التفسير الأدبى للنفس
قراءة فى: ديستويفسكى
من عالم الطفولة
نيتوتشكا نزفانوفا، وهامش من البطل الصغير
الطفلة الأم- الطفلة الدمية
الطفلة الطفلة – الطفل الفارس
مقدمة:
مخاطرة أعرف مخاطرها، أقدم عليها هيابا فأقدم عليها أكثر
وقد سبق أن حاولت فى هذا الاتجاه، فترجمت ثلاثة أعمال الى لغة الأعراض والأمراض[1]، وبعدها خجلت من نفسى ومن علمى حتى وقتنا هذا
ثم عاودت المحاولة بظهور هذه المجلة ولكن فى اتجاه آخر ومن منطلق آخر، حيث اعتبرت العمل الأدبى هو الأصل، واخترت عملين ذوى حظ يسير فى الشيوع، هما رواية حقيبة خاوية للأديب محمود حنفى، وديوان النزهة بين شرائح اللهب [2] للشاعر نشأت المصرى، ويبدو إنى تعمدت اختيار عملين من أعمال الظل لأعلن أن الابداع ابداع دون النظر الى مدى انتشاره، ولأشهد أن محاولة معرفة النفس هى حق كل من يملك الصدق والأداة، يصل بهما الى حيث يمكنه. واذا كانت ظروف النشر والذيوع هذه الأيام لا تمنحنا فرصة للمعرفة الجادة من مصادرها الأولى فان على من يهمه الأمر أن يطلب ضالته حيث كانت، بما فى ذلك الأسرار الملقاة غفلا وراء شباك الظل والوحده والألم
ثم عاودت المحاولة مرة جديدة فيما يمكن أن يسمى بحثا مقارنا بين رباعيات الخيام وسرور وجاهين [3] مستهديا هذه المرة أكثر فأكثر بما يسمى “السيكوباثولوجى” دون الاكتفاء بالأعراض الظاهرة
ثم توقفت لأسباب غير واضحة
وحين عدت هذه المرة اختلفت الأمور بشكل ما، وإن كان يستحيل فصلها عن هذا التاريخ القريب، فهى جماع ما مضى رضيت أم أبيت، ولكن المحيط الذى ألقى نفسى فى خضمه -هذه المرة- غير متناهى الأطراف، فهو ديستويفسكى بكل ثقله وزيادته، وكانت النقلة عنيفة مرعبة، فمن لمح قطرات الضياء البارقة فى عجالة – وجدت نفسى وسط نور الشمس الباهر، فهل نستطيع أن نخطو بضع خطوات فى بهر حدسه قبل أن يعيشنا ليل ما تعودنا؟
واقع النفس وسرعة التغير:
حول 1845 [أقل قليلا “الحمل والحضانة”، أو أكثر قليلا “الكتابة والنشر”] تم افراز هذين العملين موضوع الدراسة وديستويفسكى ما زال شابا، وهو لا يزال يقول لنا ما رآه فينا و”هو” (حالة كونه) فينا، ونحن الآن نعيش فى عام 1982، ويحمل لنا كل عام ما لم تحمله مائة عام سلفت بعد الاغارة المادية (والتكنولوجية) على الوقت والحس فالتأمل، فهل يصح أن نعتبر ما قال ديستويفسكى وعاش ورأى هو هو نحن الآن ؟ الإجابة عندي: أن “نعم”، بل هو يصح أكثر فأكثر فى ظروف ضياعنا الحديث، فالنفس الانسانية لا تتغير بالسرعة الظاهرة لتغيرات السلوك، وما قاله الشاعر الجاهلى ما زال ينبض فى وجداننا ان كان ثمة من يشرف بالانتباه الى وجدانه يقظا بنفس الدرجة، والأسطورة ما زالت مرجعا لدارس النفس باعتبارها مصدرا أساسيا لفهم تراكيبها
اذا، فنحن حين نقرأ ديستويفسكى معا الآن يمكن ان نعتبر بدرجة مناسبة اننا نقرأ أنفسنا الآن دون اعتبار خاص لفارق الزمن، الى أن يتغلغل فى تركيبنا – نتيجة تراكمات سلوكنا- ان سلبا وان ايجابا (ما أخطر المسئولية)!
المادة موضوع القراءة[4]:
سبق أ ن نبهت- خوفا وجهلا- الى محدودية ما أفعل، خوفا من النقاد وجهلا بالنقد، واذا كان الجهل ليس مدعاة للفخر الخفى بل هو أدعى للخجل وأدل على التقصير فانه لا ينبغى ان يكون مبررا للتخلى عن مسئولية القول متى لاح فيما يقال بعض التفرد والاضافة، فليسم القاريء هذه المحاولة “نقدا” أو”قراءة” أو غير ذلك، ولكنه أبدا ليس علما أو وصاية أوحكما، والواقع أنى أكتب من موقع خاص وجدت نفسى فيه بعد طرق أبواب عديدة، حيث وضعتنى ثقافتى ومهنتى وقلمى فى مكان تختلط فيه الأشياء أو تتآلف فيه المعارف (أيهما ترى)، ومن هذا الموقع الخاص أخذت أقرأ لنفسى، ثم قررت أن أقرأ بحروف مطبوعة وكأنى أقرأ لنفسى أساسا ولكن يحدونى أمل المشاركة والحوار، وقد يكون ذلك نفسه هو النقد من عمق معين
الترجمة: فضلها وحدودها:
وكل قراءة منشئة هي”اعادة ابداع”، وهى مسئولية متجددة ان صحت خبرة ما تبدع فهى اضافة على فضل الابداع الأول، فان صح هذا الافتراض فى القراءة المتذوقة المعايشة، فهو يصح أكثر فى الترجمة التى هى قراءة مبدعة ثم أمانة ملتزمة ثم صياغه جديدة، والعمل الذى بين أيدينا الآن هو عمل مترجم (ربما للمرة الثانية)، والترجمة بهذا القياس وكما شاهدتها فى هذا العمل هى اعادة ابداع أساسا، وفى تصورى وكما بلغنى من هذه الترجمة الرائعة (د.سامى الدروبي) أن لها يرجع كثير من فضل ما بلغنى أثناء القراءة، فما بلغنى قد وصلنى بلغتى العربية، واللغة- أى لغة – لها شخصيتها ونبضها وحركتها وايقاعها وطبقتها وايحاءتها – وبالتالى فانى شديد التحفظ وأنا أدعى أن ديستويفسكى قال كذا و عنى كيت، لعله د.سامى الدروبى، ولعله كاتب هذه السطور، ولكنى شديد اليقين فى نفس الوقت أنه قاله من حيث مطابقته “الموضوعية” لحقائق المعرفة المتماسكة فى ذاتها، المثيرة لمثيلها فى ذات المتلقى، المتناغمة مع بقية أعمال المبدع وتراجمه
ومسئولية قاريء الناقد (والمترجم) ان يتخذ لنفسه موقفا جديدا يعيد من خلاله صياغة ما وصله، ولا أمنع نفسى من أمل فى قاريء يتقن الروسية والعربية بنفس القدر”المتذوق” فيحدد لنا حقيقة ما ذهبنا اليه، وبرجع الفضل لذويه، وخاصة لدقة المترجم وصدق ابداعه
فمادة هذه الدراسة – اذا- هى تلك الترجمة المشار اليها لا أكثر ولا أقل، وان كنت – اعتمادا على أمانة وإبداع ودقة المترجم – سوف اعامل “النص” باعتباره ديستويفسكيا صرفا (حتى يثبت غير ذلك) ولن أعود لايضاح هذه النقطة بعد ذلك أبدا
أعمال مستقلة:
وكنت أود- وما زلت – أن يكون حديثى عن النفس كما رآها ديستويفسكى من خلال دراسة طويلة شاملة تربط بين أعماله وبعضها وبين مراحل نموه ومراحل رؤيته، إلا إنى لكى أفعل ذلك- وسط مسئولياتى الأخري- كان لابد أن أنتظر طويلا طويلا، حتى قدرت أن يمتد الانتظار الى ما بعد أجلى، فأقضى حاملا ما ليس لى حق الاحتفاظ به بعذر وهم الاتقان والشمول، فقررت أن أبدأ بعمل مستقل واحد (أو بضعة أعمال متقاربة فى المرحلة أو الدلالة) أولا بأول، فاذا ما انتهيت مما استطعت عدت اليها انظر فيها جميعا لعلها تقول ما تصورته ابتداء
“المسئولية” والموقع الشخصى:
أما هذه “الأمانة” التى أحملها وليس من حقى الاحتفاظ بها بلا حدود فهى ما حملته لى صفاتى المتعددة المتداخلة، بوصفى طبيبا نفسيا (ممارسا يوميا)، له نظرته (وربما نظريته) الخاصة فى النفس البشرية[5]، وفى نفس الوقت أسهم بابداعات محدودة فى مجالى الرواية والشعر نال بعضها تقدير رسميا وحظى الآخر باعتبار نقدى إيجابى (محدود بداهة)، فأنا لست طبيبا يهوى الأدب[6] (!!!) ولكنى إنسان يعايش النفس فى ظروف تسمح بالتعرى وتنذر بالتحدى وتلزم بالبلاغ، ومن هذا الموقع إستطعت أن أجد لدى القدرة على ترجمة من نوع جديد، من الفن إلى العلم… (وبدرجة أقل كثيرا جدا) ..بالعكس
وأول من نبهنى إلى صفتى هذه هو خطاب كريم من رئيس تحرير مجلة فصول د. عز الدين إسماعيل جاء فى نصه”… ولما كنا نعرف نشاطكم فى هذا المجال (الدراسات النفسية للأدب) على مستوى الدراسة العلمية وعلى مستوى الإبداع الفني…الخ”
ورغم تقصيرى عن الوفاء بما كلفنى به تفضلا، فقد تابعت – وراجعت – منذ ذلك الحين باهتمام أكبر ما يسمى بالنقد النفسى للأدب (أحيانا يسمى التفسير النفسى، وأخرى يسمى التحليل النفسي) فوجدته يكاد يتفق علي: أن ثمة نظرية نفسية (أو مرضا نفسيا) تفسر ما جاء فى النص الأدبى، ولكن ما حاولت اتباعه بدءا بما نشر فى هذه المجلة هو البدء بالنص الأدبى باعتباره أصلا فى المعرفة بالنفس، تدعمه بعض المعارف النفسيه العلمية الأصلية دون وصاية أو تحديد وقد وجدتنى – بما أتيح لى من فرص بين الفريقين- منوطا بهذه المحاولة بلا تلكؤ
المنهج الفينومينولوجى بين العلم والفن:
وقد يكون مناسبا فى هذه المقدمة أن أبين حقيقة المنهج الفينومينولوجي
فى دراسة النفس، فهو المنهج الذى يعتمد على الباحث كأداة وجزء من الظاهرة قيد الدراسة – حيث يقوم بالمعايشة فالاحتواء فالإمحاء فاعادة التركيب فالصياغة، وهل يفعل المبدع الفنان غير ذلك ؟ فالباحث الذى هو نفسه أدأة البحث فى هذا المنهج هو الباحث الذى تنمحى ذاتيته الخاصة فى موضوعية مشتملة لذاته وموضوعه معا، ثم يستعيد ذاته بما أضيف إليها ” فيقول ” (أو يعبر بأى أداة شاء) وكثير من العلماء لا يفهم معنى أ ى من ذلك، ويحسب “الموضوعية” هى ما يظهر مقاسا بمقياس غير انسانى (عادة) بحيث يمكن إعادة القياس للحصول على نفس النتيجة، ويحسب أن البديل عن ذلك هو “تأمل” الذات introspection وهو أمر محوط باحتمالات الانشقاق والاغتراب والتزييف الذاتى، فاذا قلت له أن المنهج الفينومينولوجى ليس هذا ولا ذاك، وانه موضوعى بقدر مرونة فاعله وتناسقه مع موضوعه وقدرته على الاحتواء والإمحاء والإعادة والاستعادة والصياغة المباشرة دون “استبطان “ذات أو “تأمل” أجزاء، بل بافراز نتاج المعايشة تلقائيا ومباشرة، لم يفهم العالم وظن أنك تلغز حتى التصوف!! وربما انصرف ساخرا (فى نفسه من باب “الأدب والذوق” أو علانية من باب: “…الموضوعية!!!”) أما الفنان المبدع فهو يفعل كل ذلك دون أن يدرك أنه”فينومينولوجي” بالضرورة، وأنه لا يخترع جديدا، وإنما يصوغ”حياة عاشها فى موضوعه ” صياغة جديدة متناسقة متفوقة عن الواقع لأنها “واقع أكبر” وأشمل، ومن لم يفعل ذلك لا يفرز إبداعا حتى لو أتقن “صناعة ” قد يعدها المختصون فى عداد الفن
وبهذا المقياس فالفنان عالم فينومينولوجى كما ينبغى أن يكون، وتتوقف موضوعية ما يعطينا من معارف حول النفس والعالم (وربما المستقبل) على مرحلة نضجه، ونوافذ وعيه وصقل أداته فى آن واحد
وموقفى الخاص بين هؤلاء وأولئك انهكنى حتى العجز أحيانا، فلا العلماء الذين أنتمى اليهم أساسا يصدقون أن هذه الوسيلة تكاد تكون الوسيلة الأرقى التى تستوعب كل ما دونها دون تجاوز، والتى يمكن الاعتمادعليها فى عمق معين من دراسة النفس الانسانية، ولا الفنانون الذين أحتمى بهم لهم من الفرص والدور المعرفى ما يضعهم فى مكانهم المناسب الضرورى لمسيرة الحياة واضافة المعارف، ومن هنا بدا لى “دورى هذا” وكأنه السبيل الممكن – حالياعلى الأقل – لأتخطى عجزى، وأسهم من موقعى هذا فيما يمكن ويلزم
وقد فضلت أن أعطى هذا “الدور” جزءا هاما من مرحلة حياتى الحالية، لتصورى أن غيرى من أى الفريقين قد لا يستطيع أن يقوم بما يمكن أن أقوم به وأنا بينهما، فالعالم قد يقيس الفنان بنظريته، والفنان قد ينبهر من علم العالم المحدد والمحدود، ولكنه لابد سينفضه عنه إن أراد لنفسه أن يبدع ويضيف، وقد كررت هذا المعنى أكثر مما ينبغى لخوفى من تصنيفى وتصنيف عملى بما هو ليس هو
تطبيق على ديستويفسكى، وصدق الوسيلة:
فاذا صح ما سبق -وهذا ما بدا لي- فان ديستويفسكى (مثل أى فنان أصيل) قد إستطاع أن يعيش الظاهرة قيد دراستنا الحالية (الطفولة) فى هذين العملين حتى أصبحت كيانه الذى عاد فأبدعها بأداته الروائية، وبالتالى فان لنا أن نأخذ نتاجه هذا باعتباره حقيقة معرفية فى ذاتها بلا حاجة الى وصاية اللهم الا بما يمكن أن يسمى “الصدق بالاتفاق” consensual validity وكذلك التماسك الداخلى internal consistency وهاتان الطريقتان هما أساس الصدق فى المنهج الفينومينولوجى، ولكنى أستعمل هنا الصدق بالاتفاق ليس بمعنى إتفاق باحثين أو أكثر على نفس النتيجة، وإنما أعنى إتفاق وسيلتين معرفيتين فأكثر فى وصف نفس الظاهرة فتؤكد إحداهما الأخرى، فضلا عن إتفاق باحث فيهما جميعا على ما اتفقنا عليه، وبديهى أن الاتفاق لا يمكن أن يكون تطابقا وإن إختلاف الأداة واللغة المستعملة لابد أن يؤدى إلى اختلاف الزوايا المرئية من حقائق المعرفة، أما عامل الصدق الآخر وهو التماسك أو الاتساق الداخلى فهو أداة صدق قائمة بذاتها، وهو ذو دلالة فى العمل الواحد وفى أعمال المبدع مجتمعة
المنهج الفينومينولوجى والنقد:
وإذا صح أن أدق الوسائل المستعملة لمعرفة النفس من عالم معايش، أو من إبداع فنان رائد هو المنهج الفينومينولوجى، فأين يقع فعل النقد المعيد الاكتشاف؟ إن القاريء الناقد الذى تمت له وسائل التذوق وأبجدية المعرفة حول موضوع قراءته يمكن أن يعتبر باحثا فينومينولوجيا جديدا بحيث يصبح فى مجموعه”هو، والنص المقروء” ما يمثل الظاهرة قيد البحث، فاذا كان الفنان قد عايش مادته، فى -الداخل والخارج- بوعى كامن حتى هضمها وتمثلها فأفرزها واذا كان العالم قد احتوى معطيات تجاربه وانمحى فى مفردات معلوماته حتى استوعب توليفهاالمبدع الذى حدده فى صياغته الفينومينولوجية، وإذا صدق هذا وذاك فى مجال المعرفة النفسية أساسا، فإن الناقد يكرر نفس الخطوات فيحتوى وينمحى فى النص (وهو مجال التجربة الجاهز) ليخرج منه بما تآلف فيه، لا متأملا ذاتيا(وعذرا للتكرار خشية الخلط) ولكن مؤلفا جديدا يقول ما وصله مما قد يكون قد خرج من المبدع الأول دون تمام وعيه به (أعنى بتفاصيل قصيدته)- وهذا ما قصدته بالمنهج الفينومينولوجى فى النقد [7]
ولكن دعنا نتخلص من هذا الإسم المثير لننظر فى التجارب النقدية المبدعة فنجد أن النقاد الرواد يتبعون هذا المنهج – بعضه أو كله- دون إستعمال إسمه، وهم يصلون إلى جوف معطيات النص: ليس أساسا بما يقدمون من أدلة، وإنما بما يعايشون من نبض مشارك، وعلى سبيل المثال لا الحصر(بداهة) فان مبدأ “تذوق الشعر” الذى أنشأه إنشاء أستاذنا محمود محمد شاكر فى نقده للمتنبى أساسا لا يمكن الا أن يكون نتاج معايشة اختلط فيها بلحمه ودمه وحسه وعقله ووجدانه مع المادة المتذوقة حتى أفتى بما أفتى به وكأنه يرى نور الصباح دون الحاجة إلى دليل تاريخى مباشر إبتداء (وذلك فيما ذهب إليه مما يتعلق بنسب الشاعر وخلقه ومحنته ورحلته فى داخل نفسه وتقلبات عصره وغير ذلك)، وبديهى أنه بعد التذوق وإعادة التركيب قد يذهب الناقد ليبحث عن أدلة وتسلسل براهين تدعم ما وصل إليه بدرجة نضجه وصدق معايشته وليس العكس، أعنى أنه ليس الدليل الظاهر المروى أو النظرية العلمية الشائعة هى التى تهديه إلى موضع النص ودلالته إنما ما عاشه بالنص والأصل، وهو الذى يؤكد الرواية أو ينفيها (راجع إشارة أستاذنا محمود شاكر إلى ما أسماه:”توقيع المتنبي” دلالة على ما يختص به أسلوبه بما يترجم سماته)
ولعل الفرق بين نقد أستاذنا العقاد لابن الرومى وبين إستدلاله على بعض سمات الحسن بن هاني(أبو نواس) هو أنه فى العمل الأول كان فينومينولوجيا أكثر منه تحليليا متعالما، بعكس العمل الثانى الذى تناوله بما فرضته عليه النظريات الناقصة أساسا لا بما إستهداه من النص أصلا. (ولكن هذا حديث آخر قد يأتى حينه بعد)
ومن هنا جاء تبرير العنوان: التفسير الأدبى للنفس
التطبيق الحالى:
ومن هذا المنطلق ذهبت أقرأ[8] “ديستويفسكي” لأتعرف عليه وعلى نفسى وعلى نفوس الناس، واخترت أن يكون مدخلى بدءا بعطائه الباكر ومن خلال ظاهرة محددة قابلتنى مصادفة فى عملين متميزين وهما روايته الناقصة:” نيتوتشكانزفانوفا” (1849) وقصته القصيرة: البطل الصغير (1849 أيضا)
أما لماذا بدأت بديستويفسكى فان ذلك قد يرجع لعدة أسباب:
(1) فهو غير بعيد عن القاريء العربى وأعماله المترجمة فى متناوله
(2) وهو رائد فى رحلات”الداخل” ووصف تفاصيل التفاصيل وكأنه يعيش أصلا “هناك”، فهو أعلم بالنفس وراء السلوك الظاهر من كل “عالم”
(3) وهو صاحب تجربة مرضية ذاتية اعتقد أنها ذات دلالة فى دفع ابداعه ومحتواه جميعا
(4) وهو قد غطى مساحة هائلة من النفس فى مختلف مراحل تطوره الشخصى وتطور المجتمع وتطور رؤيته
