الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / استشارات مهنية (9) جاذبية غير مفهومة!

استشارات مهنية (9) جاذبية غير مفهومة!

“يومياً” الإنسان والتطور

2-11-2008

السنة الثانية

العدد: 429

استشارات مهنية (9)

جاذبية غير مفهومة!

 (سوف نكرر فى كل مرة:  أن  اسم المريض والمعالج وأية بيانات قد تدل على المريض هى أسماء ومعلومات بديلة، لكنها لا تغير المحتوى العلمى التدريبى، وكذلك فإننا لا نرد أو نحاور أو نشرف إلا على الجزئية المعروضة فى تساؤل المتدرب، وأية معلومات أخرى تبدو ناقصة لا تقع مناقشتها فى اختصاص هذا الباب).

د. أميمة رفعت

أحتاج يا سيدى مشورتك فى هذه الحالة فقد ضللت الطريق تماما معها. وهى نفس المريضة التى حدثتك عن نفورى منها بسبب اعتماديتها الشديدة علىّ أثناء العلاج اذا كنت تذكر.المعلومات التى سأذكرها لم أحصل عليها من مصدر واحد ولا فى وقت واحد ولا حتى فى أوقات متتالية،  لكننى سأحاول ترتيبها زمنيا مع الإيجاز وهذا ليس بالأمر السهل فأرجو المعذرة اذا وجدت بها بعض الثغرات والكثير من الإطالة.

“ز” عمرها 51 سنة، من مدينة قرب الإسكندرية، متعلمة حتى الثانوية العامة ولم تكملها، لا تعمل، متزوجة (للمرة الثالثة)، لديها ثلاثة بنات وابن واحد لا يعيش أى منهم معها، ما زالت لديها مسحة من جمال قديم. أعالجها منذ عامين ونصف أوأكثر قليلا.

من المريضة: \” ز \” كانت الطفلة السابعة بين تسعة اخوة وأخوات، ولسبب ما كانت تقريبا الطفلة الوحيدة المدللة بين اخوتها ولم يرفض لها طلب أبدا.

 فى الثانوية العامة (عمرها 18سنة) نشأت علاقة حب بينها وبين مدرس الفلسفة وعلم النفس، فتقدم لها وتزوجها وتركت الدراسة ثم سافرا مباشرة الى نيجيريا حيث تعاقد الزوج على عمل هناك. \” ز\” التى لم تتعلم أى أعمال منزلية ضاقت بمسئوليات الزوجية بالرغم من مساعدة الزوج، كما أنها كرهت العلاقة الجنسية دون سبب واضح لها. حملت بعد فترة قصيرة ثم بدأت تنتابها أعراض: عدم النوم،  ضيق وحزن واختناق، تترك المنزل وتهيم على وجهها فى الشوارع حتى الفجر أثناء نوم الزوج ثم ترجع فيفاجأ بها، تغضب كثيرا وتهيج وتشتم. بعد 4 سنوات رجعا مصر كانت قد أنجبت بنتا وولدا. توفى ابوها مباشرة بعد رجوعها، طلبت الطلاق ورفض الزوج،  ثم توفيت أمها فساءت حالتها وبدأت تسمع أصوتا تأمرها بان تترك البيت وأن تقتل نفسها، وقد قطعت فعلا شرايين يدها وأنقذها الزوج. كانت تتلقى طوال هذه الفترة علاجا فى عيادات خاصة ولكنها لم تتحسن ابدا فقط كانت تنام أكثر قليلا.

أثناء زيارة أحد أقارب الزوج فى مستشفى عام بعد اجرائه عملية جراحية قابلت الطبيب الجراح الذى عالج قريبهم، بعد تودد قصير بينهما،  شكت له \” سوء معاملة زوجها لها \”،  وبدأ الطبيب يقع فى غرامها وطلب منها أن تطلق من الزوج ويتزوجها رغم أنه متزوج ولديه ثلاثة أطفال. طلبت \”ز \” الطلاق ولم تحصل عليه الا بعد سنة هاجت وصرخت وكسرت فى البيت خلالها بما يكفى لاخافة الأطفال فطلقها وأخذ أطفاله معه بعد زواج دام 12عاما.

