تس: بنت البيت الفقير ذى الأصل العريق
د. محمد شعلان
اكتشف الفلاح الفقير المنهك باعالة أسرته الكبيرة حينما عاود أحد النبلاء مناداته بلقب الفارس أى “السير جون”، أنه عزيز قوم ذل. وسمع أن هناك فرعا لأسرته مازال ثريا. فأرسل ابنته الشابة الجميلة لزيارتها علها تغويها برقتها وجمالها أن تمد لهم يد المعونة.
وعادت ابنته تس من الزيارة بعرض للعمل فى مزرعة القريبة الثرية لترعى الدواجن فتلهف الأب للعرض. ولم يأبه لاستكمال ابنته بقية قصة العرض وهى أن هذه القريبة ضريرة وأن الذى عرض الأمر ابنها الشاب اليكساندر أو اليك وكان أمل تس أن يخاف الأب عليها من مخالطة ابن عمتها الشاب الثرى فى غياب رقابة عيون أمه. ولكن فيما يبدو تحمس الأب على أمل أن تنجح الفتاة فى غزو قلب الشاب ومن ثروته. فالاعباء كثيرة والصغار جياع والعمل انهكه، والخمر فى تخفيفه لشقائه أنما اضاف الى أعبائه الاعياء الجسدى الناتج عنه.
وذهبت الفتاة البريئة الجملية الى ذلك الثرى الذى اتضح أنه اشترى بماله اللقب” دوبرفيل” الذى يضيف الى المال ادعاء العرق والدم الارستقراطى الأزرق. فهو من تلك الطبقة الجديدة التى ازداد ثراؤها بفضل التوسع الامبراطوى البريطانى فى منتصف القرن التاسع عشر. ومثلها أى طبقة جديدة ناشئة انتصرت لتوها على الطبقة الممتازة التى سبقتها، فقد كانت تسعى جاهدة لاحلال محلها بالتشبة بها، كالمتوحد على المعتدى عليه، وذلك بالأخذ بمظاهرها بل بادعاء الانتساب اليها.
كان اليك يعلم أنه لا يملك الا ماله مثلما علمت تس أنها لا تملك الا جمالها ولأنه من عباد المال فقد كان يعتقد أن التعامل بين البشر تجارة. وما عليه الا أن يعطيها من ماله مقابل ما تنعم عليه من جمالها، ويشيع كل طرف حاجته ولكن الطامع لا يشبع. لأنه اذا حصل على ما يتوق اليه انعدم اشتياقه. ولكنه لا يريد أن يتخلى عن طمعه فقد تعود على حالة الطمع وصار عبدا لها. ويفضل أن يكون فى حالة جوع مستمر. يأخذ فأذا ما حصل قذف لكى يعود اشتياقه ليأخذ مرة أخرى.
كان ما جذبه لتس أنها لم تكن تريده حقا. بل حتى لم تكن تريد ماله. وأن كانت تريد رضا والديها بأن تعاونهما بالحصول على المال. قاومت فى بادئ الأمر فزاد اشتياقه. أصر حتى رضخت. ولكنها لم تعطه الا جسدها، ولما اتضح أن الروح قد نفخت فى بقعة من جسدها أثر الحمل الذى نتج عن العلاقة اخفت ذلك أيضا عنه. فهى لم تكن واثقة أنه يريد الروح. فهو عبد المادة. فهجرته وأخفت عنه ما بداخلها. وعادت لأسرتها لتعلن عن ذلك الذى أخفته عنه. فأنجبت طفلا لم تعترف الكنيسة بشرعيته. أحبت الطفل ولكنها كانت تعلم أن الله لم يباركها لأنه أنزل عليه المرض بما عجل بموته المبكر فسعت الى ربها بلا وساطة كاهن وذهبت الى القسيس تطلب منه الاعتراف بسعيها لربها حتى تدفنه دفنة مسيحية مشرفة فأبى.
فلفظته ولفظت كنيسته وذهبت وحدها تبحث عن رب يرعاها.
ووجدت عملا. وكان أحد الملاك شابا رقيقا كثير التأمل محبا للطبيعة والناس ولكن خجولا فى مخالطته لهم. يأنس بعزف الناى ويربى روحه بتدريب جسده على تحمل المصاعب بمشاركته للعمل مع الفلاحين. كان يقرأ ويفكر ويعمل. وكان يزدرى الثراء المنحل ويتعاطف مع الفقراء.
توسمت فيه الروح المتعالية على المادة. فهو الثرى الأصيل الذى بحث عن انسانيته فى غير جسده أى أصله أو ما ملكت يمينه من مال، وكان اسمه يعكس حقيقته: اينجل أى ملاك. وكان جسدها الذى طهره الفقر من غرور الأصالة العرقية هو ذاته جسدها الذى أذلها بفقرة لاشباع حاجاته الأساسية. فبحثت هى أيضا عن انسانيتها فى روحها. وتوسم اينجل فيها الروح الذى يبحث عنها.
