومات القوية حول روافد الأنهار بعد الثورة الزراعية وأدخل الحكام الأقوياء النظام وشرعوا القوانين أسقط البشر هذا التغيير على الكون الذى جاءت الآلهة فنظمته وألزمته بطاعة قوانينها الأبدية. ولأن الأحداث الهامة فى حياة البشر لها دائما بداية زمنية فقد كانت معظم الأساطير تتخيل بداية عاصفة لحادث الخلق. وكما كان الملوك دائما ذوى مزاج متقلب وقادرين على تدمير كل شئ فى لحظة غضب فقد اكتسبت الآلهة هذه الصفة. وعلى طريقة التوالد المألوفة لدى الحيوان والانسان كانت الأكوان تتولد من تزاوج قوى عمياء أو آلهة.
أمثلة للأنثروبومورفيزم من الفلسفة اليونانية:
لا يصعب على أى متابع للفلسفة اليونانية اكتشاف الأنثروبوموفيزم فى أساسها وتراكيبها. فأفكارها الرئيسية كالثبات والصيرورة وتكون المواد من وحدات أصغر ووجود ” الانسجام” فى الأفلاك والأشياء كلها أفكار مأخوذة من البيئة اليومية. وتدليل أفلاطون على لسان سقراط على أن الديمورج هو صانع الكون لاستحالة نشوء شئ يشبه التصميم البشرى من صدفة عشوائية هو تعبير عما رآه أفلاطون ومعاصروه من ملاحظة يومية متكررة فى البيئة الانسانسة المألوفة حيث لا نصادف شيئا يحمل ملامح التصميم الانسانى الا ووجدنا له صانعا.
بل أن أعظم مرجع خلفته الثقافة اليونانية( رغم أن لوكريتوس كتبه بالاتينية) وهو قصيدة “عن الطبيعة” لا يخلو فى عرضه الشيق لأفكار ديمقرطس وأبيقور الرفعية العميقة من التشبه بما هو انسانى.
أمثلة للأنثروبومورفيزم فى العلم الحديث:
تصور السببية ـ التصور المحورى فى العلم ـ هو تصور مأخوذ من حياتنا اليومية حيث أن معظم الأحداث اليومية خاصة الاجتماعية وكذلك عدد كبير من أحداث البيئة الأرضية المحيطة بنا( من فيضانات وبراكين وحركة تخضع للجاذبية…. الخ) تنتج عن فعل سابق يتكرر دائما قبل كل مرة يحدث فيها الحدث. وهذا الفعل السابق هو ما يسمى بالمسبب وهذه الفكرة تم تطبيقها على العالم كله بشكل آنثروبومورفى ليس له سند منطقى وتجريبى.
وفكرة القوانين الطبيعية هى استعارة لمفهوم القانون الاجتماعى والسياسى الملزم لأفراده بحتمية اتباعه ولا يخفى أن هذه الفكرة تسربت الى الفلسفة ثم العلم عن طريق مفكرين مسيحيين ظنوا أن الله أمر الطبيعة بطاعة قوانينه عندما خلق المادة ثم اخذت الفكرة شكل الصياغات الرياضية المجردة التى بسبب نفعها العملى فى التنبؤ هربت من حواجز النقد طويلا.
الابن الشرعى للأنثروبومورفيزم: الأنالوجى:
الأنالوجى يقوم على تشبيه المجهول بالمعلوم حيث يوجد أصلا نموذج تفسيرى(أو موديل موضوع لتفسير ظاهرة مألوفة) مقبول لظاهرة ما ثم تأتى صعوبة فهم ظاهرة جديدة فيقوم العقل باقتباس النموذج الجاهز المعد للظاهرة المألوفة ويفسر على اساسه الظاهرة الجديدة محل البحث.
وبسبب أن هذا العمل غير مشروع منطقيا – اللهم الا اذا سلمنا بأن كل ظواهر الطبيعة لها خطة واحدة مهما اختلفت طبيعتها وهذا غير معقول تجريبيا – فان الأنالوجى هو فى رأيى الفشل الفكرى الثانى للعقل البشرى.