من المريضة: تزوجت \” ز \” من الطبيب الذى طلق بدوره زوجته. أنجبت منه بنتين ثم بدأ يكتشف حالتها  وكان يضربها ويعايرها بأنها (mental) .هى أيضا اكتشفت أنه يدمن القمار. (ملحوظة: طوال حكى المريضة لم تذكر أيا  من الزوجين بالسوء أوتصفهما بأى وصف ايجابى أوسلبى ولكن عند سؤالها لماذا كانت تتركهما أجابت: الملل !

من الزوج الثالث: قابلته فى المحكمة لأن زوجها حرر شيكات بدون رصيد وظناه محاميا،  كان الزوج \”الثانى\”  يعاملها بخشونة فأشفق هذا عليها وبحث لهما عن محامى لأنه هوشخصيا يعمل محاسبا ماليا، وظل ملتصقا بها لأنه كان يخشى عليها من هذا الرجل المقامر السكير – حسب روايته. باختصار أحبها وطلب الزواج منها رغم أنه متزوج هوأيضا ولديه ثلاثة أطفال ولكنه ليس على وفاق مع زوجته. طلقت من زوجها الذى أخذ بناته معه بعد زواج دام 5 سنوات. تزوجت \”ز \” المحاسب وليلة الدخلة أخذت تصرخ من الشباك وتنادى ناس من الشارع لينقذونها من\” العصابة\” بل ورمت مفتاح الشقة الى رجل كان يعبر الشارع لينقذها،  فوجىء الزوج ولم يستطع اسكاتها فضربها.

عرف بمرضها وبالرغم من ذلك انفصل عن زوجته أم أولاده وعاش معها هى ( حتى الآن) ويقوم بكل الأعمال المنزلية بدلا منها فهى لا تفعل شيئا اطلاقا. أدخلها مستشفى المعمورة ويقوم بزيارتها بانتظام أثناء اقامتها بالمستشفى، حتى عندما كانت ساقه فى الجبس، جاء متكئا على عصاه من كفر الشيخ!! وعندما سألته عن كل هذا الوفاء قال أنه يحبها لأنها عملة نادرة، نقية وبريئة ولا تكذب أبدا. هما متزوجان منذ 11عاما وليس لديهما أطفال.

من الأرشيف: دخلت \” ز \” المستشفى سنة 1999لأول مرة. وكانت (وما زالت) أعراضها الآتى:

عدم نوم،  هياج وتكسير (حاولت خلع باب الشقة)،  تسمع أصوات تسبها،  تتهمها أنها أم جاحدة تركت أولادها وتأمرها بقتل نفسها،  قامت بعدة محاولات انتحار (حسب كلامها تنفيذا لرغبة الأصوات وليس ندما على شىء) تفقد شهيتها للأكل بسهولة وتدخن بشراهة، وترى الجيران يخرجون من المرآه يسخرون منها ويسبونها، أحيانا ترى شخصا يمرق بين الحجرات فتصرخ فزعا وتظنه لصا، تظن أن زوجها يريد أن يقتلها وتشعر به يدب سكينا فى جنبها فتتبول على نفسها ثم تقوم بسرعة تنظف نفسها، لا تفعل أى شىء اطلاقا فلابد ممن يخدمها ويغسل ملابسها..الخ، ولكنها تستحم وتهتم بنظافتها الشخصية. تشعر أحيانا أن العالم سينتهى ويوم القيامة على الأبواب فتشعر بالخوف الشديد. على مدى السنوات التسعة التى ترددت فيهم على المستشفى شخصت: اضطراب فى الشخصية، اكتئاب ذهانى،  فصام وجدانى، فصام. وتعددت واختلفت الأدوية بين نيوروليبتك ومضادات اكتئاب والاثنين معا ولم تتحسن المريضة،  حتى عندما تنام تظن أنها لم يغمض لها جفن وتصر على ذلك.

