الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى
أ.د. يحيى الرخاوى
دراسة الإنسان شديدة الصعوبة، شديدة الخطر، فهى شديدة الصعوبة منهجا، شديدة الخطر جوهرا وعواقبا، وحين أقول “دراسة الإنسان” فأنا إنما أعنى دراسته (1) كيانا، (2) وجوهرا، (3) وتركيبا، (4) وسلوكا، (5) وغاية، (6) وجزءا من كل إكبر، ذلك أن إشاعة دراسة الإنسان كانت -ومازالت- تخضع لعوامل أخرى غير حقيقتها:
1- فالإنسان هو الشيء “الممكن دراسته“ اعنى أن الظاهرة الانسانية تختزل الى ما يقع فى قدرة أدوات الدراسة ومدى المنهج المستعمل، فاذا قصر المنهج عن رؤية بعد ما فى الوجود البشرى فلابد أن هذا البعد غير موجود أصلا ضمن الظاهره الانسانية، وهذا موقف متواضع عاجز، ورغم إنه عملى ومنطقى … الا أن الحماس ضاعف من عملية الإنكار هذه حتى أصبح الإنسان مجموعة ظواهر قابلة للقياس والفحص حتى ولو لم يكن كذلك فقط، أو لم يكن كذلك أصلا.
2- ثم تأتى فى الطرف الآخر دراسة الانسان من منطلق محتوياته، الانسان هو مجموع ما يحوى من مخزون وطاقة يحددان سلوكه ومعالمه جميعا، وتخضع دراسة هذا الذى يحتويه هذا الوعاء لإستنتاجات منطقية وعينات محتملة من هذا المحتوي، وتفسيرات رمزية تترجم هذا المحتوى إلى تصور ممكن.
ويتساوى هذان الإتجاهان فى أنهما يجعلان الإنسان مجموعة أجزاء، سواء كانت نتاج جزئيات السلوك، أم تراكمات المحتوي، فهل هو كذلك؟
3- وهنا يقفز إلينا مفهوم كلى شاع منذ الخمسينات، يتناول الإنسان باعتباره “كيانا كليا واعيا وإراديا” وقد سمى أغلب المتدرجين فى هذا الإتجاه باسم شامل غير واضح المعالم وهو ” الاتجاه الإنساني“، واستعملوا لغة عامة أقرب الى لغة الشعر متصورين إنهم بذلك قد تخطوا التجزيء والتفتيت، إلا أنهم فى حماسهم نحو الكلية ضد الجزئية قد تخطوا أيضا إحتمال التعدد أصلا، وأصبح الانسان لديهم وحدة نامية بشكل متصل، وهم لم يبسطوا الأمر لدرجة التسطيح الذى قد يبدو من ظاهر تقديمي، فالانسان عندهم كيان مركب شديد التعقيد والتكثيف بلا أدنى شك، لكن تركيز هذا الاتجاه على كلية ووحدة الإنسان يتخطى بشكل ما إحتمال تعدد تركيبه ووجوده جميعا.
فالإتجاهات الثلاثة قد سلمت بشكل أو بآخر على اعتبار الانسان”وحدة” بشكل أو بآخر، وهذا أمر بديهي، بل وضروري، لأن المترتب عليه هو أمور عملية ووظيفية لا تحتمل غير ذلك، فأى فرد كائنا ما كان وبغض النظر عن “ما هو”، هو يقوم من نومه ويغسل وجهه ويذهب الى عمله ويحيى الناس ويكسب القرش … الى آخره، وعامة النـاس لا تقبل فى أى شخـص كائنا من كـان هـو، (أو ” مـا هو”) أن يكون غير ذلك ، ولا تستطيع أن تعامله إلا بصفته الواحدية المفردة واذا ما كان الأمر غير ذلك، فإن الدهشة تبدأ، والأحكام تصدر، فاذا كان”هو” أحيانا “هو”، وأحيانا ليس “هو”وإنما هو آخر، ( وفى الحالين فهو واحد مفرد) قيل أنه متقلب أو غريب الأطوار أو ذو وجهيـن (لاحظ أنهم لا يقولون ” ذا شخصين”) وقد يتحذلق البعض فيصفونه بالازدواج، فإذا إزدادت الحذلقة وصف بالانفصام وهلم جرا، والوصفان الأخيران يختلطان فى أذهان العامة وعلى ألسنتهم بعضهما ببعض، كما أنهما يعنيان التعدد ( أو الازدواج) فى أزمان مختلفة وليس فى نفس الوقت.
فاذا كان الأمر كذلك عند العامة، فهل يكون هو كذلك عند العلماء؟ حتى هذه المرحلة من التقديم يبدو أنه كذلك أيضا عند العلماء، إلا أن المتأمل للغة المستعملة فى بعض النظريات النفسية سوف يكتشف أن الإشارة ظهرت من قديم تشير إلى إحتمال التعدد فى الكيان البشرى فى آن واحد، رغم ظاهر الوحدة والتفرد.