ومن أمثلة الأنالوجى – وهى أكبر من أن تحصى – وضع تفسيرات ميكانيكية لظواهر لا علاقة لها بالميكانيكا(أى لا تتعامل مع كتل وحركات وجاذبية) مثل تيار الألكترونات الحرة التى تجرى كجسيمات متسابقة فى موصل الكهرباء كتفسير لسريان التيار الكهربائى ودوران الألكترونات حول النواة كما لو كانت كواكب حول شمس وتشابك مدارات الألكترونات(فى الكيمياء) مع اشتراك الكترون فى مدارين سويا لتكوين مركبات من عنصرين أو أكثر واهتزاز الذرة الذى يرسل موجة ضوئية أو يولد فوتون فى الضوء.
وكل هذه الأمثلة تقوم باقتياس موديل ميكانيكى( مثل موديل المجموعة الشمسية أو اهتزاز الوتر الذى يبعث بموجات صوتية) لتفسير ظواهر بعيدة تماما عما يمت الى النموذج الميكانيكى بصلة اذا سلمنا بأن النموذج الميكانيكى يقوم على اساس علاقة الكتل وتبادلها التأثير عن طريق التجاذب أساسا.
وهناك مثال معروف لكل قراء تاريخ العلم ودائما ما يشار اليه كمثال كلاسيكى للأنالوجى وهو اقتباس فكرة الوسط الحامل للموجة الناقل لها من البحر الى الصوت ثم من الصوت الى الضوء( وأخيرا الى الألكترون نفسه حيث يظن أنه حركته تصاحبه موجة).
أن الأنالوجى قد قدم الكثير من التفسيرات ولكنها كلها لا تقوم على أساس مقبول لأنها تعبر عن الفكرة الغريبة الآتية:
س تحدث عن طريقه ص لأنه من المحتمل أن س تشبه ص.
لقد لعب الاستسهال مع بعض الاستهتار العقلى الى جانب ضعف الملكة النقدية لعلماء أمامهم مشاهدات كثيرة ونماذج محدودة جدا للتفسير دورا ضخما فى كثرة التفسيرات الأنالوجية والتى أدت الى أن العالم قد أصبح يفسر كله الآن على أساس نموذجين لا ثالث لهما هما نموذج المجموعة الشمسية بمداراته وجاذبيته وقابلية مكوناته للتحرر والانفلات فى حركة شبه مستقيمة طاردة أو فى تصادمات جسيمة ثم نموذج موجات البحر التى لا تنتقل فى خط مستقيم بل تنتشر فى كل اتجاه وتتداخل ويلغى بعضها البعض.
هكذا تصل السذاجة العلمية بالعلماء الى تفسير عوالم ما دون الذرة subatomic والذرة والاشعاع والكيمياء الجزئية والبيولوجيا والفلك نموذجين اثنين ماخوذين من بيئة حقيرة كبيئتنا. وهذه السذاجة هى سر هذا التكرار السخيف فى التفسيرات الذى يجعل عالم البكتريولوجيا يستعمل نفس معادلات نيوتون وماكسيول لتفسير خصائص الأحماض النووية والوراثة مثلا تحت زعم (وحدة الطبيعة) بينما هو(فقر النماذج التفسيرية) الذى يسال عن ذلك الوهم المسمى بوحدة الطبيعة.
تعقيب وتذييل وأمل:
لم يكن الانسان على دراية كافية بانه يقع فى فشل فكرى عظيم وهو يتوهم أن الطبيعة قابلة لتفسير بمبادئ بيئته الخاصة. والآن وبعد أن تنبه الفكر الحديث لهذا الضعف يجدر بالعلماء اعادة بناء علومهم على اساس نظرى جديد يخلو من الأنثروبومورفيزم ومن الأنالوجى ولو كان هذا على حساب انسجام وبساطة وبريق التركيب العلمى. أنه من الممكن الان البدء فة ثورة علمية شاملة تقتدى بالمنطق والمشاهدات التجريبية وحدها لا تفسر(س) بالاستعانة بحدث مستقل عنها مثل(ص) ولا الذرة بمجموعة شمسية مركونة فى اسفل ذراع صغير لمجرة بسيطة متوسطة الحجم من مجرات كون يزخر بأشباهها وبما لا يشبهها وبما نجهله. لقد انتهى عهد تفسير ما لا نحسه بما نراه فى شوراعنا وبيئتنا وفى ظروف كظروف عصرنا الحاضر الذى يتوفر فيه كل هذا العدد من الباحثين وكل هذه الصرخات الفلسفية المتناثرة تنبه الى أخطاء الماضى لابد أن تبدا مراجعة شاملة لكل العلوم.