أعالجها منذ 2006 ودخلت معى العلاج الجمعى وحسب قولها أنها بدأت ترتاح وزوجها يقول نفس الشىء فلم تعد تغضب ولا تكسر الأشياء بل وبدأت تزور ابنتها الكبرى (متزوجة حاليا). ولكن كما شرحت سابقا فقد نفرت من اعتماديتهاالمتزايدة على؛ حتى أننى اضطررت للسفر شهرا وعندما رجعت قالت لى أنها شعرت أن أمها ماتت للمرة الثانية..ولم يعجبنى هذا! قررت كما قلت سابقا أن أبتعد عنها قليلا وقد ساعدتنى الظروف اذ أخرجها زوجها بضعة اشهر من المستشفى. عندما رجعت كانت عند زميل لى وليست عندى وأخذت تلح على لترجع لى. فى البداية فضلت أن اراها من بعيد فقد كنت غير راضية عما وصلنا اليه بعد سنة من العلاج،  فكل الأعراض الأخرى كانت مستمرة وبالأخص \” عدم فعل شىء اطلاقا\” فقد بدت لى متوقفة متجمدة فى الحياة.

وفجأة بدأت أرى..فعندما نطلب من أى ممرضة أن تأتى ب\” ز \” تتعجب \”ز \” من؟ ثم ترق ملامحها وتبتسم \” آه زيزى\” ولا حظت أن زوجها يناديها زيزى، وأن زيزى لا تفعل شيئا فى العنبر فالجميع يحبونها ويدللونها ويفعلون لها ما تريد دون أن تطلب…زيزى اذن طفلة مدللة،  والأطفال لا يتحملون المسئولية، ويملون بسرعة من ألعابهم..كيف لم ألاحظ هذا من قبل،  كنت أركز فى محتوى ضلالتها وهلاوسها ولم أنتبه للمشكلة وهى أمام عينى.والغريبة أنه لم ينتبه احد لذلك فهم لا يرونها طفلة بل طيبة بريئة نقية فقط…قبلت بالاتفاق مع زميلى أن أتولى علاجها ثانية وحاولت أن أسلك مسلكا آخر. فعقدت معها اتفاقا مكتوبا: أن تحدد ما تريده من العلاج وأن تحاول هى فى سبيل ذلك بكل ما تستطيع تحت اشرافى وبمساعدتى، واذا لم تحاول وظلت تنتظر من يفعل لها سترجع الى زميلى د.(..). وطلبت منها (كما كان يفعل بيرلز) أن تقول لا أريد أن أعرف بدلا من لا أعرف ولا أريد أن أفعل بدلا من لا أستطيع، ربما وصل الى وعيها أنها تهرب من المسئولية..تحمست زيزى فى البداية أياما قليلة، ودخلت العلاج الجمعى الجديد، ثم رجعت كما كانت بل أنها اعتبرت وجودى بجانبها أمرا مفروغا منه وظلت بالمستشفى ترفض الخروج وطوال شهر رمضان تسهر فى سمر ومشاهدة التلفزيون مع الممرضات والمريضات وتنام طول النهار حتى المغرب ولا اراها..

لاحظت أيضا أنها تستغل الهلاوس لتظل مريضة فى نظر الجميع (لا أقول أنها تكذب ولا ترى هلاوسا): فى احدى جلسات العلاج الجمعى شكت أنها رأت الجيران فى المرآة يسخرون منها عندما فعلت حركات مفزعة بوجهها أمام المرآة أثناء جلوسها فى المنزل وحدها. طلبت منها أن تعيد تمثيل ما فعلته وجلست أمامها مريضة أخرى تمثل المرآة. أعادت الحركات فانفجرت المريضات فى الضحك وقالت لها زميلتها \” ايه الجنان ده\”ويبدو أن ما حدث كان يشبه تجربتها فى المنزل ففزعت، ثم سألتها لماذا تفعلين ذلك؟ فقالت لأنى كنت لوحدى وعاوزة..يعنى ايه…يعنى أنا اللى…لأ..لأ.. ثم أخذت ملامحها تعبر عن عذابها وهى تحكى عن الهلاوس وأخذت تسردهن الواحدة تلوالأخرى كما لوكانت تحفظهن عن ظهر قلب….جلسة الأسبوع التالى اختفت ولم تحضر ووجدناها مختبأة فى غرفة الزيارة.

