“نشرة” الإنسان والتطور
16-11-2008
السنة الثانية
العدد: 443
استشارات مهنية (11)
الحيرة الخلاقة والمعلومات الناقصة
(تعليقات جديدة على حالة “جاذبية غير مفهومة”)
مقدمة:
يبدو أن نشرة “الإنسان والتطور اليومية” هذه تتجه أكثر فأكثر إلى تناول موضوعات ومشاكل النفس الإنسانية من منطلق أقرب إلى التخصص. بصراحة أنا لست سعيدا بذلك، لكن تطور الأمور بعد عام وبعض عام، أثبت لى أن هذا العمل يكاد يشكّل نفسه بنفسه فى اتجاهٍ ما.
لاحظت أن أبواب “التدريب عن بعد“، و”استشارات مهنية”، ثم “حالات وأحوال” (الذى لم ينشر فيه إلا أقل القليل)، قد استرعت الانتباه بشكل متزايد، من المختصين وغير المختصين على حد سواء، بل من غير المختصين أكثر. يا ترى لماذا؟
هل هى رغبة فى قراءة النص البشرى من واقع التعرى والآلام والإعاقة التى نسميها مرضا؟
هل هى مواضيع أسهل وأقرب إلى النصوص الحكائية التى تلفت النظر وتشوق للتتبع؟
هل هو افتقار صغار المتخصصين إلى التعلم والاستزادة من مصادر مختلفة غير المصادر التقليدية؟
هل ما تحويه هذه الأبواب يسمح بإسقاط مناسب، وتقمص مفيد، هو نوع من الوقاية التى تحمينا من أن نقع فى مثل هذه الورطات، وفى نفس الوقت يعلمنا كيف نتناولها إن هى وقعت.
كل ذلك وغيره جائز، إلا أننى غير مرحب بغلبة “ما هو نفسى”، على ما هو غير ذلك، لكننى أقبله.
الحالة التى عرضناها بعنوان “جاذبية غير مفهومة” يوم 9/11/ 2008 أثارت من الردود ما استدعى أن نفرد لها أربعة أسابيع متتالية لمناقشتها هى وما أثارت من قضايا علمية وعلاجية وتدريبية مهنية كما سنرى.
أيهما أفضل للناس وللزملاء الأصغر، أن نعرض حالة متكاملة من واقع أوراق متاحة تحت أيدينا (حالات وأحوال، أنظر حالة الإدمان الجارى عرضها حاليا) أم أن نقوم بالواجب المهم بالرد على تساؤلات الأصدقاء والزملاء والزميلات عن حالات نحتاج معها إلى معلومات ليست فى المتناول؟
أظن أن التفضيل مستحيل، لكن التنظيم ممكن.
أقترح مؤقتا أن نجرب الأمر على الوجه التالى:
1- يستمر باب “التدريب عن بعد” كما هو: عرض موجز، وإشكال علاجى واقعى، وسؤال محدد، ثم اجتهاد فى الإجابة، وقد نعود إلى غير ذلك أثناء المتابعة.
2- أن ينظم باب “الاستشارات المهنية” على نفس هذا النمط (نمط التدريب عن بعد) ما أمكن ذلك.
3- تتم عرض الحالات المتكاملة، من أرشيفنا أساسا، بما فى ذلك الحوار التوصيفى والعلاجى، كما يجرى حاليا فى حالة الإدمان المعروضة “الحق فى الألم” يومى الثلاثاء 11-11-2008، والأربعاء12-11-2008.
4- تتواصل عرض الألعاب النفسية الكاشفة، خاصة ما يجرى فى العلاج الجمعى، مع المقارنات التى نرجو منها فوائد المقارنة الهادفة، بمشاركة أصدقاء الموقع، كما جرى ذلك بشكل مبدئى واعد.
هذه الاقتراحات غير مُلزمة طبعا، ما دامت النشرة تواصل تشكيل نفسها بنفسها، لكنها هى ما خطرت لى وأنا أواجه مأزق تناول هذه الحالة (جاذبية غير مفهومة) بوجه خاص كما يلى:
- وردت إلينا ردود محدودة عن الحالة، وبدرجة أقل وردت بضعة ملاحظات تتعلق بالتعاقد وقواعده ومستوياته (وهو ما آثاره الرد على النشرة الأولى)
- وردت إلينا ردود وتعليقات هامة ومفيدة من غير المختصين، وقد بلغ من مساهمة إحدى صديقات الموقع (الأرجح أنها غير مختصة، لست متأكدا، أمل محمود)، أن قدمت ما يكاد يقترب من نقد مسهب، أو ورقة علمية.
- استجابت د. أميمة رفعت لما ألمحنا إليه من حاجتنا إلى استكمال معلومات محددة عن الحالة بشكل جيد وتفصيلى، رحبتُ به بقدر ما انتبهت إلى ضرورة استيفاء النقص ما أمكن ذلك، لأن المعلومات التى وردت لاحقا، كانت ضرورية وأساسية للإلمام بأحوال الحالة وقراءتها نصّا بشريا أكمل.
- استجابت أيضا د. أميمة بإرسال تفاصيل مهمة عن ما يجرى فى مستشفى المعمورة التى تعمل بها فيما يتعلق بالعلاج الجمعى، والتأهيل، وعلاج الوسط، مما يحتاج لرد تفصيلى خاص ينشر ويناقش فيما بعد.
فإذا كانت حالة واحدة، لا نعرف عنها ما فيه الكفاية، قد أثارت كل هذه الاستجابات والاجتهادات، أليس من حقى أن أتوقف قليلا لأنظم الأولويات حتى نقوم بما يمكن فى حدود المتاح باكبر قدر من الفائدة.
وفيما يلى نصوص التعليقات دون تعقيب، أنشر بعدها مباشرة ما وصلنا من د.أميمة من إضافات ردا على تساؤلات طرحناها فى الرد الأول، لعل أصحاب الفضل ممن عقبوا على المعلومات الأولية التى نشرت فى أول حلقة، وعلى التعقيب عليها، يأخذون فرصة تأكيد رأيهم، أو تعديله، أو الإضافة إليه، بعد قراءة المعلومات الجديدة.
أولا: موجز الحالة
(الأفضل قراءة الحالة مكتملة فى نشرة يوم 2-11-2008 ثم التعقيب 9-11-2008، لأن هذا الموجز لا يفيد كثيرا، وليس بديلا جيدا، لكنه واجب والسلام)
هى سيدة فى الواحد والخمسين من عمرها لم تكمل دراستها الثانوية، السابعة من بين تسعة إخوة وأخوات، نشأت مدللة، أحبت مدرس الفلسفة فى المرحلة الثانوية، وتزوجها، وسافرا إلى نيجيريا (عمل الزوج) كرهت العلاقة الجنسية من البداية، أصيبت بالنوبة الأولى بمحتوى ذهانى انشقاقى وجدانى مصاحَب بهياج وتجوال، رجعت بعد 4 سنوات وقد أنجبت ولدا وبنتا، ومات أبوها عقب رجوعها مباشرة، ثم توفت أمها وساءت حالتها.
وقعت فى غرام طبيب يعالج قريبا لها، وطلقت من زوجها الأول بإلحاح عنيف منها، صاحبه تهديد وهياج، وذلك بعد زواج دام 12 عاما، فطلق الطبيب زوجته وله منها ثلاثة أطفال، وأنجبت المريضه من الطبيب بنتين وطلقت منه بعد خمس سنوات، وكان قد انفصل عن زوجته من اجلها ثم تزوجت محاسبا كان قد أشفق عليها من معاملة زوجها الثانى، فأحبها، وتزوجته وهى مازالت “على ذمته” حتى الآن، برغم معرفته بمرضها، وهو يزورها فى المستشفى ويبدى اهتماما واضحا.
دخلت المستشفى وخرجت، ودخلت …. إلخ، وحضرت العلاج الجمعى وانقطعت وعادت….، ومعظم المريضات وكثير من هيئة العلاج والتمريض يحبونها بشكل أو بآخر.
