الأسطورة.. والجنون.. والتطور
أ.د. رفعت محفوظ
فى أحد سياقات التواصل فى العلاج النفسى الفردي، أعطيت صديقى الذى أعالجه مقالا قصيرا عن: “الأسطورة” [1]، آملا أن أتعلم مما قد يثيره هذا المقال فى داخله، فإذا بقراءته النشطة الواعية -التى أحسب أنه من خلالها قد أعاد قراءة نفسه- تثمر أفكارا حية، وتوقظ عندى بعض التساؤلات المرتبطة بجوانب متعددة لموضوع الأسطورة. وسوف أسوق إبتداء الفكرة الرئيسية التى داهمت صديقنا فجأة -على حد تعبيره- بعد أن فرغ من قراءته للمقال… تقول الفكرة:
”إن الأسطورة هى تعبير الجنون عن نفسه بطريقة غير مرفوضة من العقل، وخالدة كخلوده-أى الجنون-“…
ثم أثناء حوارى معه خطرت لى هذه الفكرة:
”الأسطورة تعبر عن المراحل التطورية للجنس البشرى Phylogeny “ ”أى أنها تسجل بلغتها الخاصة المقنــعة، سلسلة عمليات البسط Unfolding المتعددة التى من خلالها، وتحقق واقعيا الإمكانية التطورية الكامنة فى الجنس البشرى.
وفى حوار سريع مع مريض (صديق) آخر حول موضوع الأسطورة نفسه، قال لي: “الحياة داخل الأسطورة شاقة جدا، ولكنها شريفة جدا.. لا وسط فى عالم الأساطير”.. ثم أضاف: “الأسطورة حكمة.. عامة جدا، فى الصميم جدا، من غير حواس ليس لها لزوم”..
وفى السياق نفسه، أخبرنى أنه يعتقد اعتقادا جازما -وسألنى قبل أن يبوح به إن كنت سوف أصدقه أم سأحكم عليه بالتزييف والجنون-، وبناء على موقفى منه قال: “إننى قبل الميلاد، كنت فى عالم ذى طبيعة معينة، وهذا العالم سوف أرجع إليه عندما أموت; قبل ميلادى أخذت موافقتى وذلك بعد رؤيتى لحياتى عندما أولد، وكان داخلى إحساس قوى بالتحدي.. ووافقت، بعد ذلك عزلونى فى مكان لوحدى لحين ولادتي.. وعملية الميلاد كانت صعبة جدا.. وشاقة جدا.. ومؤلمة جدا.. وبذلت فيها مجهودا.. وبناء عليه فإن عدم الرضا عن أى حاجة فى حياتى يعتبر نذالة”.[2]
أعدت قراءة تعليق الصديق وفاء خليل [3] على المقال السابق ذكره (لمحة عن الأسطورة)، فانتبهت إلى أنه قد ساق فى تعليقه مقتطفا من جارودى مركزا جدا، لكنه مشحون بالأفكار العميقة.. يقول المقتطف: “الأسطورة هى نموذج عمل يتقابل مع نظرة شاملة للعالم.. ودلالة أنها لحظة ولادة .. وأن فى الأسطورة لا يكتفى الإنسان باكتشاف نفسه كجزيء فى الكون، حبيس فى نسيج قوانينه، بل يدرك قدرته على مفارقته وعلى القيام بدوره المبدع .. وأن سر سحر الأسطورة يكمن فى ما بها من الإستنهاض للإنسان للتجاوز والمفارقة” (أجتزئ هذا المقتطف من أكثر من صفحة، والتأكيد من عندي).
فرحت بهذه الأفكار، وفهمت أنها تعبر فى كثير من جوانبها عما خطر لى أثناء حوارى مع صديقى (المريض) الأول.
خلال تلك الفترة قرأت ترجمة الزميل الدكتور عصام اللبـاد لكتاب كلود ليفى شتراوس ” الأسطورة والمعني،مع مقدمة التحرير الرائعة، وشعرت أن الأفكار تتوازى وتتقارب وتتقاطع وكأنها تسير وتتطور إلى النتيجة نفسها.. مع اختلاف التعبير واللغة.. ورأيت ليفى شتراوس وهو يدعو إلى أنه ينبغى علينا أن نحاول استعادة بعض الأشياء المفقودة.. وعلى الرغم من أنه يشكك فى أن نوع العالم الذى نعيشه الآن، ونوع التفكير العلمى السائد قد لا يمكننا من الإستفادة الكاملة بهذه الأشياء.. بالرغم من ذلك فإنه يدعونا إلى “أن نحاول الوعى بوجودها وأهميتها”.