(أ) ويمكن أن نبدأ بالإشارة الى حدس يونج الأعمق لما هو كيان داخلى سواء فى إشارته الى “القناع” (السلوك الخارجي) فى مقابل ” الظل” ( الكيان الداخلي) أو إشارته إلى ” الانيما” فى مقابل ” الأنيمس” ( بمعنى وجود الكيان الأنثوى داخل الإنسان الذكر والكيان الذكرى داخل الإنسان الأنثي)، ثم وهو يشير الى النماذج المتوارثة عبر الأجيال، بل عبر الأحياء ” الأركيتايب” Archetypes، كل ذلك إنما يدل على تركيبات تنظيمية متكاملة تمثل كيانات لا أجزاء.
(ب) ثم يأتى بعد ذلك بعض الفكر التحليلى الأحدث ليكلمنا عن ” الأنا الناكص” و” الأنا المضاد للذة” ( المضاد لليبيدو)، و ” الأنا اللذى الليبيدي” وكيف أن هذه الكيانات التى هى فى الداخل لها شخصيتها وصفتها وطلباتها و “حضورها” ومظاهرها الصريحة فى الحلم والجنون، ومظاهرها الخفية الرمزية فى العصاب وبعض السواء، وكل ذلك تحت ما يسمى بمدرسة ” العلاقة بالموضوع” Relation Object ، ثم يأتى بعد ذلك ذكر المواضيع الداخلية Internal Object لا لتشير الى محتويات الوعاء الانسانى كجزئيات متجمعة أو ذكريات قابلة للإسترجاع، وإنما لتشير الى الحياة الداخلية الحاوية للموجودات الكيانية التنظيمية، ورغم تسمية هذه المدرسة لهذه المحتويات بالمواضيع الداخلية إلا أن المتعمق فى المعنى المراد سوف يجد إنها إنما تعنى شخوصا بأكملها فى داخلنا، لا مجرد مواضيع، وكيفية تواجد هذه الشخوص فى الداخل لا ينبغى أن تؤخذ بمعنى ” الوعاء والمحتوي” لأن الوعاء هو هو المحتوى كما سنري.
(جـ) وفى ضربة حدس (1) (وهى فى نفس الوقت ضربة حظ، ومأزق وعي) يرى اريك بيرن – صاحب مدرسة التحليل التفاعلاتى – الإنسان أمامه متعددا بشكل واضح ومميز، ويعيد – بتواضع شديد – رسم خريطه الكيان البشرى فى صورة “تثليثية” محددة ( الانا الوالدي، والأنا اليافع- الناضج- والأنا الطفلي)، كيانات وتنظيمات (لا مجرد أجزاء ودوافع وطاقه محكومة وقوي) تتبادل وتتعاون وتتنافر وتتصارع وتتعدد وتنمو (فى بعضها مع بعض) إلى كيانات أكبر فأكبر وهكذا، ويعمل “بيرن” نظرية تركيبية متكاملة تبدأ بالتحليل التركيبى structural Analysis وتمتد الى التحليل التفاعلاتى Transactional Analysis الذى يعنى ببساطة: أنه ما دام التركيب البشرى متعدد الشخوص، فان التفاعل بين شخص وآخر ليس تفاعلا بين شخص واحد وآخر واحد، بل انه يجرى على مستويات متعددة فى نفس اللحظة وتشير هذه المستويات الى علاقات متبادلة ومتداخلة بين هذه الزحمة من الكيانات بعضها مع بعض، يحدث كل يوم وكل لحظة فى الاحوال العادية فى نفس اللحظة وإن كان لا يظهر على السطح إلا مستوى ظاهر واحد فقط (للناظر غير المدقق طبعا).
وتنتشر هذه النظرية، ويشاع إستعمالها، ثم يساء إستعمالها لأنها تؤخذ من مدخل التبسيط والإختزال، أكثر مما تؤخذ من مدخل التركيب والمسار النموى المعقد.
ولا تكتفى هذه النظرية بالحديث عن هذا ” التثليث” للكيان البشري، بل تتحدث- دون وضوح كاف -عما أسمته ” وحدات الأنا” Ego units التى يتركب منها الكيان البشري، والناظر المتفحص الى ما يعنى هذا التعبير يكتشف ان هذه الوحدات ليست الا كيانات ( شخوصا) متكاملة متراكمة يتكون منها وبها الوجود البشرى المفرد.