(يبدو أنه لابد من الرجوع للحالة فى تقديمهما الأصلى، عذرا)
ثانيا: تعقيبات باكرة:
وقد جاءت التعقيبات بعد النشر المبدئى كالتالى:
د. أسامة عرفة
في إشارتكم د. يحيي حول الذات الوالدية لهذه السيدة الفاضلة، وقد ظهرت أثناء السرد بوضوح في مضمون الهلاوس أثناء فترة المرض، أعتبرتُها اكتئابا، حيث أن الهلاوس تتهمها بأنها أم جاحدة، وكأن هذه الذات الوالدية توارت خلف الطفل، ولا تظهر إلا اثناء الذهان (أشبه بفكرة الشراب المقلوب في اضطراب الشخصية) ويبقى في الخارج هذا الطفل الجذاب والاعتمادي غير أن هذا الطفل نفسه أيضا لم يكتمل نضجه حتى كطفل، فأفرز لنا التركيب الخاص باضطراب الشخصية البينية (الحدية) Borderline.
وثراء هذه الحالة حسبما قرأتها من ناحية السيكوباثولوجي هو في توضيح هذه التركيبة التي تفسر لي على الأقل السبب في الخلط التشخيصي والجدل المستمر حول علاقة اضطراب الشخصية البينية بالاضطراب ثنائي القطبي أستطيع لوهلة واحدة أن استقبل هذه الحالة على أنها حالة فصام. شكرا.
****
أ. يوسف عزب
نقطتان أثارتا انتباهى:
أنه إذا كان العلاج النفسي في إحدى صوره هو فخ حقيقي بالنسبة للاطباء ومعظمهم دخلوه دون تعلم العوم، فهل – وبرغم المساوئ العديدة- للممارسات الأحدث وعلى المستوي الجماعي للمارسة ألا يكون تعليق اللافتات التشخيصية أرحم ولو مؤقتا من هذا الفخ الذي لا ينجو منه إلا الممارسون الفنانون، وهم قلة.
النقطة الثانية وهي الجاذبية الخاصة الناتجة -احتمالا- عن الطفولة والجنس والجسارة، أعتقد ان هذه المنطقة تحتاج إلي عمل وجهد هائل لسبرغورها لإمكان إرشادنا لأبعاد غائرة داخل النفس واغوارها قد نسميها الآن مرضا، ثم ما معنى هذا الجذب الهائل؟ الم تنبني الحياة كلها علي جذب هائل0
علينا النظر بحذر وامعان خصوصا بعد أن سمعنا بعلاقة مارلين مونرو برئيس أهم دولة في العالم
****
أ. أمل محمود
اعتقد أن الدكتور يحيى شخصياً لن يتصرف مع مريضة الدكتورة اميمة إلا كما تصرفت د. أميمة. إن حب أزواجها لها هو نوع من الاحتياج لهذه “العملة النادرة” التى وصفها الدكتور يحيى وصفاًَ عبقرياً. حين قال:
“هناك نوع من الجنون فيه هذا الجذب الخاص جدا، الذى ليس له تفسير، وشرحه يطول، فهو موجود عبر التاريخ، وفى الممارسة الواعية، وأثناء العلاج المكثف”، أظن أن هذا هو ما وصفه الزوج الحالى أنها “عملة نادرة”، هذا الجذب الخاص يكون خليطا من الطفولة والجنس والجسارة، والرجال ينجذبون إلى ذلك تحديدا”.
وأحب أن اضيف إلى رؤيته هذه: والنساء تنجذبن إيضاً إلى ذلك تحديداً. أغلب الناس تحب هذه النوع من الحب- الجنون، الذى يعد خلطة رائعة من الطفولة والجنس والجسارة. والناس تحتاج له بشدة، خاصة مع تسلط تلك المفاهيم والأفكار الصفقاتية، والدينية المغتربة والأخلاقية الزائفة على المجتمع. وبمجرد أن يشم الإنسان رائحة هذا المزيج العجيب الذى يخلط الطفولة بالجنس والجسارة فسرعان ما ينجذب نحوه، لأنه عملة نادرة بالفعل فى مجتمع وواقع بشرى شوهته العلاقاتالنفعية والصفقاتية والمعايير المغتربة للدين والأخلاق السطحيين. أتصور أن الحب الذى احبه الرجال لشخصية (ز) ليس حبا لها شخصياً، بل حب لما تمثله من نوعية نادرة للحب الناقص فى مجتمعنا. كما أتصور أن حب النساء لها، هو ايضاًَ حب لهذا النوع من الحب الذى تقدمه (الطفولة- الجنس- الجساره)، واللاتى يشتقن له. فالنساء تنجذب أيضاًَ لهذا النوع من الحب. فهو يكسر تلك العلاقات المغتربة والتقليدية التى تعيشها النساء مع أزواجهن، او الرجال مع زوجاتهم. هذا الحب الذى تثيره (ز)، هو حب مرت به البشرية فى مرحلة من تطورها. فهو حب جميل، يضرب عرض الحائط بأية مسئولية واعية. حب يحركه الهوى البشري فقط. فهو قادر على تقطيع علاقات ووصل علاقات بشكل مستمر. حب مارسته إلهات الحب فى حضارات العالم القديم. حب الإلهة إنانا السومرية، وعشتار البابلية، وعشيرة الكنعانية، وإيزيس المصرية وافروديت اليونانية، وفينوس الرومانية. حب يجدد الطفولة والجنس والجساره كل مرة. حب خاطر من أجله الرجال بحياتهم. والآن يخاطرون بأسرهم وأبنائهم من أجل إلهة الحب والعشق والطفولة والجسارة. ولكن إلهات الحب والجنس فى التاريخ القديم، لم يقدمن فقط العشق والجنس والجسارة. بل قدمن ايضاً الحرب. فقد كانت إلهة الحب والجمال إلهة للحرب أيضاً. والمريضة(ز) قدمت الأثنين ايضاً الحب والحرب. وكما تقول دكتورة اميمة:. ولم تحصل علي الطلاق الا بعد سنة هاجت وصرخت وكسرت فى البيت خلالها بما يكفى لإخافة الأطفال فطلقها زوجها الأول وأخذ أطفاله معه بعد زواج دام 12عاما. وفى الزواج الثالث فتحت الشباك وصرخت ورمت المفتاح لأحد المارة لإنقاذها من العصابة. ومن هنا فأنا اتصور أن المريضة (ز) هى فعلاً تلك العملة النادرة التى لا توجد فى زمننا الحالى. فهى إلهه الحب والحرب. تفعل ما تريد وقتما تشاء. يحركها الملل فى ترك هذا والإرتباط بذاك.
لكن البشرية لم تستطع تحمل حالة الحب والحرب المستمرة، لأنه حب غير مسئول سواء من قبل النساء أوالرجال. وحين رفضت البشرية عدم المسئولية الكامنه فيه، رفضت ايضاًَ هذا الجانب الموقظ للعلاقة بين الرجل والمرأة، والمتمثل فى الطفولة والجنس والجسارة. ورمت البشرية السلة بكل ما تحتويه. والمريضة التى تمسكت بالجانب القديم للعلاقة بين الرجل والمرأة، والذى جعل الرجال ينجذبون لها، كما انجذبوا قديماًَ لإلهات الحب، والجنس والجسارة، عانت من الأصوات التى تقول لها أنت غير مسئولة. والتى دفعتها للإنتحار. عانت من صوت المجتمع الحديث الذى يظهر لها فى المرآة، والذى أدان صورة إلهة العشق والجمال، ووضع مكانها فقط المرأة التى تلد الأطفال وتفنى حياتها فى تحمل مسئوليتهم ومسئولية زوجها، متنازلة فى ذلك عن الجانب الكامن فيها كإلهة للعشق والجنس والجسارة. ولهذا تنازلت المريضة عن أبنائها، وتزوجت عدة مرات، متنازلة عن دورها الذى حدده لها المجتمع، ومصرة أن تصبح فقط إلهة للعشق والجنس والجساره إن تعبيرها عن كرهها للجنس، لا يحمل كرهاً للجنس كما ذكر الدكتور يحيى، بل رفضاً لموقفها من المجتمع الحديث. فهى برفضها للجنس تدين نفسها. وتقبل موقف المجتمع منها الذى يدعوها للإنتحار. تكفيراً عن رفضها للمعاير الإخلاقية للمجتمع الحالى.