ولا شك أن قاريء ديستوفسكى يعرف أن أغلب شخصياته – إن لم يكن جميعها حتى الشخصيات الخلفية والثانوية – هى من الشواذ، سواء كان الشذوذ مرضا صريحا، أم إنحرافا عجيبا، أم تميزا غير مألوف، الأمر الذى قد يثير شكا حول ما اذا كان ديستويفسكى فى عطائه المعرفى الفنى هذا قد وصف النفس الإنسانية العادية، أم أنه لم يصف إلا حالتها الشاذة (والمرضية) فحسب، نفس النقد الذى وجه لسيجموند فرويد من أنه إستقى معلوماته من مرضى وعممها على الأصحاء، وهذا الهجوم الهادف للفصل الحاد بين السواء والمرض هو دفاع مرفوض يحمينا من رؤية أنفسنا ويحرمنا من رؤية المرض والحقيقة، فالمريض والشاذ- فى المجال النفسى – ليس سوى بروز مبالغ فيه لأحد جوانب تركيبنا ووجودنا، والباحث الأمين هو الذى يبحث فى هذا الجانب تحت نور هذه الخبرة المكبرة، فاذا تمكن من سبر غورها رآها هى هى فى السلم بدرجة أخف، وبتكامل أشمل مع سائر الجوانب الأخرى، وبتعبير آخر فما المرض الا “مبالغة منفصلة” (مستقلة) فى نشاط تركيب قائم يوجد أصلا كجزء متسق مع الكل عند الأسوياء ورفض رؤية الشاذ كنموذج مكبر لأجزاء الوجود البشرى هو دفاع ذاتى سرعان ما سيتراجع المختبئون فيه عودة الى الحق أو إنهاكا من الباطل، ويكفى لسوى خائف، (عالم أو غير عالم) أن يتشجع بالنظر فى أحلامه (ما يصله من أحلامه) ليرى مدى شذوذه الذى يسارع برفضه
اذن، فشخصيات ديستوفيسكى “الشاذة” ما هى إلا داخلنا بكل تفاصيله وقد وضع تحت عدسة حدسه المكبرة
موضــوعا الدراسة:
1– نيتوتشكا نزفانوفا:
هى رواية متوسطة كتبها ديستويفسكى فى عامى 1849,1847، أو هى فى واقع الأمر”نصف رواية”، لأنه كان ينوى أن يكتبها فى ستة أجزاء، ثم توقف، ويقال أن إعتقاله فى 23 أبريل 1849هو الذى قطع عليه عمله فى إنجاز هذه الرواية، رغم أنه لم يكف داخل السجن عن الكتابة، حتى أن القصة القصيرة”البطل الصغير” التى تمثل الجزء الثانى من هذا العمل كتبها داخل السجن، فلو كان ثمة تكملة ملحة- أو ممكنة- للرواية المبتورة لأمكن ذلك داخل السجن كما أمكن لغيرها، على أن بتر هذه الرواية ونشرها ناقصة كانا فرصة جيدة لأقول (1) أن النسيج القصصى المحبوك والمتكامل ليس هو محور دراستى هذه، بل اللقطات المكثفة المستعرضة بغض النظر (ليس تماما) عن الخط الطولى (2) إن حالة الوعى المصاحبة لكتابة عمل ما، وهى التى تغلب فى مرحلة الصياغة على درجاتها، هى حالة من نوع خاص (الخصوصية هنا بمعنى الإختلاف عن عموم الوعى فى غير هذا الوقت وليس بمعنى الاختلاف عن وعى سائر الناس، وإن كان ذلك محتملا)، وهى تكتمل وتنضج فى تهيؤ بذاته وهى تنشط(بتشديد الشين وكسرها) تركيبات بذاتها ذات”حضور” متداخل، على أن هذه التركيبات ليست جاهزة لتخرج كاملة إذا ما ترتب لها التهيؤ النوعى المناسب، إلا أن تحريك مكوناتها وتنشيطها يحتاج إلى هذا التهيؤ بالذات ليعطى هذا العمل بالذات، فاذا تغير التهيؤ تماما فقد تنزوى حالة الوعى الخاصة تلك أو تختفى فيعجز المبدع عن إتمام هذا العمل بالذات- دون غيره-، وكأنه لم يعد هو ذاته الذى بدأه، وكأنى بهذا التسلسل يؤيد أن المبدع الحقيقى يكون هو عمله الذى يعمله أكثر مما يكون نفسه الشائعة، وتتولد شخوصه من طبقات وعيه الإبداعى وتنمو ما استمرمصدر التوليد، وقد يؤكد ذلك عملية بتر [9] الصغير “لاريا”، فقد ظهر هذا الطفل فى مسودة أحد فصول الجزء الثانى من رواية نيتوتشكا (الجزء الذى يجرى فى بيت الأمير”ك”) ثم ظهر فى الطبعة الأولى ليحذف تماما فى طبعة 1960 وكأنه بتر بعملية جراحية قاسية لازمة فى آن، ولعل ذلك تم بعد أن اضمحل هذا “العضو” نتيجة لافتقاره الى مقومات نموه(حالة الوعى الذى حملته حتى الولادة الباكرة) فاستوجب البتر رغم أن ما كان يمثله هذا الصبى لوريا كان شديد الأهمية بالنسبة للدراسة الحالية لو أنه إكتمل خلقه فكمل مساره، ذلك لأن هذا الصبى كان محاصرا بفكرة ملحة “”أن أبويه ماتا حزنا وكمدا لأنه لم يكن يحبهما”، وفى ذلك ما فيه من معانى الذنب المركب
والعكس والقتل بالحرمان [10]مما كان سيثرى معرفتنا بعالم الطفولة كما قدمه ديستويفسكى، وخاصة وأننا نلمح بعض ملامح نفس التركيب والميكانزمات عند نيتوتشكا نفسها، ناهيك عن التماثل فى الالتقاط والاستضافة فى بيت الأمير(مثلهما فى هذا الشأن مثل الكلب: فالستاف-انظر بعد)
ورواية نيتوتشكا تتكون من ثلاثة أجزاء، الجزء الأول: ويمثل الطفولة المحرومة البائسة التى نشأت بين أم شبه مريضة طول الوقت، تعانى أبدا من الإنهاك والفقر، وبين زوج هذه الأم المضطرب العاطل الأنانى الخيالى المحبط، الذى اعتبرته نيتوتشكا والدها منذ بداية إدراكها، فأحبته (أمه: كما سيأتي) وتمنت موت أمها لحسابه، (رغم حبها السرى لها) حتى ماتت الأخيرة وكأنها قضت من تراكمات البؤس فى ليلة واجه فيها زوجها حقيقة عجزه (“الموسيقي”) عن كل شيء، فولى هاربا من جثة زوجته وفشله وحب نيتوتشكا ومن عقله جميعا، ليتمتع بحرية الجنون يوما أو أكثر ثم يموت معلنا الهزيمة القصوي
والجزء الثانى: يشير إلى حياة نيتوتشكا فى بيت الأمير الذى التقطها بعد ترك والدها[11] (زوج أمها) لها فى الشارع عاويا جبانا قاسيا، وفى هذا الجزء التعويض الصعب (لدرجة الاستحالة) لبؤس الطفولة الأولى، فنرى العلاقة الزاخرة بين نيتوتشكا وإبنة الأمير وهى فى مثل سنها، تلك العلاقة التى بدأت بالتوجس والحذر لتنتهى بالغرام الملتهب بين الطفلتين، حتى تحول الأسرة – والظروف- بينهما
أما الجزء الثالث: فيمثل المراهقة التى أمضتها نيتوتشكا فى بيت إبنة الأميرة الكبرى – من زواج سابق – (الكسندرينا ميخائيلوفنا) حيث لقيت رعاية أموية حقيقية لأول مرة، ولكن فى ظروف شاذة (أيضا) حيث ظل زوج الكسندرينا، بكل بلادته وتصنعه وانزوائه وغروره، يغزى شعورا وهميا بالذنب عند زوجته يربطها به وببيتها وطفليها ونفسه دون أدنى كرامة أو إرادة، وينتهى هذا الجزء والرواية بعد أن تعثر نيتوتشكا على رسالة تحوى “سر” هذا الإذلال القاتل، وهى رسالة موجهة إلى الكسندرينا تحمل كل العواطف (الأخوية) النبيلة مع قرار الانفصال الرزين من حبيب مخلص قديم، مما دعى نيتوتشكا أن تعلن ثورتها لصالح “الحق” فتمثل الضمير القاضى الحامى المسؤل (الوالد) الذى يضع حدا لهذه المأساة بما يتضمن حق “الحق فى الحب” تبتر الرواية فجأة دون أن نعلم ما يترتب عن إعلان هذا الحق من ممارسة أو إنهيار أو إستمرار أونقلة أو غير ذلك
تحفظات حول التفسيرات النفسية لمقدم الأعمال المترجمة
كما قدمنا، نجد أن الجزء الأول إنما يروى نشأة نيتوتشكا التعسة فى جو شديد البؤس، مع أمها العاملة المكافحة المحبة لزوجها(رغم ما هو، وبسببه) حيث يقوم هذا الزوج بدور “والد” نيتوتشكا ليجسد الاضطراب والضياع والخيالية ويفسد كل إستقرار عائلى محتمل أو مأمول، وفى نفس الوقت فقد كان مصدرا هائلا لفيض زاخر من العواطف الملتهبة الصادرة من تفاعل بؤسه ووحدته وهواجسه ومحاولاته المستميتة لكى يعترف أحد بموهبته ” الحقيقية المشوشة” أو “المزعومة المأمولة” (لا أحد يدرى – فهو لم يختبر)، المهم أن يرى (بضم الياء) من خلالها، ورغم ما ذهب اليه مقدم الترجمة من تصوير حالة بافيموف “لعقدة النقص” مشيرا بذلك إلى سبق ديستويفسكى لأدلر[12]، فانى رأيت فى يافيموف أساسا إلحاح “الحاجة إلى الشوفان” لذاتها [13](ومن ثم الاعتراف بالوجود)، لا ليغطى بها نقصا حقيقيا أو متخيلا
وقد بدأ طوال هذا الجزء أن هذه الحاجة ظلت تلح عليه أساسا وتماما حتى لتفسر كل وحدته وكل شقائه وكل ضياعه، ولعل علاقته بكمانه (انظر بعد) لم تكن سوى علاقته بذاته (من داخل )، وقد يكون هذا اليقين بالقدرة الموسيقية الإبداعية الخاصة ليس سوى إعلان أن بداخله من الألحان [14]ما يستحق أن يظهر فيسمع”ليري” ولم يثره أو يطمئن وجوده أى شيء آخر، لاحب زوجته ( الحقيقي) له ولا أمومة نيتوتشكا، ولا غيبوبة الشراب، وظل وغدا طوال الوقت، بما فى ذلك علاقته بهذه الطفلة البائسة، كان وغدا معها أيضا – وأصلا- رغم نوبات العواطف المجهضة التى كانت تظهر منه رغما عنه فى بعض الأحيان، ظل لها إبنا مدللا أنانيا حتى تركها فى أصعب المواقف بعد وفاة أمها، وهنا أختلف مع من يزعم بأن هذه العلاقة هى علاقة أوديبية أساسا[15](أو بتصحيح أدق: الكترا) إذ يستشهد ذلك الزاعم بقولها: “. . . شعرت نحو أبى … بحب ليس له حدود، حب غريب ليس من الطفولة فى شيء” (ص66) فتصور هذا الناقد أن ما ليس طفولة هو ما يعنيه التفسير الأوديبى لعواطف الأطفال، بل ذهب أكثر من ذلك إلى تصور أن ديستويفسكى صالح بين أدلر وفرويد (أو جمع بينهما) فى علاقة نيتوتشكا بأبيها من ناحية مع إستمرار تطلعاتها الحالمة نحو القصر المجاور ذى الستائر الحمراء (عقدة النقص: أدلر) الأمر الذى يمكن إرجاعه مباشرة إلى نشاط خيالها النابع من شقائها وغيره نحو المنزل الجنة (الرحم الأمن)، ولا أجد فى هذا أو ذاك تصالحا يستأهل الوقفة، بل إنى أشك فى جذور النقص كدافع أولى لهذا الخيال، فما كانت نيتوتشكا إلا أما لأبيها، وما كانت خيالاتها حول القصر ذى الستائر الحمراء إلا خيالات الأطفال حتى لو لم يعيشوا النقص، فهى مجموعة متداخلة من خيالات الاستكشاف والتغير والتعويض جميعا، يغذيها هذا القدر الهائل من التعاسة والحرمان لتهرب فى “خيالات الأمن والسكينة (التى قد تشير إلى الرحم لا إلى التطلع) دون حاجة إلى لافتة ” عقدة النقص”ومن ثم “التعويض”!!
أما الجزء الثانى فإن العودة الى تصوير العلاقة بين نيتوتشكا وكاتيا (إبنة الأمير) باعتبارها تصالحا جديدا بين أدلر وفرويد حيث ذهبوا إلى تفسير حب الطفلتين لبعضهما البعض بحب “المثل” الذى قال به فرويد، أما صراعها التنافسى المبدئى فقد عزوه الى ما أشار به أدلر من رغبة التفوق (تعويضا) وهذا تأكيد جديد لخطورة التسرع بالتفسير النفسى الظاهر، فان علاقة طفلتين مختلفتين لابد أن تبدأ بالحذر وتشمل التنافس ثم قد تتصاعد الى الالتحام للتكامل فضلا عن اسقاط كل منهما داخلها وأحلامها على الأخرى واستعمال كل منهما للأخرى بما تحتاجه، وكذلك فضلا عن دور “الصنو”[16] فى النمو، وكل هذا سوف أعود اليه تفصيلا، المهم هنا أنى أنبه إبتداء إلى رفض ما يسمى بالتفسير النفسى وهو شائع
القصة القصيرة: البطل الصغير
وقد ألحقت هذه القصة “البطل الصغير” بالرواية باعتبارها هامشا للعمل الأساسى، حتى تكاد تكتمل رؤية ديستويفسكى للطفولة فى أعماله الباكرة، وقصة “البطل الصغير” كتبها ديستويفسكى وهو فى سجنه المنفرد بقلعة “بتروبافلوسكابا”، وهى تقدم لنا الطفولة من جانب سهل وحار وشاعرى رائع، ففى حين تمثل نيتوتشكا عالما داخليا زاخرا بكل عوالم الخارج المتناقضة، يمثل لنا البطل الصغير عالم الطفولة الراصد “للخارج” أساسا وبما يستتبعه تفاعله مع هذا “الخارج”، وقد تعجب ديستويفسكى نفسه – كما تعجب ناقدوه – على التناقض بين جو كتابة القصة فى زنزانة منفردة منتظرا صدور حكم الاعدام، وبين جو القصة “.. حياة توشك أن تكون عيدا لا ينتهي” (المقدمة: ص23)، وعندى ذلك يثبت أن التهيؤ الذى أشرت اليه سالفا لا يكون بالضرورة مماثلا – أو مناسبا- لحالة الوعى التى يثيرها، وبأسلوب آخر: فليس الجو البهيج هو الذى ينشأ منه وعى بهيج، ومن ثم عمل متفائل سعيد، والعكس صحيح، وإنما يثار من محتوى الذات: ما يماثل، أو يكمل، أو يعوض، أو يعيد تركيب، أو يتحدي: التهيؤ المحيط حسب درجة الاستعداد ونوع الإعداد، ويستمر هذا الوعى المثار باستمرار نوع الإثارة الداخلية والخارجية حتى يصل إلى غايته الإبداعية التى تعطى لكل عمل إستقلاليته الفريدة، وقد توفر هذا فى قصة البطل الصغير رغم التناقض بين الخارج والداخل
وحكاية البطل الصغير تروى لنا قصة طفل فى الحادية عشر من عمره، يستعمله بعض الضيوف (الشقراء العابثة فى قسوة) كأداة للمداعبة وموضوعا للفكاهة والمرح، وهو يرفض هذا التسطيح فى إستقبال ما يظنونه طفولة، ويحمل من منابع العواطف وتصانيفها ما يكفى أن تجرى منه أنهار الحياة النابضة فى قلوب العشرات، وهو يتوجه بكل حيويته وطاقته وخياله وحاجته إلى حسناء أخرى (السيدة: م) لتصبح معبودته وموضع أحلامه ورعايته معا، وهو يكتشف أثناء ذلك- بموضوعية مناسبة- ثقل زوجها وبلادته، وفى نفس الوقت يكتشف علاقتها الخاصة العميقة الرائقة بفارس مسافر، وهو لا يغار لذلك ولا يثور، بل يحنو ويتقبل، ويتمادى فى إايثاره وعطائه المحب إلى أن يحتال ليرجع لها “رسالة” (أيضا رسالة!) وقعت منها عفوا بعد أن تسلمتها من حبيبها فى لحظة وداع سرى، يحتال لذلك دون أن يظهر مباشرة فى الصورة إكمالا لانكار ذاته، وتماديا فى تصوير أن تحقيق هنائها هو الغاية غير المرتبطة بذاته، واحتياجه أصلا
وهذه القصة إذ تقدم لنا صيحة منذرة لكيفية إفسادنا لما هو طفولة، وعجزنا عن فهمها، تشترك فى أقل القليل مع رواية نيتوتشكا – مثلا فى رعاية الطفل للأكبر – وتختلف بشكل واضح لتعلن ثراء ديستويفسكى فى الإحاطة بظاهرة ما، وعدم خضوعه لنمط معين
والآن الى القراءة المفصلة:
أولا: نيتوتشكا نزفانوفا
الجزء الأول- الطفلة الأم
فى هذا الجزء تعيش نيتوتشكا فى جو أبعد ما يكون عن السواء، جو هو الشذوذ ذاته، هو نصف الجنون أو شبه الجنون، وياليته الجنون الكامل الصريح حيث يتحدد معالمه بحيث يمكن مواجهته وأحيانا تحديه، أما نصف الجنون(ص88) فهذا هو الاضطراب المخل حيث الأرض مغرية بالسير لكنها رخوة حتى الغرق,” والآخر” واعد بالانصات ولكنه بعيد حتى الصمم. وهكذا، وقد بدأت سرعة إيقاع الأحداث تزيد بعد شجار عنيف بين الزوجين إنحازت فيه نيتوتشكا لأبيها لاعتبارات غير واضحة، أهمها الخوف الشديد من أمها التى كان يتراءى لها أنه “ما من أحد ألا يخشاها”، وقد كان خليقا بهذا الخوف وما تلاه أن يعلن بداية طفولة حقيقية واستكانة وادعة بعد أن لجأت إلى أبيها تكاد تدخل فى جسده حتى التلاشى طلبا للأمان وفرحا به
نادانى أبى، فقبلنى، وداعب رأسى، وحملنى إلى ركبتيه بينما كنت أشد جسمى إليه [17] “برفق وحب” (ص66,65)
ولكن الذى حدث أن تفجرت أمومتها لا طفولتها!!!:
“وشعرت نحو أبى منذ تلك اللحظة بحب ليس له حدود، حب غريب ليس من الطفولة فى شيء” (ص66)
ويسارع النقاد ليقولوا أنها – اذن – عقدة أوديب(الكترا) ولو تمهلوا ثانية واحدة لسمعوها تكمل:
حتى لأستطيع أن أقول ان هذه العاطفة تشتمل على شيء مما تشعر به الأم نحو إبنها من حب وقلق” (ص66)
وهى ذات نفسها تعلن غرابة الأمر (لنتعلم ! وياليتنا نفعل)
” إن لم يكن مضحكا أن توصف عاطفة طفل بمثل هذا” (ص66)
والأكثر إضحاكا أن نسارع “بجنسنة ” هذه العاطفة تحت أوهام تحليلة أوديبية متعجلة
ونيتوتشكا تعلن – مباشرة – أن هذه اللحظة الحادة المعقدة (انظر بعد) كانت بداية جديدة لتغير كيفى وتفجر ذكرياتى ووعى جديد
“..كانت تلك فيما أعتقد أول ملاحظة أبوية… ولعلها هى السبب فى أن ذكرياتى أصبحت منذ تلك اللحظة واضحة هذا الوضوح” (ص66)
وبضربة واحدة وخلال بضعة عشر سطرا قال لنا ديستويفسكى كيف بدأت نيتوتشكا مسيرة النمو، وكيف تغير إستقبالها للعالم، بل أنه حدد نوع الوعى الجديد النامي:
“أصبحت لا أكتفى بالمشاعر التى تصلنى من الخارج بل صرت أفكر، وأحكم، والاحظ” [18](67)
ولكن نيتوتشكا لم تنم طفلة منذ “هذه اللحظة”، فقد سرقت طفولتها فى نفس الثانية، سرقتها طفولة ألح من طفولتها، فاذا بها الأم الحانية الراعية، ولمن؟ للوالد الذى أثار طفولتها بتلويح حان
ويبدو أن الذى يحدد “من الوالد” و” من الطفل” ليس هو السن أو القبل العلوية أو من يجلس على ركبتى من، وإنما إتجاه الاعتمادية ونوع وعى كل طرف بالآخر:
فالأب هنا بدا هو الأضعف (إذن: فهو أولى بالطفولة!)