(د) ثم تاتى تطبيقاتى الاكلينيكية الخاصة (منهجيا: يـمكن أن تسـمى بالفحـص الفينومينولوجى) لهذا المنطلق، فأواجه “الزحمة” المتناهية داخل التركيب البشرى فى الجنون والحلم والشعر (2) (خاصة، وفنون أخرى لا مجال للتطرق اليها حاليا)، وكل التجارب القريبة والموازية لهذه الخبرات الانسانيه المركبه، وتؤكد لى مشاهداتى ومعايشاتى طبيعة هذا التعدد والتكاثف (وسأعود إلى كيفية ظهور التعدد فى عملية النمو فيما بعد)، وأتبين أن التعلم بالبصم (الطبع) learning by imprinting ليس سوى لصق كيانات جاهزة على الجوهر الانسانى المتلقى النامي، لتستوعب وتمثلassimilated فيما بعد، أو تظل قلقة جاهزة للتعتعة فى الحلم والشعر والجنون وما اليها.
وأكتفى الى هنا بتقديم هذه الإتجاهات التى تعلن هذا المفهوم “الصعب” و”الخطر” لماهية الكيان البشري.
وأعلن فى هذه المجلة نصف المتخصصة عن أهمية هذا المدخل بالنسبة للشخص العادى وعن خطورته معا فأقول:
إن تغير النظرة إلى الإنسان كوحدة إستاتيكية ( أو حتى ديناميكية ) إلى إعتباره ” مجمع شخوص ” يمثل موجزا للتاريخ ومحتوى العالم فى آن واحد، خليق بأن يقلب كل الموازين السائدة حاليا عن مفهوم الإنسان ومفهوم الحضارة ومفهوم النمو الفردى ومفهوم التطور البشرى جميعا، وتغيير هذه المفاهيم هو أمر خطير، لكن الأخطر منه هو ما يستتبع تغيير مثل هذه المفاهيم من طبيعة المسيرة البشرية.
وبدءا من التعامل العادى
(أ) ماذا يكون موقف الشخص العادى أمام نفسه ؟ صورته لذاته؟ فخره بها؟ تحديده لها ؟ لأنه إذا كان “هو” ليس “هو” بل ” هم ” أو ” نحن ” فكيف يتحدد أو يتميز؟
(ب) ماذا يكون الموقف من قرار الشخص لنفسه، وإختياره لفعله؟ من الذى اختار؟ ومن المسئول؟ (وقد يمتد هذا البعد إمتدادا خطرا ليشمل المسئولية الجنائية…..، تصور!!)
(ج) كيف نعامل بعضنا بعضا، وكيف نتفق ونتحاب ونحن قد أصبحنا ” حفلة” موجودات ولسنا إرادة أفراد؟
ويمكن أن نستطرد فى هذه التساؤلات الى ما لا نهاية لنستشعر الخطر الأكبر الذى أدى بعضه الى سوء إستعمال نظرية التحليل التفاعلاتى حتى أصبح المخطيء- كمثال من الحياة العادية – يقول “لعن الله طفلي” (Dam my child) يعنى بذلك أن المسئول عن الخطأ أو التقصير هو ذلك الكيان الطفلى الداخلي، يقول ذلك بدلا من أن يتألم من المسئولية هو ككل ، ويتعلم من الخطأ….وقس على ذلك.
و الآن …
إذا كان القبول بهذا التعدد هو فتح لباب سلبيات لا نعرف الى أين ستؤدى بنا، أفلا يجوز بنا أن ننكره إبتداء؟
وهنا يبدأ الخطر على العلم والمعرفة، حين يصبح الاعتراف بالحقيقة الفعلية أو المحتملة معتمدا على آثارها وليس على حقيقتها الذاتية، فاذا صح أن الكيان البشرى الفرد هو بالضروة عدة شخوص بعضها فى بعض، وصح أن هذا المفهوم هو مفهوم خطر على حدود الذات وعلى إستمرار النمو وتحديد المسئولية فلابد أن حلقة مفقودة تكمن بين هذا الذى صح، وذاك الذى صح بما أن الكائن البشرى قد أثبت بالتاريخ ثبات خطاه نحو التقدم، وهنا يبدا البحث الجاد بكل ما يصحبه من معاناة عن تلك الحلقة المفقودة التى بغيرها لابد وأن نعترف باحتمال إنقراض النوع البشري، ذلك لأن الحقائق التى تبدو تدهورية هى إنذارات الانقراض بلا جدال، ما لم تجد لها تفسيرا إيجابيا من عمق آخر.