وبهذا فالمريضة يتنازعها صوتان، صوت الطفولة والجنس والجسارة، وصوت المجتمع الذى يدينها، ويطلب منها الإنتحار. وعندى صديقة يتنازعها نفس الصوتاّن، صوت الطفولة والجنس والجسارة، وصوت المجتمع، وتعالج هذا النزاع بقراءة القرآن بشكل مستمر ولبس الإسدال. إنها تخفى طفولتها وجنسها وجسارتها بعمل علاقات بالقرآن ومَن به. فهو الملاذ الذى يحميها من نفسها. فهى تلوذ بالقرآن الكريم من نفسها. وعلى حد تعبيرها: يمكن قراءتى للقرآن تحمينى من الشهوات.
واتصور أن د. اميمة رفعت، شعرت بمخاطر هذا النوع من الحب، لأنه حب احادى الجانب، تعوزه المسئولية. أو ربما أزعجها هى شخصياً. ورغم أن كلماتها لم تسعفها للتعبير عن خطورته. لكنها أدركت أنها وقعت فى فخ. وهو فى الحقيقة فخ، لا يقع فيه فقط الطبيب المعالج (باعتباره بشراً مثلنا) بل الجميع من النساء والرجال. فهذا النوع من حب له بريق ورائحة تجذب إليها الناس جميعاً. وقد دفن المجتمع الحديث هذا الجانب المضئ من الحب وهو يدفن قانون المجتمع القديم. ولهذا أصبح قانون مجتمعنا الحالى قانون احادى الجانب ايضاً. وأتصور أن البشرية فى طريقها لاستعادة الجانب الضائع من الحب، وهو حب إفروديت وفينوس ودمجه بالجانب الآخر للحب وهو المسئولية التى يجب أن نحملها تجاه الآخرين.
الدكتور يحيى يقول : كان طفل هذه المريضة (الذات الطفلية) هو النشط الجذاب الناعم المدلل، وكان اليافع (الذات اليافعة) مضروبا بدليل سوء الحسابات والبعد عن الواقع فأين “الذات الوالدية” “الأم”؟ هنا؟
لقد وضع يده بالفعل على الجانب الجذاب الناعم المدلل، وهو حب فينوس وافروديت (الواقع الإجتماعى القديم) وعلى الجانب المضروب وهو الخضوع للواقع الإجتماعى الجديد الذى ترفض المريضة الخضوع له. وعلى جانب الذات الوالدية، الذى رفضته المريضة تماما حين تخلت عن ابنها وبناتها. أنا اتصور أن هذه السيدة لم تحظ مثل اغلبنا بحب مسئول متوازن ومتناغم يجمع بين الطفولة والجنس والجسارة والمسئولية. وأن كل من تعامل معها تعامل مع الجانب القديم (الطفولة والجنس والجسارة) فقط.
أن يعثر رجل على هذا الجانب فى امرأة أمر نادر حقاً، وامر يكاد يكون مرضياًً فى مجتمعنا. لأن/ السواء العادى يتطلب إخفاءه. ومن تظهره من النساء فهى إما أن تصبح مريضة كما فى حالة (ز)، لأنها تعيش تناقضا بين القديم والجديد. وإما خارجة على عرف المجتمع، لأنها تضرب بمعايير المجتمع الجديد عرض الحائط وتعيش وفق المعايير القديمة، ونادرا ما تستطيع الدمج بين هذا الجانب وبين المسئولية الجديدة التى وصلت إليها. وهذا النموذج نادر جداً، لأن وضع معايير المجتمع الجديد فى الاعتبار دون التخلى عن جانب (الطفولة – الجنس- الجسارة) من أصعب الأمور.
إن غياب الحب فى حياتنا بأشكاله المختلفة، حتى ذلك الحب الأبوى أو الأمومى الناضج، يدفع البعض مثل المريضة (ز) إلى الحصول عليه من وراء الآخرين. والطريقة التى فعلتها (ز) ويفعلها غيرها هى أن تبادر هى لتصنع علاقة بالآخر (سواء كان الأب أو الأم أو الإخوة والأخوات او الصديقات والأصدقاء). وهى تستخدم طفلها النشط الجذاب الناعم من أجل خلق هذه العلاقة. فهى تقترب وتتمسح كالقطط فى أمها أو ابيها أو فى غيرهم، مؤكدة لهم أنها ليست مصدراً يخافون منه، فهى طفلة وديعة لا تضع الآخرين امام مسئولية إقامة علاقة حقيقية بها. فهى التى تبادر من أجل صنع علاقة؟ وتؤكد للآخر انها لا تشكل بالنسبة له مصدراً للتهديد بإقامة علاقة مسئولة. وبهذا فهى تحتال من أجل الحصول على الحب. وتحصل عليه بالفعل، وبلا مقابل، وبدون إقامة علاقة مسئولة من الطرفين. إن استعمالها لطفلها من أجل الحصول على حب الآخرين، ونجاحها فى الحصول عليه من خلال نشاطها وتمسحها ورقتها وجاذبيتها الناعمة الطفولية، جعل الجميع يدللونها، ويحبونها ايضا. وحينما يظهر لك أى طفل احتياجه للعطف والحنان سرعان ما ستلبى له هذا الإحتياج. فهى تستنفر فيك ليس فقط وعيك (أو أخلاقك) بل تستنفر فيك فطرتك البسيطة فى تلبية احتياج من يحتاج إليك، سواء قطة صغيرة او طفل صغير. ولهذا فأنت تقع بالفعل فى فخ. فخ حمل مسئولية طفل يحتاج العطف والحنية. وبمرور الوقت، تكتشف هى أن هذا الحب ليس حبا مسئولا بين أنداد، بل حب مبنى على العطف والإحتياج فقط. فهى تتحايل من أجل تلبية احتياجها للحصول على عطفك، وأنت تقع فى خية تلبية الإحتياج، وتشعر برجولتك، أوطيبتك وأنت تقف إلى جانب إنسان محتاج. لكن هذه القطة الناعمة الرقيقة المحتاجة للعطف وتلبية الرغبات، تظهر شراستها حينما تعجز عن تلبية احتياجاتها أو رغباتاتها فتكسر لك البيت وتصرخ من الشباك، وترمى بالمفتاح للمارة حتى ينقذوها. تقول الدكتورة أميمة:
“فالجميع يحبونها ويدللونها ويفعلون لها ما تريد دون أن تطلب…زيزى اذن طفلة مدللة، والأطفال لا يتحملون المسئولية، ويملون بسرعة من ألعابهم..كيف لم ألاحظ هذا من قبل”،
وفى تصورى أن الدكتورة أميمه بوعيها كطبيبة معالجة، رفضت أن تمارس هذه الطريقة التى يمارسها الجميع، وهى أن تدلل وتعطف وتفعل للمريضة أى شئ تريده، كما يفعل الجميع من أزواجها وأهلها والممرضات أنفسهم بدون وعى. ولهذا فقد قامت الطبيية المعالجة بوضع شروط لهذه العلاقه، شروط تجعل المريضة طرف مسئول فى علاقتها بالآخرين، وطلبت منها عدداً من الممارسات مثل تمثيل مافعلته أمام المرآة، الذى اثار سخرية زميلاتها فى جلسة العلاج الجمعى، ودفعها للإختفاء فى غرفة الزيارة وعدم حضور جلسة الأسبوع التالى، بعد أن فشلت خططها فى استدرار عطف الآخرين. وقد أعادت الطبيبة مريضتها إلى زميلها لأنها اخلت بالاتفاق معها. كما طلبت منها أن تحاول القيام بواجباتها المنزلية ومساعدة زوجها فى البداية ولمدة 3 أشهر.