“كان يتراءى لى أن أبى حقيق بالرثاء، معذب، مضطهد” (ص66)
ثم بالتالي:
“وأن من الظلم ألا أحبه حبا قويا” (ص66)
وتتحد العلاقة بالأكثر مسئولية والأقدر فهما وأعمق وعيا
“كيف إستطعت أنا الصغيرة أن أنفذ إلى أعماق نفسه، فأدرك الآلآم التى كان يعانيها” (ص66)
ويتردد ما يؤكد هذه العلاقة الأموية بعد ذلك فى أكثر من موضع:
“ومع أنى كنت طفلة، إستطعت أن أنفذ إلى أعماقه” (ص102)
“لا شك أنه هو الطفل لا أنا، ما دام يحدثنى بهذه اللهجة عن أعدائه” ( ص102)
وهى تشاركه آلامه وترجع مصدر آلامهما معا إلى القسوة المتخيلة للأم رغم مخالفة ذلك للحقيقة، فهذه الأم… “… التى لم تكن أبدا قاسية فى الحقيقة، لعل قسوة أمى الشديدة على هى التى دفعتنى إلى التعلق بأبى تعلقى بانسان يعانى مثل الذى أعانيه وفقا للصورة التى رسمتها لنفسي”
وقد ظلت أمومتها لأبيها تلاحقها حتى فى أقسى لحظة فى حياتها حين تركها فى الشارع غدرا بعد وفاة والدتها، فبدلا من أن تثور عليه وترفضه أو على الأقل أن تعامله تركا بترك، ظلت تجرى وراءه لا لتحتمى به.. ولكن لترعاه:
“أخذت أعدو وراءه عدوا سريعا وقد تملكنى خوف مجنون .. ووجدت قبعته فى الطريق، لقد سقطت عن رأسه وهو يعدو فحملت القبعة وتابعت عدوي.. كنت أشفق على أبى، كان صدرى يختنق إذ أتذكر أنه بلا معطف، وبلا قبعة، بعيدا عني” (!!) (ص111)
وتبلغ درجة السماح الحانى من الأم الطفلة لطفلها الهارب أنها تريد أن تلحق به لتطمئنه أنها سمحت له بتركها وهى الخائفة العاجزة اليتيمة المهجورة، كل ما تريده “له” هو ألا يخاف منها (وليس العكس)
” …حتى أستطيع أن أطمئنه.. حتى أستطيع أن أؤكد أننى لن أعود إذا كان يريد ذلك” (ص118) وهى فى سماحها هذا تعلم مصيرها
“.. وإنى عائدة وحدى إلى جانب أمي” (ص:118) وأمها جثة هامدة فى المنزل وهى لا تكاد تدرك الحد الفاصل بين الموت والحياة، وهكذا نرى ديستويفسكى وقد استطاع بحدسه الفائق أن يظهر تركيبا متكاملا ( هو التركيب الوالدى) [19]الموجود فينا منذ الولادة، وكيف أنه يظهر حسب توزيع القوى والعواطف بين كيانين إنسانيين بغض النظر عن السن، ولا أجد أى أثر مباشر لأوهام أوديبية جنسية فى هذه العلاقة
2– النمو وقفزات الوعى
حين أعلنت نيتوتشكا “هذه اللحظة” (ص66) كبداية اليقظة من “نوم الطفلة” (ص66) كانت لا تستعمل مجازا بلاغيا وإنما حقيقة مباشرة، ذلك أن كتب التربية المتعجلة والشائعة قد سطحت مسار النمو حتى شاع أنه إضافات كمية مع أقل الإنتباه لهذه “النقلات ” النوعية، وقد إنتقلت نيتوتشكا هنا هذه النقلة تحت مظلة جو الأمان الذى وصل إليها من هدهدة الوالد بعد رعب معايشة الشجار بين الوالدين، رعب يهدد الوجود ذاته، دام ساعتين طويلتين:
“كنت أحاول عبثا خلالهما، وأنا أرتجف من القلق أن أحذر كيف سينتهى الأمر (ص65)
ورغم هذا التمهيد برعب يهدد الوجود، يتلوه الاحتواء بطمأنينة غير متوقعة أو محسوبة مما يغرى القاريء المتعجل بتصور ما سيتبع ذلك من “نوم آمن” فان الذى حدث هو أبعد ما يكون عن ذلك، إذ هو”يقظة مفرطة” بل أن تعبيرها عن هذا الحادث وما استتبعه بعد ذلك كان غريبا لمن لا يعرف الطفولة النمو
“وقد جرحنى هذا الحادث جرحا عميقا”!!(ص67)
“…من ذلك اليوم أخذ نموى يتم بسرعة عجيبة-بسرعة مرهقة” (ص 67)
والآن: كيف يجتمع “الجرح ” “بالأمن” “باليقظة” فيؤدى ذلك إلى “الاسراع فى مسيرة النمو”؟
وللقاريء العادى أن ينسى -أو يتناسى – ذلك التناقض الظاهر، حتى ليستقبل الحديث وكأنه عن حادثين لا حادث واحد ولكن:
إن النمو لا يتم بالإضافة، وإنما بالكسر فالاطلاق فالاستيعاب فاتساع الوعى، وهذا ما أراد ديستويفسكى أن يعلمنا إياه، إن هذا الجرح إنما يعلن ما يمكن أن تتصوره شرخا فى جدار الكبت، يطلق مكنون الذات، فتستعاد الذكريات، ونفيق من تنويم سابق(كان لازما حتى تلك اللحظة) لننطلق بسرعة أكبر- وأكثر إرهاقا – على درب النمو، وكأن ديستويفسكى قد رأى كل الظروف المطلوبة لإعلان هذه اللحظة المتكررة على مسار النمو (الخفية على أغلبنا بما فينا رهط من العلماء) فهى تتطلب عادة (وبالترتيب):
(أ) تهديد بأن القديم لم يعد يصلح، أو مهدد بشكل ما، مهدد لدرجة الاطاحة بالوجود برمته (هذا الشجار بين الأم والأب)
(ب) عرض بأمان منقذ يسمح بالعودة إلى الحياة (هدهدة الوالد لنيتوتشكا)
(ج) تراخى قبضة الكبت القديم حتى التسليم المؤقت (الالتحام الجسدي)
(د) إنطلاق الداخل عبر الشرخ الحادث فى جدار الكبت نتيجة التراخى بعد الوعد بالأمن الذى تلى بدوره التهديد “السالف الذكر” (اليقظة بعد نوم الطفولة، وظهور الذكريات “بهذا” الوضوح)
(هـ) الاسراع باستيعاب المخزون المطلق من الوعى الكامن يثرى به الوعى الظاهر لتوليف وعى جديد فى خطى سريعة مرهقة (أخذ نموى يتم بسرعة عجيبة- سرعة مرهقة)، والوقوف عند هذه اللحظات[20] هام وضرورى لأن الأعمال الأدبية تتحفنا به أكثر من الملاحظات التربوية والمشاهدات الكلينيكية، وقد أسميت مقابلها المرضى “بداية البداية”[21]، ولها مقابل ثالث فى لحظات التنوير فى الإبداع أو “الوصول” فى الخبرة الصوفية، وتحديد هذه اللحظة تحديدا نوعيا يتم بمنتهى الدقة والوضوح (دون التزام بتوقيت معين) وهى تصبح- عادة- معلما من المعالم التاريخية الحياتية، يتحدث الفرد عن ما “قبلها”وما “بعدها” بجلاء تام، وتسير نيتوتشكا هنا إلى أنها كانت فى سن الثامنة والنصف، إلا أن المهم هى أنها “لحظة” بذاتها لها ما قبلها وهو (ما قبلها) عادة ما يكون مدغوما الى أن يحدث سبق التوقيت[22]، ولها ما بعدها وهو عادة ما يكون شديد الوضوح والتحديد: تقول نيتوتشكا:
“أستطيع أن أرى بوضوح تام كل ما وقع بعد الثامنة والنصف من عمرى يوما بيوم… دون إنقطاع كأنه وقع بالأمس” (ص63)
أما قبل ذلك فـ:
“كل ما انقضى قبل هذا العهد لم يدع فى نفسى أى أثر يمكن أن أذكره الآن” (ص63) فهل نصدقها بالحرف الواحد حتى وهى تحكى عن”جزر من الذكريات” شديدة الوضوح رغم الضباب من حولها ورغم انفصالها عن أى تسلسل منظم، فهى تذكر فى تلك الفترة (السابقة) فى غير ترتيب “أشبه بأحلام مريض”:”حصانا داسها، وفأرا فى ركن حجرة ساكنة وهى مريضة أثر حادث الحصان..” الخ، وحتى الوعى بحالة النوم السابق إنما يدل على أن الفرق ليس فى التذكر من عدمه وإنما هو أساسا في”نوع الوعي” قبل وبعد “اللحظة”، وظاهرة”سبق التوقيت” هى من أهم ما يؤكد حيوية الأحداث فى مخزون الوعى، وهى إن كانت ذات دلالة خاصة فى توقيت بداية سيكوباثولوجية بعض الأمراض فإنها هنا تمثل الأداة النشطة فى السرد والرواية. وديستويفسكى لا يفتأ يذكرنا بتناوب النمو، وقد عاد يستعمل تعابير النوم واليقظة والبلادة والوضوح لوصف فترات النمو المتلاحقة المختلفة عن بعضها البعض نوعيا
تذكر: “كأنما إستيقظت من نوم ثقيل” (ص64) وكذلك، وانقضت سنة كاملة على تيقظ شعوري.. وعلى تمزقى صامتة بين مطامح غامضة نشأت فى بغته” (ص74) ثم، ” أصبحت حياتى بعد سفر كاتيا حياة هادئة ساكنة ملازمة للبيت .. لم استيقظ منها الا فى نحو السادسة عشرة من عمرى ان صح التعبير..” (ص195) (وقد صح التعبير)
“كنت قد بلغت السادسة عشرة من عمرى، وقد أصبت فجأة فى ذلك الحين بنوع من تبلد الحس وخمود العاطفة.. وكأن خيالى قد كبا، وكانت وثباتى قد إنطفأت وكانت أحلامى قد تبددت حتى لكأنى لا أستطيع أن أحلم” (ص225)
ويلاحظ هنا أنه كما تحدث الإضاءة والتنوير والوضوح فجأة، كذلك فان الإنطفاء يحدث فجأة
كما أود أن أكرر أنه لا مبررلاعتبار هذه التعابير عن إنطفاء الوثبات، وخمود العاطفة تعابير مجازية، إذ أنها تصف مباشرة خبرات وعى حقيقية لمن يريد أن يعرف (أو يتذكر)
– الداخل والأنغام
يافيموف الكمان:
لم يكن “كمان” يافيموف (والد نيتوتشكا = زوج أمها) إلا ذاته الداخلية المرجوة، وبقبولنا هذا الفرض الذى سنحاول إثباته حالا يبدو تفسير حالة يافيموف بعقدة النقص الأدلرية شديد التسطيح
لم يكن “الكمان” هو الآلة التى بدأ بها فقد كان فى الأصل عازفا على “الكلارينيت”، وقد “ورث” هذا الكمان من “عجوز عجيب” وكأنه يشير إلى أن هذه اللغة الأنغامية[23] الأعمق هى الأصل الأقدم المنحدرة من تاريخنا الأول الذى لم تعجز لغتنا الرمزية الكلامية أن تستوعبه بما يحقق التوازن والتواصل معا، فالكمان هنا هو “ذاته” الأعمق، وهو رغبته فى التواصل بحق، وهو عجزه عن هذا وذاك، وهو لغة كامنة واعدة، وحتى اتهامه بقتل صاحب الكمان العجوز قد يواكب هذا الغرض فى مقابلته “بالجريمة الأولي” وقتل الوالد… الخ
وقد تطورت علاقته بالكمان من آلة يمكن أن يتفوق فى العزف عليها إلى “سر يخبئه” و”يرجع إليه” و”يناجيه”، وحين أراد أن يكافيء نيتوتشكا على إستجابتها لنزواته الطفلية واستغلال أمها لحسابه كافأها باطلاعها على سره”هذا” وكأنه يكشف لها عن مكنون ذاته:
“.. لم يستطع أبى أن يكبح جماح نفسه فأخذ يقبلنى بقوة من شدة الفرح، .. ثم أخبرنى أنه مكافأة على أننى إبنة طيبة عاقلة سيرينى شيئا جميلا جدا، شيئا، سيسرنى أن أراه، ثم فك أزرار سترته، فأخرج مفتاحا صغيرا كان معلقا فى رقبته بخيط أسود لا يفارقه (أنظر أين يضع مفتاح سره وداخله) (24)، وألقى على نظرة غريبة كأنما يريد أن يقرأ فى عينى السرور الذى كان لابد- فى رأيه- أن أشعر به، وفتح الصندوق وأخرج منه فى كثير من الحذر علبة سوداء ذات شكل غريب لم أرها قبل ذلك أبدا، ولمس العلبة بنوع من الرهبة غير مألوف فيه (فهى تاريخه ونبض داخله) وانمحت الابتسامة من وجهه ليحل محلها فجأة مظهر الرصانة والجلال (فى حضرة الحقيقة) وأخيرا فتح العلبة الغريبة بالمفتاح وأخرج منها شيئا غريب الشكل (الغموض هو أصل الحقيقة) [24] لم أره قبل ذلك أيضا، وتناول الشيء (ما زال مجهولا) فى عناية أشبه بالاجلال (واجب: قارن الرصانة قبل ذلك) قائلا: إن هذا هو كمانه، ثم حدثنى بصوت خافت رصين حديثا لم أفهمه (ما زالت اللغة الخاصة من جانب واحد) ..”
