النقد يواكب النشر
قراءة نقدية فى إبداع
“كاتبات” هذا العدد
مقدمة
تميز هذا العدد بنزول أربع كاتبات ضيفات كريمات على صفحاته، وكلهن سبق لهن أن كتبن فى هذه المجلة المتواضعة. وقد استرعى نظر التحرير بعض ما رأى أن يبدأ فيه نهجا جديدا، وهو أن ينشر مع العمل نقدا مواكبا، قد يفيد الكاتب من ناحية، وقد يهم القارئ مع ناحية أخرى.
وبداية، فإن هذه المجلة، بفكرها التطورى، ترفض ما يسمى “الأدب النسائى”. هناك نساء أديبات وشاعرات، ولكن لا ينبغى أن يوجد ما يستحق صفة “النسائى” أصلا؛ فالأدب رؤية إنسانية، وكشف لأعماق الوعى، وتنبؤ بإتجاهات المستقبل، سواء قام بكل ذلك أو بعض ذلك رجل أو امرأة. وقبل أن ندخل تحديدا إلى كاتباتنا هنا فى هذا العدد فإنه يمكن أن نشير إلى بعض موقفنا من كاتبات أسبق، بما يوضح هذا الغرض لإنكار ما هو أدب نسائى؛ فنجد أن “نوال السعداوى” – مثلا – تتبنى قضايا المرأة بإلحاح عالى الصوت يجعلها تدور حول نفسها – رغم عبورها المتوسط – ورغم أنهاتملك مغامرة الإبداع الذى لا يتأصل ويزدهر الا إذا تخلصت مع وصاية وساوسها الانثوية، ومعاركها المستمرة مع قضايا قديمة. أما “جاذبية صدقى”، فهى على النقيض من ذلك، تعتبر المثال الحى للإبداع السلس دون وصاية قضية أنثوية بذاتها؛ رغم أنها حين تنطلق لتصف همس كل خلية أنثوية فى جودها لجارتها الخلية الأخرى، أو فى استقبالها لزائرها الواعد بالرأى أو الفهم أو الدعم، إنما تفعل كل ذلك بحس أنثوى لا يعرفه إلا من هو أنثى ومن هو “أنثى” هو جزء لا يتجزأ من تركيب كل رجل وامرأة؛ فهذا ليس أدبا نسائيا، ولكنه نبض أنثوى، صدر من أنثى مبدعة، وقد يصدر من أنثى داخل رجل مبدع بنفس الدقة ومغامرة الخلق، وعلى نفس الخط، وبنبض أرق نقرأ “زينب صادق” باستئذان حى، والمثال الأخير الذى تجدر الإشارة إليه هو طبيعة إبداع “سناء البيسى” حيث تحيط بكل ما هو أنثى وبكل ما هو ذكر فى صورها “هو .. وهى” إحاطة لا يمكن تصنيفها إلى ما هو نسائى ورجالى أصلا.