إن موقف الدكتورة اميمة من مريضتها موقف صحيح حسب تصورى، فقد كشفت الدكتورة أميمه الصفقة التى تعقدها المريضة مع نفسها ومع الآخرين. وحاولت فك أواصر هذه الصفقة، لبناء شخصية جديدة، تقيم علاقة مسئولة بالآخرين. كما أن الطبيبة اكتشفت أنها وقعت فى الفخ الذى وقع فيه الجميع وهو تدليل المريضة والعطف عليها، وحبها وتنفيذ رغباتها. واكتشفت أن الوقوع فى هذا الفخ لن يفيد المريضة، لأنه استمراء لما تريد المريضة الإستمرار فيه. ولهذا فهى تسأل هل موقفها الأخير مع المريضة صحيح أم خطأ، فيما يتعلق بالإتفاق على عقد جديد مع المريضة، يدفع المريضة لتحمل المسئولية.
الطبيبة هى الوحيدة الآن التى رفضت تدليل المريضة، بينما يدللها الجميع. وهى تستشير د.يحيى ليوضح لها مدى صحة موقفها الجديد، هل تصر عليه، أم أن له رأى آخر.
إن المريضة من الذكاء الفطرى إلى الحد الذى جعلها تكشف نفسها بنفسها. فهى الوحيدة التى تفقس لعبتها من أجل خلق علاقة بالجميع. وهى الوحيدة التى تعانى عبء ما تفعله، والمرض هنا فى تصورى يتفاقم بسبب الكذبة التى تكذبها على نفسها. وهى تحتاج لمساعدة حتى يتم الفصل بين ذواتها المختلفة التى تتفق على صفقة فيما بينها. وهى تعيسة بالفعل لأن ما تحصل عليه من حب ليس هو الذى تريده، فهى التى تفعله من خلال طلفها الناعم الشجاع. وتحصل من خلاله على التدليل وهى مريضة، وليس هذا هو غاية ما تريده.
إنها تبحث عن اعتراف حقيقى، وليس ذلك التدليل، اعتراف يفعله الآخر معها، لا أن تتحايل هى من اجل الحصول عليه، وربما نفهم كُرهها للجنس الذى عبرت عنه على أنه هو كره لتكرار الدور الذى تلعبه من خلال “الطفولة- والجنس- والجسارة”. فهى تريد آخر حقيقى فى حياتها. آخر يجعلها تفيق مما تفعل، آخر يبين لها أنه لايحتاج لذلك فقط، بل يحتاج إلى شريك ووليف أيضاًَ. أنها مريضة قوية تعرف قدرتها ـ تعرف كيف تأسر الرجال والنساء ـ ولكنها تكره هذه القدره فى نفس الوقت، وتكره عجز الرجال الذين تزوجتهم عن كشفها. ولهذا تتركهم لأنها الطرف الأقوى فى العلاقة. الطرف الذى يأسر، والطرف الذى يترك ولا يوجد من يستطيع تركها. ولهذا تتركهم هى. والصعوبة التى تواجهها الطبيبة المعالجة، هى صعوبة تركها من أجل أن تعود. لابد أن يتركها أحد، ليس بمعنى عدم علاجها. بل لتشعر بالفعل أن هناك ترك حقيقى، وأن الباب مفتوح للعودة رغم الترك بشرط تحمل المسئولية. ومن يحبها فعلاً هو من يتمكن من فض هذا الاشتباك والأخذ بيدها على طريق الحب المسئول.
أعتقد أن الدكتورة أميمة أحبت مريضتها، إلى الدرجة التى كرهت فيها هذا الطفل المسكين المتحايل بداخلها. واعتقد أنها بموقفها الجديد من المريضة قد وضعت قدمها على الطريق الصحيح للعلاج.
أ. رامى عادل
يحذق الطبيب فك شفرات مريضه المثبط – بالدواء – ويبطل مفعول أغلب ألغامه.فيتم تناول الجنون (كموضوع شائك) من خلال اقتراب مجهرى, ويزول خطر انفجار المريض في توقيت غير ملائم او مفاجىء بعض الشىء، متوجهين معا الي نفس الغايه الخفية – القديمة- مكبلين هذه المرة بمعطيات الواقع ومرارتة المدهشة, مستنفرين, مثقلان بجرعة الدواء, فتكون خطواتهما اوقع ثباتا والتحاما, ولا يزول الحلم او ينحل بالدواء تماما, فمازال المريض علي درايه, واود اناشير الي اهمية وخطورة قيام الطبيب بقياس ادواته العلاجيه ومهارته مع نفس المريض من قبل دون دواء.اقصد ان معايشة الجنون المفخخ الشديد البطش تمرين للطبيب وعنوانا لمدي صلابته
ثالثا: د. أميمة (تزوّدنا بمعلومات جديدة عن الحالة):
برغم أن لدىّ بعض الإجابات التوضيحية لما طلبتَ يا سيدى، إلا أننى فضلت الإجتماع بالمريضة مرة ثانية للتأكد، وقد حصلت فعلا على تفاصيل أخرى كثيرة ومهمة :
1- الجنس :
المريضة كما ذكرت سابقا تكره العلاقة الجنسية. فى بداية زواجها الأول لم يلمسها زوجها لمدة شهر كامل) الشهر الوحيد الذى قضته فى مصر قبل سفرها إلى نيجيريا)، كان كلما إقترب منها تصيبها نوبة هلع. فى نيجيريا، حاولت أن تقنع زوجها أن يستمرا فى علاقة حب دون جنس، وكانت جادة فى هذا ومصرة رغم دهشة الزوج لما تقوله. وعندما سألتها إذا كانت شعرت بأى إنجذاب جسدى أو جنسى قبل الزواج؟ أجابت بالنفى القاطع، لا إليه ولا إلى الأزواج الآخرين. ذهب الزوج وحده لإستشارة طبيب ووصف لها مهدئا، وجلس الزوج يحايلها بصبر شديد ليلة بأكملها حتى وافقت تحت تأثير المهدىء على مضض .
سألتها لماذا إذن تزوجت مرة بعد مرة وقد أصبحت تعرفين أن الزواج لا يكتمل إلا بعلاقة جنسية؟ فأجابت أنه كان لديها أمل أن يكون لهذا الأمر أهمية أقل عند الآخرين، وأن يكون القادم أكثر “صبرا” من سابقه. أعدت السؤال القديم: وما سبب كل هذا النفور من وجهة نظرها؟ فقامت تعدل من وضع الكرسى وأطالت، ونظرت فى اتجاه آخر ولم ترد. أعدتُ السؤال، فأخذت وضعية غريبة إذ وجدتها “صغرت” داخل الكرسى، وأدخلت رأسها بين كتفيها، واتجاه رأسها ناحية الأرض ولم ترفع عيناها ناحيتى لتكلمنى. وظهر على ملامحها الكثير من الخوف وبعض الحرج، قالت: إزاى أعمل حاجة وأنا عارفة إن الناس كلها حاتبقى عارفة أنا بأعمل إيه بالتفصيل؟ واحمر وجهها وقالت بحدة: لا يمكن، أحس إن دى حاجة طبيعية أبدا ..ما أقدرش مهما قالولى. سألتها إذا كانت تشعر أن الناس شايفينها مثلا مع زوجها؟ فقالت: لأ..لكن حايبقوا عارفين!
سؤال آخر عن ما إذا كان أى من أزواجها قد حاول معها أى فعل جنسى قبل الزواج أو حتى مجرد قبلة؟ ردت بنفى قاطع أنهم جميعا على خلق و”يعرفوا ربنا”.
سؤال عما إذا كانت هى التى كانت تطلب الزواج من الزوجين الثانى والثالث وإذا كانت هى التى طلبت أن ينفصلا عن زوجاتهما؟ فنفت ذلك أيضا وأنها لم تفكر أصلا فى كل هذه الأمور.
