قصة قصيرة
مدن الأعمار القصيرة
محمد عبد المطلب
(فى البدء قالت الأمهات: كانت ولادتكم عسيرة… عسيرة)
انفتحت أعيننا على المكان الضيق المحدود، وظلمته الرمادية التى لا تجعلنا نرى الأشياء بوضوح تام. حملقنا كثيرا فى الجدران العالية القديمة التى تضغطنا. امتلأت صدورنا بالهواء الراكد العطن. تحشرجت أنفاس البعض منا فهتفت بصوت ضائع:
- إلا توجد أماكن أخرى… لنا؟؟
استدار كل منا يحملق – فيمن يجاوره ويضغطه بجسده – بعدم فهم ودهشة. حاول البعض أن يشب على أصابعه (مقاوما ضآله قاماتنا) ليتطلع إلى ما بعد المكان. امتدت أيد كثيرة وقوية جذبته إلى الأسفل ودفعته تحت الأقدام. اجتاحنا صمت مشحون بالتوتر والقلق، وترددت همسات كثيرة:
- بالطبع توجد مواضع أفضل من هذا الموضع.
- أننا لا نجد موضعا مناسبا لأقدامنا.
- أننا نختنق، هذا المكان لا يتسع للصفنا.
- سيموت كل منا فى موضعه.
أطل رجال كبار بوجوه غليظة صارمة. ماتت الهمسات وجثم صمت مفاجيء. تطلعنا إليهم بأعيننا الصغيرة رغم الظلمة الرمادية. دقت قلوبنا دقات كبيرة ومذهلة:
تقدم أحد أصحاب هذه الوجوه فى ضيق. جذب أحدنا من مقدمة الحشد. رفعه باستهانة شديدة إلى علو يفوق أضعاف قاماتنا، وصاح بصوت رهيب:
- ما اسمك؟؟
ارتعش رأس الصغير من الخوف. تغلف وجهه بعدم الفهم. صاح الصوت الرهيب مرة أخرى:
- متى ولدت؟؟
غاصت عينا الصغير المعلق فوق رؤوسنا. تقلص وجهه من الرعب ارتفع الصوت فى غضب:
- أين شهادة ميلادك؟؟
قذفه إلى ما تحت أقدام الحشد ذى القامات الضئيلة. التفت إلى الرجال الكبار ذوى الوجوه الصارمة:
- متى جاء هؤلاء؟… أنهم بلا هوية أو كينونة. لا وجود لهم فى الخارطة التى فى جيبى. استدار الرجل الكبير وهز كتفيه فى عدم اهتمام.
(وبعد أيام طويلة قالت الأمهات بألم كبير:
واعتصرنا نهودنا فلم ينبثق منها
إلا العدم… العدم).
امتدت أصابع الألم وقرصت أمعاءنا الخاوية. انخرط أفراد قليلون فى بكاء مفاجئ داخل الحشد، مرت لحظات سريعة وانخرطنا جميعا فى بكاء أشبه بالعويل. بدأنا ندق دقات متشنجة على البطون الخاوية التى أصدرت صوتا مثل صوت الطبول، وأخذنا نصرخ فى صوت واحد:
- جوعى… جوعى … جوعى.
تبادلت الوجوه الغليظة نظرات الضيق والتأفف. فغرنا أفواهنا ووضعنا أصابعنا النحيلة بداخلها وقلنا فى صوت واحد:
- قطرات ماء.. ماء.. ماء
اشاحت الوجوه الغليظة بعيدا عنا، ارتفعت أصوات متوترة من داخل الحشد:
- الخواء سيقضى علينا.. سنموت.. سنموت.
عادت الوجوه الغليظة ترمينا بنظرات الضيق والملل. ارتفع صوت نحيبنا وعويلنا محاولا اجتياز الجدران العالية. تقاربت الرؤوس الغليظة الصارمة فى قلق وتهامست:
- هل يوجد لدينا ما يسكت صوت الأمعاء؟
- علب اللبن المهداة إلينا.. تلاشت منذ زمن طويل.
- المساحات الخضراء انكمشت منذ زمن طويل.
- ليس لدينا إلا الهشيم.
ارتفع صوت أكثر الرؤوس غلظة:
- احشوهم بالهشيم.. احشوهم بالهشيم.
أعطى أحد أصحاب الرؤوس الغليظة أشارة البدء. مرقت سيارات كبيرة مشحونة بالقش أفرغت حمولاتها بجوارنا. تقدم أحد الرجال الكبار وقبض قبضة كبيرة من القش وأدخلها فى جوف أحدنا. تبعه الآخرون بسرعة ومهارة وصاروا يرددون:
- هذا زمانهم… وهذا طعامهم.