لكن ما طبيعة الأسطورة التى تستقيم مع سياقنا هذا؟
يقول جارودى: [4] “إن هناك أساطير لا تخدمنا فى شيء، أو تؤذينا، لأنها تقود إلى لا مكان. وهناك أخرى توجهنا نحو المركز الخلاق فى ذواتنا، وتفتح لنا آفاقا دائمة الجدة، وتساعدنا على تخطى حدودنا، أساطير مغلقة، وأخرى مفتوحة، وهذه الأخيرة وحدها هى الأساطير الحقيقية” ويقول جارودى أيضا: سنخص بالأسطورة كل حكاية رمزية تذكر الإنسان بحقيقته ككائن خلاق، أى معرف أولا بالمستقبل الذى يخترعه لا بماضى النوع الذى لا يفعل أكثر من دفعه بالغريزة وبالرغبة”. ويعرف ديرليوف (كما يذكر جارودى: الأسطورة بأنها “عودة إلى الجوهري: إلى الإنسان الذى يعرف كيف يقول لا لما أعطى له كواقع”.. ويقول تشيامالنجانتومبا [5]: “عند البحث عن الحقيقة تكون الأسطورة ذات أثر فعال، بمعنى أنه بدون الأسطورة تتوقف الحقيقة عن اتخاذ طابعها الإنساني”.
وماذا عن “هذه الأسطورة” بالنسبة للرمز والمفهوم والعلم؟
يقول ليفى شتراوس [6] إن “غرض الأسطورة هو توفير نموذج لحل تناقض”، ويضيف: “لعلنا سنكتشف ذات يوم أن منطقا واحدا هو الذى يعمل فى الفكر الأسطورى وفى الفكر العلمى على السواء”.
ويعلق جارودى على هذه المقولات: “لا أجد فى قوله هذا إلا كلمة واحدة أضيق بها، هى كلمة المنطق، لأنها توحى بأن النموذج قابل للرد للمفهوم، مع أنه ليس كذلك. ولكن ليفى شتراوس، فيما عدا هذا، كان له فضل الإعتراف بالوحدة الوظيفية بين الأسطورة والفرضية العلمية، الوحدة فى فكرة النموذج التى تجمعهما معا”.
ويقول أندره بونار، فى ختام كتابه عن “آلهة اليونان” وكما اقتطفه جارودى: “إن الشاعر لا يخترع، وهو لا يملك أى حق فى أن يخترع قصص الآلهة من عندياته، ولكن لا ينبغى القول بأنه لا يخترع شيئا.. بل هو يخترع على نفس الطريقة التى يصوغ بها العالم فرضيته. إنه يتخيل كيما يكون دقيقا فى تصويره الواقع كما يدركه”.
ولقد أمكن اكتشاف بعض الوحدة الوظيفية بين النموذج الأسطورى وبين الفرضية العلمية، إلا أن النموذج الأسطورى ذو خصوصية تجددها لغته، وما تقوله الأسطورة بالرموز لا يمكن رده إلى حكاوى بمفاهيم.. ويـسمى جارودى الرمز نظام الإشارات الثالث، تبعا لما قاله بافلوف من أن النظام الأول للإشارات هو المنبهات الحسية (والإشارة هنا جزء يدل على الكل)، فى حين أن النظام الثانى هو اللغة المؤلفة من كلمات، والتى تبلغ كمالها فى المفهوم. ونظام الإشارات الثالث هذا فى جوهره “شعري” بأقوى ما للكلمة من معني: معنى خلق الإنسان خلقآ متصلا للإنسان.. ويضيف: “لقد كنا بالحواس أو بالمفاهيم، متجهين نحو ما هو كائن، نحو ما تم فعله; أما الرمز فيفرض علينا أن نلتفت إلى ما يجب أن نفعله. وهو يدعونا لا أن نكون بناة أشياء وحاسبى تقارير فحسب، بل أن نكون مولدى معان وخالقى مستقبل. إن الرمز يقتضينا إنفكاكا عن الكينونة، تخطيا لها فى التوليد والخلق… ولذلك كان تعريف الأسطورة بأنها لغة المفارقة لا يعنى أبدا رفض العقل ، هو تخط جدلى فى عقل يدرك أنه يفارق دائما ذاته بما وضعه من أنظمة مؤقتة”.
ومن رأى جارودى أن “الميثولوجيا” هى الابتذال المعتقدى للأسطورة، كما أن “العلموية” هى إلابتذال المعتقدى للعلم. الميثولوجيا هى الأخذ بحرفية الأسطورة لا بروحها، وبعناصر الرمز لا بدلالته.. والأسطورة متى تحررت من الميثولوجيا تبدأ من حيث يقف المفهوم، أعني: لا مع معرفة الكائن المعطي، بل مع معرفة الفعل الخلاق. إنها ليست انعكاسا لكائن بل هى تطلع إلى خلق، وهى لذلك لا تعبر عن نفسها أبدا بالمفاهيم بل بالرموز.. الأسطورة ليست نقيض المفهوم، بل هى المفهوم ساعة أن يولد.. إذن فالأسطورة، فى أعلى معانيها، تجد موضعها على مستوى المعرفة الشعرية والقرار الإنسانى المسئول الحر.