2- الدين :
المريضة تواظب عادة على الصلاة والصوم فى رمضان وتقرأ القرآن، ولكن يمنعها أحيانا عن الصلاة صوت يأمرها بألا تفعل وتشعر بأنها مسلوبة الإرادة تماما أمام هذا الصوت، فتفعل ما يريد، ولكنها لا تشعر بذنب أو ندم فكما تقول: غصب عنى
3- الأمومة :
“ز” لم تر طفلتيها من الزوج الثانى منذ أن كان عمر أكبرهما 4 سنوات و حتى الآن، وعند سؤالها لماذا؟ قالت أنهما فى السويس عند جدتهما (الأب متوفى الآن) ولا تستطيع الذهاب إليهما لبعد المسافة! ولكنها تذهب إلى إبنتها الكبرى المتزوجة، وإنطباعى أنا شخصيا مما أسمعه منها بعد كل زيارة لها أن الأدوار معكوسة، وأن “ز” هى الإبنة وابنتها هى الأم. اليوم عقدت لى – تلقائيا – مقارنة بينها وبين إبنتها وتحدثت عن مهارة البنت فى الأعمال المنزلية وقوة شخصيتها وصلابتها فى مواجهة المواقف برغم أنها مرهقة وفى شهرها الأخير من الحمل، وقالت أنها كانت تتمنى لو كانت مثل ابنتها، وسألتها ما الذى يمنعها؟ فقالت: هى اتربت تربية كويسة. سألتها إذا كانت تغار قليلا منها؟ فتحيرت ولم تجد إجابة، ولكنها استنتجت أنها غالبا لا تعرف شعور الغيرة بدليل أنها لم تغر أبدا على أزواجها..
العلاقة بالإبن (آخر سنة بالجامعة( مختلفة، فهو يزور أمه عندما تكون عند أخته . ويحكى لها “كل شىء” حسب تعبير المريضة وهى تشعر بالقلق عليه وبالحنان والإحتواء والصبر أثناء حكاياته” الصغيرة”، وتتعامل معه – وهذا غريب – بحكمة ونضج لم أعهدهما فى المريضة من قبل. أعتقد أنها تكون معه أما حقيقية بالرغم من أنها تتلهف دائما على زيارة إبنتها و ليس إبنها .
4- العلاقة بالزوج الحالى:
الحقيقة أنه رغم الحب والوفاء الظاهرين على هذا الزوج فأنا غير مرتاحة لهذه العلاقة. المريضة تقول دائما وتكرر أنها لا تحبه، وربما كان هذا عاديا، فقد تغيرت مشاعرها ناحية كل أزواجها. ولكنها تشعر وبعمق (ولا تمل من تكرار هذا) بأنه لا يحبها وأنه يريد السيطرة عليها. كما أن هذا الزوج يمثل الموضوع الأساسى لهلاوسها فهو يطعنها بسكين، ويرميها فى بئر عميق ..إلخ. وكالعادة هى تريد الطلاق منه وهو يرفض بشدة.
كان يمكن أن أفهم أن كل هذا متوقع فى إطار مرضها وشعورها الدائم بأن الناس لا تحبها رغم كل هذا التدليل. ولكن حدث فى يوم أن رأيت الزوج معها خارج المستشفى ولم يرنى لأنى كنت داخل سيارتى، وكان يحاول إيجاد سيارة مشروع، كان يكلمها بحدة (لم أسمع الحديث) ولكن ملامح وجهه كانت قاسية بها نفور و”قرف”، وصدقنى هذا النفور كان موجها ل “ز”، بينما هى كانت نظراتها زائغة وأشبه بنظرات طفلة تعبر الشارع مع أبيها وهى تسلم له قيادها. فى هذا اليوم بالمستشفى كانت نظراته لها أمامى كلها حب ..!
سألته أيضا ذات يوم عن سبب انفصاله عن زوجته الأولى، فأجاب أنها تعامله بندية وهو يكره ذلك وقد طلقها مرتين. وفى إحدى المرات أيضا “نسى نفسه” وهو يحدثنى فاحتدت لهجته وأخذ صورة الأب المتسلط لمدة لا تتجاوز الثانية ثم تمالك نفسه وأكمل حديثه بلهجة لطيفة …..فما رأيك فى هذا؟
5- العلاقة بالمعالجة ( أنا):
وجدتها مهمة إذ جد بها جديد هذا الإسبوع . فبعد أن أنهيت “تعاقدنا” معا بعد مرور عام كامل على إبرامه وتحويلها إلى زميلى، وبالرغم أننى أفهمتها أننى لست غاضبة ولا “زعلانة منها” كما تظن، ولكن هكذا تجرى الأمور بين الأشخاص الناضجة، من لا يَفِ بوعده يتحمل النتائج. وأنها يمكنها إستدراك الأمر إذا أرادت. خرجت إجازة مع زوجها، وساعدت فى الأعمال المنزلية كلها، بل وعندما ذهبت لزيارة ابنتها.
دخلت معها المطبخ لأول مرة فى حياتها وساعدتها مساعدة حقيقية. فطلبت منها أنها طالما تفضل البقاء فى المستشفى فى الوقت الحالى فيجب عليها أن تشاركنا فيما نفعل فى “النادى” أى علاج الوسط. وأن تساعد بقية المريضات فى إعداد موائد الوجبات الثلاثة (إمتعضت من الطلب الأخير ولكنها وعدت أن تحاول) وحضرت معنا اليوم فى النادى. ولكننى لم أدخلها فى الجروب (العلاج الجمعى) الجديد الذى بدأ الأربعاء الماضى آملة فى أن تخرج قريبا من المستشفى .
خروجها ظهر له أبعاد أخرى، فهى تكره بشدة الخروج مع الزوج، و تظن أن أبنها يمكنه أن يستقبلها فى شقته ويعولها بميراثه من أبيه…..ليس لدى أى معلومات عن هذا..
أطلت فى الرد ولذلك أعتقد أنه ليس من المناسب أن أكتب عن العلاج الجمعى ولا نظام التأهيل بالمستشفى اليوم. شكرا لإهتمامك.
* * * *
التعقيب:
هكذا نجد أنفسنا فى موقف رائع مُحْرج معلِّم.
القضايا التى أثيرت حتى الآن من خلال عرض حالة واحدة لها أبعادها المتعددة التى نتصور أننا –أطباء وغير أطباء- نعرف حقيقة أبعادها، هى قضايا عديدة، ومتنوعة، وهى تحرك -المفروض يعنى- فينا دفعا لإعادة النظر فيما نعرفه عن العلاقات البشرية حتى لا نكتفى بأن نطبق ما نعرف، ونحن لا ندرك مدى صدقه، أو فائدته، أو صلابة مصادره، كل ما أثارته الحالة حتى الآن يقول إن العلاقات البشرية ليست المباشرة ولا بهذه البساطة كما يشاع عنها.
أبدأ بالصديق رامى عادل من فرط غيظى، وقد أثبتُ تعقيبه مع أنه أبعد ما يكون عن تفاصيل هذه الحالة بوجه خاص، وأنا لا أعرف السبب الذى جعلنى أقبل ذلك، ولا حتى لماذا حرصت على الرد عليه هكذا:
تفتكر يا رامى كم طبيب نفسى فى مصر يمكن أن ينتقى من كلماتك هذه ما ينفعه وينفع مرضاه وينفع الناس، لا أوافق على كل التفاصيل، وإن كنت أبلغك أن حسبة الدواء هى من أصعب مهام الطبيب، ليس بمعنى دواء أم “لا دواء”، وإنما بمعنى توازن الجرعة مع مراحل العلاج والهدف منه ومع العلاجات الأخرى، وأذكرك أنه بقدر مهاجمتى لشركات الدواء فأنا أحترم الدواء نفسه بلا حدود، وبالنسبة لهذه الحالة التى لم تذكر عنها شيئا، هل يمكنك تصور علاجها أو أن د. أميمة كانت تستطيع إقامة أية علاقة علاجية بهذا العمق بدون مواكبة جرعة الدواء طول الوقت؟ ما علينا دعنى أدعوك لتكون معنا فيما بتعلق بالحالة.
ربما أردت بالبدء برامى أن أعرض عينة لرؤية أخرى، رامى صاحب خبرة شديدة الكثافة، وهى رؤية مخترقة مزعجة، وعلى الرغم من أن كلامه يبدو بعيدا عن الحالة، إلا أنه أرسله تعقيبا على الحالة، فأنتبه غيظا كما ذكرت، ورددت بما رددت (هل هناك مانع؟!!).