فما الحل إذا؟
الحل الأسهل هو أن نسارع فندمغ هذا التعدد بالتناثر والجنون وخاصة “جنون الفصام” تحت عناوين عرضية مثل ” فقد أبعاد الذات، وتردد الكيانات، وتساوى التكافؤ” وأمثال هذه التعبيرات التى تشير إلى أن التعدد ما هو إلا مرض بالضرورة؟
ولكن ماذا عن الحلم ؟ هذه الشخوص التى تظهر فى الحلم أليست كيانات متعتعة من الوحدة ظاهره التماسك فى اليقظة؟ أليست هى جزء من تكويننا الداخلى حيث المحتوى هو الوعاء ذاته كما ذكرنا؟
وقد يأتى الرد أنها ليست سوى ذكريات مسجلة قد يسمح لها بالإستعادة بشكل خاص فى غيبوبة الوعى أثناء النوم، لكن الدراسات العميقة والمتأنية تورى ان ” الحلم فعل كيانى “ وليس تكرارا ذهنيا مسطحا، وأنه إعادة خلاقة وليس إستعادة متناثرة، وأن وظيفته تنظيمية ” تمثيلية” assimilative وليست مجرد وظيفة تفريغية ترويحية، فأين نخفى كل هذه المعطيات هربا من مواجهة حقيقة تعددنا؟
ثم يأتى الشعر ليعرى كيان الشاعر (الانسان) الذى يصب وجوده فى ألفاظ لها كيانها الجديد ووظائفها الجديدة. اذ ترسم الصورة الجديدة فى إطار النغم الجديد، يعلن الشاعر هذا التعدد مباشرة ويحاول بكل وسيلة فنيه أن يؤلف بين تراكيبه وشخوصه، فتنطلق من تحت عباءته الكيانات قادمة من كهوف التاريخ، وتناقضات الحاضر، متجهة إلى صنع الولاف الأعلى فى توليد الآلهه فى طريقها الى الاله الواحد الأحد، وليس هذا مجال أمثله أو تفاصيل، إلا أنى أعلن فى هذا الإستطراد أن هذا هو المدخل الأصعب لاستيعاب الشعر واستقبال رسالاته المكثفة، ولكن الذى يهمنا هنا هو دلالة هذا التعدد والتناقض والتكثيف والقدرة على التحول (مثلا) “… التى تجعل من حضور مهيار ذاته نفيا واثباتا، خلقا وتدميرا فى نفس الوقت” (3)وهذا التعدد الذى يشمل الذوات والطبيعة وما بعدها فى حركه ذاتيه نحو إعادة التنظيم وتنظيم اللقاءات فى الكيان المتخلق الجديد… يجدها كل قارئ يقظ شجاع فى كل شعر حقيقي، ( ومثال عابر من نفس المقال- خشية الإستطراد- يقول:” فينيق مت، فينيق ولتبدأ بك الحرائق، لتبدا الشقائق” أو “مزدوج أنا، مثلث”… (نفس الشاعر فى نفس المقال… الخ).
هنا يجدر بنا أن نتوقف لنحل هذا التناقض الظاهر:
1- الانسان متعدد فى كيان ظاهرى واحد.
2-التعدد خطر وقد يفتح أبواب السلبية والتناثر.
3- الانسان مستمر، ويتقدم رغم (1)، (2)
ويبدو أن الحل إنما يكمن فى إعاده النظر فى بعد الزمن، فالإنسان متعدد تركيبا فى بعد زمنى ممتد، وليس فى نفس اللحظة (قد تصل الى جزء من جزء من الثانية) فى نفس المجال الشعوري.
وبعبارة أخري: إن التعدد هو حقيقة تركيبية فاعلة، والتفرد هو ظاهر وحصيلة محددة بوقت بذاته.
ومن هذا المنطلق نعود الى شئ من التجزيئ الذى رفضناه من حيث المبدأ فى بداية المقال، ولكنا نرجع فنقول أنه ليس تجزيئا، بل تعددا وشتان بين التعبيرين، والمنطلقين.
ويصبح التصوير المرحلى فى هذه المنطقة من النقاش كالتالي:
” أنا ..هو ظاهرى الآن، وكل ما ترتب على ما هو هذا …هو مني” وفى نفس الوقف :
”أنا – أيضا – هو ما يمكن أن أكونه بعد لحظة أو بعد دهر من واقع ما هو ” أنا- نحن ” فى حركه دائبه متعددة الأبعاد”
وهذا التحديد من خلال بعد الزمن هو الذى يعطى الذات تحديدا مطلقا لكونها كيانا واحدا مفردا فاعلا شاعرا، وفى نفس الوقت فلا تحديد فى بعد الحركة والمجال متسع لكل إحتمال.
وإنما ينشا الخلل وتدخل السلبية حين تصبح ” اللحظة” هى ” ذات اللحظة” و هى ..هى ” غيرها” فى نفس الوقت.
وقد يحدث فى الظروف سالفة الذكر (الجنون والحلم والشعر) أن يختفى بعد الزمن أو تتضاءل فاعليته أو تتنحى مؤقتا، فيظهر التعدد على السطح فى آن واحد، اما فى الجنون ( الفصام خاصة) فتشل الشخوص المتعددة بعضها بعضا وتتبادل احيانا فى تساو عاجز عن ترجيح كفة أى منها فيكون ناتج العقل صفرا حيث لا يصل الى قرار أبدا ( أو يصل الى القرار ونقيضه فى عجز ساكن – قارن بعد ذلك حركة النقائض).
