مناجاة للذات الابداعية
فاطمة مدكور
ولو للحظة واحدة:
أود أن أستحضرك يا أيتها النسيلة الروحية. لقد صدأت لغتى وتحجرت. لا أريد أن أغوص فى ذاتى… ذلك المحيط المعتم.
لا أريد أن أجمع كل أسلحتى المرهقة بحثا عنك.
تعالى فأنت قريبة منى. وأنا مشغوفة بك، أن تحلى بكياني، وتستيقظى فيه.
هل طال بك النوم والاستكانة؟ أهالك هذا الخضم الصاخب فى البحث عنك؟!
أم أنت هو- تلتحمين به؟ هل حقا ستطير بى اللحظات وأعلق فى الفراغ فى زهو؟! وكأنك كنت تفتقدين؟! هل أنا التى افتقدك أم أن كلامنا فقد الآخر؟، وقد غلبتنا زحمة الحلبة المتصدعة؟ أنت أمى! أم أنت ابنتى! أم أنا قلبك! أم أنا أنت! أم أنت حبى؟! يالها من عذابات وقت انكماشك عنى. يالها من حياة الموتى بدونك.
كم كان زماننا طويلا بطول الحياة وقد اقتضب فى لحظة مفاجئة!
كم كان عظيما: عظيما وكم سيكون أعظم، بعد انتظارى الرهيب.. تلك اللحظات التاريخية.. فى عمق الضمير تلك اللحظات التى سنلتقى فيها معا.. يا رعشة البعث المرة الطائرة فى ضحكتك البريئة النقية..
****
فيض طويل لامتداد سماء الذات عبر عديد من الآفاق الدائرية. تلك الدماء الحمراء.. تسيل ورودا تشرئب… لتنقى عكرا قادما عليها! مليون يد ومليون يد كألسنة عصافير ملونة نسجت من لغة النغم… كم كان كلامى نحيبا جافا!! أنى عندما أدركت الكلام تنهدت أحبال حنجرتى مسترخية وسمعت من نفس ماكان يسمى بالغناء.. قلت لأتحدث.. فغنائى صاعد وهابط، وبين كفوفى ترتعش الحياة وأقفز فيها وأسبح – قفى يا قدمى!!, أصابعى سترقص متزنة بثقلي، وقد أحسسته! أنه نغمة مازالت تطير – مازالت تطير.
فيض طويل لامتداد سماء الذات، مندفع كالغضب الصامت، لا يمسع غير ترديد خطوه اللاخث.. فيض طويل الامتداد الحياة… لامتداد سماء الحس واللمس.. يصل التجاويف المجسمة – فقضاء أضواء خاطفة ولا معنى يدى عندما تمتد، يشدها فضولى فترتد لتصطدم بفقرات عظام ظهرى.
إنى محدود. إنى محدود بمادتي، رغم أنى أملك ما يفوق مليون مرة مادتي، ولا يتعدى أفقه خلاياها، عندما تكون الذرة المتناهية الصغر عالما لا يسعه عقل مخلوق، وهو فاقد حسه، فإنه مازال لا يراها، عيونه تحجرت. فإنى رغم ما أملك ما يفوق مليون مرة مادتى مازلت أضيق بها حجما، فإن هناك فلكا يشدنى…!!
الحقيقة الدائبة… الحقيقة المتنحية
مدخل مازال يخط فيه.. فوقه ضوء ولا يحيد عنه، لأن الحقيقة تقرر نفسها. الآن يوجد كائن راق يبحث فى وعيه عن أشياء لابد أن يتحدث عنها لا يعنيه الآخرون – يعنيه أنه تحدث عنها بصدق وبدقة.. فهذا يعنى له راحة أبدية، ومتعة ذاتية فى تشييد بناء جديد، خاماته محفوظة بعمر الزمن. أنه يلتقطها وينقحها.. راحة أبدية كالموت إن كان رائعا.. ربما كسر الحياة، سيجعله يكمن فى روحه ويصعد به مع كل من أحبوه، حتى قبل أن يلتقوا به، فهو إنسان يحاول أن يملك حق ما كان مضللا عنه، وسببا فى تيه عذابه وبحر شروده.. ولا يعنينى ماذا تكون كلماتى عنه أو عني، معقدة، بسيطة، أنها ما أريد قوله ببساطة، وبكل تأكيد أتكلم ببساطة. وبالنسبة له فأنا أنتظر ككل القلائل مثلى فهو يمهد لمدخل أعلم أنه سيتحقق منذ أن صعدت فوق نفسى من وقت مضى.
إن طيرانا ثقيلا: اتجاهاته كثيرة، لكن نهاياته كجدران ملتهبة تحرق وجه طفل وليد، أطواره طبيعية، ولذلك لم تصبح صرخته الأولى شيئا يثير الدهشة.
أن نفسى تبكى ناعية حبها وسعادة باهته تهب كالروح الثقيلة تحاول تجفيف نزف الدمع.