وأحبها وألح فى الزواج منها رغم رغبة أسرته فى تزويجه من أحدى قريباته. ترددت لأنها كانت تخشى أن يكون ما عرضها جسدها له من مذلة عائقا بينها وبينه. حاولت أن تنوره بأن تعترف له بماضيها. ولكنها ترددت بينما هو تعجل. وتم الزواج. وأصرت على الاعتراف
فبدأ هو بالاعتراف بخطاياه: أنه كان على علاقة جسدية بامرأة تكبره وأنتهت العلاقة بعد أسابيع. وجاء دورها فوقع الاعتراف عليه كالصاعقة. لم يتحمل وهجرها عبر البحار. وانقطع عنها. فزادت متاعبها وتضاعفت بموت أبيها.وكان عليها أن تعول أسرتها بالعمل ولكن العمل لم يكف. فقد كان اليك المالك الثرى مستمرا فى رغبته فى شراء جسدها بماله ولكنها تمنعت أخلاصها لزوجها الذى هجرها وما زالت تحبه. وأصر اليلك وحاصرها حتى وجدت أمها وأخواتها الصغار بلا مأوى يفترشون الشارع فى الهواء الطلق والصقيع.
رضخت تس للمرة الثانية وصارت خليلة ونزلت النعمة عليها وعلى أسرتها. ولكن الروح ما زالت تتوق الى رفيقتها، روح اينجل، وعاد أينجل بعد أن ذاق نصيبه من المعاناة، معاناة الاغتراب ومعاناة الذى هجر زوجته وعجز عن اغتفار ذنبها. نعم لقد حكم عليها عندما اعترفت أنها ليست الا الشرذمة الباقية للارستقراطية المنحلة لأنها رضخت بجسدها لمن تسلط عليها بقوة المال وقوة الجسد. فالله يلعن كلا من الغاصب والمغتصب.
عاد أينجل وذهب اليها وهى فى حضن عشيقها وطلب منها الغفران، فقد ذاق نصبيه من العذاب. ولكنها صدته بلسانها كما صدته أمها حين كان يسأل عنها: أن يبتعد عنها لأن الأوان قد فات. وعادت الى حضن عشيقها لتعلم أن لسانها لم يكن حال روحها فقررت أن تقتل الجسد الذى أذلها. فاستلت سكينا وطعنته وهربت الى زوجها وهى تعلم أن حكم الاعدام يطاردها. فقد حكمت بالاعدام لا على اليك وحده حينما ذبحته ولكن على جسدها أيضا. ولكن كان أملها الأخير وهى تنام فى ظل السماء المظلة أن تنطلق روحها بعد ممات جسدها لتنضم الى روح وجها الملاك اينجل. ولم تفلح محاولات اينجل لانقاذ جسده من حكم الاعدام فذهبت روحها الى الجنة بعد أن دفعت الثمن بعذاب الجسد.
وتركت روح اينجل محبوسة فى جسده تذوق عذاب الأرض وحدها بلا ونيس، بلا تس.
****
كان هذا موضوع فيلم” تس” الذى قدمه رومان بولانسكى عن قصة الأديب الكبير توماس هاردى. وهى تمت أحداثها فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر.
ومع ذلك شدت اعجاب جمهور النصف الثانى من القرن العشرين فما الذى كان يريد أن يقوله بولانسكى ويسمعه جمهوره فى الغرب ؟.
لقد وصلت ثورة الشباب على الكبت ذروتها فى نهاية الستينيات. وكان الشباب فى ثورته على الكبت ومناداته بالحرية انما يعبر عن الحال الذى وصل اليه المجتمع الغربى من استقرار حضارى يجعل من الممكن رفع الكبت وترك الغرائز للاشباع. فالحضارة قد بنيت وكان الثمن الكبت. أما وقد استقرت فما الداعى له؟ ولم لا يستمتع الانسان بثمارها؟ ولم لا يشبع غرائزه فيفعل ما يشاء حينما يشاء بل وفور ما يشاء؟.
ولكن الثورة تعدت حدودها، مثل أغلب الثورات. وكادت الحرية تتحول الى فوضى وانحلال بما يهدد الحضارة ذاتها بالاضمحلال. وهنا يتنبه الغرب للخطر. فهو بفضل ذات الحرية التى حصل عليها اكتسب القدرة على قبول النقد ومواجهة الخطأ ومحاولة اصلاحه.
كادت الحرية تؤدى الى فقدان القيم. وتحولت المتعة الى امتهان للجسد. وحرية الغريزة الجسدية الى استعباد وكبت للروح. كان الجمهور يندم على ما أتاه على نفسه من امتهان للجسد. بل ربما كان بولانسكى يندم لنفسه أيضا معهم. الناس تبحث عن عودة للروح تحررها من قيود الجسد دون ما يعيد ذلك العبودية السابقة التى أدت الى تلك الثورة الجسدية العارمة، تبحث عن ذلك الجماع الذى يحقق الاتزان.
ولكن المخاطرة هى فى كون الدواء أشد فتكا من الداء. وأن تعود الروح قامعة مكبلة للجسد. هذا ما يحدث فى بعض المظاهر الدينية المتطرفة التى يلجأ اليها الكثير من الشباب اليوم. والتى تحمل فى طياتها الثورة الجسدية المضادة. فلكى نتجنب الثورة لابد من تجنب الكبت ولكى نتجنب الكبت أو الثورة المضادة لابد من تجنب الثورة. والثورة والكبت وجهان لعملة واحدة. وهما يحدثان حينما يتباعد طرفا الصراع: حين يكون الفقر الشديد فى مواجهة الثراء الشديد، والانحلال الخلقى فى مواجهة الحرمان التام وهكذا.