أما فى الحلم فإن إعادة التنظيم تبدو عشوائية فى ظاهرها ولكنها حركة تظهر الكيانات المتعددة التى قلقلت (بعد اختفاء اللحام الشعوري) فى علاقات جديدة تصنع الحلم، (مع التنبيه أن “ظاهرة” الحلم هى غير الحلم المحكى بعد أن تناولته الذاكرة، الأمر الذى يعرض مادته إلى إعادة التنظيم).
أما فى الشعر، فالتعتعة تتم فى إطار شعورى حين تخف قبضة الوحدة الظاهرة الساكنة عن المحتوى المتعدد، فتتحرك الصور فى تقابل مثير متبادل، وتصاغ فى الشكل الفنى الممكن ( ولا يهم ان يخطئ صاحبها الصياغه او يصيب حسب تمكنه من أدواته)، ويصبح التعدد فى مجال الشعور فى هذه الخبره هو الثروة التى تميز بها الشعر عن غيره من لغات التواصل أو التعبير، وهو تعدد قد يأخذ شكل إعادة التنظيم، ولكن الأصالة فيه تبدأ فى مرحلة فعل التوليف بين التناقضات، فتكتسب اللغة دلالات جديدة من واقع الكيان المتكون الجديد، وتصاغ الخبرة الإبداعية كمثال لكيفية صياغة الحياة فى نموها الولافى الصعب.
ننتقل بعد ذلك إلى ضرورة هذا التعدد ومعناه ودوره فى مسيرة النمو البشرى :
فاذا كانت هذه الخبرات التى اوردتها هى عينات صور التعدد فى الكيان البشرى ، فما هى الدلاله، وما هو المغزي؟
يبدو أن الانسان اذ يولد يحمل معه تاريخ الحياة والأحياء فى تكاتف منظم وليس فى تلاحم نهائي، وتصبح مسيرته الحياتية هى محاولة تلك الكيانات التى ولد بها، ومن خلال عمليتى ” ملء وبسط” متصلتين تتحرك هذه الكيانات فى علاقات معينة لا مجال هنا لتفصيلها ولكنها تترواح بينالتناوب، والتعاون، والسيطرة، والصراع، والإستبعاد، والإزاحة، والتلوث، والمواجهة وأخيرا التوليف (الولاف)، ويتم كل ذلك من خلال النشاطات الحياتيه المتتابعة بما فى ذلك التناوب بين النوم واليقظة، وبما فى ذلك فعل الحلم وابداع الخلق، والذى يهمنا فى هذا البحث المتقدم هو العلاقة الأخيرة حين يعايش الإنسان تعدده ويعيه وعيا نسبيا فيما يسمى أزمات النمو، دون أن يتناثر أو تعجز الكيانات بعضها بعضا كما فى حالة المرض وفى الفصام خاصة، وهذه المعايشة هى التى يمكن أن يكون توضيحها هو الهدف من تقديم هذا البحث للانسان غير المتخصص، لعله باستيعابها يسمح لنفسه فى أوقات خاصة بهذا التعدد الواعى مرحليا، وبالتالى يحتمل تناقضه ويتيح لنفسه فرصة توليف أعلى من المتناقضات المواجهة بعضها بعضا، وقد يكون فى إعلان طبيعتنا البشرية متعددة الشخوص ما يشجعنا – فى مراحل بذاتها – إلى تقبل التناقض فى الآخرين باعتباره حدثا طبيعيا هاما قد يحمل فى ظروف خاصة ( أهمها التقبل والوقت الكافي) إمكانية دفع عجلة النمو فى مسارها الطبيعي. وبغض النظر عن تفاصيل علاقات هذه الكيانات ببعضها داخل الوحدة البشرية، الأمر الذى قد نفرد له بحثا خاصا ( أو يجده القاريء فى موضع آخر(4) فان تأثير هذا المفهوم على التواجد البشرى وعلى صورة الذات بل وربما على المسار الحضارى لا يمكن إغفاله سلبا وايجابا، وقد حذرنا فى بداية هذا المقال من بعض السلبيات وجدير بنا ان نذكر هنا ما نراه على الجانب الآخر:
1- إن شعورى بالتعدد داخلى يقلل حتما من غرور “الأنا”، فمن أنا إذا كنت لست الا “هم” (قادمين من أجيال سحيقة وأحياء منقرضة)؟ ولست إلا “نحن” (مبصومين داخلى نتيجة إحتكاكى معهم ومواجهتى لهم وتناقضى فى مقابلهم وعدوانى عليهم ودفاعى عن نفسى من إيذائهم…) ؟ فاذا كان الأمر كذلك، وكنا نتحدث عن الإيجابيات، فلابد أن أكون “أنا ” هو محاولة الولاف المستمر لأصنع الوحدة المؤقتة من جماع هذا التراكم الحي، فى طريقى إلى أن أصبح وحدة كيانية فى كل اكبر، وحسب قدرة الفرد منا على إستيعاب هذا الموقف لحظة بلحظة ومرحله بمرحلة، يكون مساره، وتكون آثار هذا المفهوم سلبا وايجابا