سالت دموع أبى على خديه، وتملكنى أنا إنفعال شديد، وأخيرا طبع على كمانه قبلة رقيقة (ليست هذه آلة وليس ثمة شعور بالنقص أو موهبة مهضومة) ثم مده إلى لأفعل مثلما فعل (ولم تقل إن كانت قد فعلت أم لا) ثم لاحظ أنى أتمنى لو أرى الآلة عن كثب (كم مرة أعلنت إنها رأت داخله قبل ذلك)، فأجلسنى على سرير أمى (كم كان يود أن تفهمه أمها مثلما هى تحاول) ووضع الآلة بين يدى (سلمها نفسه دون آمان كامل) إلا إننى شعرت أنه كان يرتجف خوفا على الآلة أن أكسرها..” “.. واستولى على الخوف أنا أيضا، فبادرت أردها اليه، فأعادها الى علبتها بعناية كبيرة، وأغلق العلبة ثم أرجعها الى مكانها فى الصندوق، ووعدنى وهو يداعب رأسى أنه “سيريني” الكمان مرات أخرى كلما كنت عاقلة مطيعة مثلما أنا الآن” (ص:87,86)
فالمسألة إذن ليست كمانا أو تفوقا فى العزف، لأنه بمجرد أن “يريها كمانه دون “عزف” أو موسيقى فقد حقق بعض ما يعنى، ولم يعدها أنه”سيسمعها عزفه” وإنما فقط “سيريها كمانه”
وقد تعمدت الإطالة فى هذه المرحلة لأنى سأعود لهذه الدلالة فى أكثر من عمل لاحق، وديستويفسكى فى نفس العمل قد إستعمل نفس الرمز بشأن آلة أخرى فى موقف آخر مع الكسندرين ميخائيلوفنا وهى تعلن لنيتوتشكا إحساسها بقرب النهاية بعد طول المعاناة
“إن الخريف يتقدم، وقريبا يسقط الثلج، وسأموت أنا عند أول مرة يهطل فيها الثلج، نعم، وإن هذا ليحزن قلبى ,وداعا”
“وقد اقتربت من البيانو تعزف بعض الألحان، فاذا بأحد الأوتار يقطع فجأة..، فيدوى من إنقطاعه صوت مباغت امتد ثم انطفأ فى ارتجاف”
ثم تترجم الكسندرين لنيتوتشكا الأمر مباشرة دون حاجة إلى خدماتنا التفسيرية
“هل تسمعين يا نيتوتشكا، هل تسمعين، لقد كان هذا الوتر(أنا) مشدودا أكثر مما ينبغى أن يشد (زاد الأمر فوق طاقتي) فلم يستطع أن يحتمل فمات (لاحظ كلمة”مات” وليس إنقطع) لقد سمعت كيف توجع الصوت وهو يموت (الصوت أيضا”يموت” بعد أن”يتوجع”) (ص258)
فاذا كانت المباشرة هنا شديدة الصراحة والكسندرين هى الوتر، ألا يدفعنا ذلك الى تأكيد الفرض الذى ذهبنا إليه بعناية مسئولة، وهى أن يافيموف هو وكمانه شيء واحد، وأن التفسير النفسى الأدلرى هو أبعد ما يكون عن الاحتمال
“إن هذه الموسيقى لم تكن موسيقي”
“لم تكن تلك أصوات الكمان لقد كانت صراخا دوى فى منزلنا لأول مرة”
“إلا أننى مقتنعة بأننى سمعت آهات وصرخات إنسانية ونحيبا، لقد كان يتفجر من هذه الأنغام ألم فظيع حتى إذا زمجرت نهاية اللحن بدت تلف كل شيء فى آن واحد” (ص:112)
هامش حول العلاقة الثلاثية:
ويجدر بنا هنا أن نذكر أن تفاعل يافيموف لموت زوجته كان يشير إلى طبيعة علاقته الشديدة التعقيد بزوجته، فقد بدا لأول وهلة وكأنه يكرهها ويتمنى موتها، حتى إنتقلت تلك الأمنية إلى نيتوتشكا وأصبحت تلح عليها مثيرة الألم والخجل والذنب جميعا، ولكنه حين فقدها فى لحظة إعلان عجزه عن الحياة والتواصل (بالمقارنة بالعازف “س” احتضر معها، ثم كان هروبه وعدوه ثم جنونه حتى الموت مجرد”تحصيل حاصل” حصل منذ أن نعى نفسه بهذا”الاحتضار اليائس” (ص112)، لقد كانت هذه الزوجة المحبة البائسة مرفأ صامتا صابرا حافظت بوجودها- وباعتبارها ” مرمى للكراهية” – حافظت على نصف عقله ونصف جنونه، فلما ذهبت تحرر منها، فجن فمات,:
“نعم إنها ضربة قاضية، كان يريد أن يهرب من محكمة ضميره ولكنه أصبح الآن لا يستطيع أن يجد ملجأ يهرب إليه” (ص:120)
ولنا أن نتذكر -أيضا- أنه كان يعقد على موتها آمالا للخلاص نسجها خياله المريض، فلما تحقق الأمل ولم يتحقق الخلاص سقط من شاهق، وديستوفسكى يعلم (ويعلمنا) ذلك:
“لا شيء أفظع من التحرر من فكرة ثابتة وخاصة حين يكون المرء قد وقف عليها حياته كلها” (ص:95)
ولكن هل كان يافموف يحب زوجته؟
إن مفهوم الحب هنا بالمعنى الشائع قد يوحى بالاجابة بالنفى إلا أن مفهوم الحب بمعنى دورها (الأم) فى تغذية حاجة أساسية لوجوده لابد أن يقلب الإجابة إلى الإيجاب، وقبل أن ننتقل إلى الجزء الثانى بقى لدينا دعوة لنظرتين فى العلاقة الثلاثية المعقدة التى يستحيل أن يسطحها التفسير الأوديبى المتيسر: الأولى وتتعلق بقسوة الطفل نتيجة للحب الخاص واحتكار المحبوب، فهو يفقد مشاعر الرحمة تجاه كل آخر غير محبوبه:
“وأدركت بعد ذلك أن كثيرا من الأطفال قد يفقدون مشاعر الرحمة فقدانا رهيبا، وأنهم إذا أحبوا شخصا أحبوه وحده ولم يعبأوا بمن عداه، فكذلك كانت حالى أنا” (ص:73)
والثانية تتعلق بعلاقة نيتوتشكا بأمها:
فظاهر الأمر أنها كانت تخاف منها وتتمنى موتها لاسعاد والدها (طفلها المسكين) وحقيقة الجارى أنها كانت تحبها فى السر (تخفيه عن نفسها أولا):
“رغم كل شيء لا أستطيع أن أمنع نفسى عن حب أمى فى السر” (ص: 73)
بل إنها كانت تأمن إلى رحم حضنها فتنام
“كان يكفينى أن أشد نفسى إليها وأن أغمض جفنى وأن أعانقها بقوة حتى أنام على الفور” (ص:73)
ويمكن أن نقارن هذا الحضن الآمن الباعث على النوم، بالتصاق آخر بأبيها سبق الحديث عنه ص:87 بعث على اليقظة
وفى نفس الوقت فقد كان الخوف- ربما بتأثير أبيها- هو الحائل الأعظم بينها وبين أمها، فتمنى موت الأم الظاهرى كان إستجابة لرغبة الأب غير المفسرة، الأب الطفل المستسهل المسكين فى آن، وفى التفسير الأوديبى الذى يعتمد على المثلث الأسرى المحكوم بالحب والكره الموزع إستقطابيا بين الوالدين لا يصلح مباشرة وبهذه البساطة على المستوى الأعمق لتعقد العلاقات المكثفة عل هذا النحو
وإذ ينتهى الجزء الأول بفقد الوالدين نجد أنفسنا متروكين مع طفلة ملقاة فى الشارع فى إنهاك ومرض وإغماء تبحث عن قدر مجهول
الجزء الثانى: الطفلة الدمية
الجزء الثانى:
تكاد تكون الصورة التى يقدمها الجزء الثانى نقيض الصورة التى عشناها فى الجزء الأول تماما، فنيتوتشكا هنا تبدو- للوهلة الأولى – فى هناء مادى لا ينقطع، تحظى برعاية فيزيقية متكاملة، إلا أن التأمل الأعمق يورينا أنها لا تمثل ثمرة لشجرة نبتت فى أرضها متصلة بجذورها مستظلة بفروعها وأوراقها، ولكنها”فاكهة من البلاستيك” فوق منضدة تحت نافذة وليست فى وسط الحجرة، أو هى ضيفة طول الوقت أو هى دمية آدمية رقيقة تجلب التسلية وتتلقى العطف والشفقة، وقد تحفز الصلوات فيتصدق عليها بكل ما يحسن شكل السادة أمام أنفسهم وأقرانهم، وها نحن أولاء نتحسس مع ديستويفسكى أهمية عامل”الانتماء الي”, و”الاتصال بـ” و”الامتداد في” أسرة ما، إن وظيفة الأسرة ليست فقط فى الحماية المادية والارواء العاطفى (أو العطفي) وإنما هى تكمن أساسا فى هذا الشعور الممتد: من إلى وفى وهو الذى يمكن أن يسمى “الشعور القبلى” (من:قبيلة) وهو الذى يمثل الجانب الإيجابى فى بعض أخلاق القبيلة، وكل هذا لم يتح لمثل هذه الطفلة الملتقطة (وليست اللقيطة) المجتثة من جذورها بعد موت الأم وهجر الأب:
“شعرت أخيرا أنى يتيمة” (ص: 123)
فى هذه الجملة، ومع ما واكبها من وصف “لنعيم الغرباء” الذين استضافوها، نرى ونعجب من شوقها للبؤس الأسري:
“آمل أن استيقظ فجأة فاذا أنا فى مسكننا البائس بين أمى وأبي” (ص:123)
كان لابد أن”يعلن” اليتم، ويبدو- كما يعلمنا ديستويفسكى أن آثار اليتم وحقيقته لا تكمن فى فقد الوالدين ذاته، وإنما فى الشعور بذلك، (وهذا يمكن أن يحدث حتى مع وجودهما)، بل هو يكمن أكثر فأكثر فى الشعور بفقد الانتماء والامتداد (فى الأسرة أو المجتمع)، وحين حدث ذلك لنيتوتشكا وتيقنت من المسافة بينها وبين الأحياء البشر من حولها، وأعلنت -لنفسها – يتمها، بدأت تبحث عن علاقات بديلة، ووجدتها في” الأشياء” دون ” الناس”
“كنت أتسمر خائفة أمام لوحة من اللوحات، أو مرآة من المرايا أو مدفأة من المدافيء الأنيقة الصنع أو تمثال يخيل الى أنهم دفعوه خصيصا الى قاع ركن من الأركان ليحسن التحديق الى تخويفا لي” (ص:124)
“وكان القديسون من قلب الأطر اللامعة ينظرون الى فى غموض” (ص:133)
وقد ظل لهذا الموقف آثاره حتى فى الجزء الثالث فى بيت الكسندرين[25]
اذن، فقد كان هذا البيت الجديد هو “مكان” للتجاور الجسدى وليس أسرة للتكامل البشرى بالتواصل الفكرى والعاطفى، ويبدو أن ذلك لم يكن خاصا بنيتوتشكا باعتبارها “ضيفة ” أو “ملتقطة” بل انه كان صبغة البيت حتى بالنسبة لأفراده الأصليين، فهم متباعدون أبدا: للدرس، أو العمل، أو العبادة، فاذا تجاوروا، فهو لقاء بالجسم أو باللفظ حسب “الواجب ” أو “العادة”، وهذا الوصف الذى أكده ديستويفسكى طوال الجزء الثانى خليق أن يعرى هذه الحياة التى استبدلت بالأحياء الأشياء، وبدهشة اللقاء العفوي- واجب الأداء المحكوم الخ ولا أظن إلا أن هواية رب البيت لــ “جمع الأحياء” بالتقاطهم وايوائهم فى منزله ليست سوى إكمالا للصورة، فهو كما يهوى جمع التحف والصور والكتب ويغدق على الجميع عطفا متساويا (حتى فى درجة حرارته المضبوطة) يجمع ما يجد من أحياء “أمام الباب” فقد التقط نيتوتشكا، كما التقط الكلب الضال فالستاف [وكذلك الطفل”لاريا” الذى رفع من الرواية طبعة 1860، سبق الإشارة إليه]، وربما انتقلت- تلقائيا- فكرة”الملكية” من رب القصر “الأمير ك” إلى إبنته “كاتيا” حيث يبدو إستقبالها لنيتوتشكا – على الأقل فى المرحلة الأولى باعتبارها من الممتلكات التى لابد وأن “تسر مالكها” والتى عليها أن “تتصف بالصفات التى تتطلبها فيها”:
كاتيا: ” أما أنا فلا أحبك، إنك نحيلة جدا، إنتظرى سآتيك بفطيرة” (ص:143)
وتستجيب نيتوتشكا – بداهة – لارضاء المالك السعيد:
نيتوتشكا: “كنت أرغب رغبة جنونية فى أن أعافى وأن “أسمن”بأقصى سرعة ممكنة عملا بنصيحتها ونزولا على أمرها” (ص:141)
فتتأكد “الشيئية” ومعانى “الدمية” و”الملكية”
ويظهر ذلك فى موضع آخر:
“..وصرحت بأنها لا تعرف ماذا تصنع بي” (ص:141)
(لاحظ تعبير تصنع بي.. وليس تصنع لي) وبالنسبة للموقف من الآخرين -الضيوف مثلا- فقد كانت تعرض عليهم “للفرجة” والتعجب
“فكان الزائرون أثناء حديثها ينظرون الى وهم يهزون رؤوسهم ويطلقون من أفواهم صرخات التعجب، حتى أن شابا من الحاضرين أدار نظارته ليحدق في..” (ص:126)
هامش مبتور حول نيتوتشكا وفالستاف (الكلب):
وقد خطر ببالى أن أبحث عن وجه الشبه بين نيتوتشكا وفالستاف (الكلب) باعتبار أنهما من المقتنيات الثمينة الملتقطة فوجدت أن فالستاف قد يمثل الوجه العدوانى الآخر لرقة نيتوتشكا ورعبها الظاهرين، وكان موقف كاتيا منهما هو موقف “ترويضى ” و”تأهيلي”، فهى تروض فالستاف “لتطويعه” (ص164,163) وتؤهل نيتوتشكا “للعب بها” أو (فيما بعد دون قصد) للعب معها، وقد بترت هذا الاستطراد لأرجع إلى الخيط الأول أساسا
الأصل والصورة:
أما علاقة كاتيا بنيتوتشكا فقد أخذت مسارا معقدا رغم بساطتها الظاهرية، ورغم ما ذهب إليه مقدم الترجمة من أن هذه العلاقة كانت تمثل جنسية مثلية[26] فان الأمر يحتاج الى تمعن وروية لاعادة النظر وحتى نفهم تطور العلاقة دعونا نتذكر نشأة نيتوتشكا كأم وحيدة لوالد سكير نصف مجنون، وكابنة “سرية” لأم هى الشقاء ذاته، لم يكن لها أخ ولاأخت ولا صديقة فى نفس السن، لم تجد الفرصة التى ترى نفسها فى آخر (دور الصنو) [27] لتتجسد فيه وتتحسن صورتها خارجها وهى تنمو، فما أن وجدت كاتيا في”نفس السن” ومع”كل هذا الاختلاف الظاهري” بما يتصف به من جمال ويثيره من إنطلاق ومن سعادة حتى إندفعت إليها إندفاعا بلا حساب وكأنها تندفع الى نفسها [28] كما تحب أن تكون، إذن فكاتيا هى صورة نيتوتشكا التى تمنت أن تكون، (أو هي”ذاتها المثالية” كما وصفتها كارين هورني)
وقد مرت العلاقة بمسار معقد كما ذكرت، بدءا بالحب”من أول نظرة”، من جانب واحد(نيتوتشكا) (مع الرفض أو الإهمال من جانب كاتيا) ثم الغيرة من الجانب الآخر، ثم العدوان فالاعتذار (من جانب كاتيا)، وفجأة تفجرت ينابيع الغرام الهائم والقبلات الملتهبة، حتى العض والقرص.. (وخاصة من جانب كاتيا):
“كنت أقول لنفسي: سأخنقها بالقبل، وسأظل أعضها وأقرصها حتى أفجر الدم من جسمها، وسيسرها ذلك هذه الحمقاء الصغيرة” (ص:188)
“…وتورمت شفتانا من قوة القبل” (ص:189)
ولا أجد فى هذه الدرجة من العاطفة والخيال والالتحام الجسدى ما يبرر جنسنة الدافع تماما، وإن كنت لا أستبعد الجنس متضافرا مع غيره من دوافع الاحتماء والالتحام، وهى الحاجة الطبيعية التى تولدت من الحرمان “البشري” فى هذا البيت “الرسمى ” (جدا)
ولكن إذا كانت كاتيا هى صورة نيتوتشكا ومسقط أحلامها ورمز أمنياتها لذاتها، فماذا كانت نيتوتشكا لكاتيا، بدأت العلاقة كما تصور الرواية، وكما أشرنا، بأن إعتبرت كاتيا نيتوتشكا “دمية” تملكها تريد أن تشكلها كما تحب، وغلبها حب الاستطلاع فى كثير من الأحيان لاكتشاف هذه المخلوقة المختلفة (نحيفة جدا وباكية أبدا)، ثم ثار فيها التحدى لتخطى الفجوة وترويض البكاءة وتأهيلها، وأخيرا تكاملت بها فاندفعت إليها بكل حاجتها إلى الصنو والرفيق والحبيب والعشيق معا
إذن، فالطفلة كاتيا إنما تمثل الطفولة كما نتصور “نحن” الطفولة أو نأمل أن تكون، لكن كاتيا نفسها تعلمنا أن الطفولة ليست كذلك، وأنها إكتملت بنيتوتشكا أكثر مما رضيت بظاهر طفولتها التى وضعها أهلها فيها وهى قد تعرضت بنفسها من خلال إستكشافها نيتوتشكا واختلافها معها وهى تمثل هذا العالم النابض المتشابك المائج الفياض، وكأنها وهى تندفع إليها إنما تندفع الى ما أهملوه (الأهل) فيها، أو ما أنكروه عليها، وأعنى به عالم الطفولة الزاخر بالتناقض والتكثيف والحركة المتبادلة بين أجزائه، ويبدو أن هذا الجهل “بالطفولة” نابع من أننا ننسى طفولتنا الحقيقية خوفا من حقيقتها وإنكارا لمآسيها، فنفترض فيهم طفولة آملة كنا نحب أن تكون هربا و أمنا مما هو نحن حينذاك أما ديستويفسكى فقد سافر غير هياب فى كل إتجاه، حتى أنه كاد يعتبر أن الطفلة العادية هى التى ليس فيها شيء من براءة الطفولة
“…ثم إننى طفلة عادية جدا، ليس فى شيء من براءة الطفولة، (هكذا قالت الأميرة ذات يوم لسيدة مسنة سألتها هل يمكن ألا يزعجها وجودي)” (ص:127)
وكأن الطفولة العادية ليست بالضرورة بريئة (جدا) كما نحب أن نتوهم[29]، وقد اكتشفت كاتيا – ولو بصورة مخففة- أمومتها فى تطور علاقتها بنيتوتشكا، وإن كانت هذه الأخيرة لم تستعمل أمومة كاتيا لها صراحة أبدا، بل كانت أمومة موقفية، بعض الوقت، وعموما فبدايات الغرام كانت حين قررت كاتيا أن تتبناها بشكل ما:
“..فاذا بكاتيا تقترب منى فجأة وتقول:
-لم يربط حذاؤك جيدا .. دعينى أربطه ثم انحنت وأمسكت قدمى رغما عنى، فوضعتهما على ركبتيها وأخذت تربط الحذاء، ثم قالت وهى تلمسنى بأطراف أصابعها..، والعنق غير مغطى: دعينى أصلح ربط الوشاح”
ويبدو أن ديستويفسكى يؤكد لنا من بعد آخر (من طفلة أخري) كيف أن الأمومة[30] هى جزء لا يتجزأ من الطفولة، بحيث إنها يمكن أن تكون منبعا جديدا لفيض زاخر من عواطف هامة بناءة، وعموما فان الأدوار بين كاتيا ونيتوتشكا كانت تتبادل بحيث تأخذ دور الأم أى منهما حسب الحاجة، وكأنهما نغمتان مختلفتان تكمل بعضهما بعضا بالتناوب تارة وبالتداخل تارة
“تجرى الأمور هكذا: يوما تأمر وأطيع، ويوما آمر وتطيع، ويوما نأمر كلتانا وتتعمد أحدانا أن لا تطيع فنتظاهر بالمخاصمة، ثم نسارع الى المصالحة” (ص:189، 190)
هامش حول دور العدل فى التربية:
يكثر الحديث حول قيمة الحب والحنان والتعليم والتحفيظ فى التربية، ويندر حول قيم أهم مثل ” العدل ” و”الوضوح” و”مساحة السماح- اليقظ المسئول”
وقد عرج ديستويفسكى فى هذا العمل إلى أهمية قيمة العدل وخطورة إهتزازها بما يستأهل الإشارة، رغم أنه فعل ذلك بطريقة مباشرة، مما يقلل من القيمة الأدبية للتناول، وقد أوردت هذا الهامش لتأكيد رؤية الأديب، حتى للقواعد التربوية-رؤية واضحة وقائمة بذاتها، فهو -مثلا – يعترض على تذبذب المواقف التى تهز قيمة العدل:
(كاتيا) “فما كان مسموحا به أمس يصبح اليوم ممنوعا..، وهكذا الشعور بالعدل يفسد لدى هذه الطفلة بلا إنقطاع” (ص:160)
ثم يؤكد أهمية الشعور بالعدل فى التعلم الذاتى من الخطأ
(كاتيا) “كان إحساسها بالعدل يسيطر على كل شيء، فما أن تدرك أنها على خطأ حتى تذعن لتأنيب ضميرها…” (ص:162)
(ولا يوجد تناقض بين تقصير الأهل فى تأكيد قيمة العدل، وبين تعويض الطفلة لهذا التقصير بالتزام منقذ)
وآخر مثال لما يعلمنا إياه حول هذه القيمة، هو أهمية العدل بمعنى “الحق المتساوى فى معاملة المثل”، وأن الشعور بهذا الحق، حتى ولو لم يستمر، هو بناء هام: (نيوتشكا) “كان الحزن يمزقنى تمزيقا، ثم أخذت فكرة العدالة تذر قرنها فى نفسى الجريحة، وأخذ يجتاحنى شعور بالاستياء والاستنكار وخالجنى فجأة نوع من العزة” (ص:168، 169)
[أى سبق حقيقي: رغم المباشرة !!!]
