الاهرام: 2-12-2002
استلهام الأصول دون عودة إلى الماضي
التحدى الذى يفرض علينا فلا نملك تأجيله هو محاولة الإجابة على سؤال يقول: ‘كيف نستلهم الأصول دون عودة إلى الماضي’؟. لا يكفى أن نكرر قضايا أصبحت بالية، أو غير ذات معنى، أو تحصيل حاصل، كان أغلب نتاجها تلفيق من نوع ‘القص واللصق’ (شوية أصالة على شوية معاصرة، شوية قديم على شوية حديث، شوية أمريكى على شوية صينى ..إلخ .) كل هذه اجتهادات مشكورة، لكنها فى نهاية النهاية لن توصلنا إلى أنفسنا، ولا إليهم نتعاون على البر والإبداع. حتى مسألة التنوير التى نكررها وكأنها الكلمة السحرية ‘التنوير هو الحل’، نكتفى إزاءها بترديد ما جرى عندهم فى القرن الثامن عشر، وهو ما حاولنا اتباع نهجه من رفاعة الطهطاوى ، وحتى تاريخه. جزى الله المتنورين هناك خيرا، وأنار بصيرة مقلديهم فى زمان وظروف غير زمان وظروف السابقين.
إذا كنا جادين فى محاولة الإسهام من موقعنا، بعد أن فشلنا فى التقليد المتقن (واسألوا تركيا الحديثة) فعلينا أن نتوقف عن الكذب على أنفسنا، وعن مواصلة التلفيق الذى أختار منه ثلاث صور كأمثلة:
1- نحن نغش نفس النظام بخطئه وصوابه، ثم نعلق عليه لافتة عربية أو إسلامية أو حتى فرعونية .الديمقراطة نسميها الشورى، والاشتراكية ندللها باسم العدالة الاجتماعية فى الإسلام أو غيره (فنمسخ القديم والحديث معا).
2- نحن ننتقى من تراثنا الزاخر ما يبرر التقليد، لا ما يضيف الجديد. اختزلنا ابن رشد إلى ما نقله من الحضارة الإغريقية، وإلى ما نقلوا منه بعض ما هم فيه، وأهملنا بن عربى (أليس عيبا أن نتعرف عليه من جارودى مؤخرا، مع أننا منه وهو منا، بين أيدينا، وبلغتنا؟)
3- حتى النصوص المقدسة، بدلا من أن تكون مصدر إلهام متجدد، نحن نكتفى بتفسيرها المحكوم بجمود اللغة والتباسات التاريخ، أو نشوهها تخريجا متعسفا بقشور العلم وفروضه.
حين عرجت فى المقال السابق إلى دعوة إحياء الإيمان (وليس فقط علوم الدين- الغزالي)، ميزت بين الإحياء والتفسير العصرى والتحديث، إلا أن ما وصلنى من تساؤلات بعد النشر، ألزمنى أن أضيف هذا الهامش عن إحياء الإيمان كالتالي: يولد الإنسان على الفطرة فإذا ظلت سليمة، تولد منها إيمان سليم يتجلى فى الأديان كل بحسبه. النصوص المقدسة، والعبادات الراتبة، وتدعيم العلاقة بالطبيعة هى للحفاظ على هذه الفطرة كما خلقها الله. أضف إلى ذلك جهود تنقيتها وتزكيتها بالإبداع: إبداع الفن وإبداع الذات فى التصوف، وإبداع المجتمع بالثورة ..إلخ.
إذا أردنا أن نتعرف على أنفسنا، فلنبدأ من حيث نحن ‘هنا’ و’الآن’، بكل عيوبنا ومزايانا. نحن لسنا إلا جماع تاريخنا الحيوى الذى تجلى بعضه فى نصوص رائعة من أول أخناتون حتى نجيب محفوظ. كما تدعم هذا التاريخ ، بفضل الله، بنصوص مقدسة، مازالت، وسوف تظل، مصدر إلهام لا ينفد. كيف ننتطلق من كل ذلك للإحياء ؟
تكرر لفظ الإحياء فى القرآن الكريم فى أكثر من موقع ، (البقرة، الآية 164 ، الروم، الآية 24، والفرقان الآية 49) ليفيد إحياء الأرض بعد موتها. لو استحضرنا هذه الصورة الطبيعية لكيفية إحياء المطر للأرض بعد موتها، لأمكن أن نفهم ونستلهم معنى الوحى وهو ينزل بالنص المقدس ليحيى الفطرة المرة تلو المرة، بعد أن تكون قد قست القلوب، فصارت كالحجارة أو أشد قسوة، ثم إذا بها تلين بهذا المطر المقدس لتنبت إيمانا يعيد تنظيم الوجود البشرى بما هو وما يعد به (ربى كما خــلـقــتـنى، ربى كما خــلـقــتـني).
يبدو أن النصوص المقدسة، هى قادرة بنفسها، على مخاطبة مستويات الوعى المتعددة. فلماذا نصر على حبسها فى سجن المعاجم أو قشورالعلوم؟ لا مفر من أن يظل النص المقدس مصدر إلهام يتغير عطاؤه، ولا تتغير ألفاظه.
إن النص الكريم الذى استشهدت به فى المقال السابق ‘يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم’ هو ما أعنيه تحديدا بإحياء الإيمان. ذلك المعنى الذى تؤكده فكرة أن الإنسان بانتمائه المتكامل إلى الحق سبحانه، إلى فطرته بتفجرها الخلاق، إنما يحقق تناغما ممتدا، كدحا إلى وجهه، كشفا لما تيسر من الغيب، إبداعا للجديد، فنا وعلما ومعايشة.
يتجلى هذا الكدح الإبداعى إلى وجه الحق تعالى كل يوم فى مختلف التشكيل الجميل فى الفن، والكشف المنير فى العلم، والوهج المتلألئ بالإيمان. إن مثل هذا الإبداع الحيوى الأصيل، بكل لغات الإبداع، هو إسهام فى إحياء إيمان المنشئ والمتلقى على السواء. إنه نور البصيرة الذى يعطى للفطرة انطلاقها، لتشرق متميزة عن ضدها المظلم ‘..أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها’ (الأنعام 122).