2- فاذا كنت أنا لست الا “هم.. ونحن” فى طريقى الى وحدتى البشرية التى هى إحدى كيانات وجود اكبر، فما هو الطريق إلى مزيد من العداوة والتكبر والحكم الفوقى والصراع؟ لقد فهمت أحيانا قول المسيح أنه من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر على أنه من كان منكم ” ليس هو هى تلك الزانية” وذلك بالنظر من بعد معين، أو “من كان منكم لا يحويها داخله” وكأنه يذكرنا بما هو نحن تفويتا علينا لمعركة زائفه تنسينا حقيقة رحلتنا الأصعب، والأخلاق المسيحية بهذه الصورة حين تؤكد على أن نحب أعداءنا لا تصبح، من ذلك البعد الأعمق، أخلاقا مثالية نظرية أو ضد الطبيعة البشرية، بل لعلها تذكرنا بتواضع شديد أن نحب أنفسنا إذ نحب أعداءنا، وأن نحب أعداءنا إذ هم داخلنا ( أصلا خارجنا ثم داخلنا- خارجنا… الخ) ولا يمكن أن تكون الصوره هى صورة الإستسلام الخائب من موقع الطفولة المسطحة، ولا شك أن هذا الموقف لا يستطيع أن يقفه إلا شخص شديد النضج عميق الوعي، وقليل ما هم، والا فان الحيل النفسية سوف تأخذ مجراها الى أبعد مدى ويصبح الكبت، وتكوين رد الفعل Reaction Formation هو التفسير الاقرب للإضطرار الى إخفاء العداوة واظهار محبة معطلة وسخيفة تجاه العدو، والفرق دقيق ويقع عادة خارج مجال الرؤيه العادية والأحكام الأخلاقية، ولعل مما يساعدنا على تحديده هو التيقن من تشريف العدو داخلى حقيقة وفعلا، فما هو الا أنا بشكل أو بآخر، حتى لو قتلته فى الخارج فمعركتى لا تنتهى فى الداخل بل لعلها تزيد، لأن هذا ” البصم” المشار اليه انما يزيد ويسهل انطباعه لحظه القتل بالذات (بدأت هذه المشاهدة من تتبع بعض مرضاى الفصاميين وتغيرهم إلى إتجاه ما هو والدهم عقب لحظة الوفاة مباشرة وحضورهم إياها، بما كان يمثله الوالد المتوفى من تما سك وعدوان وتضاد وتناقض وبما كانوا يحملونه من رغبة فى التخلص من الوالد المعتدي)، ولعل فى ذلك ما يفسر أن “الروح” تحوم حول قاتلها (انظرما يأتى بعد)، اذا فالمسألة ليست مسألة تمييع المواقف الإنسانية من خلال تصور أن” كله مثل كله” فينتهى الخير والشر، ولكنها مواجهة بحقيقة (وخدعة) التمييز البشرى بين البطل والضحية، بين القاتل والمقتول، بين الشرير والفارس…الخ. والصعوبه التى أجدها فى هذا المقام لتحديد الفرق بين “ضرورة الديالكتيك” “ومسخ التسوية” سوف ألقاها فى كل حين وسأحاول أن أحذر منها دائما أبدا، لأن المسألة ممارسة حياتية وليست ألفاظا وتبريرات وتعريف المفاهيم ومناقشات ذهنية.
3- وما دمت “أنا” أحوى الأبيض والأسود معا، أفلا يساعدنى هذا أن أتحملهما بجوار بعضهما بخارجى إذا تيقنت أن خارجي، هو أصل داخلي، وأن داخلى هو الممثل الطبيعى لما هو بالخارج” هل أستطيع أن ” أتحمل التناقض” فى الخارج دون تصنيف الناس (أو بتعبير أدق: المسارعة الى تصنيف الناس) إلى فريقين على طرفى قطبى التعارض، ورغم أن هذه النقطة تبدو قريبة من سابقتها، إلا ان الإيضاح هنا يرتبط بموقف جديد: ليس فيه دعوة الى حب العدو بالمعنى الأعمق وإنما إلى تحمل التناقض الظاهر فى الآخرين وفى العالم الخارجى لأنه هو هو “أنا” وبغير هذا التحمل سنشطر العالم خارجنا تعسفا وقهرا إلى شطائر نتعامل معها، فتشطرنا بدورها وتلغى بقايانا التى قد تكون أهم ما يدفعنا الى إستكمال المسيرة، وتحمل التناقض يشمل ضمنا تحمل الغموضTolerance of ambiguity لأن التناقض قد يستبعد منطقا، أو حتى فى مرحلة الإدراك وقبل المنطق والتفكير، وحين يستبعد تواجد ” التناقض معا” يغمض الموقف لا محالة، فأما أن نرفضه جميعه تأكيدا لعجزنا، وحماية لقشرتنا المسطحة، وإما أن نضع إحتمالات متفرعة ومتنوعة تشمل كل شئ، بما فى ذلك التناقض، والخلف، والتذبذب، والتراجع وغيرها مجتمعين فى كل لا تختل وحدته باجتماعهم وإنما تتأكد دافعيته وحيويته فى المسيرة المتصلة من خلال هذا التجمع ظاهر التضارب.