ثم أكمل:
المسائل التى أثارتها الحالة عديدة فعلا، ومن الصعب علىّ أن أعقب عليها كلا على حدة، فضلا عن ما تفضلت به د. أميمة من معلومات يمكن أن تغير المواقف، لهذا سوف أكتفى ببعض الإيضاحات والتداعيات التى خطرت لى على الوجه التالى:
بالنسبة للصديق الابن د. أسامة عرفة لست أدرى ما الذى جعل إشكالة التشخيص والتصنيف تغلب عليه هكذا، لينقلنا ما بين “الاكتئاب” إلى “الشخصية البينية” إلى “الفصام” مرورا بالاضطراب “ثنائى القطب” (الهوس)؟! أظن أن هذه النقلات برغم جوازها إلا أنها –فى نظرى- آخر ما يهم وسط هذا العرض التفصيلى والمشاكل الإمراضية (السيكوباثولوجية) المعقدة فعلاً.
حالة تثير فينا قضية وطبيعة هذا الجذب الغامض من الوجود، المتعلق بحيوية حركية الوجدان والجسد والعلاقات هكذا، ثم تنبه إلى غلبة الملل تفسيراً لهدم المؤسسات الاجتماعية (الزواج) الواحدة تلو الأخرى، ما فائدة التشخيص بالله عليك يا أسامة؟ أنا لست ضد تعليق لافتة تشخيصية، ولكن لتخدم أهداف أخرى، لكن أن يكون هذا هو همّنا، وموضوع نقاشنا هكذا، فلا أظن أن هذا ما يهمك.
أنا أعرف صبرك واهتمامك يا شيخ ، وأدعوك أن تمضى معنا واحدة واحدة بدءًا بقراءة كلام رامى الصعب الذى يبدو أنه غير مناسب للمقام. هل نجرؤ أن نعلق على كلام رامى لافتة من لافتاتك التشخيصية يا عم أسامة؟
ثم نأتى إلى لمحتك العابرة عن الإمراضية، وحكاية “الشراب المقلوب” التى أشرت إليها، فهو ما جعلنى أرجع إلى ما كتبته فى أواخر السبعينيات ونشر بعضه فى كتابى “دراسة فى السيكوباثولوجى” ص 450 & 481 وما حولهما، ودعنى أقتطف –شاكر لك- بضعة سطور عن ما أسميته آنذاك: “اضطراب الشخصية الدال على نموٍّ معكوس” :
“أن مثل هذا الشخص تختلف تفاعلاته الوجدانية بحيث لاتسير على النمط المألوف الشائع”
…….
- “أن مثل هذا الشخص قد يتمتع بجاذبية طفلية خاصة فى مجال العلاقات العاطفية والجنسية مما يجعله ناجحا نجاحا خاصا فى هذه المجالات (وإن كان مؤقتا فى العادة).”
…….
- “أن مثل هذا الشخص قد يعرف عنه – إن صدقا وإن باطلا – أنه يتمتع بقوة غامضة أو تأثير خاص لا يخضع للحسابات العادية أو لحقائق العلم المألوفة”
…….
- “وهذا الأمر كما أشرت سابقا يمكن أن يرتبط ببعض القوى البدائية التى تختفى عادة فى النمو العادى، أما فى النمو المعكوس فقد تحتاج إلى بحث علمى متأن قبل التسرع برفضها.” (ص:481)
…….
“تذييل:
هناك نوع ‘خاص” من الشخصيات يمكن أن نطلق عليها اسم ‘الشخصية الخاصة “special personality التى يبدو نموها وكأنه نمو منعكس لغلبة مظاهر محتوى اللاشعور فى الوساد الشعورى الظاهر، ولغرابة موقفها من الحياة واختلاف تفاعلاتها الفكرية والوجدانية …” (ص: 483)
…….
“ولن أطيل فى وصف هذه الشخصيات ‘الخاصة” (المبدعة أو المتصوفة فى العادة) لأنه من الصعب مرحليا أن تقع تحت طائلة الدراسة العلمية”
“أما ما يظهر على السطح من غرابة ورهبة يستشعرها الآخرون تجاهه، وماله من تأثير خاص يحدثه فيهم … الخ” (ص: 484)
…….
أما تصوير ذلك شعراً يا أسامة، فإليك بعض العينات:
“لما عشت الوحدة والهجر
أغرانى الطفل الهارب بالغوص إلى جوف الكهف
وتهاوى القارب فى بحر الظلمة” (ص:491)
“فطفقت أجمع قوة أجدادى
من بين خلاياى
حتى أخرج وسط البحر المتلاطم بالكتل البشرية
حتى أجد طريقى الصعب”(ص:493)
“وتعجلت اللذة”
“فكما اغتلتم أمسى ألغيت غدى”(ص:499)
“واللذة عندى تعنى كل وجودى
هذا قانون الأجداد
تلتصق بنصف آخر تبقى“(ص:500)
”وكلامكمو المعسول عن العذرية
وعن الحب الأسمى
وهو يخفى ردتكم للحيوان الأعمى”(ص501)
“أين الحب المزعوم، إذا لم ينقذ روحى طفلا”
“لا .. لا .. لا … حسبكمو
فلأرو خلايا جسدى بالجنس
وتقولون الحيوان تلمظ
وأقول نعم
فوجودى يعنى امرأة ترغبنى
أو حتى رجل يلصق بى”(ص502)
“لاتنزعجوا
فخلايا جسدى تعرف لغة الحس
…….
لكن .. لكن
…….
…….
وجنابكمو …. أهملتم حسى وكيانى”(ص:503)
“قد أنجح أن أبقى
أن يدفع قلبى الدم
أن تطحن أمعائى ما يلقى فيها
أو يقذف جسدى اللذه“(ص506)
…….
“لكن أن أحيا إنسان؟
هذا شئ آخر
لايصنعه العدوان أو القسوة
لا يصنعه الهرب أو اللذة”
‘لكن يبنيه الحب ‘النبض” الرؤية
الألم .. الفعل .. اليقظة
الناس الحلوة”
“من لى بالحب!
أين الناس؟”
الصديق يوسف عزب يا أسامة ينبهنا أنه ما دام معظمنا (الأطباء والمعالجين) لا نحذق العوم، فلماذا الدعوة إلى أن نغامر فندخل الفخ، (راجع رؤية رامى)؟ فليكن –اقتراح يوسف- المعروض على غالبية الممارسين هو أن يكتفوا، بـ:”تعليق اللافتات” التشخيصية، وهو يقول أن هذا أرحم، ولست أعرف: أرحم من ماذا؟
أنت لا ينطبق عليك ذلك يا أسامة
ثم إن يوسف حين انتقل إلى فحص جاذبية هذه السيدة (غير المفهومة) اعتبرها “ناتجة” –احتمالا- عن الطفولة والجنس والجسارة، وأنا لم أقل ذلك، وإنما كان تعبيرى هو “أن ثَم نوعا من الجنون يشع منه هذا الجذب الخاص، يكون خليطا من الطفولة والجنس والجسارة”، فهو ليس “جنونا” يا يوسف بالضرورة، بل لعله الأصل الحيوى فى التواجد البشرى، وهو لا يكون جنونا إلا إذا انفصل عن بقية التكامل الواعى المسئول، أو إذا توقف صاحبه عنده على حساب كل ما عداه.
هذا الموضوع بالذات هو شديد الأهمية فعلا يا يوسف كما ذكرت، وكما طلبت، وهو ليس له علاقة بقولك “ألم —— الحياة كلها على ما هو جذب هائل”:هو موضوع يحتاج فعلا إلى بحث وتأمل وصبر ورجعة إلى التاريخ وسماح وجسارة معرفية وربما خبرة مغامرة، وقد أشرت فى ردى على د. أميمة أنه موجود عبر التاريخ، وفى الممارسة الواعية، وأثناء العلاج المكثف، فقولك هنا أن هذه المنطقة تحتاج إلى عمل وجهد لسبر غورها لاحتمالية إرشادنا لأبعاد غائرة داخل النفس، هو قول سديد ومهم، ولعل الصديقة أمل محمود قد بدات هذه المحاولة بإسهاب جيد.
