مقتطف وموقف
المقتطف[1]:
عن إنقباض القاضى الجرجانى
– 1 –
يقولون لى: فيك إنقباض، وإنما
رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من دانا همو هان عندهم
ومن أكرمته عزة النفس إكراما
إذا قبل هذا مشرب قلت: قد أري
ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ
القاضى الجرجانى
الموقف:
نعود مرة ثانية إلى التنبيه على خطأ ما شاع بين الناس حديثا من أن الحزن (الإنقباض – الإكتئاب) هو أمر مرفوض، أو هو أمر مرضى. وقد سبق أن أشرنا لمثل ذلك فى أكثر من موضع فى هذه المجلة، خاصة فى هذا الباب . ففى عدد إبريل 1982 إقتطفنا قول ذى الرمة:
وكنت إذا ما الهم ضاف قريته
مواكبة ينضو الرعان ذميلها
وأكدنا أن الهم جزء من الحياة، وأنه ضيف يستحق الإكرام، وأنه بالمواكبة والترويض يصبح جانبا رائعا – مؤلما – من نبض وجودنا . ثم فى عدد أكتوبر 1981 جاء نفس الباب (مقتطف وموقف) فى رثاء صلاح عبد الصبور كيف أن الحزن الذى يشرحه تشريحا فى قصيدته ‘أغنية إلى الله’ هو حزن متعدد الأشكال والأطوار والأعماق، وأن الحزن لا يرفض إلا إذا تشوه وقبح وأعاق وأغرب .
”لكن هذا الحزن مسخ غامض مستوحش غريب” .
أما حزن القاضى الجرجانى فهو حزن آخر نتعلم منه إيجابية جديدة لهذا الوجدان الأبى اليقظ، لقد أسماه أولا إنقباضا . والإنقباض – لغة – يحمل إلى جانب الحزن الإنسحاب والضجر والإنطواء . ‘إنقبض الرجل على نفسه: ضاف بالحياة فاعتزل، وانقبض عن القوم: هجرهم’ . وهو البعد الأساسى الذى أكد عليه القاضى الجرجانى بدقته اللغوية الخاصة، وحاسته النقدية المتميزة أليس هو صاحب ‘الوساطة بين المتنبى وخصومه’; حيث وقف قاضيا موضوعيا ناقدا إيجابيا متواضع الحجة ناصع المنطق؟ وهو يدافع عن إتهامه بالإنقباض فى أنه النتيجة الطبيعية للأباء . ويصبح الإنقباض حتما إذا شاب المواقف الداعية للمشاركة شبهة ذل، أو لى للذراع، أو صفقة خفية. وقد تهاون الناس فى أيامنا هذه، وربما فى أيامه كذلك، فى الحفاظ على ماء الوجه تحت دعاوى “التكيف” و “النصاحة” و “الوصول” و “الشطارة”، بل و“التسامح” و “الطيبة”، وبالتالى فلت سنون وجودهم، وإنغلقت مسام نبضهم، فما عاد حزن وما عاد إنقباض أبى . فإذا ظهر – حفظنا الله!!- أى من هذا أو ذاك – فهو المرض!، وهى العقاقير الواقية من الإحساس، والمعينة على المذلة!!.
والثمن الذى على الأبى أن يدفعه حتى يقبله’ الناس ليس دائما ثمنا بسيطا، خاصة إذا إختلت مقاييس الناس وأرغموا كل من ينضم إليهم على أن يلقى بسلاح ذاتيته جانبا لحساب الرضا والقبو ل. ومع ذلك فإنهم سرعان ما يجازون من يفعل ذلك بالإهمال والنسيان .. فالهوان. وكأن ‘حوت’ الناس كجسد جماعى يقوم بإلتهام الفريسة أبدا لتختفى فى جوفه جزءا مهملا لا قوام له ولا تحديد، ثم يعود يلتفت إلى فريسة أخرى تحاول الإقتراب دون حذر، ومن هنا تصبح اليقظة الفردية ضد التهام القطيع لذواتنا المنفردة أمرا حيويا لا بديل عنه. ولكن هذا لا يعنى الإنصراف عنهم، وإنما يستلزم دوام الإحتفاظ ‘بالمسافة’ المتحركة، وبتلقائية ‘الإقتراب والإبتعاد’ فى رونة إرادية . وقد يكون هذا هو ما عناه القاضى الجرجانى بعزة النفس، التى تعنى بالضرورة شرف الإحساس ويقظة الوعى ضد رشوة الناس بأى شيء وكل شيء حتى يقبلونا و ‘السلام’ .
ويؤكد إيجابية عزلة الجرجانى أنه لا يرفض أن “ينظر فى” المشرب العام الذى ينهل منه الناس، عامة الناس، وتعبيره الدقيق: “قلت: قد أرى” من أجمل ما يؤكد أنه يدقق ليميز ويحسب الثمن، ويدفعه مسبقا، ثم يقبل أو لا يقبل، بحسابات الكرامة والحس النصى. خفية . وإذا لاح له ثمنا ليس فى حسابه، أو طلبوا منه مقابلا جوهريا من و جوده، أبى وفضل الظمأ مختال عفيفا، عن أن يشرب من ماء ولغت فيه السن من لا هم لهم إلا الشرب من كل سبيل بلا تمييز ولا حتى عطش، ولاشك أن من يضع لنفسه هذه الشروط القاسية قد يدفع ثمنا ليس يسيرا مقابل ذلك. ولا شك أن الفقر – مثلا – هو أقرب إلى هذا الأبى من الغني، لأن الحصول على المال هذه الأيام (وتلك الأيام) يحتاج غالبا إلى قدر لا بأس به من التفويت وما شابه.
وربما هذا ما نبه إليه القاضى الجرجانى نفسه فى قوله:
وبينى وبين المال بابان حرما على الغنى: نفسى الأبية والدهر
وجمال دقة تعبير هذا القاضى الأديب، أنه لم يدع الفخر بالفقر، ولم يرجعه إلى أباء نفسه فحسب، بل جعل الأمر نتيجة لعامل آخر فى نفس الوقت هو – بشكل ما – خارج عن إرادته المباشرة (وهو: الدهر)، وهذا الصدق الحاد يجعلنا نحترمه أكثر من مدعى البطولة والمثالية بمبالغات مرفوضة حتما.
[1] – استعرت هذا المقتطف من المستشار سمير ناجى نائب وزير العدل، ومدير المركز القومى للدراسات القضائية، حيث يوزعه على الدراسين ايقاظا وأملا.