التهديد بالترك .. والاحتماء بالانزواء:
واذا ما كانت نيتوتشكا فى هذه المرحلة قد عوملت باعتبارها دمية رقيقة أساسا، وهى تحمل تاريخا زاخرا باهتزاز الضياع وآلام الترك (بالموت أو العدو أوالجنون)، فان لنا أن نتوقع جذور”اللا أمان” غائرة تفسر تفجر العواطف الذى لا ينقطع، والذى يتبادل مع الانزواء السلوكى بعد الاحباط أو خوفا من الاحباط، كذلك هو يفسر الإقدام المندفع:”لهفة فى البقاء بجوار”، مع الحرص الشديد على الاسترضاء خوفا من الترك
وكانت أول فكرة راودتنى عندئذ هى أننى لن أنفصل أبدا عن كاتيا” (ص:144)
وكان واضحا أنها تريد أن تفعل كل ما تستطيعه لادخال السرور الى نفسى، بغية أن تتخلص منى بأقصى سرعة ممكنة وعلى أحسن نحو” (ص:148)
وقد يصل الأمر فى تصعيد الخوف من “الترك” الى “السعى الى الترك” [31] مع شكر التارك أو مباركته [32]ولو بأمنية غامضة أو افتعال أسبابه ولعل الانزواء (والتجنب) هو أنجح الأساليب للانسحاب بعيدا عن هذا الاحتمال أصلا، وقد غلب هذا الأسلوب عموما فى هذا الجزء الثانى، ليس على نيتوتشكا فحسب، بل على غيرها لأسباب مختلفة، أما نيتوتشكا
“فلما تذكرت أمى فاضت عيناى بالدموع، وانقبض حلقى ووددت لو أهرب، لو اختفى، لو اختبيء” (ص:126)
“ولكنى كنت من خوفى أن أزعجهم أوثر تجنبهم، والذى كنت أحبه أكثر من كل شيء آخر هو أن أنطوى فى ركن من الأركان لا يرانى فيه أحد وراء قطعة من الأثاث غارقة فى ذكرى ما وقع لي” (ص: 127)
[لاحظ الانسحاب هنا من المكان والزمان معا]
أما غير نيتوتشكا فيكفى أن نشير الي”المنزويات الثلاث” وهن عمات الأميرة: واحدة عذراء فشلت أن تستمر فى الدير، والثانية أرملة فى تدهور صحى مستمر والثالثة مسجونة فى ظاهر تقاليد مفرغة من أى نبض حيوي
“كان المجتمع الراقى كله فى المدينة يشعر أنه مضطر لزيارة المنزويات الثلاث” (ص:129)
وما أروع ما وصف به ديستويفسكى جانبا من هذا الانزواء المتعالى بأنه مشوب بنوع من “الضجر الوقور”
هامش حول الحبس الانفرادى كانزواء للالتقاء:
ثم إن دلالة عقاب نيتوتشكا بحبسها لمدة ساعات حبسا إنفراديا فى حجرة مخصصة لذلك كان يحمل فى طياته نوعا من الرضا بالحبس، وكأنه يحقق رغبة داخلية وجدت تعبيرا لها من خلال التصدى للعقاب باتهام نفسها بدلا من حبيبتها كاتيا، وهذا الانزواء كان يحقق بالإضافة تعميقا لشعور التضحية والقربان الذى قدمته والذى أرضى حبيبتها لدرجة السعادة بالفراق فى انتظار اللقاء المرتقب، ومرة أخرى – بالمناسبة-يفاجئنا ديستوفسكى فى مشاعر الطفولة بما لا نتوقع، حيث تصف كاتيا شعورا مكثفا نحو حبيبتها التى دخلت “السجن” بدلا منها (ثم نسوها أكثر من الساعات المقررة)
كاتيا: “لم يسعدنى أنك اتهمت نفسك، وانما أسعدنى أنك فى السجن نيابة عنى، هل تفهمين؟ قلت فى نفسى أنها تبكى بينما أحبها أنا كل هذا الحب، غدا سأقبلها، نعم سأقبلها كثيرا .. والحق أنى لم أشفق عليك، لم أشفق عليك أبدا أبدا، ومع ذلك فقد بكيت” (ص:188)
وما أسهل أن يسارع ناقد”نفسي” يحكى لنا عن السادية واللذة الجنسية التى لا تتحقق الا بالتعذيب، وما أسطح ذلك وأغلطه، فالعاطفة هنا أقرب إلى الواقع الطبيعى من تصوراتنا الاستقطابية، كل ما فعله ديستويفسكى أن أظهرها كما هى (ربما عند أى منا) لا كما نحب أن نكون، وتجاوب الطفلتين مع بعضهما البعض للتكامل والتداخل هو التفسير المباشر لهذا الظاهر الذى يبدو وكأنه غير ما ألفنا، ومن أراد أن يتخلص مما تعود ليرى ما أراد ديستويفسكى أن يرينا فلينظر معنا:
1- إن السجن لنيتوتشكا كان “أمانا” و “اختيارا” و “توحدا”
2- إن كاتيا “ضمنت” حبيبتها فى متناولها لوقت محدد المعالم
3-أن الطفلتين أكملتا مشاعر بعضهما البعض فى تكامل نغمى وكأنهما نفس واحدة
4- إن هذا البعد الاضطرارى مع اليقين باللقاء الموقوت يعمق الغرام ويدعمه
5- إن “عدم الشفقة” مع “عظم الحب” فى أرضية باكية ينبه الى أن الشفقة فيها استعلاء لا ينفع فى مثل هذه المواقف الأصدق
نقلة:
وبهذه الإشارة التى تورى إلى أى مدى وصلت علاقة الطفلتين نستطيع أن نعلن أن الطفلة الدمية لم تعد كذلك، بل أصبحت الطفلة النغمة المتكاملة مع نغمتها الأخرى، فولدت نيتوتشكا ذاتها فى رحاب “صنوها” (وليس من رحم أمها)، فولدت من جديد، لتبدأ من جديد، ولو لم تتحقق هذه الولادة لما إستطاعت أن تستوعب الأمومة الحقيقية التى أتيحت لها فى الجزء الثالث من هذا العمل، بمعنى أنه لو ظلت جرعة الحرمان بنفس حدتها، والتزام الأمومة بنفس الحاجة، ثم عرضت عليها أمومة تعويضية جديدة، لما استطاعت أن “تستقبلها” أصلا مهما كانت صادقة وغامرة، فما حدث من رأب فى الجزء الثالث كان بفضل ما تهيأ له من إعداد فى الجزء الثانى .
” والآن تبدأ قصة جديدة”
الجزء الثالث: الطفلة الطفلة
(ثم الطفلة الأب)
دعونا نبدأ بنهاية الفقرة التى أنهى بها ديستويفسكى الجزء الثانى:
” وهكذا وجدتنى فى ذلك المساء فى كنف اسرة أخرى فى منزل آخر بين وجوه جديدة، وانتزع من قلبى مرة ثانية، كل ماكان عزيزا على، كل ماكان قريبا الى، لقد وصلت الى هذا المأوى الجديد وفى نفسى غم عميق”
(ص:197).
ولادة بكل معنى الولادة، انتقال من مأمن كادت تتضح معالمه وتثبت أركانه الى عالم مجهول زاخر، انتقال من” شئ يتخلق” الى” كيان يتحسس” – كان الانتزاع الأول من بيت الشقاء الى بيت التحف الذى دبت فيه الحياة مؤخرا، ثم جاء هذا الانتزاع الثانى من الماوى المحدد الى الجديد المرتقب، فكان أول تفاعل لهذا الانفصال الجديد هو هذا الغم العميق(وكأنه صدمة الولادة عند أتورانك: اذ هى فى حقيقتها صدمة الانفصال): فهى المراهقة: الولادة الجديدة.
الطفلة تعثر على أمها:
وتجد نيتوتشكا نفسها مع أم بكل معنى الكلمة، بل أن هذه الأم الجديدة تتميز بأنها ايضا طفلة رغم سنها، طفلة لكنها تحمل من الأحزان والشعور بالمسئولية والقدرة على العطاء ما غطى احتياجات نيتوتشكا وأعفاها لفترة طويلة من تبادل الأمومة معها، فكما ذكرنا(ص:88) أن الذى يحدد الدور الوالدى هو التناسب بين الاحتياجات: والقدرات: والرؤية: بين كيانين متفاعلين( بغض النظر عن السن) وأم نيتوتشكا الجدية(أو: الوحيدة) هى أبنة الاميرة من زواج سابق، وهى الكسندرينا ميخائيلوفنا، صاحبة الثانية والعشرين عاما لا أكثر”.. ناعمة رقيقة ودودا، يظلل وجهها نوع من الألم الخبئ”(ص:196) ويبدو أن هذا الألم هو مسوغات تعيين الأمومة،ولكنه لم يكن كافيا لاخفاء معالم الطفولة” على أن الوقار والرصانة لم يكونا يوافقان ملامحها الملائكية الجميلة أكثر مما توافق الطفلة ثياب الحداد”(ص:196)- ومنذ البداية نكتشف أن الكسندرينا هى أحدى مؤسسات “نادى المنزويات” العتيد “.. وهى لاتحب أن تزار أو تزور، بل تعيش حياة عزلة وانزواء”(ص:196).
وتغرى أمومة الكسندرينا نيتوتشكا بأن تبدأ من حيث توقفت:
إعادة اعلان اليتم:
وكما اكتشفت نيتوتشكا يتمها بعد انتقالها من “نار الشقاء” الى ” جنة الأشياء” حيث عاشت دمية دبت فيها الحياة أخيرا، فان يتمها عاد يعلن نفسه مع هذه النقلة الجديدة وهى ترتمى فى أحضان أم جديدة أم حقيقة تعرض عليها التبنى (لا التملك).
“… وطوقتنى الكسندرينا ميخائيلوفا بذراعيها، وسالتنى هل أحب أن أعيش فى بيتها، وأن أصبح ابنتها “(ص:196).
فتأملتها لحظة، وعرفت فيها أخت كاتيا:
“.. فاذا بى أرتمى على عنقها منقبضة القلب كأن احدا دعانى مرة أخرة بكلمة يتيمة” (ص:196).
وتسلسل المشاعر هكذا أنما يؤكد على أن أمومة “كاتيا” المتقطعة التى اشرنا اليها حالا هى التى مهدت لتقبل أمومة الكسندرينا.
المراهقة الولادة – ودور الأم:
أذا كانت المراهقة ولادة جديدة، فهى تحتاج الى أمومة جديدة ولكن ثمة فروقا بين الأمومة الأولى والأمومة المطلوبة للمراهقة، فالغذاء فى المراهقة ليس لبنا، والتواصل الرمزى (الكلام) أصبح سياجا حائلا كما أصبح فى نفس الوقت حبلا سريا حسب الأحوال، والوعى بالحاجة الى الأمومة شديد ومزعج ومعطل فى أحيان كثيرة.
“ارتميت فى أحضان هذه الأم الرؤوم على ظلما شديد” (ص: 200).
والأم فى المراهقة ليست منبعا فقط( مثل أم الطفولة) ولكنها مصب أيضا( وأحيانا هى مصب: قبلا) – وهكذا يعلمنا ديستويفسكى مما كانته الكسندرينا ومما فعلته، كانت “منبعا” للمعلومات والعواطف:
“… كانت تعلمنى أشياء كثيرة وافرة دفعة واحدة، فكان ذلك يدل من جانبها على حماسة حارة” (ص:208).
ثم كانت مصبا جاهزا لأنه مواكب للمجرى الأصلى طوال الوقت:
” كانت لى أما وأختا وصديقة، أو كانت بمثابة مصب لجميع ما اشعر به من عواطف الحب”.
والأم” المصب” هو ما يعنيه” الصمت المنصت”و “السماح المسئول” و” التقبل للتناقض”و ” تحمل الغموض”، فليس معنى “المصب” مانبدى من ظاهر الاستماع المسطح والمبادرة بالتفسير( بما لا نعرف) وادعاء اعطاء الحرية والاستقرار الجامد على معتقدات ثابتة نحاول نقلها الى الجيل اللاحق، فهذا قالب( نمثله رغم أدعاءاتنا) نصب فيه وجود أطفالنا (لا نتلقاهم) لنشكلهم على شاكلته، وليس مصبا نتلقى فيه اكتشافاتهم فنكتشف بها – معهم – بقيتنا!! وديستويفسكى يعلمنا ذلك ونيتوتشكا تعترف مباشرة – ربما أكثر من اللازم – بهذا الدور الذى قامت به الكسندرينا، فتعلى به مقام “دور الأم”:
“… هذا الحب الذى شاء أن يقوم بوظيفة نحوى الى آخر درجاته، الى درجة حب الأم” (ص:219).
وما دامت الأم للمراهقة هى “منبع” وهى” مصب” فهى مواكبة طول الوقت،و هى مشاركة، والمشاركة هنا كما اشرنا لابد أن تكون حقيقية بمعنى التجدد والتعلم، وليس فقط التعليم والتفسير، وهذا ماكان:
“… الا أننا أخذنا بعد ذهابه ( ذهاب المدرس) نتعلم التاريخ – أنا والكسندرينا ميخائيلوفنا – على طريقتنا الخاصة، فكنا نأخذ كتبنا، ونظل نقرأ أحيانا الى ساعة متأخرة من الليل، والأصح أن الكسندرينا هى التى كانت تقرأ، لأنها كانت تراقب ما نقرا” (ص:211).
على أن القراءة ليست هى الحياة وانما هى أعداد لها بحساب دقيق:
” كنت من فرط محاولتى الفهم قد فهمت كثيرا عن الحياة، قبل أن ابدا الحياة” (ص: 212).
وديستويفسكى هنا يميز بين فك الخط ومحو الأمية، وهو كان يؤكد ضرورة كل من التقدم” فى السن وفى الوعى”(ص:211) لأن مجرد التقدم فى السن وحده ليس نموا، وهو يشير الى توظيف القراءة فى تعميق الوعى وفتح الآفاق وليس للاكثار من ” المعلومات” والابتعاد بها عن الواقع، ولكنه فى كل هذا، وفى هذا الجزء الثالث جميعه قد لجأ الى” المباشرة” بافراط(!!)، حتى أن القارئ ليكاد ينسى أنه يحكى على لسان مراهقة وأنما على لسان أستاذ فى التربية، بل أحيانا كان يعطى دروسا فى العلاج رغم عظمتها فأنها تكاد تنفر من فرط صراحتها:
” وكثيرا ما كانت تدور بيننا مناقشات حادة فأحاول أن أبرهن بصراحة على صحة أرائى دون أن أدرك أن ميخائيلوفنا هى التى تقود خطاى فى هذا السبيل… الخ” (ص: 209).
ومع ذلك، ورغم المباشرة فقد كان يكشف عن مجاهل فى النفس قد تغيب عن العلماء فضلا عن العامة ومن ذلك تأكيده على ” عاطفة الاحترام” و”ضرورة الجد”- الحقيقى – فى لأم الآلام، لقد شبعت نيتوتشكا شفقة ورعاية فى القصر الحزين الوقور، شفقة ورعاية مثل التى منحوها للتحف والعاديات والكلب ” فالستاف”، ولكنها عند الكسندرينا حصلت على شئ آخر:” أقول أكثر جدا”(ص:209).
“لأن طفولتى البائسة كانت توقظ فى نفسها، فضلا عن الشفقة، نوعا من الاحترام”(ص:209).
الخروج من الطفولة: والاضطرار الى الأبوة:
خرجت نيتوتشكا من الطفولة الى المراهقة (الطفولة الجديدة) ولكنها اضطرت للقفز الى الأبوة المسئولة باختيار رائع، أما خروجها من الطفولة فلم يبخل ديستويفسكى أن يعلنه هكذا مباشرة (ايضا):
“… أن مشاعر جديدة تتكون وأنا أخرج من مرحلة الطفولة: صرت أبحث وافترض وأستنتج”.
يقولها هكذا وكأنه”جان بياجيه” العظيم الذى وصل الى مثل هذا بعد ما يقارب قرنا من الزمان وعمرا من البحث والملاحظة، ويصاحب هذا الخروج العظيم ثلاثة اتجاهات على الأقل:
أولا: الاقبال النهم على القراءة “المستقلة”
والتى بلغت فى معايشتها لها ما جعلها تتصور أنها عاشت ما تقرأه من قبل:
” لقد كانت كل صفحة أقرؤها تبدو لى شيئا اعرفه “(ص: 217).
ثانيا:التمادى فى الخيال:
“كانت تضطرم فى نفسى نبوءة حقيقية تجعلنى أؤمن بمستقبلى..” ” الا أن خيالى كما قلت كان يغلب اندفاعى فكانت جرأتى فى الواقع لا تتعدى أحلامى” (ص:217).
وكان يربط بين القراءة والخيال، ويستنتج منهما القوانين بشكل مباشر صعب فى آن مثل:
“أجد فيه قانونا نفرضه على الحياة الانسانية، روح واحدة هى روح المغامرة، قانونا مشتقا من قانون أساسى آخر هو شرط السلامة والخلاص والسعادة؟ لقد كنت أتحسس هذا القانون، وكنت أحاول أن أحذره بكل ما أوتيت من قوة، بكل الغرائز التى كان يوقظها فى نفسى الشعور بنوع من الحخماية” (ص:217).
ولابد من ملاحظة هنا أن الغرائز يسمح لها باليقظة تحت مظلة حامية من الحذر والوعى، وأن المغامرة هى أعظم ما يتم تحت دعم السلامة، وهذا التداخل الدقيق قد يمر على أى قارئ مرورا عابرا، أو قد يعتبره ناقد ضربا من التخطيط الا انى أكاد أجزم باختيار ديستويفسكى كل لفظة فيه بمنتهى المسئولية، فقط.. أن المباشرة مزعجة حقا، مزعجة لدرجة عدم تصديقها الا باعتبارها معرفة تقريرية لاتيارا للوعى الدرامى.
” هذا العالم(عالم الخيال) الذى ليس للشقاء فيه – أن وجد – الا دور سلبى، دور مؤقت، دور لابد منه للتناقضات الممتعة”(ص:118).
ماذا تبقى ليعطينا درسا فى الديالكتيك بعيدا عن السرد الروائى؟
أنه مأخذ ضده لابد من الانتباه له.
ثالثا: الحياة الداخلية وتزايد السرية:
ومع نمو الخيال الخاص، وتزايد القراءة المستقلة، ومغامرات الاكتشاف، تنبنى الحياة الداخلية كعمود محورى للذات، ليس شعوريا تماما، فهو ثروة خاصة يمسك بناصيتها صاحبها، يخفيها بخاطره، ويحافظ عليها من عيونهم:
“هذه الحياة: سرى المكنون، الخفى، أخشى عليه أن يكتشف.. حتى لقد صرت أخشى اية نظرة يلقيها على أحد مخافة أن ينفذ الى أعماقى ويكشف سرى: وعشت حياة داخلية غنية”(ص:218).