أشكرك أنك قد أتحت لى فرصة توضيح قصدى حين استعلمت تعبير “هناك نوع خاص من الجنون” فلعل ذلك قد أوحى لك أن هذا الجذب الخاص الخليط من (وليس الناتج عن) الجنس والطفولة والجسارة هو جنون بمعنى المرض بشكل أساسى، أو بشكل غالب، لعلك تعرف أننى استعمل لفظ الجنون استعمالات متعددة، وأنا لم أكن أعنى بالجنون هنا معنى المرض، وإنما كنت أشير إلى: الندرة والتعرى والاقتحام والطزاجة والحيوية،
يا ترى هل زدت الأمر وضوحا أم تعقيدا.
هذا الذى كنت أعنيه أظنه قد قد وصل إلى الصديقة أمل محمود التى أقرت فى أول مداخلتها كيف أنها فرحت بهذا الوصف الدقيق لدرجة يمكن أن تسهم فيما طلبتَهُ يا يوسف من حيث أنه يمكن من خلاله “إرشادنا لأبعاد غائرة فى النفس”، ولكنها لم تصفق لهذه الجاذبية فى ذاتها أو ترحب بها منفصلة، لأنها بعد استعراضها الدقيق لتاريخ تواجد هذا النوع من الوجود الحيوى عبر المسيرة البشرية، بينت كيف أن هذا النوع من الوجود الأصل راح يختفى وراء أشكال من القهر والاغتراب، وبالتالى يصبح إذا ظهر – حتى بالجنون– “عملة نادرة” كما فى حالتنا هذه، وهى عملة تجذب الرجل تلو الآخر (والمرأة أيضا كما نبهتنا)، لكن يبدو أنها انتبهت –فنبهتنا- قرب نهاية تعقيبها أو دراستها إلى أنه هكذا “وحده” لا يكفى، فهو ليس بديلا ولا حلا فى ذاته، وإنما المعضلة الكبرى هى – ربما كما وصلك فأوصيت بهذا الجهد الهائل لسبر غور هذه المنطقة – هى فى كيفية الحفاظ على هذه المنطقة الرائعة مع تواصل نمونا ومسئوليتنا وصدقنا.
أ. أمل تنبه إلى أن د. أميمة شعرت بمخاطر هذا النوع من الحب حين تعوزه المسئولية، فأدركت أنها (أميمة) وقعت فى ذلك الفخ الذى نبهت “أمل” أنه لا يقع فيه الطبيب المعالج فحسب، بل الجميع من النساء والرجال، لأن هذا الحضور له بريق ورائحة تجذب إليها الناس جميعها، وهى تعزو ظهور هذا النوع منفصلاً إلى ان هذه السيدة (ز) لم تحظ مثل أغلبنا بحب مسئول متوازن ومتناغم يجمع بين الطفولة والجنس والجسارة والمسئولية، وأن كل من تعامل معها تعامل مع الجانب القديم (الطفولة والجنس والجسارة) دون المسئولية.
أوافقك يا يوسف وأوافقها أن “تلك هى المسألة الصعبة“، حتى أننى فى قصيدتى الأم عن “الطفل العملاق الطيب” اسميتها تحديداً بهذا الاسم “تلك هى المسألة الصعبة“، أذكر أن هذا ما جاء نصا فى قصيدتى القديمة :
لن ينجوَ أحدٌ من طوفان الحرمانْ،
إلا من حلّ المسألةَ الصعبةْ:
أن نعطىَ للطفل الحكمةََ والنضجْ،
دون مساسٍ بطهارته، ببراءته، بحلاوة صدقه،
أن نصبح ناسا بسطاءْ، فى قوة،
أن نشرب من لبن النشوة سر القُدْره،
كى نُهلك – حبا- غول الشر المتحفز
….
بالإنسان الطيب”
….
وحين حاولت حل تلك “المسألة الصعبة” شعرا، ضاقت العبارة، ولم أستطع، فرحت أتساءل:
…..
“هل يمكنْ؟؟
هل يمكن أن نطلقَ قيدَ الطفل بلا خوفٍ وبلا مطمعْ
أن يعرف أنا لا نرجو منه شيئا..
إلا أن يصبح أسعدٍ منا
ألا يُخدعْ
فلكم قاسينا من فرط الحرمان.. وفرط القوة،
ولكم طحنتنا الأيام،
والأعمى منا يحسب أنا نطويها طيّا،
سأقول لكم “كيف” :
كيف “يكون” الإنسان الحر،
يترعرع فى أمن الخير
ينمو فى رحم الحب
…
حب لا يسألُ كم… أو كيف…
أو حتى منْ؟
حبّ يقبل خطئِى قبل نجاحى
حب يقظٌ يمنعنى أن أتمادى
يسمحُُ لى أن أتراجعْ
حب الأصْل،
لا حب المظهر والمكسب وبريقُ الصنعهْ،
حبٌّ يبنى شيئاً آخرّ غير هياكل بشريةْ،
تمشى فى غير هدى،
….
….
إن إنطلاق هذه الجاذبية دون مسئولية، كما أشارت الصديقة أمل، هو التحدى الذى يذكرنا بالجهد الذى علينا أن نبذله لحل هذه المسألة الصعبة، لقد صورت هذا الانطلاق دون مسئولية هكذا:
….
فانطلق يلوّح بالرايةْ،
وكأنه داعى الحرية
يهرب من عبءِ القُدرة
تحت ستار بريقِ الثورة…،
ثم يحطّم ذاته، إذ تغريه اللّعبة:
أن يتمرغَ فى نهر اللذة
هربا من ألم الوحدة
يمحو الدنيا فى اللاشيء
والهرب الخدْر يزين دوراً آخر،
والدور الآخر يتلوه دور آخرْ:
نقضى من فرط اللذة
نمضى من مهد الجنس الى لحد الجسد الفانى
تتلاحق تلك الصورُُ أمامى، تتبادلْ:
الطفل العابث يرفض أن يتشكل
والزيف القاهر يترقب
وخيارٌ صعبْ!
…………
يتضاءل ذاك الحل الأمثل
“أن نصنع من قهر الأمسِ – اليومَ – الإنسانُ الأكمل”
ويصيح السادة من أعلى المسرح:
إعقلْ يا سّيد!
قد أَصْبَح حُلْماً وهْماَ
فكفى هرباً كذباَ….
تعقيب على المعلومات الجديدة
كل هذه التعقيبات والمقتطفات التى خطرت لى قبل أن تصلنى المعلومات الجديدة من د. أميمة،
فدعونا فيما يلى نقدم بعض الإضافات والمراجعات :
ولكن قبل أن أقدم بعض ذلك أود الاعتراف بأن فرحتى لم تأت من المحتوى، وإنما من تطورات المنهج عبر هذه “النشرة اليومية، أتصور أن ما حدث هو شديد الأهمية منهجيا لما يلى:
1) إن تكوين فرض ما، مسموح به بأقل قدر من المعلومات طالما الفرض هو فرض لا أكثر ولا أقل.
2) إن الجدية فى الحصول على معلومات جديدة، تضيف إلى المعلومات القديمة، يدل على شجاعة وأمانة ضروريتين للمعرفة والبحث.
3) إن الحركة المستمرة فى اتجاه “اتساع المعرفة” أهم من “البهجة الظاهرة” المترتبة على تراكم المعلومات.
4) إن المعرفة لا تنتهى.
أتصور أيضا أن من تفضل بالإسهام فى المشاركة ممن ذكرنا حالا، أو سوف يشارك لاحقا، لديه فرصة حقيقية يمكن أن يراجع نفسه من خلالها، فيقول لنا ماذا تعدل من موقفه كما نوصى د. أميمة أن تفعل ذلك أيضا،
لأبدأ بنفسى لنرى.