ورغم كل هذا، فإنه يستحيل أن نستبعد جنس الكاتبة من تلوين إبداعها، وهذا بديهى، إذا كان من المستحيل أن نستبعد شخص الكاتب من كتاباته بأى صورة من الصور، وشخص الكاتب يشمل جنسه حتما، وهذا بعض ما دعانا للوقوف الوقفة نقرأ سويا لأربعة من كاتباتنا هنا:
– 1 –
ولنبدأ بطلقات أو انطلاقات الفنانة التشكيلية “فاطمة مدكور”، والتى سبق أن نشرنا لها “رحلة لا مجدية”[1]؛ فنجد أنه من المحال أن نصف هذا الإبداع بأنه أدب نسائى، ولكن الحقيقة أنه مخاطرة فنانة فى مواجهة ذاتها الداخلية “المنفصلة: فى ظهور غير مستقل”، والكاتبة تناجيها بلغة شديدة الخصوصية، حتى لتكاد تنحت لها ألفاظا جديدة تصر على استعمالها هى هى؛ باعتبار أنها الصوت الوحيد القادر على استيعاب المعنى المراد، لا أكثر ولا أقل. وهى تنجح من خلال هذا الغوص المواجهى أن تعلن تكثيفات متداخلة، وتخلق أزمنة دائرية ومرنة (وكم كان زفافنا طويلا بطول الحياة وقد اقتضب فى لحظة مفاجئة)، وتستطيع أن تحمل كلماتها ما يعيدنا إلى أجسادنا فنحس بملمسها الحسى إذ يلتحم الإبداعى التجريدى، مع العيانى النابض (وبين كفوفى ترتعش الحياة، وأقفز فيها وأسبح، قفى يا قدمى!! (أصابعى سترقص متزنة بثقلى) وهذا التزاوج الذى يبدو مستحيلا لغير المبدع إنما يعلن ما أردنا الإشارة غليه من أننا أمام بصيرة خلاقة، لم تمتلك تماما ناصية اللغة، ولكنها غامرت بابتداع تشكيل لفظى قادر حتما – بشكل ما – على أن ينقل رسالتها إلى قارئها، وأن لم يستطع أن يؤكد معنى عاما متفقا عليه. وطوال مناجاتها تسمح بتلبيس التناقضات بعضها ببعض فى تصادم أحيانا وتلاحق أحيانا أخرى: “… ومتعة ذاتية فى تشييد بناء جديد، خاماته محفوظة بعمر الزمن، أنه يلتقطها وينفخها راحة أبدية كالموت أن كان رائعا، ربما كسر الحياة” وترى فى هذا المقطع كيف يجتمع التشييد للجديد مع الخلود مع الموت فى لحظة واحدة، ثم كيف يلاحق الموت (الرائع) الحياة فيكسرها.
هنا لابد أن تستنتج إنك أمام نوع آخر من الترابطات تسمح للموت أن يكون وللحياة (ربما مستوى قديم منها، أو تنظيم مغترب) أن تصبح عرضة للكسر بفعل هجمة إبداعية رائعة قاتلة فى آن، أو تعال ننظر فى تشعيبها ثم تضفيرها لصورة أخرى حين تقول : “أن طيرانا ثقيلا: اتجاهاته كثيرة، ولكن نهاياته كجدران ملتهبة تحرق وجه طفل وليد” … كل هذا التداخل تشعيبا وتضفيرا، يعقبه بشكل يدعونا إلى الدهشة حتى الفزع الوصف التالى مباشرة: “أطواره طبيعية”، أية طبيعية هذه؟ إلا أن تكون طبيعية الفطرة الخام حالة كونها فى تشكيل جديد.
وتستمر المناجاة حتى تلتحم الكاتبة صاحبة القلم بنفسها المبدعة صاحبة الفطرة المكثفة حين تقول “يا رائعة بثمارى”، فسنبدأ الرقص بلا توقف”. وقد أزعج هذا الأسلوب بعض زملاء التحرير، ولابد أنه أزعج أيضا بعض القراءة (أو غالبيتهم) ولكنهم لو توقفوا قليلا، وتشجعوا كثيرا، وسامحوا أحيانا، وتقمصوا دائما، لربما وافقوا هذه القراءة النقدية ذهبت إليه من أن التجربة قد احتدت بالكتابة حتى لم تسعها اللغة السائدة فاضطرت، فانطلقت، فنحتت وشكلت هذا التشكيل الجديد *.
هذه هى أولى كاتباتنا فى هذا العدد، تعلن بوضوح أن المسألة أكبر وأصعب من أن امرأة هى التى تكتب! لأنها إنسان – تصادف أن جنسه الخارجى – كان أنثى – ينقل رؤيته ويشكل وعيه فى ألفاظ (مستحيل أحيانا)، فيقول، فنسمع، ونستيقظ، ونستمتع.