وهكذا يعلمنا ديستويفسكى أنه بقدر حاجتنا الى” الشوفان” فنحن نحتاج الى” السرية” و” الستر”، واتصور من أبحاثه وحقيقة مراجعتى لممارستى أننا يمكن أن نعد هذه الحاجة الى ” السرية” حاجة أصلية جديدة، وأن التوازن بين هاتين الحاجتين والتبادل بينهما هو من أهم موازين الهارمونى الصحى، وأحسب أن هذا التوازن يساهم فى تحديد حركة الابتعاد والاقتراب من الآخرين.
ومن ثم، فقد كان الابتعاد المتبادل بين الكسندرينا ونيتوتشكا ضروريا:
” كان يلوح لى أنها تبتعد عنى بقدر ابتعادى عن الطفولة”(ص:219).
وترتب على هذا الابتعاد المتبادل أن أصبح لكل منهما سره الخاص:
” فلما أصبحنا سريين…. لم نتقارب بعد ذلك أبدا”(ص: 219).
الاضطرار للأبوة:
ابتعدت نيتوتشكا عن الكسندرينا لدرجة “حتى تطور حذرى منها الى تبرم ثقيل”(ص:219) ولكن ذلك لم يعن أبدا نسيان جميلها أو نسيانها أو التوقف عن التعاطف معها أو التفكير فيها ثم تحمل مسئوليتها لما آن الأوان.
وهنا يجدر بنا أن نشير الى مقاومة الوالدين لهذه الخطوة الانفصالية نحو السرية، نظرا لصعوبة تصورهم أن الابتعاد والتبرم لا يعنى الهجر والانفصال وأنما هو يتيج حركة التقدم والتأخر بمرونة أكثر فأكثر لتحمل مسئوليات جديدة بقدرات جديدة، ليس فقط نحو أنفسهم وأنما أساسا نحو من تركوا، وديستويفسكى يعلمنا ذلك، لأن ابتعاد نيتوتشكا حتى الضجر دفع بنموها ووعيها الى درجة اكتملت فيها رؤيتها لزوج أمها الجديدة، وخاصة بعد اكتشاف براءة المتهمة واصراره على امتلاكها بالاذناب المستمر واصطناع الرأفة والعفو.
لقد كان لنيتوتشكا زوج أم أولى”يافيموف” لم تستقبله الا باعتباره أباها ولم تعامله الاا باعتباره ابنا لها، أما زوج أمها الجديدة المدعو بطرس الكسندروفيتش فهو لم يمثل لها من أول لحظة الا” غريما خبيثا” بشكل ما:
” قد أوحى الى زوج الكسندرين ميخائيلوفنا من أول نظرة بشعور مؤلم لم تزده السنون الا تفاقما”(ص:201).
” وكان فاتر المزاج قليل الكلام لا يجد موضوعا للحديث حتى يخلو الى زوجته، كان كأنما يزعجه وجود شخص آخر الى جانبه”(ص:201).
وهذا النوع من الشخصيات يبدو انطوائيا لأول وهلة، وهو كذلك، لكنه لا يحقق انطوائيته بالابتعاد وأنما بالاستعمال من “الظاهر”، وتحديد أدوار من حوله بأساليبه الخاصة، وهذه الشخصية، بذلك التعويض أنما تندرج تحت نوع من الشخصيات البارانوية، وقد حددت هذا النوع من العلاقة الذى يمارسه هذا النوع من الشخصيات تحت اسم الايهام بالذنب(الاذناب)[33]، وعلى حد علمى لم يسبق وصف هذه العلاقة وصفا مباشرا حيث كان – ومازال – الشائع دائما هو ما يعرف بالشعور بالذنب(دون الاذناب)،(كتبت عن هذه الظاهرة قبل أن أقرأ ديستويفسكى ثم اذا به يسبقنى ويفوقنى دون سائر من كتب علما فى النفس)، فانظر كيف وصفه ديستويفسكى وقارن بما وصفته علما لترى السبق والتفوق ولتتأكد هذه الظاهرة من خلال الصدق بالاتفاق:
1- ” وكان زوجها يذعن لرغبتها أحيانا(فى سماع قطعة موسيقية وصلتها مؤخرا أو رأيها فى كتاب جديد قرأته… الخ) بل قد يمضى الى أبعد من ذلك فيبتسم ابتسامة كريمة سمحة! غير أن هذه الابتسامة كانت تزعجنى حتى اعماق نفسى (لا أدرى لماذا) كما كانت تزعجنى بدورها أوضاع الانقياد والذل من جهة الزوجة”( ص:203،104).
2- “… وينظر الى أمراته الفزعة، على حين غرة، نظرة تعبر عن الرحمة والشفقة فأرتعد أنا – كأن هذه الشفقة تنصب على، وكأن شعورا بالعار يغشانى أنا أيضا“(ص: 204).
(لاحظ القدرة على الايهام بالذنب… حتى لغير ذى شأن بالحادث الأصلى المقصود).
3- ” وكان الزوج – أخيرا – يضع لهذا الموقف حدا اذ ينهض من مكانه، ويبدو كانه يحاول أن يخنق فى نفسه كل حنق وكل انفعال،ثم، بعد أن يدور فى الغرفة عدة مرات، فى صمت حزين، يصافح زوجته ويزفر زفرة عميقة، ويقول بضع كلمات موجزة مضطربة كأنه يحاول أن يواسى زوجته، ثم يترك الغرفة… فتنفجر الكسندرين ميخائيلوفنا فى بكاء سخين، أو تغرق فى حزن رهيب لا ينتهى، وكان فى بعض الأحيان يدعو لها وهو يرسم اشارة الصليب”(ص: 204).
4- ثم يطفق أخيرا يبكى معها، إلا انها كانت تنتفض فجأة انتفاضة من تيقظ ضميره وشعر أنه ليس من حقه أن يغتفر ذنبه( انظر الى أى مدى دخل بداخلها)، كانت تهولها دموع زوجها، فاذا هى تزداد لوعة واضطرابا ونحيباً فترتمى على قدميه تسأله الغفران وسرعان ما يجود عليها به” (ص:205).
5- وهذه الشفقة المتلبسة التى يشعر بها نحو زوجته المريضة[34]…. وهذا القلق الذليل من جانب الكسندرينا ميخائيلوفنا (ص:206).
هذه الشخصية لاتحتاج الى مزيد من الاضافة أوالشرح وقد وصلت الى نيتوتشكا بكل ابعادها حتى شكت فى صدق” الحكاية” قبل اكتشاف” سر البراءة” فى الرسالة الرقيقة التى عثرت عليها صدفة فى أحد الكتب فى المكتبة، كل ذلك يحدث جنبا الى جنب مع نضجها وابتعادها بعالمها الداخلى عن الكسندرين الأم يصاحبه زيادة وعيها بالقراءة بعد أن شبعت جزئيا من أمومة مواكبة حقيقية، كل ذلك هيأها أن تواجه هذا الزوج بكل قوته وقسوته وكانها مسئولة عن الكسندرينا كوالد حازم يعرف ما يقول وما يترتب على ما يقرر، بكل الصراحة تعلنه رغم خوف الكسندرينا وتوسلاتها:
” لعلك أردت أن تبرهن على تفوقك، أن تسيطر على زوجتك، ولمن لماذا؟ لكى تظفر على ما يسكن رأسها من أشباح؟ لكى تسيطر على خيالها المريض؟”.
الى أن قالت فى حزم الوالد المسئول:
“اعفنى من ايضاحاتك، ولكن انتبه، اننى أعرف حق المعرفة، أننى أقرأ حقيقتك فى نفسك، لا تنس هذا”
(ص:283).
فلنعرف هذا تمام المعرفة، أن ديستويفسكى يقرأ حقيقة أنفسنا، وها هو يقرؤنا اياها، فهل نفعل؟.
وهكذا بدات نيتوتشكا”أما” خائفة وانتهت”أبا” مسئولا مارة بدور الدمية فالطفلة فى رحلة لا يعرف مسالكها الا هو،ومن يحاول معه ومعنا.
وانا لم أتطرق الى جوانب كثيرة من عطاء ديستويفسكى فى هذا العمل العظيم[35]مكتفيا بهذا البعد المحدود حول الطفولة وهوامشه الموجزة ولتأكيد جهلنا بماهو طفولة سأواصل عرض البطل الصغير فى ايجاز حتى نرى ما يمكن:
اللعب بالطفولة: والأطفال
يتكرر فى قصة البطل الصغير التى قدمنا موجزها ص:86 معنى هذا النداء المتحدى “ايها الكبار أنتم لا تعرفوننا”.
تبدا القصة بهذا الاعلان:
“.. ولا شك أنى لم أكن الا طفلا”(ص:581)
ثم سرعان ما يلحق بذلك؛
“… ولكن الأمر الغريب أننى منذ تلك السن فى نظرى”(ص:586).
وأكاد أستقبل الجملة الأولى تقول: لم أكن الا ما تعتقدون فتوهمونى به أنه هو أنا: الطفل الذى تفترضونه.
أما الجملة الثانية فهى تعلن: ولكنى غير ما تعرفونى مما لأ أعرف.
ولعل ذلك هو سبب أن بطلنا الصغير ظل يرفض من البداية كل الميزات التى (المفروض أن) يتمتع بها الأطفال:
” كان يحرجنى، بل يهدنى هدا ما كنت أتمتع به من ميزات يتمتع بها الأطفال”(ص:586).
“الامتيازات التى كنت أتمتع بها قد اخذت تهيننى”(ص:587).
ولنتأمل سويا هذا المنظر الذى يذكرنا بالمثل الصينى حين تقذف الأطفال الضفادع بالحجارة وهم يمزحون ولكن الضفادع تموت جدا لا هزلا حيث الأطفال هنا هم، الكبار، الضفادع هم الأطفال.
فبعد دعوة للجلوس على ركبة الشقراء العابثة مما أدخل على نفسه الاضطراب والارتباك وهى تمسك بيد ضحيتها فى غباء عابث ثم لا تلبث أن تترك يده وتتحول عنه كأن شيئا لم يكن، لا تشعر بالامساك ولا تشعر بالترك:
“مثلها مثل التلميذ الذى كان يلطم بقدمه رفيقا له أضعف منه من وراء ظهر المعلم، فما أن هرع المعلم نحو مصدر الضجة كالعقاب حتى تحول المعتدى عن ضحيته ساخرا، واصطنع هيئة من لم يفعل شيئا، وعاد الى كتابه مستغرقا فيه”(ص:590).
وهو يعلن نفس التحذير:
“وهن يضرعن الى بصوت واحد أن أفتح لهن الباب حالفات أنهن لا يردن بى سوءا وأنهن لا يرغبن الا فى اغراقى بالقبل، وهل هناك تهديد أشد هولا من هذا التهديد؟” (ص:606).
الشـئ:
يوجد فى الأطفال شئ خام، شئ يتكون، شئ اكيد وجوده، ولكنه ليس أيا مما نصفه به، هو الحياة، أو مشروع الحياة، أو سر الحياة، ليس البراءة أو السذاجة أو سرعة الانفعال، هو أقرب الى”غريزة الدهشة”و” حفز النمو” و “الخوف من الخطوة التالية ” و” الحزن الخفى”، ومن أعجب العجب أن أطباء النفس وعلماؤها لا يحبون أن يعترفوا بحزن الأطفال مباشرة، ويميلون الى أن يترجموه الى” التبول اللا أرادى” أو” الخوف من المدرسة” أو” صياح الفراق” أو” هزال الجوع”، وبطلنا الصغير هنا يبحث ليتعرف على ” هذا الشئ” ويواصل وصف ” ذلك الحزن”، ربما يفعل ذلك بأثر رجعى حيث”.. كانت هذه العواطف جميعها تجرى تحت سطح الشعور من نفسى” (ص:594)، وأن كان يعلننا أنه “.. وكنت بعد كل هذه الأحداث التى وقعت أشعربضيق وأتمنى أن أصعد الى غرفتى لأتامل على مهل، ولأرى المشاعر التى كانت تزدحم فى نفسى بشئ من الوضوح” (ص:617) فهى تحت الشعور، ولكنها قريبة.
وعن ذاك “الشئ” يقول البطل الصغير:
“… غير أن هناك شيئا ما، شيئا لا يعرف ولا يحدد كنت أخشاه وأرتعش فرقا متى تصورت أن ينكشف، كنت أجهل حتى ذلك الحين هل يجب اعتبار ذلك الشئ حسنا أو سيئا.. هل يجب اعتباره مدعاة فخر أو مدعاة خزى.. هل يجب اعتباره أمرا محمودا أو أمرا مذموما، وهأنذا أكتشف منذ برهة – على ألم وعذاب – ان هذا “الشئ” مضحك ومعيب، وشعرت فى الوقت نفسه بغريزتى أن حكما كهذا الحكم خاطئ غير انسانى… وكنت عاجزا عن الاعتراض على هذا الحكم القاسى”(ص:606،607).
وهكذا يسير بنا ديستويفسكى من التغميض الى التنوير الى اليقين ثم يعود الى التشكيك فالتراجع العاجز، ومن السهل أن نتصور أن هذا الشئ هو تسحب الغريزة الجنسية من الداخل ومحاولة اخفائها، لكن الأمر يبدو أكثر تعقيدا وتداخلا، فالشئ هنا هو” الداخل غير المسمى” الدافع للاقدام الرافض للتعرى فى نفس الوقت، وهو يشمل الجنس والاستطلاع والعدوان جميعا.
يحب طفلنا السيدة(م)، وحين يشك بعد دعابة قارصة “أنهم” عرفوا سره، يكاد يتيقن أنه هو ذاته لا يعرف هذا السر، وحين يدمغه بالعار يعود فيرفض كونه عارا ومعيبا، ولكنه لا يستطيع أن يدعم رفضه بدفاع مناسب.
” أننى منذ تلك السن كانت تجتاحنى عاطفة لا تعليل لها فى نظرى، وكان شئ مجهول لا عهد لى بمثله يمس قلبى ويحرقه”(ص:586).
عواطف الأطفال وتميز “الشئ”:
فاذا كان هذا “الشئ” “السر” هو “المزيج الداخلى: على وشك التميز؛ والارتباط بالعالم الخارجى” فأنه سوف يتميز تدريجيا الى عواطف متنوعة لكنها غير منفصلة تماما،وهى متبادلة بالضرورة، ولسوف اطرق باب بعضها فى عجالة بحيث نصاحب رؤية ديستويفسكى المنيرة لهذا الجانب الغامض من وجودنا، والذى نزيده تجهيلا بما ندعى معرفته عنه, ومع أن نفس الخطوات هى ما يتتابع فى نمو الطفل سنيه الأولى، أى من اللاتميز(الشئ) الى التميز، الا أن الأمر فى المراهقة( أو قلبها) يأخذ شكلا آخر اذ يتدخل عامل الوعى بما يحدث فى عملية التطور والنمو، وسأكتفى هنا ببعض العواطف الواردة فى النص مما يحتاج الى ايضاح لما جاء حولها، وأود قبل عرض هذه الأمثلة أن أحدد الخلط الواجب بين ما يسمى العاطفة وما يسمى الدافع يسمى عاطفة عادة، اذا ما ارتبط بالعالم الخارجى من جهة وبالفكر الشعورى من جهة أخرى، والذى يلتقط الدافع وهو لم تتعدد ارتباطه بعد، سوف يكشف منطقة اللاتميز من جهة كما قد يضبط المسارات أن استطاع من جهة أخرى فاذا تحدثت هنا عن عاطفة أو انفعال أو غريزة فانما أعنى نفس الشئ مع اختلاف مراحل التنشيط والترابط؛ واليكم بضعة أمثلة:
1– غريزة (عاطفة) – الدهشة:
نادرا ما يخطر بببالنا أن الدهشة غريزة، علما بأنها أم الغرائز لأنها الدافع الذى نكتشف به العالم، وهو دافع بقائى مثل الجنس والعدوان، بل أنه قبل الجنس والعدوان حيث التصرف خطوة مبدئية ضرورية تحدد موضوع الجنس والعدوان عادة، ثم أنها هى الدافع الذى سيظل يرتقى حتى يمثل الدافع الى المعرفة فى أعلى صورها فى شكل البحث العملى وابداع الشعر جميعا، وربما يرجع أهمالنا لها لخوفنا منها لركود حياتنا وتصلب معتقداتنا، ولكن ديستويفسكى يعلمنا أن هذا لا يصح؛ وهو يتكلم عن “الشئ”. ثم وهو يتكلم مباشرة عن الاستطلاع والدهشة:
” لست أفهم شيئا من هذا النهم المضحك الى الاستطلاع، كل ما أتذكره أن مشاعرى فى ذلك الصباح قد أثرت فى نفسى وأغرقتنى فى دهشة غريبة” (ص:603).
2– غريزة (عاطفة) العدوان:
يبدو أن ديستويفسكى كان له موقف خاص من العدولن فى مرحلة تطوره الباكرة التى نحن بصددها، فهو يكاد يخافه لا يراه محورا بشكل أو بآخر[36]، فقد يرسمه خارجا عن الطفولة أصلا (فالستاف ونيتوتشكا)، وقد يجعله عدوانا مضمرا فى شكل أمنيات القتل(يافيموف ونيتوتشكا: تجاه أمهما)، وحين واجهه فى البطل الصغير جعله فى شكل مداعبات قاسية واهمال جارح من جانب “الشقراء” القاسية اساسا، أما فى شكله الصريح فقد أورده فى مشاعر الحصان [37]وخدم الاسطبل أساسا( وكلاهما عبر صاحب الحصان بطريق غير مباشر):
” وكأن مشاعره (صاحب الحصان) كانت تنتقل الى خدم الاصطبل الذين كانوا يشعرون بزهو شديد لأنهم سيفرضون على المشاهدين حصانا قادرا على أن يقتل أنسانا بغير سبب”(ص:609).
أما الحصان فهو:
” مثله مثل الشرير الذى لا سبيل الى اصلاح خلقه والذى يعتز بما يقارف من أعمال أجرامية”(ص:609).
3– حزن الأطفال:
أما حزن الأطفال، فهو كما ذكرنا خفى متداخل، ولا استطيع أن اعتبر الحزن بالذات من الغرائز الأولية مثل الدهشة والعدوان فهو عاطفة مركبة بالضرورة، وهو يتعلق بمحاولة الاقتراب والانسحاب من الاخر معا، وبتفاعل معين نحو صورة الذات يصل الى مستوى الشعور، وسوف نحاول أن نرصد حزن بطلنا الصغير سواء الذى شعر به هو ذاته، أو الذى رآه فى الآخرين.
أما كيف واجه حزنه شخصيا فاسمعه معنا
- (أ) ” فى بعض الأحيان أعتزل المجتمع بتأثير حزن مبرح” (ص:586).
- (ب) “.. شعرت بقلبى ضعيفا مقروحا فى قسوة فكنت أسكب دموع العجز..، أنى مهتاج النفس أغلى استياء وغضبا لا عهد لى بمثلهما من قبل، ذلك أن هذا الحادث [38] كان أول حزن كبير اصابنى” (ص:607).
(جـ) “وقفت على درجات المدخل متألما من هذه المصيبة الجديدة أنظر حزينا كئيبا الى موكب العربات” (ص:608).