وأضيف هنا بعض أقوال المرضى التى قد تتسق مع بعض المعانى السابقة:
..”الإنسان يعدى بالأسطورة حدود الطبيعة كى يصل إلى ما وراءها”….”أستطيع أقول بإحساسى إن حياة الإنسان - حتى فى عصر الذرة- هى باستمرار وعلى مدى الأزمان تحقيق لأسطورة فى وجدانه، هى الآن أسطورة، إنما يوما ما كانت واقعا مشهودا عاشه بنفسه”
… “لغة الأسطورة لغة إنسانية لكل مكان وزمان”…
… “لغة العلم غير لغة الأسطورة… لغة الأسطورة هى لغة الجنون، لغة العلم هى لغة العقل المكتسب الذى كانت أهم وظائفه إثبات جنون الجنون ..أو إخافة الناس منه لدرجة البعد عنه حتى إنكاره.. وبذلك تنقطع صلة الإنسان به إذ يخشاه بدلا من أن يحبه، وينكره حتى لا يتهم بالجنون”. ثم يتساءل: “لماذا يخشى العلم الجنون؟! نعم لماذا يخشاه ويحرص على تغريبه؟
****
ولكن هل من علاقة جوهرية ووثيقة بين الأسطورة والجنون؟
نبادر بالقول بأن المقصود بالجنون -فى سياقنا هذا- هو: الفطرة النقية، والجوهر الإنسانى الذى يحتوى على الإمكانات الإنسانية اللانهائية، متمركزة حول المركز الخلاق فى الطبيعة البشرية، والذى هو مصدر كل نور وإشراق وخلق وإبداع.
بعد هذا، لا نتحفظ فى القول بأن الأسطورة (الحقيقية) أنصفت الجنون بشكل مطلق وسافر، وإن تاريخها هو تاريخ الجنون المبدع قبل أن يقع بين أنياب المعرفة العلمية الممنطقة التى من شأنها، ولدواعى المفاهيم المفردة، أن تحيل الجنون إلى موضوع، أى أن تشيئه، دون أن تصل إلى جوهر تجربة الجنون.
إن هذه العلاقة بين الأسطورة وبين الجنون، هى مصدر رؤية العلاقة المحورية التى ألمحت لها فى مقال “لمحة عن الأسطورة”، أقول هى مصدر العلاقة بين الأسطورة والطفولة والإبداع والتصوف، الأصل فى كل ذلك والمصدر الحقيقى هو “الجنون الفطرة /الجوهر الإنسانى المبدع”.
وبعـد:
فالفكرة الأساسية التى يطرحها هذا المقال تثير العديد من التساؤلات المهمة; منها:
(1) كيف يتأتى لنا قراءة الأساطير من منظور تطوري؟
(2) هل نستطيع ترتيب الأساطير فى مجموعات. كل مجموعة منها تعبر عن مرحلة تطورية معينة؟
(3) عند أى مستوى من نمو العقل البشرى توقف تسجيل المراحل التطورية بلغة الأسطورة؟
(4) ما مدى أهمية كلام “المجانين” – أى أصحاب الخبرة الحية العميقة جدا – فى إثبات أى جانب من جوانب هذه الفكرة؟
(5) كيف يتأتى لنا توظيف هذا النوع من القراءة – عندما نحاوله وننجح لدرجة ما – لصالح المرضى النفسيين والمجانين بصفة خاصة؟
[1] – رفعت محفوظ (1984) لمحة عن الأسطورة: فى الطفولة والجنون والإبداع والتصوف. الإنسان والتطور.السنة الخامسة،العدد17:ص10
[2] – لا أدرى على وجه التحديد لماذا أضع هذا النص فى سياق موضوع الأسطورة؟! هل لأننى أحسست أنه يشبه أسرارا دفينة؟! هل لأننى أحسست أن كلامه ينطوى على حقيقة ما؟! ..مع علمى بأن هذا الكلام يحتمل التفسير والتأويل على أكثر من مستوى وأكثر من لغة.
[3] – وفاء خليل (الإنسان والتطور) 1984 السنة الخامسة العدد 18.
[4] – روجيه جارودى (1978) ماركسية القرن العشرين. تعريب نزيه الحكيم بيروت: منشورات الآداب.الطبعةالرابعة
[5] – تشيامالنجانتومبا (1982) هل هناك أسطورة حول الأسطورة. مترجم: د.حمدى الزيات. ديوجين عدد76.ص114.
[6] – كلود ليفى- شتراوس (1987) اللقاء بين العلم والإسطورة. ترجمة د. عصام اللباد. الإنسان والتطور العدد 31: ص 42