أخلت \”ز\” بالعقد فأرجعتها الى زميلى وقلت لها أن من يفعل شيئا يتحمل مسئوليته وأيضا من لا يفعل يتحمل مسئولية عدم الفعل..ولتخرج من هذا المأزق اقترحت عليها أن تحاول أن تقوم بواجباتها المنزليه بمساعدة زوجها فى البداية ولمدة 3أشهر،  واذا فعلت هذا سأعالجها ثانية…

لا أعرف اذا كنت قد وضعت يدى على المشكلة فعلا أم لا، واذا كنت أسير فى الطريق الصحيح. كل ما اعرفه أن الجميع يرى زيزى القطة الناعمة التى تتمسح فى أقدامهم وأنا أرى (بطريقة أوبأخرى)  \”ز \” السيدة التى تستنجد بى قبل أن تختفى تماما وتقف زيزى حائلا بينى وبينها..

الأسئلة:

  • لماذا لا أشعر أن اعتمادية هذه المريضة علىّ هى علاقة ننطلق منها فى العلاج؟ بل أشعر أنها فخ وقعنا فيه سويا يعرقلنى عن الاستمرار
  • هل يستطيع المريض الذهانى التحكم فى هلاوسه فيستدعيها وقتما يشاء؟ ولماذا لا يستطيع الشخص السوى أن يفعل ذلك؟
  • اذا كان الفصامى يلجأ الى الانعزال والوحدة والانسحاب الى داخله خوفا من سحق الآخر له،فهل يمكننا فهم استخدام \”ز\” للطفل بداخلها؟ واستغلال الآخر به نوع من الدفاع أيضا حتى لا يسحقها هذا الآخر (هذا اذا اعتبرناها فصامية)؟
  • هل يجدى تكرار العلاج الجمعى فى هذه المرحلة معها؟
  • هل هناك جانب لا أراه فى حالتها ؟ وكيف أستطيع تحريك الراكد فى هذه المريضة؟

****

التعقيب:

ابتداءً أشكرك وأصدق كل حرف مما كتبت، وأحترم اجتهادك ومثابرتك.

يا ترى هذه المقدمة تغفر لى ما سوف ألمح إليه فى نهاية التعليق على هذه الحالة؟

ولكن: دعينا نبدأ من أسئلتك المحددة التى أوردتها فى نهاية عرض الحالة:

(1) لماذا لا أشعر أن اعتمادية هذه المريضة علىّ هى علاقة ننطلق منها فى العلاج؟ بل أشعر أنها فخ وقعنا فيه سويا يعرقلنى عن الاستمرار؟

د. يحيى:

بالعكس، فى رأيى أنك تشعرين فعلا بما قررت أنك لا تشعرين به، كما أرجح أنك تعرفين أن اعتمادية هذه المريضة ينطلق منها العلاج فعلا، (ليست هى العلاج وإنما ينطلق منها) فلماذا تسألين؟

 إذا لم يكن الأمر كذلك فلماذا صبرت عليها برغم مشاعرك التى تبدو سلبية أحياناً؟

أما أنها (الاعتمادية) فخ، فهى فخ، لأن كل علاج المرضى النفسيين والعقليين بالذات هو فخ، لكنه لا يعرقلك عن الاستمرار، فأنت مستمرة بالرغم من كل شىء.

مهنتنا من البداية هى فخ، نحن نتصور قبل الغوص فيها أننا أطباء نعطى أدوية وننتظر زوال الأعراض وكلام من هذا، فإذا بنا نجدها – لمن يأخذ الأمور مأخذ الجد والحب والمعرفة – أنها بحر زاخر بالأسماك والحيتان والأصداف والأمواج وكل شىء، فكيف لا تكون فخا وأغلبنا يدخلها وهو لايعرف العوم أصلا؟ هذا من حيث المهنة ككل، أما الفخ الذى نتورط  فيه مع كل مريض (كل مريض دون استثناء) فهو أنه يختلف عن كل مريض آخر، وعن المكتوب فى الكتب، وحين اكتشفتْ شركات الدواء وعلماؤها هذا الفخ، ومقدار ما نعانى منه، أرادت أن تنقذنا منه باللافتات التشخيصية النمطية، والاختزال، والتعميم، فحدث ما حدث من اختزال واستغلال وتشويه.

هذا الفخ هو نفسه الذى نخرج منه، فائزين غالبا، إلى فخ آخر – بعد أن نكون قد بذلنا ما فى وسعنا، ووصل إلينا ما استطعنا استيعابه (دون وعى ظاهر بالضرورة) وهكذا،

فكيف بالله عليك تعتبرين أن الفخ، هذا الفخ أو أى فخ، يعرقلك عن الاستمرار؟!