4- وعلى ذكر المسيرة، فإن هذا المفهوم (تعدد الكيانات فى الوحدة البشرية) هو القوة الدافعة نحو إستمرار النمو بمعناه الديالكتيكى الحقيقي، ومالم تستقر هذه الكيانات فى معادلة هامدة من “التسوية” أو “التلوث” اللذين يقلبان الوجود البشرى الى نوع من الإستاتيكية المجمدة، أو التكرار المغلق، مالم يحدث هذا فإن القوى الدافعة الناتجة من هذا التعدد النشط هى هى الدافع الحقيقى للنمو (ويمكن تفسير ما يسمى بالغرائز والطاقة تفسيرا أعمق مرتبطا بمفهوم الكثرة الحيوية المكونة للوجود البشري)، ثم أن حكاية الوحدة التى نقيضها داخلها، وأن السلب يخرج من جوف الإيجاب (هيجل) هى التعبير الظاهرى لحقيقة تناقض المحتوى المكون للوحدة بشكلها الظاهري، رغم أن هذا الشكل الظاهر هو الذى يميز هذه الوحدة بالذات، وهو الذى يتعامل – فى لحظة بذاتها- مع الناس والواقع وهو المسئول وهو المخير المختار.. الخ، ولكنه أيضا- فى نفس الوقت- ليس إلا مايحويه وما هو دلالة عليه.
وفى عملية النمو الديالكتيكى المستمر الناتج عن هذه الكثرة المتواجدة “معا” فى الكيان البشري، يخرج الداخل الى حيز الشعور وذلك فى مواقف النمو الحرجة (تسمى أحيانا أزمات النمو (Growth crisis ليصبح أكثر وأكثر فى متناول عملية التوليف المسئولة عن تكوين الوحدة الأعلي، ونفس هذا الأمر انما يحدث بجرعات أخف، وبعيدا عن دائرة الوعى من خلال الحلم بوجه خاص.
5- ومع كل هذا الوعى بحقيقة هذا المفهوم وآثاره لابد أن يعاد النظر فى المرض النفسى وخاصة الذهان، فلا يصبح ظهور الكثرة (الطبيعية) التى تتكون منها الوحدة البشرية هو فى ذاته مرضا يستأهل إسما ولافتة، بل يصبح إعلانا لحقيقة يحب أغلبنا أن يتجاهلها لأسباب مرحلية، وربما آن الأوان أن نعتبر هذا التجاهل خدعة لم يعد لها مبرر كاف، وهذه الحقيقة التى يعلنها المرضى (الذهان النشط خاصة) خليقة بأن تتناول فى إطار إتاحة الفرصة لهذه الكثرة المعراة أن يعاد تنظيمها من خلال احتمال التوليف الأعلي، حتى لايصبح الرعب منها (من الكثرة) دافعا للقضاء على أغلب مكوناتها فورا والى الأبد بالقهر الكيميائى والتسطيح الترميزى سواء بسواء.
وأوقف نفسى قسرا حتى لا أستطرد فى سرد عينات تفصيلية فى الأحوال المرضية(5).