أولا: إذا صح أن هذه الجاذبية هى نوع من الوجود الخاص (بدلا من تعبيرى السابق: الجنون الخاص) الذى هو مزيج من “الطفولة والجنس والجسارة”، فإن هذا المزيج لا ينفصل بعضه عن بعض، فلا هو طفولة بمعنى البراءة، ولا هو جنس بمعنى الشبق والممارسة، ولا هو جسارة بمعنى الاقتحام اللامبالى، وبالتالى فإن ذكر الجنس هنا – بمناسبة المعلومات الجديدة التى وصلتنا عن الجنس عند المريضة، لا يعنى نجاح العملية الجنسية أو لذتها أو كفاءتها فى ذاتها، بل لقد ثبت عكس ذلك تقريبا (وهذه ليست قاعدة)
هذه السيدة ينجذب إليها هؤلاء الرجال الأزواج، الواحد تلو الآخر، من خلال هذا المزيج المختلط بالجنس الذى قد يظهر على السطح، ربما لأنهم يفتقدونه فى زوجاتهم، وقد يكونون أنجح من الناحية المكيانيكية اللذية مع زوجاتهن، لكن بدون هذا الجذب،
المهم أن هذا الجذب فى ذاته ليس دليلا على أنه جاذبية “جنس الممارسة” لكنه جنس الحياة التى قد تفرز حبا قد يكتمل بالممارسة المتكاملة، وقد يموت بالممارسة المغتربة (هل يا ترى يصالحنا هذا على فهم ماذا كان يقصد فرويد بالجنس؟!)
هذه السيدة –كما قالت د.أميمة مؤخراً- لم تشعر بإنجذاب جنسى قبل الزواج لأىَّ من أزواجها، ومع ذلك هى جذبتهم، وحين مضت تختبر ما يمكن أن يكون منهم بعد الانجذاب، ركزوا هم على جانب الجنس اللّذى المنفصل، فلم تجد عندهم ما يتجاوب مع ما عرضتْهُ عليهم،
نستطيع أن نوسع الفرض هنا قائلين:
إن الجذب بهذا الحس الجنسى ليس ضمانا لنجاح الممارسة الجنسية، وهو ليس مشروطا بالممارسة الجنسية،
هذه القضية هى من أصعب القضايا على الرجال خاصة.
الزواج تلو الزواج، ربما تم فى هذه الحالة نتيجة لجاذبية هذا المزيج الخاص، الأرجح أن التقارب الذى يسمى حبا فى هذه الحالة أحيانا، كان يغلفه أمل ما فى أن يكون الرجل الجديد “أكثر صبرا”، (كما قالت المريضة لطبيتها مؤخرا) فيرى هذا القادم أن ما جذبه ليس جنسا خالصا، بل نبض حيوية الوجود، هو “مزيج من الجنس والطفولة والجسارة”، وهو مزيج لا يمكن فصل مكوناته أحدها عن الآخر، وحين لم تجد المريضة ما يتجاوب مع حيويتها الحاضرة متكاملة، أحبطت، وأحبطت، وأحبطت، فراحت ترفض، لكنها تنتظر، وتنتظر، فيتراكم ما يكون الملل، ثم الانفصال.
تبرير المريضة أنها لا تستطيع أن تمارس الجنس لأن كل الناس “حاتبقى عارفة أنا باعمل إيه” ليس عرضا مرضيا بمعنى أنها تتخيل أنها مُراقبة أو عارية أمام أغراب، وإنما هو إعلان عن أن المجتمع، الذى اعتبر حيويتها فى ذاتها إثما، قد حضر رقيب –بلغة المرض- ليمنع مانع أن تكمل مشوارها بسلاسة (إن وجد من يشارك ويستحق).
إذن فهى لا تقصد “شوفان” الآخرين لها أثناء العملية الجنسية “شايفينها مع جوزها”، وإنما نقصد شوفانهم فقط “عارفين”، وصلنى من ذلك انها تعنى “عارفين أنها مختلفة، وأنها جاذبة، وأنها حية”، فالناس (المجتمع/القهر/ التقاليد) لا ترفض فحسب العملية الجنسية من منطق الحلال والحرام، و الإلتزام الخلقى، وإنما هى ترفض أكثر هذه الطبيعة العارية الجاذبة، وبالتالى فإنها إذا ظهرت عفوا أو جنونا، مثلما حدث عند المريضة، فإن هذا الرفض يصلها من خلال هذه المراقبة النامية، ليجهض مسارها،
الجنون قادر على أن يحافظ على جذب البدايات لا أكثر.
أما عدم شعورها بالغيرة، لا من الزوجات السابقات، ولا بعد زواجها فهذا له دلالة خاصة، ربما لم تعمل علاقة أصلاً، حتى تشعر بالغيرة الطبيعية.
أما البعد الأخلاقى فى هذه الحالة فهو غريب ،شديد الأهمية أيضا، وهو مختلط بالبعد الدينى، فمن ناحية هى لم تمارس الخطيئة، ومن ناحية أخرى فإنها لم تر أن من انجذب إليها حاول ذلك “كانوا على خلق وعارفين ربنا”، بما فى ذلك الطبيب القاسى المقامر، هذا يشير إلى فتح معرفى آخر حين ينبهنا ألا نتوقف عند المستوى الأخلاقى الاستقطابى المسطح، إن الزوجين الثانى والثالث وقد ترك كل منهما زوجته بل وأسرته من أجل امرأة لم تقبل جسد أى منهم، ثم إنها هى التى أنهت العلاقة تلو الأخرى بسبب “الملل“.
ما معنى الملل هنا؟
هو “تراكم الانتظار” بلا نهاية
مإذا كانت تنتظر المريضة؟
كانت تنتظر أن تكمتل خطوات الطبيعة، إذْ ماذا بعد هذا الجذب القوى الغامض إلا أن نحيا كما خلقنا، لكنها لم تجد من الواحد تلو الآخر ما يكمل ذلك، كل منهم لم ينتبه إلا إلى القشدة فوق السطح، فجعلتها هى مُرّة أو غير متاحة بشكل أو بآخر، ولكن ذلك لم يمنعها أن تنتظر حتى غلبها الملل، ومن ثم الرفض، والانفصال، ثم الجنون والتهديد بالتخلص من الحياة.
وأخيراً، أنا لم أفهم موقف د. أميمة فى حكمها على زوجها الحالى، بنفس القدرالذى لم أفهم فيه موقفه هو، ولم أستطع أن أوافق على أحكام د. أميمة والتقاطها تسلطه فى أقل من ثانية، هكذا وهى فى السيارة أليس من الجائز أنه نفورها (نفور د. أميمة) منه وليس تسلط الزوج أو نفوره من “ز”.
أما موقف المريضة من الدين –حسب المعلومات الجديدة- فالأرجح عندى أن وصفها لأزواجها (على ما بينهم من اختلاف) أنهم “يعرفوا ربنا”، ولهذا لم يتجاوزوا الحدود معها قبل الزواج، وفضلوا (أو ربما اضطروا) أن يتزوجوها، هو بعد دينى أخلاقى خاص بالمريضة، وهو بعد جيد،
أما ذلك الصوت الذى يأمرها ألا تصلى فتستجيب، ثم هى لا تشعر بالذنب أنها استجابت له (مع أن التفسير المباشر هو أنه أبليس اللعين) فقد يؤكد أنه ليس بالضرورة صوت أبليس، وإنما هو صوت “عزازيل” الراهب “هيبا” (يوسف زيدان)، هذا الصوت يرفض الصلاة التى هى ليست صلاة، ولكنه لا يرفض الصلاة التى قد تصل إلى أن تكون جزءً لا يتجزأ من المزيج (الوجود الخاص) الذى نتكلم عنه.
هذا، وقد وصلنى من المعلومات الجديدة أن الذات الوالدية (الأم) لدى هذه المريضة هى نشطة وقادرة وحاضرة عندها، بعكس ما وصلنى فى البداية، سواء كانت ابنة ابنتها، أو أما لابنها، فالأمومة الحقيقية، فى عمق معين، هى عملية متبادلة طول الوقت دون أن نشعر.
أما العلاقة بالمعالجة فهى لا تحتاج إلى مزيد مما قالته المعالجة، وقد نلمح إليها (يوم الأحد القادم) ونحن نعلق على نشاط المعالجة فى مجتمع العلاج كما أبلغتنا إياه، ليس بالنسبة لهذه المريضة، وإنما بصفة عامة.