(2) هل يستطيع المريض الذهانى التحكم فى هلاوسه فيستدعيها وقتما يشاء؟ ولماذا لا يستطيع الشخص السوى أن يفعل ذلك؟

د. يحيى:

أظنك قرأت اليومية التى ذكرتُ فيها كيف أن الجنون اختيار (كيف يكون الجنون حلا؟!! نشرة 20-7-2008). المريض الذهانى لا يصنع هلاوسه لكنه يُطلقها من داخله فتستقبلها حواسه الأعمق (استدارك حول فرض “العين الداخلية” نشرة 29-7-2008)  وهو يفعل ذلك بإرادته الداخلية، وليس بقرار شعورى، كل هذا شريطة أن تكون هلاوس حقيقية وليست صورا بصرية مثلا، هو لا يستدعيها ولكنه يفرج عنها، ليستقبلها من خارجه (غالبا) والعلاج هو الذى يؤلف بينها وبين بقية مفردات تركيبه.

 من هذا العمق نفهم كيف أن حالتك تنطلق هلاوسها لتؤدى وظيفة ما فى وقت ما، هذا وقد وصفتِها أنت أولاً بأنها “تستغل الهلاوس لتظل مريضة” أظن أنها لا تستغل الهلاوس لتظل مريضة وإنما هى تطلق هلاوسها لتعلن أنها مازالت مريضة، وقد ذكرتِ أنت بأمانة أنك لا تكذبيها وتعرفين أنها ترى هلاوس فعلا.

أما لماذا لايستطيع الشخص السوى أن يفعل ذلك فلأنه سوى (كما يتصور أو كما يفرضون عليه نوع السواء الذى هو بدون هلاوس) ولقد مررت بخبرة رائعة فى العلاج الجمعى العام قبل الماضى، رفضنا فيها أن نكذب أحد المرضى الذى كان يقول بأنه يشم – أثناء الجلسة– رائحة قبيحة، ودار النقاش حول أنه ليس معنى أن بقية أفراد المجموعة – مرضى وأطباء – لا يشمونها أنهم على حق مطلق، لايوجد مبرر أن ننكر عليه حق الشم هذا، ودار التفاعل نشطا (طريفا) حتى عرضتُ على زميل متدرب أن يركز حتى يشم بأنفه الداخلية ما يتيسر له، وعملها الزميل بشجاعة فائقة، صحيح أنه لم يشم شيئا بمعنى الشم، لكن الخبرة المعيشة فى أنفه وكل جسده ووعيه (وقد وصلتنا أو وصلتنى على الأقل) صالحتنا أكثر فأكثر على الهلاوس وعرفنا نوعا أروع من السواء.

 الأرجح أن سقراط كان يسمع هلاوس وكذا كارل يونج وغيرهما.

 إذا بلغ الشخص من النضج أن يسمح لداخله أن يتحرك منطلقا حتى يصير هلاوس يتحكم فيها بكل ما هو، ولا ينكرها بعقله وعقلنا، فهو الإبداع، أو على الأقل هو فرصة للإبداع.

(3) اذا كان الفصامى يلجأ الى الانعزال والوحدة والانسحاب الى داخله خوفا من سحق الآخر له،  فهل يمكننا فهم استخدام \”ز\” للطفل بداخلها؟ واستغلال الآخر به، نوع من الدفاع أيضا حتى لا يسحقها هذا الآخر (هذا اذا اعتبرناها فصامية).

د. يحيى:

سررت من آخر السؤال (هذا إذا اعتبرناها فصامية) سررت تقديرا لصبرك على وضع التشخيص بين قوسين برغم طول مدة العلاقة (تقترب من ثلاث سنوات) وبرغم وفرة المعلومات.

أما أصل السؤال فأود أن أنبه أن الفصامى يخاف من سحق الآخر فعلا، لكن ليس الفصامى فحسب هو الذى يفعل ذلك، البارنوى يخشى بنفس الدرجة، وإن كان تفاعله يبدو اقتحاميا، والشخص العادى يا شيخة يخشى ونصف.