وليسمح لى القارئ و أنا اختتم تقديم هذا المفهوم أن أدعو خياله للمشاركة المتأنية فى تفكير غير مسبوق بحكم نهائي، ونحن نحاول أن نجيب عن تساؤلات خطرت فى بالى إنطلاقا من مفهوم التعدد والكثرة الذى قدمته فى هذا البحث:
1- هل يمكن أن تكون الأرواح والأشباح وربما الشياطين وما إليها) ليست سوى كيانات من صلب كياناتنا المتعددة التى تسقط الى خارج عالمنا فنستقبلها ( فكرا أو تجسيدا) من جديد؟ وهل يمكن أن تكون الأرواح ( بما فى ذلك تحضيرها وتصويرها ) ليست سوى كيانات مدمجة فى الوجود البشرى الحي؟ ( وما الكيان إلا ترتيب فيزيوكيميائى خاص)، أى أن الجسد الحى هو الشاشة الحاملة لمثل هذه التنظيمات المتبقية من أجيال سابقة، تم بصمها من المواجهه والتفاعل خلال حياتنا أو تم نقلها بالوراثة؟ وفى هذه الحالة يكون من يسمى ” الوسيط” هو كيان حيوى بشرى مرن قادر على التعتعة وإعادة الإحتواء،…الخ…الخ.؟
ولعل من أهم هذه الآثار التى يفسرها هذا الفرض ما قيل عن تصوير الأرواح ( مارلين مونرو بجوار أرثر ميللر بعد وفاتها مثلا) اذ يصبح التفسير بسيطا ما دام التركيب المدمج هو تركيب فيزيوكيميائى قابل للتعتعة. وبالتالى مستعد للتاثير على فيلم حساس، وبالتالى يصبح الجسد الحى صاحب الاتصال والاحتكاك بالشخص الراحل ( أو حتى قبل أن يرحل حسب هذا الفرض) هو المجال الحاوى لهذا التنظيم الممثل للشخص المعني.
2- هل يمكن أن نربط بين سعى الإنسان لوجه الله فى عمليه نموه المستمرة، وبين إقترابه من توحيد كياناته المتعددة فى كيان واحد شيئا فشيئا من خلال عمليه التوليف بين كياناته المتناقضة، فنفهم بعمق أكثر بعض مفاهيم التوحيد الصوفيه وبعض مفاهيم التوحيد الالهي، بل وبعض ما أسماه ماسلو “الوجود شبه الالهي” God like existence الذى يصبغ خبرات تحقيق الذات؟
أو هل يمكن مراجعة ” التثليث ” المسيحى ” فى أقنوم واحد” كممثل لمستوى ما من “الكثرة فى الوحدة”؟
ومرة أخرى أوقف نفسى قسرا عن التمادى فى عرض التساؤلات ليكمل القارئ بما وهب من شجاعة التفكير تساؤلاته الخاصة ولا يسارع بالاطمئنان الى إجاباته الخاصة ( ولا إلى إجاباتى بداهة).
المراجع الاجنبية
Berne، E. ( 1961) transactional Analysis in psychotherapy. New York: Grove press Inc.
Berne، E. (1967) Games people play: The psychology of Human Relations. New york: Grove press Inc.
Guntrip، H. (1974) Schizoid Phenomena. Object Relationships and the self. London: the Hogarth Press.
Guntrip، H. (1977) Personality Structure and Human Interaction. London: The Hogarth press.
Hefzi، S. (1981) sleep nd Dream Disorders in psychiatry Cairo:Dar El Gahd publishers.
Maslow. A. (1969) A theory of meta motivation: the biological rooting of the value life. In Sutich A. J..and Vich. M.A. (eds.) Readings in Humanistic psychology.New York. the free press.
Rakhawy، Y. (1981) selected Lectures in psychiatry. Cairo: Dar El Chad.
Storr، A. (1974) Jung. crate Britain: fontnna Collins.
Winnicott، D. W. 91958) Collected papers: Through pediatrics to psychoanalysis. London: Tavistock publications.
المراجع العربية
1- يحيى الرخاوى (1978) أغوار النفس – دار الغد للثقافة والنشر – القاهرة .
2- يحيى الرخاوى (1979) دراسة فى علم السيكوباثولوجي – دار الغد للثقافة والنشر – القاهرة .
[1] – بدأت هذه الرؤية، ثم هذه النظرية لما بدأ أريك بيرن يعتقد فى حدسة الإكلينيكى وقدرته على الوصول إلى مهنة الجندى القادم للكشف (وكان بيرن أيامها يخدم فى الجيش) دون أن يسأله عليها، وثبت لديه أن هذه القدرة أعلى من مجرد الصدفة، وأنها تحتاج إلى لحظة إستعداد خاص من شخص بذاته وأنه يمكن تنميتها، ثم تسلسلت الرؤى وتعاقب التنظير
[2] – والتصوف، إلا أنى لم أرده هنا لأنه خبرة معقدة تجمع هذه الأطراف جميعا، وهى غير قابلة للدراسة بشكل مباشر بحيث لا يفيد الإستشهاد بها هنا.
[3] – أقنعة الشعر المعاصر: مهيار الدمشقى ( جابر عصفور) مجلة فصول ( يوليو 1981) السنة الأولى المجلد الأول – العدد الرابع.
[4] – Rakhawy، Y. (1981) : seleckted Lectures in psychiatry Dar EI Chad publishers Cairo
[5] – يمكن للقاريء أن يرجع إلى دراسة فى علم السيكوباثولوجى للكاتب، صفحات 26، 32، 37، 52، 124، 224، 569، 740.