وساد صمت نادر.
(وبعد شهور طويلة قالت الأمهات بحزن عميق:
وحاولنا فطامكم.. فاشتعلت رؤوسكم
بالمشيب … بالمشيب)
تململنا فى وقفتنا الطويلة بالمكان الضيق ذى الظلمة الرمادية. نصبنا قامتنا التى استطالت قليلا، وتطلعنا إلى ما بعد المكان. هتف واحد منا فى قلب الحشد:
- أشعر أنى هزيل… هل يشاركنى أحد فى هذا الشعور؟؟
رمقته أعين خاوية ودفعته أكف ضعيفة إلى الوراء.
ارتفع صوت ما:
- جاء الوقت لنصير ذوى شأن.
قال أحدنا فى نوبة مرح خاطفة:
-انى أتطلع إلى الجلوس على مقعد مريح بعد هذا العناء.
ردد آخرون فى قلق: مشوارنا طويل…. ولم يبدأ بعد.
هتف بعضنا من قلب الحشد: المهم أن نأخذ فرصتنا.. أن تتاح لنا.
صرخ أفراد قلائل: المهم أن نخرج من هنا…
تساءل أفراد فى مؤخرة الحشد:
- كيف سنبدأ المشوار ونحن لا نقوى على الوقوف؟؟
انفجر أحدنا فى بكاء حاد. التفتنا إليه فى دهشة كبيرة، فقال من خلال نحيبه:
- إنى لا أعرف من أكون أو ماذا سأكون؟ أنى صفيحة فارغة إلا من القش. ظللتنا سحابات حزن سوداء. تحرك أصحاب الوجوه الغليظة قليلا. شعرنا أننا سنخرج من المكان ذى الظلمة الرمادية. تحركنا فى بطء خلفهم. بعد خطوات قليلة شعرنا بالدوار. حاولنا أن نتماسك بالأيدى. أو نستند إلى الجدران العالية. تصايحنا. تساقطنا جميعا فى أعياء. بصقت الوجوه الغليظة علينا فى تأفف.
(وبعد سنين طويلة قالت الأمهات بصوت يشبه العويل:
وحاولنا أن نفرح بكم ونزغرد لكم… فخرج صوتنا نواحا.. نواحا…).
فوجئنا بعد زحفنا الطويل، وراء الوجوه الغليظة، أننا نخرج إلى ميادين شديدة الاتساع، تضج بالحركة والعنفوان. لسعتنا أشعة شمس حارقة. وصدمت أبصارنا بنور مبهر. لفحتنا عاصفة هواء طلق كالأعصار. انجذبت أبصارنا إلى بشر كثيرين ينتظمون فى صفوف طويلة مذهلة. تأملناهم بانبهار وخوف مبهم. بدوا كبارا ورؤوسهم مجللة بالمشيب، وبدوا ملولين فى وقفتهم الطويلة، اقتربنا من صفوفهم الممتدة، رغما عنا قذفونا بنظرات الدهشة والحيرة. همسنا لهم بارتياب:
- لماذا تقفون هكذا؟؟
ضجوا بضحكات خاوية وقالوا:
- نحن نقف هنا منذ آلاف.. لماذا جئتم؟؟.
صحبنا فى هزال شديد وبصوت واحد:
- نحن جئنا .. لنأخذ مواضعنا الطبيعية.
ارتفعت ضحكاتهم، صارت ضخبا، رددوا بأصوات جماعية منهكة:
- لا خبز لكم.
- لا مواضع لكم.
- لماذا جئتم .. لماذا جئتم؟؟
اجتاحنا صمت مروع. تبادلنا النظرات بعيون زائغة. تلاشت من أمامنا الوجوه الغليظة. تقدمت وجوه بكماء مرعبة. شعرنا بتلقائية.
إنها تسلمتنا من الوجوه الأولى. دفعتنا بعيدا عن الميادين التى تضج بالعنفوان. حصرتنا فى شارع ضيق وطويل ذى ظلمة رمادية داكنة وصمت مثير، تنتصب على جاذبية أشجار شاهقة جرداء. توالت دفعات قبضاتهم فوق رؤوسنا وعلى ظهورنا اليابسة. جربنا فى ضعف واعياء شديدين تحت الأشجار الجرداء. قال أحد أصحاب هذه الوجوه البكماء المرعبة:
- هيا…… تهيأوا……. سيعلق كل منكم فى شجرة من هذه الأشجار الشاهقة.
****