أما تفسيرك باستعمالها الطفل داخلها تستغل به الآخر كنوع من الدفاع حتى يقبلها الآخر، فهو تفسير جيد، ومهم، وأضيف أننا نخدع عادة فى مثل هذه الرشاوى، ويبدو أن أزواجها الواحد تلو الآخر قد التقط هذا الطفل الجميل الشقى فكان ما كان (مما قد أعود إليه بعد الرد على التساؤلات المحددة) هذه السيدة (51 سنة) مازالت قادرة على إرسال رسائل ساحرة جاذبة إلى كل من حولها سواء كانت رسائل طفلة شقية، أو تمسح قطة ناعمة.

(4) هل يجدى تكرار العلاج الجمعى فى هذه المرحلة معها؟

د. يحيى:

أعذرينى إذا أنا لم أستطع أن أجيب على هذا السؤال المحدد، خاصة وأنت قد حددت سؤالك بـ “هذه المرحلة”. من حيث المبدأ، ليس لى خبرة كافية بالمرضى المزمنين بالنسبة للعلاج الجمعى الذى أمارسه، أظنك لاحظت أنها سنة واحدة، إثنى عشر شهرا لمرضى – صحيح أن أغلبهم فصاميين – لكنهم يحضرون صباح كل أربعاء الساعة 7.30 صباحا حتى التاسعة، ولم يمتد العلاج لأيه مجموعة لسنة تالية إلا مرة واحدة، ولأسباب علمية أكثر منها علاجية.

فى المستشفيات العقلية الرسمية والأقسام الداخلية، الأمر يختلف حتما، وأنا أفهم موقفك من بعيد، ولا أتصور إمكانى الإجابة على هذا السؤال إلا بعد أن أعرف تفاصيل النظام الذى تتبعونه، فإن ما وصلنى منه أنه نظام إنسانى طيب مفتوح، لكنه هلامىّ المعالم، حسن النية، وهذا كله ليس قريبا مما أمارسه، ولعلك لاحظت فى مناقشات حلقات “التدريب عن بعد” كيف أصمم على الالتزام بالتعاقد من حيث المدة والوقت، ثم إعادة التعاقد طول الوقت، سواء فى العلاج الفردى أو العلاج الجمعى.

الرد الذى أتصور أنه يتناسب مع ما وصلنى من نظامكم هو:

“نعم يُجدى”

(5) هل هناك جانب لا أراه فى حالتها؟ وكيف أستطيع تحريك الراكد فى هذه المريضة؟

د. يحيى:

طبعا هناك جوانب وجوانب، وسيظل الأمر كذلك ما حيينا، مهنتنا – إذا صحت الممارسة – لا تسمح لنا بأن نضع نقطة آخر السطر، دائما هناك نقط عديدة تشير إلى أن العرض مستمر ما امتدت الحياة.

أما ما هذه النقط فهى كثيرة، ولا أظن أنك لا ترينها بل الأرجح أنك ترينها، لكنك لم تذكريها لنا، ربما خشية الإطالة.

مثلا:

ماذا فى هذه السيدة بكل هذا التاريخ، بكل هذا المرض الصريح، ماذا فيها جعل هؤلاء الرجال الثلاثة يتزوجونها – عن حب – الواحد تلو الآخر؟

نحن نعرف بلادة مشاعر المريض الفصامى (كما يزعمون)

 الواضح، برغم استعمالك “الركود” مرة، و”الجمود” مرة، أن الموجود هو عكس البلادة تماما فهى تجذب إليها كل (تقريبا) من يتعرف عليها أو يعرفها، وهى ليست جاذبية طارئة أو خادعة لأن الزوجين الأول والثانى لم يتخليا عنها بسهولة، أما الثالث فهو مضرب للوفاء والصبر حتى، الآن وهى التى رفضتهم الواحد تلو الآخر بسبب “الملل”!!