(د) ” وكنت على وجه الخصوص حزينا حزنا رهيبا، مازلت أتذكر ذلك”(ص621).
اذا اطفل يحزن، هكذا يقول ديستويفسكى، ولم لا نصدقه؟( ولكن سنرجع الى مناقشة ذلك) وهو يرصد الحزن فى الآخرين، ولا يرصد حزنا( أو غيره) الا من يعرف ويعايش ما يرصد، ومن أمثلة ما يرصد:
- (أ) فان عينيها الواسعتين المتلئتين نارا وقوة حزينتان (ص: 592).
- (ب) أن هذا الخوف القريب يسكب على وجهها الهادئ هدوء عذراء ايطالية ويضفى عليه اسى وكآبة يبلغان من القوة أن الحزن يتسرب الى نفس من ينظر إليها ويتأملها(ص:592) ” ألم أقل ذلك؟”
(جـ) ” كانت ذاهلة، وكان يبدو عليها الحزن والتفكير”(ص:599).
وقد كان يرى الدموع ويصنفها كمن يرسم لوحة الحزن من داخل:
(د) “… لقد كانت متجمدة شاحبة كمنديلها، وكانت تترقرق فى عينيها دموع كبار” (ص:602).
(هـ) ” وها هى ذى ترفع نحو الذين يحيطون بها وجها صغيرا ساذجا متوحشا ترتعش فيه دمعتان صغيرتان كالبللور” (ص: 615).
والذى يستطيع ان يحزن، وان يلتقط الحزن، يستطيع أن يلتقط عكسه، والبلادة( وليس الفرح) هى عكس الحزن(والفرح معا)، وقد ذهب بطلنا الصغير يضعها بكل دقة فزوج محبوبته من هؤلاء الذين:
” لا يقومون بعمل البته بل يقضون أوقاتهم فى فراغ ولهو ويملكون فى مكان القلب قطعة من شحم” (ص: 596)
” أن جلودهم اسمك وأغلظ من أن تتقبل مثل هذا الامتحان أو مثل هذا النقد”(ص: 597).
عودة الى المباشرة:
ولا ينسى ديستويفسكى عادته المزعجة فى توجيه دروس التربية والعلاج، فهو يحكى لنا هنا – أيضا – مايشبه الموقف العلاجى التحليلى
” ولكن هذه الفتاة كانت صموتا مغلقة رغم أن من المستحيل أن يجد انسانا أكثر منها تجاوبا مع الآم الآخرين” “لأنها كلما أمضت حبا أمضت ألما” “لا تأذن لنفسها أن تشمئز أو تنفر من الشر مهما يكن بشعا”(ص: 593).
الفروسية والأبوة:
وأخلاق الفروسية تحمل الشهامة والنجدة والمغامرة والقوة جميعا، وقد مر بطلنا الصغير بتجربة يرجع جزء منها للصدفة،والآخر للحب والمغامرة، حين ركب حصانا جامحا لمدة ثوان، فيستطيع من خلال هذه التجربة أن يبلغ محبوبته” ماهو”، فتمنع عنه الضحك وتأخذ مغامرته بمنتهى الجد[39] “لا تضحكوا أيها السادة، فالأمر جد ليس فيه ما يضحك” (ص: 615).
هى محبوبته، وهى راعيته، وهو فارس، وقد أتيحت له فرصة رد الجميل حين وقعت منها عفوا “رسالة” تسلمتها من حبيها المسافر وهو يودعها، فالتقطها هو وأعادها اليها – بعد يوم من الانشغال الرهيب – مخفيها فى باقة من الورد كأنه لم يرها، وهو فى ذلك التحايل والحزم والرعاية والعطاء الصامت قد أخذ دور الفارس الكبير وهو دور الأب القوى الحانى، ولم ينس ديستويفسكى فى هذا الموقف المكثف أن يربط بين الأنغام والمشاعر، كما أنى تصورت الباقة التى جمعها ووضع فيها الرسالة لم تكن سوى مشاعر بطلنا الصغير وقد تجمعت جميعها فى هذا التعيين الرائع.
ومثل أى أب حان حقق رسالته فى صمت، ورضى بنصيبه من الفراق يسعد بطلنا الصغير بسعادة محبوبته وهو من الألم فى حال.
“لقد تبدد ألمها كالدخان، واعترانى أنا احساس مؤلم عذب قبض صدرى، كان يشق على نفسى أن اخفى عواطفى” (ص:228)
وبانتهاء واجبه الأبوى ومعايشته آلامه العذبة، يرجع الى مسيرة نموه فيكتشف أن الشئ الذى بدا به ما زال لم يكشف:
“… ولكن نفسى كلها كانت تفيض اسى شجيا ممتعا فى آن واحد، كانت نفسى تهتز بشعور واضح ونبوءة بينة، وترتعش فى انتصار خائف فرح معا و تنبض نبض جريح” (ص: 229).
ثم
” ودفنت وجهى فى يدى واستسلمت بلا مقاومة لأول اكتشاف من الهام قلبى، أستسلمت للتنبؤ الغامض بطبيعتى… لقد انتهت طفولتى فى تلك اللحظة”. (ص: 229).
وتقفل القصة بنفس الطريقة.. فى “لحظة”، دائما “لحظة”.
***
تعقيــب
والآن لابد من وقفة للمراجعة نحاول فيها أن نتذكر عدة أسئلة سبق طرح بعضها تقول: هل هذه هى الطفولة؟ كيف كتبها ديستويفسكى؟ وكيف رآها الى هذا البعد قبل أن يكتبها؟ أهى طفولته هو أم طفولتهم هم؟
ومن هم وهم من نسج خياله؟ والى اى مدى ينطبق هذا الخيال على واقع الأطفال لدرجة أن يعتبر النص الأدبى مرجعا يقف على قدم المساواة أن لم يفق الملاحظة العلمية؟ وهل لديستويفسكى وضع خاص يجعلنا نأخذ منه دون غيره؟ وماعلاقة الأدب عن الأطفال بما يسمى الأدب للأطفال؟.
وقد سبق أن اجبت على بعض هذه التساؤلات فى المقدمة حين تحدثنا عن المنهج الفينومينولوجى والصدق بالاتفاق والصدق بالتماسك الداخلى، ولكن يبدو أن ذلك يحتاج الى بعض الايضاح والمراجعة بعد رحلتنا الطويلة مع النص:
ولنبدأ من الآخر للأول:
أولا: أن ما يمسى أدب الأطفال ليس له علاقة مباشرة بهذه الدراسة(أو بالأدب عن الأطفال عامة)، ولانيتوتشكا ولا البطل الصغير بقادرتين على مخاطبة الأطفال، وأنما هى تخاطب الأطفال الكامنة فى كيان الكبار، وللأسف فأن ما يسمى أدب الأطفال هو محكوم فى النهاية – وخصوصا فى أيامنا هذه بتصوراتنا الساذجة عن الأطفال وليس بحدسنا المباشر لطفولتنا وللطفولة من حولنا، ورايى أن الأساطير القديمة(غير التربوية – هكذا يسمونها) والحواديت وما كان يسمى بالأمثلة(لا يعنون بها المثل والحكم المختصرة) كل ذلك هى أدب الطفل المناسب الذى تحاربه كل وسائل التربية والاعلام نتيجة للجهل والخوف والتسطيح جميعا، وليس هذا مجال الخوض فى ذلك تفصيلا.
أما الأدب ع نالطفولة فهذا لا يكاد يندرج – ايضا – تحت ما يسمى تيار الوعى،لأن الوعى هنا رغن أنه وعى “الرواى” الا أن المقابلة بالواقع تنفى أن الطفل فى هذه السن يمكن أن يكون هذا الرواى الذى يصف من تفاصيل تكاثيف العواطف وحاجات الطفل وآداب التربية وقواعد العلاج ما لا يخطر على طفل كائنا من كان، فأى طفل هذا الذى يمكن أن يقول:” كانت تهتز بشعور واضح ونبوءة بينة، وترتعش فى انتظار خائف فرح معا”؟؟
اذا فهو تيار وعى ديستويفسكى وليس تيار وعى الطفل الواقعى أو المتخيل؟
ولكن أرجوك قبل ان تسارع بالرفض أن تراجع ما سبق أن ألمحنا اليه فى ماهية المنهج الفنيومينولوجى، ثم أن تفترض معنا أن المبدع لا يكون مبدعا الا بقدرته على التقاط كل شئ من مختلف الأعماق حتى ليصبح هوهو، ثم بالقدرة على هضمه، ثم اعادة افرازه، تنظيما جديدا قادرا على الانتقال للآخر.
وهذا ما تقول لنا أعمال ديستويفسكى أنه فعله وأنه كان قادرا عليه، ولى اجتهاد خاص بالنسبة لديستويفسكى بالذات فيما يتعلق بحالة الصرع التى كانت تعاوده، اذ أن الوجه الايجابى لهذا المرض هو الذى سهل عليه رحلات ” الداخل والخارج” حتى اكتسب هذه القدرة الفائقة التى سمحت له أن يعيش شخوصه – بما فى ذلك الأطفال – حتى يعطينا كل هذه الرؤى عن دواخلهم، ومرض الصرع يعرفه الأطباء، ويخاف منه العامة، ويعانى به المريض أشد المعاناة حتى التدهور، ولكن كل هؤلاء لا يعرفون الا الصورة السلبية لهذا المرض، فهل له صورة ايجايبة؟ هذا ما افترضه فى هذا الاجتهاد، لأن الصرع هو نشاط فجائى يثور من موضع بذاته فى المخ لكنه يثير المخ كافة حتى تفرغ Discharge هذه الاثارة فى شكل سلوك يتحدد نوعه بالثورة المثارة ومساؤ وكيفية التفريع أن هذا ما يعرفه الأطباء فيرصدونه رصدا سلوكيا وكهربيا ويسمون نوع الصرع مرة بتحديد موقع البؤرة (أن امكن) ومرة بتحديد شكل السلوك المصاحب للنوبة، والاجتهاد الذى افترضه يقول فى شكل اسئلة متتالية:
– ولكن ماذا لو دب النشاط وانتشر ولم يفرغ فى شكل سلوك محدد ظاهر؟ او نشاط كهربى قابل للتسجيل؟
– ثم ماذا لو دب النشاط وانتشر، وبدلا من أن يعود الحال الى ما كان عليه ترتبت المعلومات الكامنة فى شكل جديد، أو بدات فى هذه العملية التى التقطها صاحبها فأخذ ينسج من هذه الثروة المتاحة كنز الابداع الجديد ؟
– ألا تتضمن هذه الثروة المتاحة – الناتجة من هذا النشاط المفترض – كل المعلومات القديمة الكامنة منذ الطفولة،( وقبلها من أجدادنا – أطفالا وغير ذلك – الذين ورثناهم معلومات مطبوعة جيلا بعد جيل)، تلك المعلومات التى تصبح فى متناول المبدع الأمين،اذا صح وعيه فعايشه، فأمسك بناصية اللفظ أو آلة الصياغة الحاذقة الأخرى؟
هذا الاجتهاد الذى يمكن أن يكون فرضا عاملا، والذى حاولت تحقيقه جزئيا من خلال دراستى الحالية يثير قضايا خطيرة لا بد من مواجهتها بأفق متسع، ذلك ان حقائق المشاهدة العلمية تقول أن: الابداع فى المرضى الصرعيين ليس اكثر تواترا من الأفراد العاديين، والمبدعين اغلبهم ليسوا صرعى بحال من الأحوال.
ولكن هذه رؤية الأطباء والباحثين المحدودين بتعريف الظاهروحدود المتفق عليه، وهذا طيب فى مرحلة محدودة من البحث العلمى، ولكنه معطل فى طبيعة المعرفة واحتمالاتها اللانهائية، ولا يوجد حل توفيقى بين هذا وذاك الا أن نرجع الظاهرة الى أصلها الأصيل فنقول:
أن درجة النشاط الفجائى التى تفرغ فى شكل سلوك صرعى مرضى(طبى) هى ما معنى الأطباء والأخصائيين.
أما درجة النشاط الفجائى/ الممتد التى تتيح” اعادة ترتيب وتوليف مبدع” فى شكل استعادة واعادة معايشة وتنظيم وصياغة ونقل فهى الصورة الايجابية للصحة الفائقة فى حالة الابداع، ووجوه الشبه بين الابداع المكثف وبين النشاط الصرعى[40]كثيرة لا مجال لتعدادها هنا، وأن كنت قد أرجع لها بعد فى دراسة أخرى، أو حين أكمل دراسة ديستويفسكى، ولا يصح الخلط بين ظاهرتين متضادتين لمجرد اشتراكهما فى المنبع مع اختلاف المسار والتوظيف، وهما – هنا – ظاهرتا الابداع والمرض النفسى، ويمكن منعا لهذا الخلط، ومنذ البداية، أن نؤكد هذه الأفكار المبدئية.
1- الابداع ليس مرضا، بل هو ضد المرض.
2- الابداع هو المسار المعاكس لنشاط عقلى كان يمكن أن يكون مرضيا لو سار فى الاتجاه الآخر.
3- التناوب بين الابداع والمرض النفسى الصريح فى بعض الحالات ليس هو القاعدة.
4- التناوب بين الابداع والمرض النفسى يدل على عنف جرعة النشاط ومخاطر عدم الابداع لصاحبها.
5- الاستسلام للمسار المرضى لهذا التنشيط يؤكد المرض وينتهى الى التدهور ويقتل الابداع بكل احتمالاته بل ويتدهور حتى بالسلوك العادى الى درك أدنى.
ويكمن القول، أذن، أن كل مرض له ما يقابله من احتمالات نشاط الابداع، فالصرع له صورته الابداعية الايجابية فى تعميق الوعى المخترق والالتحام بالواقع والحاجة الى الآخر والصدق المعايشى.. الخ.
ثم أوقف نفسى بعد هذه الاستطرادة الضرورية لأرجع الى ديستويفسكى وهذه الدراسة تحديدا.
- (1) فقد ظهرت النقلات الفجائية العنيفة فى مسار الوعى لدى أكثر من شخصية من شخوص المادة التى بين ايدينا،
- (2) وقد وردت كلمات صرع ونوبة [41]واغماء فى أكثر من موقع (وبلا مناسبة أحيانا)
(3) وقد وردت أيضا كلمات المرض والجنون تعبيرا عن سلوك عابر بشكل أو بآخر.
وفضلا عن أن الرواية والقصة اللتين تقدمتا لا تقاسان بمثلهما من أعمال ديستويفسكى التى تناول فيهما وبشكل مباشر مرض الصرع والجنون وانحرافات الشخصية الا أن تواتر الظواهر السالفة الذكر لم يكن قليل أو معتاد، ولا أخلص من هذا أن مجرد ذكر مرض بذاته أو أعراض بذاتها هى دلالة معايشة الكاتب – شخصيا – لهذه الأعراض وأنما هى ملاحظات تتجمع بعضها الى جوار بعض لتدل على الأقل أن ثمة اضافة وصبغة غمرتا ابداع ديستويفسكى حتى ميزتاه فى ثراء دون مباشرة مسطحة فى وصف مرض بذاته.
كما أود أن أعلن الفرض الذى أفهم من خلاله مسيرة النفس البشرية( الانسان عامة) فى رحلة نموه فأقول: الانسان دورى فى حلقات مساره النمو، نوبى فى لحظات البدايات والنهايات لهذه الدورات خاصة، بمعنى أن نمونا يتم فى دورات متناوبة بين البسطUnfolding والاكتسابacquisition، وأن هذه الدورات يتخللها تغيرات فجائية نوبة نوبة تحد” نوعيا” بين حالات وعى متلاحقة، والدورات لها شكل مرضى فى الأمراض النوابية، أما القفزات الفجائية فشكلها المرضى هو الصرع.
وكأنى أضع نفس الظاهرة لتصف(1) المرض،(ب) والسواء العام،(جـ) والصحة الابداعية بنفس شكل الظاهرة مع اختلاف المحتوى والشدة والمسار:
1ـ ففى الفرد السوى( سواء أحصائيا عاما) تتلاحق دورات نموه طوال حياته بين الأزمة والكمون(أزمة الولادة/ كمون الرضاعة، أزمة المراهقة/ كمون النجاح التحصيلى والاجتماعى.. الخ) وتتحدد نوبات تحولاته فى فجائية النسيان والتذكر والعلم والتنويم اليومى العادى.. الخ فيمضى” متوسط الوجود” فى مسيرته العادية دون مرض و.. ودون ابداع خاص،(وتغلب هذه النقلات الفجائية فى الحلم غير المتذكر عن البعض والمتذكر عند البعض).
2ـ والمريض النفسى فى أصل مسار مرضه، تتلاحق دورات مرضه(تدهوره) بين الحدة والسكون(التفتر) وتتحدد نوبات تحولاته فى بدايات المرض والإفاقة باللحظة والثانية(الأمر الذى يغيب عن أغلب الأطباء وقد اسميته” بداية البداية”[42]واحيانا تتكثف هذه اللحظات فيما يشبه الصرع. واحيانا تمتص نوبة التحول الصرعى كل دورات التدهور فلا يبدو المريض الا صرعيا فحسب.
3ـ وفى الصحة الابداعية تتلاحق دورات الابداع فى مراحل الانتاج الأصيل وتناوبها مع فترات الكمون، كما تتحدد نوبات التحولات فى ما يسمى “لحظات الالهام” أو” الوحى” أحيانا، وقد تظهر فى المبدع ذاته وطبعه، كما قد تصل الى حدة مرضية عند بعضهم، أحيانا، وقد يتداخل هذا مع ذاك تداخلا خفيا أو ظاهرا يخفى على بعضنا ويظهر لمن يريد أن يرى، وبديهى أنه لا يوجد فصل حاد بين الدورة والنوبة، فما لحظة النوبة الا اعلان لبدء تغير نوعى هو نتاج تراكم كمى متداخل مكثف – والتداخل بين النوبات والدورات يحدث فى النوم أكثر من اليقظة، وهواذ يحدث فى اليقظة لا يكون فى متناول الوعى الشعورى عادة فى حالة ” السواء العام”، ولكنه يكون كذلك أحيانا فى حالة الابداع، وقد نقابله فى بعض أطوار المرضى.
