نشرت فى الدستور
9-8-2006
استحالة الممكن، وحتمية المستحيل
المسألة أننى شاركت فى مرارة الحزن الجارى, لكننى خشيت احتمال أن نتوقف عنده، وامتلأت بتحرك الغضب العارم فخفت أن نكتفى به، كما عشت تعرية الحكام، وحراك الناس، ودموع الأطفال على جثث الأطفال، وصرخات اللوعة على تشرد الأسر، فتساءلت: هل هذا هو كل المطلوب ؟ جاءت الإجابة بالنفى على كل ذلك. فذهبت إلى الجانب الآخر، وتصورت أننا نحتاج إلى فرحة تتفجر من الحزن، وإلى هدوء فاعل مخترق مثابر يمتد من الغضب، وإلى تاريخ نصنعه “هنا والآن” يكون مبررا للانتماء لتاريخنا الحقيقى والمزعوم.
حين غمرنى الحزن مرا علقما، خطر ببالى أن ألغى حـفلا يقيمه مرضاى وأبنائى وبناتى–تلاميذا ورحِـما- فى أغسطس من كل عام، ألغيه أسوة بإلغاء مهرجان الفنون الشعبية فى الاسماعيلية مثلا، لكننى عدلت. خفت أن يصل مرضاى عكس ما نمارسه معا طول العام، نحن نمارس معا ما نتصور أننا نحمد به ربنا أنْ “أحْيانَا بعد أن أماتنا وإليه النشور”، تذكرت أن لبنان هو البلد العربى الوحيد – كما أعرفه منذ زرته طالبا كشّافا فى 1954- الذى يعرف كيف “يعيش” بكل صعوباته، وفرقه، واختلافاته، ورقصه، وغنائه، ونشره، وتجارته، وحروبه الأهلية والوطنية، وحرياته، وفرقه، ثم انتبهت إلى أنه البلد العربى الأول الذى يعرف أيضا كيف يموت أبناؤه – بدءا بهادى حسن نصر الله- ليحرر أرضه، تذكرت ما أكرره مع مرضاى: “إن الذى يعرف كيف يعيش، هو الذى يعرف لماذا وكيف ولمن يموت“، عدلت عن الإلغاء، وشاركت مرضاى الحفل.
يعلمنا الخيام أن نشرب كأس الحياة حتى نتجرع كأس الموت بشجاعة، ينصحنا أن نحيا بصدق : “ما شدَا طيرٌ بتيجان الرُّبَى، فإذا ساقى المنايا أوجَبَا، شربةً غصَّت ومرّتْ مطْعما، فاحْسُ جلْـدًا خمرةَ الموتِ الزؤام”. كيف نحسو خمر الموت جلْدا؟ فهمتُها أخيرا وأنا أشاهد تلك الصرامة الرائعة، والتصميم المُشرق، التى يرفع بهما شباب لبنان ورجاله ونساءه جثث وأشلاء ذويهم. يا لتلك الآلام التى يتخلق منها بشر حقيقيون. هكذا يتخلق المستحيل من الممكن.
احتمال أن يرجع أى منا “كما كان” قبل الأحداث، هو الذى ينبغى أن نرفضه حتى الاستحالة ، إلا إذا كنا نسعى إلى مزيد من المهانة، والمذلة، والسلبية، والغش، والتخلف: لا يمكن أن يعود لون الشجر، ولا طعم العنب، ولا مناهج التعليم، ولا زيف العلم، ولا اغتراب الوعى، كما كانوا قبل ذلك، وإلا ..فنحن نستأهل كل ما يجرى لنا ، بما فى ذلك أن يشكلونا شرقا أوسطا “توصيل المنازل”.
إعلان أن حرب أكتوبر كانت آخر الحروب كان أقبح ما حام حول كامب ديفيد، شروطى –شخصيا- لقبول تلك المعاهدة – وقد قبلتها فـرِحا بأرضى- كانت أن تُسرح كل جيوشنا، مقابل أن يُعـَد كل الناس – فورا ودائما- ليكونوا رجال مقاومة طول العمر طول الدهر، فتكون حرب اكتوبر هى بداية كل الحروب الحقيقية الدائمة، مَنْ أنا حتى أُملى شروطى؟ فأمْلاها حسن نصر الله ورجاله ، فصار المستحيل حتما ماثلا رأى العين.
أما ما أوهمونا أنه مستحيل فهو أن نكون شركاء فى تكوين عالمنا الكونى الجديد، مع أنه حتم جارى تجهيزه فعلا بالتنوع الخلاق والتواصل الضامّ، هكذا:
- سوف تسقط كل الحكومات الأصولية والاستهلاكية الترفيهية
- سوف تتعملق زيفا وكراهية كل الشركات الحاكمة العملاقة، فتتفجر الكروشوالعروش.
- سوف تختفى السلطات الدينية اللاهوتية التى حالت بين الناس وربهم
- سوف يتراجع الإرهاب حين يكتشف الشباب أن ثـَـمَّ َطريقا أكرم وأروع يحسو من كأسه “خمرة الموت الزؤام”.
- سوف يتولد شعرٌ “يعطى للألفاظ معانيها“، لا يحل محل الواقع تحريضا خائبا، أو بديلا متناثرا
- سوف يحضر ربنا فى وعينا كلنا “هنا والآن”، فيذوب وقود الكراهية والتحريض الذى يملأ مواقع “النت” بتشنجات كل الأموات الذين يحسبون أنفسهم أحياء حين لا يرون الحق إلا فيما يعتقدون.
- سوف يتواصل البشر من وراء الحكومات والشركات، لتتراكم نبضات الفرح، والحزن، والغضب، والفعل، والمعنى، والكل، واللاشِرك، فنصنع لهم ولنا ومعهم العالم الغربي الجديد، فالعالم الشرقى الجديد، فالعالم الشمالى الجديد، فالعالم الجنوبى الجديد، فيتخلق من كل ذلك: العالم الكونى الحقيقى.
لقد بدأ العد التنازلى فعلا وناس العالم تتواصل مباشرة من خلف ظهورهم بتخليق أمريكا الجنوبية الجديدة، أوربا الحقيقية الجديدة، نقاد ومبدعو الولايات المتحدة الجدد. هذا كله هو ما ينبغى أن نستقبله من “معنى ما يفعله نصر الله ورجاله وبلده على الأرض وسط الدم والأشلاء، ولتستمر الحروب بكل لغة فى كل مجال، الحروب التى يستحيل أن تكون آخر الحروب ما دام الناس يسعون لإحقاق الحق.
(يا لخجلى وأنا أكتب هذا الكلام جالسا على مكتبى هكذا!! سامحونى) .