ما الحكاية بالضبط؟

هناك نوع من الجنون (ليس له اسم، وبالذات ليس الفصام، كما يعرفه الناس) فيه هذا الجذب الخاص جدا، الذى ليس له تفسير، وشرحه يطول، فهو موجود عبر التاريخ، وفى الممارسة الواعية، وأثناء العلاج المكثف، أظن أن هذا هو ما وصفه الزوج الحالى أنها “عملة نادرة”، هذا الجذب الخاص يكون خليطا من الطفولة والجنس والجسارة، والرجال ينجذبون إلى ذلك تحديدا، وبالرغم من قولها فى البداية أنها كرهت العلاقة الجنسية دون سبب واضح، فأنا أشير إلى الجنس بالمعنى الأشمل (ليس حتى بالمعنى الفرويدى).

(نتذكر كيف ترك الزوج الثانى زوجته الأولى وأولاده وأيضا الزوج الحالى، كل ذلك!! من أجل عيون هذه “المجنونة” جنونا خاصا جدا!!

المنطقة الثانية التى يمكن أن يصلك منها أو حولها ما يفيد هى منطقة “الأمومة” عند هذه السيدة، إذا كان طفل هذه المريضة (الذات الطفلية) هو النشط الجذاب الناعم المدلل، وكان اليافع (الذات اليافعة) مضروبا بدليل سوء الحسابات والبعد عن الواقع فأين (الذات الوالدية الأم) هنا؟

 لاحظت أنه لم ترد إشارة إلى علاقتها بابنها وبناتها اللهم إلا زيارتها لابنتها المتزوجة فى فترة إفاقة، ولا أعرف إن كانت أُمًّا حينذاك أم لا، أنا لم أعد أركز على “حالات الذات” (الطفل واليافع والوالد) التى قال بها “إريك بيرن”، فقط، أنا أعترف بفضله، لكننى انطلقت بعده للتعامل مع مئات بل آلاف من حالات الذات المتنوعة.

مثلاً (2):

هل لاحظت أن هذه السيدة لم تمارس الخطيئة مثلا –حسب ما ورد فى سردك- وأن كل علاقاتها كانت حباًٍ وزواجاً رسميا وإنجاباً؟ ما الذى منعها- والمفروض أنها ضعيفة الكفّ سهلة الانسياب ولو بسبب مرض ما- ما الذى منعها من ذلك؟ بل ما الذى منع أزواجها –قبل الزواج- من أن يحاولوا معها دون زواج، الواحد تلو الآخر، ثم هم يضحون بالأسرة القديمة زوجةً وأولاد؟ هل هى التى اشترطت عليهم الزواج حتى تكون علاقة؟ وهل هذا لأسباب دينية أم اجتماعية أم غير ذلك؟

مثلاً (3):

مسألة علاج امرأة “نادرة” بهذا التاريخ الطويل، امرأة بهذه الطباع الملتبسة، وهى فى سن الواحد والخمسين، تدخل المستشفى لتخرج، وتخرج لتدخل، مسألة علاجها بالعلاج الجمعى وكأنه العمود المحورى للعلاج، هذه المسألة شغلتنى لأنها لا تتفق مع خبرتى بشكل أستطيع معه أن أحدد الهدف، والتكهن Prognosis والمآل  outcome.

للأسف نحن –الأطباء- وقتنا محدود، وواجباتنا ثقيلة، ومرضانا – جمعيا- هم أحوج الناس إلى أى وقت وجدية، ومهارة نمتلكها باعتبارها أمانة، والعدل يقتضى – من وجهة نظرى- أن أحسن تقسيم وقتى بين من يحتاجنى بحيث تأتى النتائج بما يشجعنى على الاستمرار حين يتقدم مريضى نحو الشفاء، فأنتبه لغيره وهكذا.

 إياك أن تتصورى أننى أنصحك أن تتخلى عنها مهما بلغ رفضك لاعتماديتها، ولكننى أتكلم عن أوليات أساليب العلاج، وطبيعة حمل الأمانة موضوعيا.

فى تصورى أن الترتيب التنازلى فى هذه الحالة يكون بالتأهيل بعد العقاقير، التأهيل الاجتماعى والأدائى والمعرفى، بملء الوقت إلزاما وتدريجيا.

 ثم يأتى العلاج الأسرى لنستفيد – خاصة- من موقف زوجها النبيل (فى حدود المعلومات المتاحة)، ثم النظر فى علاقاتها بأولادها (ولو من حيث المبدأ) … الخ، ثم يأتى العلاج الجمعى والفردى وتحريك الركود ….الخ.