إن بلورات الأمل المغلقة التى كانت فى لحظة معلقة بين حباب عرق الوجه الساخن، ونامية فى أهداب عيون مداها إلى ما لا نهاية، خلف نفاذ صور الأشياء والأجسام والوهم التى كانت؟! التى كانت؟!! مؤسف أن تقول هذا.. أنه مازال…
إن غباء لم يكن منتظرا اكتسب حتى حلاوة القبلة، وأصبحت كنفاية حالة قاتلة.
إن سعادة باهتة تهب كالروح الثقيلة. وهذا كل الأمر.. والذى هو مزعج ورهيب أننا نعرف ونعى تماما أن الحقيقة لم تزل بعيدة. لا تستطيع أن تطرح ابتسامة بسيطة، وأنها لم تقترب فى الوقت التى هى أقرب إلينا من شهيق الرئة داخل الصدر..
ويطل النزيف منتصبا كقامة عملاق يقف فى نهاية كل منفذ…
أراك داخل نفسى:
تبدين كالسيقان الرشيقة.. شفافة تهامس أناملها بقع مفصلة محددة فوق كل درج صاعد جسمائى. سيقان آتية من خلف غيمة ثقيلة. تبدين كالنائمة فى عالم يعدك من صحوته بل شبعة به، ماذا وعيونى تتبعك؟!!.. فى ومضة أجدك كالسهام المضيئة تعبرين غيبيات ومدارك تبثين فيها صخب الصحو.. ستتقدم هذه الأصابع الماثلة لعينيك لكى تحتضن ضوءك.. ترضع منك حبك.. تقوله بين طيات سابحة بعالمها الكامل،… فهل ستكونين مستعدة؟ هل ستعطين؟ أم سيمكنك العطاء الذى ستواجهين به.. أخصك كما تخصيننى.. أخصك كما سأخصك وستخصينى… أنى آت بانكبابى الذى لا يرحم… بثقاب نظرى اللامنتهى سأحرق نهاياتك خلف ردائك ليخبو ظاهرك طاويا نسيجه، فتبدين بين سراديب خطوة تلو خطوة، تفتحين بهيلاميتك موصداته، شمعة تضيئين الحب، والأزل آت بزفافه، مهرولا عبر أزمان عريقة بدمائى.. وأمامى سيمتثل حديثك فى حديثه فى حديثها فى أحاديثكم فى حديثى…!! فى المسارات السريعة البارقة تنتقلين بك وبى وبالوجود فى سمع كل آت وباق، وسلالات ترتقب منتشرة فى زحفها الصاخب بوجوه لا تلمس وكلام لا يعاد ونظرات لا ترى.
منذ متى تعرفين لقائى بك؟! وقد نام عنى الزمن.. توارينني، تتغزلين فى ذاتك فتورثيننى الانتظار… سأمنحك قبلاتى ودفئى وبساتينى الخضراء يا رائعة بثمارى.. أبزغى فى توك من ثوب الظلام فسأراقصك.. فلامسى يدى.., فسنبدأ الرقص بلا توقف، يا عاشقة طيورى الرقيقة الرقيقة. فى انفتاح كالحلم.. دوائر دوائر دوائر ضوئية.. تداخلت أطيافك فى انسيابات كالنور الفضى… أعدادك غيرمعروفة.. فمساحات عظيمة منك لها من أطيافها أرضية تحملها فى هدوء حركة.. عالية عالية كسماء نفذت من شق بصدرى.. تصاحبك منى عيون وعيون ومروعة بالجلا.. أحاطتنى من جوانحى فصعدت طافية… يحادثنى لمعانك الهاديء كضوء فجر، وأن الفجر لينتظرك…
إن رحلتك بدأت.. وقد ذاب حولك غطاء الظلمات الثقيل، قد هبط هبط.., وقد أرى أو لا أرى… تطوف برأسى رؤى أقدام نورانية كذيول طيور بلا وصف، سابحة، تبدو من نهاياتها.. وصعود له موسيقى تحس.. ترتد أصواتها فى ذاتها تحقق الفكرة فلا تسمع… أيا تلك الأكوان البعيدة المتصلة بنا من وراء الأسرار المختبئة.. أيا هذا الواعى الغامض المتحرك من غفوة ثقيلة عامرة بالأزمان.. أبزغ من جدرانك تتسع بينها المسافات.., لاحق الفجر السابح، وأجهز على غموضك وأذب سرك ممتزجا فى الضوء المتداخل بين دوائر ملكات ذاتى.., بنبتة صغيرة تبدأ لغتك..!! تحدث..!! فأبجدياتها ذائبة فى صمتى.., تحدث فسمعى عميق مختزل.. إن الأضواء تهيمن.. رموزك صاعدة هابطة متحركة فى كل اتجاه منذ وجدت، وقد حان تساؤلى عنها.. فارصدى لسمائى السابحة انتماء، وأكوانك المتأصلة فيها أبدا.