وحين يأتى ديستويفسكى يعلمنا عن هذه ” الدورات والنوبات” فلا يوجد اى مبرر فى ان نسارع بترجمتها الى ما هو مرضى كما اعتاد عقلنا المستقطب أن يفعل، ولكن لا بأس فى أن نرجع بأصولها الى الظاهرة المشتركة بينها وبين المرضى، والتى تحتد حتى نحدد معالهما فى هذا العمل أو ذاك، وقد يصح – بجهد آخر – أن نرجع صدق الابداع وعمقه الى عنف جرعة التنشيط التى ظهرت أحيانا فى صورة مرضية نقيضة للابداع ذاته رغم الاشتراك فى المصدر – مثلما كان يحدث لديستويفسكى واهمية هذا الربط بين مرض ديستويفسكى وابداعه يرجع الى محاولة التأكيد على رفض الترادف بين الظاهرتين، وفى نفس الوقت الاشارة الى الوجه الايجابى للمرض النفسى اذا ما أتيحت الفرصة لتنظيم تناسقى أعلى لنفس التنشيط الذى قد يؤدى تفسخة الى المرض، ولا سبيل الى إعادة فهم النفس بالتركيز على مجرد رفض المرض باعتباره” السبة الخاصة بالمرضى دون سواهم”، ولن تتم المراجعة أيضا بالاقتصار على دراسة ظاهرة سلوك” الأغلبية السوية”، وانما قد يمكن أن نعيد فهم النفس حقيقة وفعلا من خلال هذا التلاحم الكامل فى طبيعة التركيب النفسى طولا وعرضا(أى مسارا وحالا) وكيف أن التركيب والترواح هما رغم اختلاف المظاهر وتناقضها أحيانا – فاذا جاء ديستويفسكى أو غيره وظهر مرة بهذا المسار(المرضى) وأخرى بذاك المسار(الابداعى) فتعمق فى كليهما، فلنذكر تلك القضية دون مسارعة بالاتهام أو تسطيح بالادعاء أو هرب بالانكار بالفصل الكامل بينهما، بل لعل المصدر الحقيقى الذى يمكن أن يؤكد لنا هذا التركيب المعقد للنفس الانسانية هذا الابداع الأدبى، لأن دراسات السلوك الظاهرى قاصرة الا عن غايتها المحدودة، وما يسمى الاستبطان بفرض على من يدعيه أن يقسم نفسه نصفين، لكن المنهج الفبنومينولوجى ليس فى متناول كل باحث لم يفتح أبواب وعيه على مصراعيها ولم يملك فى نفس الوقت ممسكات داخله الصياغية الابداعية المتميزة، أفلا يجدر بنا أن نذهب مباشرة الى من فعلها نستأذنه فى التعلم بما رأى” فينومينولوجيا” اذ جمع ذوات الناس والطبيعة من التاريخ والمباشرة فأفاض علينا من علمه ما اسماه فنا؟.
لكل ذلك
فقد تحققت من احتمال مارآه ديسيويفسكى فى هذه الدراسة من خلال كل مما يلى:
1- أن ديستويفسكى مبدع صادق ابتداء له من انجازه وأمانته ما يجعلنا نثق فى حدسه المعرفى.
2- أن دقة التفاصيل والتماسك الداخلى وتحديد النقلات وتسلسل الأحداث يشيران الى أن خياله هو الواقع(وبالعكس) ” وهذا هو المعنى الصحيح للأدب الواقعى على ما أعتقد”.
3- أن درجة اتفاقه مع عمق نظريات تركيب النفس وما يسمى بالسيكوباثولوجى للأسوياء والمرضى فى “بعض” ما جاء به، تسمح بتصديقه فى بعض ما اختلف معه فيه.
4- أن خبرة القارئ (كاتب هذه السطور) سواء فى المجال الكلينيكى، أم فى معايشة النظريات الأخرى، أم فى ما ذهب اليه فى نظريته الخاصة، أم فى اختباره المعايشى لداخل ذاته المثار من مثيرات النص قيد الدراسة، تتجمع لتصبح مسئولة عما يأخذ باعتباره صادقا وعما يدع.
5- مادامت قد توافرت كل العوامل سالفة الذكر، فان المجال يتسع لدراسات أكبر لتحقيق أدق ومعرفة أشمل، لبعض ما لم تتناوله هذه الدراسة مثل:
- (أ) تتبع أنواع الشذوذ والمرض التى وردت فى كل شخوص الرواية، فحتى الشخصيات الثانوية(مثل الشخص الذى اتهم يافيموف بقتل العجوز صاحب الكمان الأصلى، مات بنزيف فى المخ!!!)
- (ب) تتبع دورات التغير وتحديد مدى النوابية التى تواترت فى العمل.
(جـ) تتبع ” وثبات” الوعى ومدى تواترها عند كل الأفراد.
(د) تتبع تعبير “النوبات” عامة،” والنوبات العصبية” خاصة التى وردت فى هذين العملين (وغيرهما)
(ويشمل ذلك: تتبع نوبات الاغماء والنوم الفجائى والانسحاب الذاهل).
ولا أخفى أنى بدأت بعض ذلك، ولكنى وجدت أن الدراسة ستطول طولا لا يستطيع أن يوقفه أحد، فقضلت أن أكتفى بأن آخذ من كل عمل ما يتميز به ابتداء.. كما أن هناك دراسات أخرى مستحلية بالنسبة لديستويفسكى ولكنها قد تكون ممكنة بالنسبة لبعض المعاصرين تتعلق بتوقيت نوبة المرض وعلاقتها بتوقيت نوبة الابداع ومحتوى الابداع… وغير ذلك كثير.
تحذير ومراجعة:
على أن انبهارنا بديستويفسكى عامة لا ينبغى أن ينسينا أنه كتب هذين العملين فى بداية ابداعاته عامة، وأن ثمة ملاحظات قد وردت فى الدراسة بشأن الافراط فى المباشرة، والنصائح، ووضع قواعد التربية كانت تقلل من النسيج الأدبى فى أكثر من موقع.
كما أننى لاحظت المبالغة القصوى فى التعبير عن العواطف وخاصة بالبكاء(من كل الأطراف) وكذلك بالأحضان والاغماءات، قد يصح أن نواكب الداخل بكل التفاصيل فنفيض فى عرض تكثيفاته وتراكماته وعلاقاته، ولكن أن يترجم هذا الداخل دائما – أو غالبا – الى تعبيرات درامية مفرطة الوضوح بهذا الشكل فانه أمر غير مألوف عند كل الأفراد بكل الاختلافات الفردية فهذا مأخذ أحسبه يرجع الى طبيعة ديستويفسكى وطبيعة عواطفه، شخصيا وطريقة تعبيره عنها( ويمكن فى ذلك الرجوع الى خطاباته الى شقيقه مثلا وهو فى المنفى).
الأبعاد الأخرى:
ولا يعنى تناولنا لما عرضه ديستويفسكى من أعماق الطفولة فى هذين العملين أن نهمل تأثير المتغيرات الأخرى فى أدبه بما فيها المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولكن اختزاله الى هذه المتغيرات فحسب( أو أساسا) مثلما ظهر فى دراسة برميلوف هو أمر مرفوض أيضا، وقد نعود الى الربط بين أبعاد الدراسات المختلفة بعد أن ننتهى من أعماله( أو أغلب ما سندرسها منها).
الخلاصة
وقد يجدر بنا أن نخلص أخيرا الى بعض ما نعتقد أننا وصلنا اليه مما يقـول:
1- أن النص الأدبى الحقيقى – الذى يشمل خصائص الابداع ويحمل مقومات الخلود – هو الأصل: قبل التاريخ وقبل العلم.
2- أن المنهج الفينومينولوجى هو القاسم المشترك الأعظم بين العلم والابداع الفنى والنقد المبدع.
3- أن الأديب بصدقه وأصالته وتمكنه من أدواته، لا بانتمائه وعقيدته وغايته الشعورية.
4- أن الأدب الحقيقى قد يثبت العلم بنفس القدر الذى يشهد العلم للأدب فى بعض أجزائه، بل بقدر أكبر بكثير.
5- أن النقد “الوصى”: بالنظريات، ا, الملتزم بالحرفية والمغالى فى المنهجية هو نقد مخرب فى الأغلب.
6- أن اتجاهات النقد العقائدية والاجتماعية مدعية العلمية تعلن مرحلة أفلاس مؤقت، لابد أن تتخطاها المسيرة الابداعية مستوعبة ما يصح من اسهاماتها.
***
وأعد القارئ – دون التزام مطلق – أن أحاول تقديم عمل عربى مواز فى العدد القادم.
كما أدعو القراء عامة وطلبتى خاصة – من شاء منهم – أن يأخذ ما شاء مما اقترحت من دراسات مكلمه لهذه الدراسة يبعث لنا بها لعلها تلحق العدد القادم أو أى عدد قادم.
[1] – الشحاذ لنجيب محفوظ، الغبى لفتحى غانم، والرباعيات لصلاح جاهين فى حياتنا والطب النفسى: يحيى الرخاوى 1972. دار الغد للثقافة والنشر
[2] – الانسان والتطور عدد يناير 1981، وابريل 1982 على التوالى.
[3] – الانسان والتطور عدد يناير 1982
[4] – قد اسمى هذه القراءة أحيانا – تجاوزا – الدراسة، فليعذرنى القارئ، شكرا.
[5] – أوضحت بعض معالمها الأساسية فى دراسة فى علم السيكوباثولوجى 1979،” ومحاضرات مختارة فى الطب النفسىselectures in Psychiatry”1982 – دار الغد للثقافة والنشر بالقاهرة
[6] – طالما أزعجنى هذا السؤال من بعض الصحفين المجتهدين بعد “الجائزة” السؤال عن هواية الأدب ووقت الفراغ!!! كيف يكون الأدب هواية وهو عين الحياة.
[7] – احيانا يسمى” المنهج الموضوعى” مع بعض الاختلاف فى التفاصيل
[8] – أعترف – بخجل لا ينفع – أنى قارئ مقل، وأنى ما اضطررت للالتزام بالقراءة الشديدة التواضع الا بعد حكاية “الجاتزة” وما استتبعها من أسئلة صحفية(محرجة) حول قراءاتى وبمن تأثرت.. الخ لذلك فضلت أن التزم بنص محدود مؤجلا التواليف الأكبر بعد تمام الأعمال المنفصلة أن أتيحت الفرصة
[9] – استعملت فى المسودة لفظ “أجهض” ولكنى عدلت عنه الى “بتر” بعد أن أكتشفت أن عمر الصبى عند البتر كان أثنى عشر عاما.
[10] – وسوف نعود – غالبا – لدراسة هذا التركيب فى أعمال لاحقة لديستويفسكى.
[11] – سأطلق على زوج أمها صفة والدها طوال الدراسة لأنها الصفة النفسية التى استقبلتها نيتوتشا فحكت عنه بهذا الاسم دون غيره وخاصة فى الجزء الأول
[12] – الفريد أدلر رائد مدرسة علم النفس الفردى
[13] – الرخاوى دراسة فى علم السيكوباثولوجى: ص 193 ،529
[14] – تكرر هذا الرمز بالذات فى حرافيش نجيب محفوظ تكرار مؤكدا لما ذهبنا اليه.
[15] – مقدمة الجزء الثانى من الأعمال الكاملة – ربما بقلم المترجم – صفحة 12 – المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر. دار الكاتب 1967
[16] – يحيى الرخاوى – 1981 – حالات وأحوال – (ص 50 – 62) الإنسان والتطور – المجلد الثانى – عدد ابريل (ص 52).
[17] – يبدو أن ديستويفسكى قد وعى بحدس فائق معنى هذا الالتصاق” الحسى” للطفل فقد كرره فى أكثر من موقع مع اختلاف التعابير والظروف: مثلا: فى البطل الصغير”.. وكدت ابكى وأنا اشد نفسى اليها من فرط ازدحام المشاعر” (البطل الصغير 618) – يبدو أن هذا الالتصاق الحسى يذكرنا ” بحماية الرحم” قبل لذة الالتحام الجنسى( الذى قد يكون هو ذاته ليس سوى رمز – أوعينة – للحماية الرحمية بالالتحام متبادلا مع الولادة.. وهكذا )
[18] – قد يشير هذا الاختلاف النوعى فى الادراك الى نوعى الادراك الذى وضعتها فى عمل سابق” دليل الطالب الذكى فى علم النفس” أحدهما سلبى “تصلنى من الخاريج” والآخر ايجابى “أفكر واحلم” رغم أن غلبة الادراك الجديد هنا اصطبغت بقيم “الوالد” المختزنة الجاهزة داخل نيتوتشكا(بقية ص67).
[19] – رغم فضل “اريك بيرن” فى التنبيه الى هذا التنظيم التركيبى، فقد تعمدت الا أذكره تحديدا، خوفا من التمادى فى التسطيح والاختزال اللذين لحقا بنظريته”التحليل التفاعلاتى”، كذلك فان التنظيم التركيبى قد تتعدد فيه الصور الوالدية وغيرها الى ما لا نهاية بما ينبهنا الى الحذر أكثر فأكثر من التقسيم الثلاثى المشهور فى هذه النظرية.
[20] – سأعود اليها فى أعمال لاحقة.
[21] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى ص 168،358،430
[22] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى ص 361
[23] – ومن هنا يمكن اعادة النظر فى وجه الشبه(الذى أشار اليه الكسندر سولوفييف) بين يافيموف هنا وبين كرايزلر( بطل هوفمان) أوشخصية جامبارا(بلزاك) – لا من حيث وجود عقدة نقص نتيجة للفشل ومحاولة تعويضها ولكن باعتبار دلالة ما ترمز اليه الآلة الموسيقية الغامضة أو الساحرة عند الثلاثة، ومن الحاجة الى التواصل الأنغامى الأعمق، وهذا ماجعل كرايزلر وهو شبه مجنون “سحر” بآلة “شيطانية”، وجعل جامبارا يطوف أوربا كلها يحاول أن يخلق كوسيقى جديدة ثم يعجز عن أن يجد من يفهمه فيهوى الى ” الجنون” المشكلة اذا عند كل عؤلاء(وربما عند نجيب محفوط فى حديثه عن أتغام أناشيد التكية فى الحرافيش هى فى اعلان عجز اللغة السائدة(اللفظ) أو الممكنة(هنا: الكلارينيت) عن تحقيق وظيفة التةاصل الحامية ضد الجنون، ومن ثم يظهر دور الالة الشيطانية، أو الموسيقى الجدية، أو الكيان المعشوق…. الخ.
[24] – ما داخل ألقواس هو تعليقى الخاص وليس فى النص بداهة.
[25] – فقد حلت صورة بطرس الكسندروفيتش محله فى رحلة محاولة نيتوتشكا أن تسبر حقيقة داخله(ص: 241).
[26] – وتنشأ بين الفتاتين عاطفة هى حب الفرد فردا من جنسه هى الحب المثلى الذى يحدثنا عنه فرويد:ص13
[27] – يحيى الرخاوى – 1981 – حالات وأحوال –(ص 50 -62) الانسان والتطور – المجلد الثانى عدد ابريل.
[28] – لعل ذلك يذكرنا برفض العقاد اعتبار أن آفة شاعرنا الحسن ابن هانى(أبى نواس) هى الجنسية المثلية،بل النرجسية( يذكرنا دون اضطرارنا للموافقة تمام) عباس العقاد( السنة غير مثبتة) ـ أبو نواس الحسن بن هانى – القاهرة – دار الهلال
[29] – سألت ذات مرة أحد الأصدقاء المكهين جدا عن طفولته، وهو سوى متميز ثقافيا واجتماعيا، فأجابنى بحسم قاطع: ليس لى طفولة / وقد أعلن ديستويفسكى مباشرة مدى جهلنا بما هو “طفل” فى قصته البطل الصغير كما يلى
[30] – الوالدية عموما – انظر ايضا البطل الصغير
[31] – لعل هذا الموقف المعقد قد ظهر فى الجزء الأول فى علاقة يافيموف بزوجته أساس.
[32] – أول من بارك من تركه كان الطفلة(الأم) نيتوتشكا وهى تطمئن(فى نفسها) أباها وهو يعدو منها تاركا اياها( انظر ص:89). ثم عاد موقف قريب من ذلك فى الجزء الثالث والكسندرين تعبر عن مشاعر الهجر(ص:257،258):
” كان من حولى فى الماضى أشخاص آخرون، الا أنهم هجرونى جميعا، لقد تبددوا كلهم كما يتبدد السراب، وانتظرتهم كثيرا منذ ذلك الحين، لم أفعل شيئا غير الانتظار طوال حياتى كلها.. ليباركهم الله” (انظر بعد)
[33] – دراسة فى علم السيكوباثوجى 285
[34] – كالعادة: لم يكن مرض الكسندرين مرضا محددا، وأن كان ديستويفسكى لم يتركها دون نوبات كالعادة أيضا:” ودامت الأزمات العصبية بعد الأغمائ ساعتين”.
[35] – مثلا: وصف ديستويفسكى العواطف والانفعال فى تراكمها وتبادلها وتناقضها وصفا يطالبنا باعادة النظر فى كل ما نعرفه عن العواطف والانفعال راجع على سبيل المثال: غم يافيموف وضجره حتى الهياج(ص:39)، التبادل بين الحزن والخوف(ص:115)، الجرأة والألم- الجرأة = النبيلة(ص:50،49)، الخوف من الخوف(ص:240)، تواكب الألم والسعادة(ص:69) تواكب الحياء والتوسل(ص:81) القلق الأصم(ص:86) الفرح الرقيق(ص:140) اللطف المفطور(ص:145) الدهشة لحد الخوف(ص:146) استقبال الكراهية(ص:131) تجهيل العواطف(ص:167) الخوف العذب(ص:170) كآبة القلب ومشاعره الأخرى(ص:175) الشفقة المتلبسة والقلق الذليل(206). وكذلك سبق ديستويفسكى فى وصف الحيل النفسية مثل حيلة تكوين رد الفعل reaction tormation(ص:274) أو التسامى(ص:275) أو الاسقاط(ص:280).. وقد أرجع لكل هذا فى العمل الشامل الأخير، وقد لا أفعل.
[36] – استطاع ديستويفسكى بعد ذلك أن يواجه العدوان ويصوره بكل وضوح وصراحة وبنفس العمق والروعة ( الجريمة والعقاب – الأخوة كرامازوف… الخ)
[37] – الحادث الذى تدور حوله القصة كان فى محاولة ركوب حصان بكر لم يسبق ترويضه من فارس شاب عزف عن ذلك فى آخر لحظة، ثم من بطلنا الصغير فى اندفاعه بطولية غرامية غير محسوبة، والاشارة هنا الى المضيف صاحب هذا الحصان:
[38] – حادث التفكه على السيدة(م) باتهامها بعلاقتها بهذا الطفل البطل ومحاولته اليائسة الدفاع عنها أمام موجة الضحك القاتل
[39] – قارن أهمية أخذ عواطف الأطفال وآلامهم مأخذ الجد فى علاقة نيتوتشكا بالكسندرين ميخائيلوفنا
[40] – وهذا التنشيط الحاد(الصرعى) قد يواكب أو يتبادل مع تنشيط آخر تظهر صورته المرضية فى ما يسمى” الهوس والاكتئاب” أو المرض الدورى عامةperiodical Illness، ففى حين يأتى الصرع من بؤرة ويفرغ نشاطا سلوكى، نجد أن مرض الهوس والاكتئاب – مثلا – يمثل نشاطا من”مستوى فى المخ” يظهر فى شكل سلوك خاص يعبر عن وجود مميز،(دراسة فى علم السيكوباثولوجى ص 153،211 ومابعدها ولهذا النشاط – ايضا – صورته الايجابية الابداعية مما سأرجع اليه فى دراسات لاحقة ويمكن مراجعة نفس القياس على أمراض اخرى ومبدعين آخرين. وبالنسبة للوجود الايجابى للنشاط الصرعى غير النوبى يمكن الرجوع الىMayer-Clinical psychiatry 1978 وما اسماه بــictal activity.
[41] – لابد من التحفظ هنا لأن استعمال هاتين الكلمتين فى السياق الأدبى غير استعمالهما فى السياق الطبى، كذلك فقد تكون الترجمة مسئولة جزئيا لأنه فى بعض الأحيان تكون لكلمة شائعة فى لغة معنى يختلط مع معنى آخر اذا ترجم الى لغة اخرى مع اختلاف الشيوع وتاثير السياق.
[42] – يصفها نجيب محفوظ بشكل مباشر فى: رأيت فيما يرى النائم