 

مثلاً (4):

أنت تكلمت عن الاعتمادية التى بلغت دور اللزوجة حتى رفضت ذلك، ولعلك تقصدين الاعتمادية الرضيعية  infantile dependenceوهذا جيد أن تعرفى مشاعرك هكذا، لكننى لم ألاحظ درجة كافية من الوعى بدورك شخصيا فى تنمية هذه الاعتمادية (وربما فرحتك بها بشكل ما) هذا ليس عيبا، بل إن الفصامى – بهذه الصورة- يبدأ إعادة رحلته من داخل الرحم، رحم المعالج، أو الوسط، فلا تخشى شيئا، فقط عليك أن تتبيّنى دورك (ملحوظة: إياك أن تصدقى أن كلامى هذا هو الأرجح أو الأصح)

مثلاً (5):

فى بلدنا، وفى هذه السن وما بعدها، يقوم الدين البسيط العادى بدور هائل فى تشكيل الوقت، وتحمل المآسى والربط بين الناس بعضهم بالبعض، وأنا افتقدت هذه المعلومات فى عرضك، هل هذه السيدة تصلى، بانتظام؟ هل علمتها كيف تحمد الله، وأن تحمده أكثر مما تستغفره؟… الخ الخ؟ أنا أخاف من استعمال الدين خشية التسطيح فى هذه المنطقة، لكن هذه هى ثقافتنا وهؤلاء هم ناسنا.

مثلاً (6):

شعرت، والأرجح أنى مخطىء، أن ثم احتمالا يفسر بعض ما يصلنى منك بصفة عامة، وهو أنه يغلب على جهودك الطبية العلاجية الرائعة، قدر أكبر مما ينبغى من اهتماماتك الأدبية النقدية الخاصة. أنا أقع فى هذا أحيانا، وربما كثيراً، لكن المرضى هم الذين نبهونى الواحد تلو الآخر إلى ضرورة ضبط الجرعة.

 وحين انتهيت إلى أن العلاج الذى أقوم به هو بمثابة “نقد النص البشرى” لم أكن أعنى أبدا هذا التداخل بين اهتماماتى، ثم إننى أضفت إلى هذا التعبير لفظ “معا” أى: “نقد النص البشرى معا”، لأنه إذا كان يحق لى نقد النص الأدبى بإعادة تشكيله إبداعا، فإنه لا يحق لى نقد النص البشرى بنفس الطريقة، لأن النص البشرى لحم حىّ، إنسان كامل مختلف، إن لم يشاركنى فى إعادة التشكيل.

أقول هذا ليس لأنك تقومين بذلك، ولكننى انتهزتها فرصة لأنبه أن هذا التعبير الذى فرح به الابن الصديق الزميل د. جمال التركى لا يعنى إطلاقا، قراءة أحوال المرضى وإعادة تشكيلهم دون مشاركتهم.

وأخيرا:

 فإنى أشفق عليك من محاولتك تقديم حالة بهذه الكثافة فى بضع صفحات ثم تعتذرين عن الإطالة!! عندى حالة مهمة جمعتُ تفريغ ما سجل معها (ومعى) صوتا وصورة فبلغ 144 صفحة كبيرة على الحاسوب (A-4)، هذا غير ما سجل له طوال 49 أسبوعا أثناء مشاركته فى العلاج الجمعى. قولى لى بالله عليك كيف أقدم هذه الحالة لنستفيد منها ونتعلم ما يفيد المرضى كما ينبغى؟

 أنا أحترم إبداع الابن د. محمد المخزنجى فهو قصصى رائع، لكن إبداعه لايهبط إلا حين يتناول حالة نفسية أو عقلية، وقد أبلغته ذلك كثيرا، ومع ذلك فقد تفرغ مؤخرا للغوص فى هذا البحر، وبرغم من أنه مارس الطب النفسى اثنى عشر عاما فقط (أغلبها فى روسيا)، أدعو له حذرا، بالتوفيق، وليعلم أن مرضانا أصعب من كل تصور .

أعلن مرة أخرى احترامى لإصرارك وإخلاصك.

وأكتفى بهذا القدر وأكرر ما بدأت به أننى :

“أشكرك، وأصدق كل حرف مما كتبت واحترم اجتهادك ومثابرتك”.

وفقك الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *