الافتتاحية
يبدو أن هذا العدد قد يمثل تعميقا غير مقصود لتوازن مأمول، فقد عاد د. السماحى يعايرنا (مفكرين وعلماء عامة – ولا يعاير هذه المجلة خاصة) بفشلنا الأكبر حين اضطررنا للاختزال والقياس تحت وهم توحيد المعرفة، فاذا بنا نوحد الوجود والموجودات فى هيئة الانسان وقياسا على تركيبه “الأنثروبومورفيزم” وهو يعاود بهذه الهجمة المنطقية دعوته المتحدية الى تجزيء الوجود وتنويع القوانين بلا نهاية، ويتصور أنه بذلك يرتقى بالفكر لدرجة تحمل الغموض واحتمال التنافر الحتمي، ولابد أن نحيى معوله الدائم الاحمرار من نفخ كير لا ينقطع نفس نافخه، ربما من لهاث الخوف، الا اننا نخشى – كالعادة – من الاطمئنان الى هذا التجزيء المريح تحت زعم الهرب من الاستسهال القياسى المخل، ولاشك أن بعض الحق يقع على كلا الجانبين، الا أن تمجيد معطيات التجارب المحدودة – دون غيرها – قد يحمل خطر الغاء ما عداها، وهو (السماحي) يصفق بذلك للدكتور عادل مصطفى (الذى سبق أن قدم له التحية الواجبة) ولا ينسى تقديم هامش تحفظى (من باب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم . الخ) وهو يرد على بشرفه المنطقى حول الأخلاق بـ “بريلود” لا منطقى حول نفس المشكلة، وللقاريء ان يحكم على مدى لا منطقيته (!!)، خاصة وهو يقرأ بحث د. عادل عن “فضيلة الشك وضرورة المنهج” مستضيفا “ديكارت” العظيم هذه المرة، ولا أقول أنها ضيافة على طريقة مذبحة المماليك، ولكنه استدرجه بعد واجب التحية المشبوهة الى حمام تعرية لا سبيل الى الخروج من لفح بخاره الا بفرقة انقاذ كاملة لم تظهر فى هذا العدد، ولا أمل فى ظهورها قريبا، ذلك لأن ما يمثله د. السماحى و د. عادل مصطفى هو الشائع الحديث، وهو الدين التجريبى الجديد، وهو الالتزام اللغوى السجان (على الرغم من دفع كل منهما ومن اليهما بغير ذلك تحت دعوى أبعاد العمق واعلاء قيمة التفكير المراجع .. الخ) – وهما لا يجدان المقابل الصلب الذى يعرض البديل المناسب، فعلى الجانب الآخر يقف الصوفى الصامت أو الصوفى المتعالى أو الفنان المتعيب أو الحدسى المستأذن، ومهما حمل كل هؤلاء من حقيقة الا أنهم أعجز – من جراء التشكيك الداخلى والاغارة المادية الممنطقة – أن يقولوا “لا” بأسلوب قادر على الصلابة واستمرار الحوار، وكان من بين أسباب ظهور هذه المجلة أن تدرب هذا الفريق المتألم المعوق ليقف شامخا يكمل جوانب المعرفة، لكن يبدو أن المسألة أصعب من كل تصور وأمل.
وسيظل هذا الفريق الأول المطمئن الى جزئياته طاغيا فخورا بظاهر عقله، حتى يشتد عود خصمه، وهذا الأمل – رغم بعده – يلح علينا الحاحا، لأن هذا القهر “الوصي” لا يقابله حاليا الا قهر دينى تسليمى (أو رفض غيبى انسحابي)، ومحاولة طغيان أى قاهر من أى جانب يبتر السير ويميت الأمل فى مهده، فالخطر على المعرفة (الفشل الأكبر من الأكبر) انما يتأتى حين نرضى بالمعرفة من جانب واحد، فالفرحة بأمان التجزيء سوف تحرمنا من شرف الشمول، ورغم ذلك فنحن لا نملك الا احترام ما يبذلانه (ويبذلونه) من جهد والتزام فى مقابل التهويم المتكاثف القصير النفس، نحترم الجهد دون التسليم، لأن فرط الجهد لا يعنى – بالضرورة – صلابة الحق.
وحتى تتوازن الجرعة، ومع تراجع التلقائيين المغامرين – فى الجزء الثانى – باختيارهم حينا، وبعدم فهمنا لهم أحيانا، كان لزاما أن نضاعف الثقل فى الناحية الأخري، فنبدأ فى محاولة تطبيق عملى لبعض معالم المنهج الفينومينولوجى فى مجال النقد الأدبي، كوسيلة معرفية مميزة، بزعم أن الفن ليس الا صورة من صور استعمال المنهج الفينومينولوجى للمعرفة ولكن بتلقائية أكبر وحدس أغور، وأن النقد المقترح هو همزة الوصل – وخاصة فى مجال معرفة النفس – بين معطيات نفس المنهج فى مجال العلوم النفسية أساسا، وتبدأ هذه المحاولة برواية نصف طويلة وقصة قصيرة لديستويفسكى مع الأمل الذى وصل الى مرتبة الوعد بتناوب التناول مع كاتب عربى (أو مبدع عامة) مع تتالى الأعداد، ولا نحرم أنفسنا – بذلك – من امل ضعيف فى صد هذه الاغارة التجريبية المجزئة، (بكسر الزاي) أو على الأقل فى تحقيق توازن مناسب.
ويحل ضيفا على هذا العدد مفكر شديد الالتزام يقرأ لنا فى كتاب أريك فروم عن “أن تملك أم أن تكون” ليقدم لنا به الدور المناسب الذى يمكن أن يقوم الفكر النفسى الانسانى فى دعم مستوى من الوجود يتخطى القهر التكرارى النابع من الخوف المستمر من الجوع والاغارة، وهو اذ يعلن سقوط الوعد العظيم يلوح بوعود تبدو أنقى وأبقي.
كما يعود د. مرقص عوض ليقدم لنا تعريفا بطبيب نفسى مفكر شغل الناس فى أواخر الخمسينات والستينات ثم تخافت ضجيجه بعد ذلك حين قاد الحركة المناهضة للطب النفسى وهو هـ . ج . لانج الطبيب النفسى الانجليزى الجوال، ولا نعلم على وجه اليقين ان كان تقديمه قد جاء متأخرا بعد أن كاد نجمه يأفل تدريجيا، أم أن فى ذلك ما يحفزنا الى الاستفادة من جوهر ايجابياته دون التمادى فى تشنجات رفضه، ونحن احوج ما نكون الى التوليف بين النقائض – التى تصلنا من الغرب المتقدم – ونحن نتابع خطاهم بدلا من التبعية البندولية المتأخرة.
ومازال الجزء الثانى يتقبل التجارب ويرحب بالصادق المغامر من المحاولات وان كان يعتمد على الصدفة والمغامرة بشكل يكاد يشكك فى قدرته على الصمود، ومع ذلك فان للصدفة والمغامرة قوانينها الثابتة “ايضا” أو حتى .. “قبلا”.
أما باب الحوار(1) هذه المرة فانه يلملم أوراقه رغم الفيض الهائل من المحاورين غير المحررين، فقد طغت مساحته فى العددين الماضيين حتى كاد يصبح هو المجلة مما أثار تحفظات كثيرة، كذلك لوحظ أن المحاورين المحررين وعلى رأسهم رئيس التحرير يأخذون فرصة أعلى بكثير من المحاورين الضيوف، وقد ظهرت أمامنا خيارات متعددة من بينها أن نكتفى بنشر رسائل من جانب واحد، أو مقتطفات من رسائل ثم تعليق مختصر، أو ملاحظات برقية وردود كذلك، أو غير ذلك مما سنحاوله ونحتاج فيه الى رأى القاريء بشدة ملحة.
وبعد …
فما بين ظهور هذا العدد وتحرير العدد الماضى انتهت “السبع والسبعون يوما” بهزيمة بطلة، أو ببطولة مهزومة، وليس لصاحب قلم يسكن بيتا لم يهتز بقصف القنابل، أن يحكم على هذه القضية من موقعه الآمن المعتم، ولكن هناك محاذير لابد أن توضع فى الاعتبار اذا كنا أهلا لأن نستوعب النتيجة أينما وضعها التاريخ وصنفها (وهو أمر يحتاج الى انتظار كثير)، وهذه النتائج فى تصورنا تقول:
(1) أنه لا كلمة الا للأقوى (2) وانه لا قوة الا للمستقل ارادته المنتج لقمته وبردته المالك ناصية فكره (3) ان القوة هى مجموع لحظات وعى الأفراد “ونتاج تشغيلها” وليست مجموع عدد المواليد (4) أن الأمة العربية قد خيبها الثراء الجاهز واضرها أكثر مما خبيها التقشف الحر وعوقها (5) أن مجموع التغيرات الصغيرة فى المواقع الصغيرة هى التى ستدل على اتجاه سهم التطور وليس رصانة المقالات وذكاء التفسير (6) أن الطريق طويل جدا بحساب تطور الأمم، (7) أن العدو الاسرائيلى يسير رغم كل شيء (كل نصر) نحو هاوية العنصرية ولا خيار أمامه فاما ان ينتحر أو يقضى على الجنس البشرى جميعه (8) أن ذلك لا يبرر الانتظار حتى يحدث أى من المصيرين فهو لن ينتحر بقرار ارادى ذاتى ولكن تجاه وعى راصد وقوة متصاعدة راغمة. (9) اننا شعب لم نعرف الديمقراطية المبدعة ابدا وانما نحن نتاجر – فى الأغلب – بالديمقراطية الراشية (10) اننا لا نملك خيار التوقف، ولو ثانية واحدة.
هذه هى الكلمات التى أردت من خلالها أن الزمنا – فى هذه المجلة – بشهادة القاريء – بضرورة الاستمرار كل يوم أكثر من أى يوم، فالتحدى يزداد أبدا.
[1] – وصلنا بعد اعداد العدد خطاب من أ.د. شعلان يعد استكمالا للحوار السابق، وحوار بين م. ابراهيم عادل ووفاء خليل و د. السماحى ويبدو أن هذه المادة تعد بنشرها فى العدد القادم: عود على بدء!.