– 2 –
أما ضيفتنا الثانية، فهى نجاة النحراوى، وقد سبق لها أيضا أن كتبت انطباعا متواضعا عن المسألة الأخلاقية والعلوم النفسية *! ذلك أن دراستها وتخصصها فى علم النفس قد جعلها تدخل إلى عالم الكتابة من هذا الباب؛ لكنها فاجأتنا بحلمها هذا، وكانت قد عنونته بثلاث كلمات بعد كل منها علامتى استفهام: رؤيا؟؟ حلم؟؟ واقع؟؟ وقد اختار التحرير هذا العنوان من واقع ما يمكن أن يسمى قصتها القصيرة. ويبدو أن هذه أول تجربة لها (أو من أوائل تجربتها) مع القلم فى هذا الشكل الفنى. ومع ذلك فقد غامرنا بنشرها لأنها “تقول شيئا”. ويلاحظ أن الكاتبة قد جعلت البطلة متعددة الدلالات، وساعدتها طبيعة الحلم على النقلات السريعة والتتابعات المنعكسة. وقد ظهرت مشكلة أنوثتها بشكل أوضح من صديقتنا فاطمة مدكور (الفنانة التشكيلية) وإن كان الاغتصاب هنا لم يختزل إلى فعل رجولى وقح، بل بدا أنه يحمل تضمينات صراع القوة العمياء فى إغارتها على الضعف الغافل، أو تعبير أدق المندهش فى بلاهه، والذى ظهر هنا فى شكل الأنثى المغتصبة إلا أن وجود الشاب ذى الخمسة عشر عاما مع الرجل المغتصب (قل منتصف العمر) يجعلنا نحس بأن المسألة ليست مجرد قوة غاشمة وضحية بريئة، ولكنها تداخل متعد، لم يستثمر ظاهره إلا فى فعل الاغتصاب. وقد تداخلت أشكال القوة فى بعضها تداخلا رائعا حين اختلط سحر الذهب بالرجولة الوقحة بالعدو الإسرائيلى المغتصب للأرض.. كل ذلك بدا وكأنه يمثل قطبا واحدا، ولكن – ويا لحسن الحظ – لم نجده فى مقابلة قطب آخر بنفس الوضوح؛ فلا براءة ظاهرة، ولا طفولة مسفوكة، بل الأدهى أن الضحية فاقت (ولو بشكل سرى) على بعض ما جرى لها من اغتصاب، بل أنها تمادت فعذرت مغتصبها، رغم إنها ظلت ترفض طوال الوقت، ولكن بلا حول ولا قوة – وفى نفس الوقت ظهر اغتصاب آخر أعم من مجرد اغتصاب الرجل للأنثى – وهو اغتصاب الحياة ونبضها ومسخ البشر إلى دمى مسخوطة من الصفيح الهش الأشعث، ثم عادت، بأنوثتها المتسامحة، تعلن أن الرجولة المدعاة (سلطة الجنس) لابد وأن تشل أمام سلطة القوة (سلطة المسخ) فتستعيد أمانها النسبى بفضل مفاجأة رؤية ما هو أظلم وأعتى (المسخ الجماعى)، وليس بفضل إفاقة أو صراع، ولكنه أمان سلبى .. يليق بموقفها السلبى اللا ثورى. الذى لم يشفع لها فى ألا تكون ضحية نظام قد واجهته بالإنكار والمحو أصلا.
ونريد أن نقول إزاء هذه القصة البكر، أنه بالرغم من بصمات الأنثى الواضحة طوال الحكى فإن الصراع كان دائما بين “سيد وعبد”، وبين “سلطوى وتابع”، ولم تكن الأنثوية هنا أكثر من إحدى صور التبعية، مثلها مثل تبعية وقهر المحتلين من أهل الأرض الأصليين، مثلهما مثل ضحايا النصب بفعل إغراء الذهب. وكون الكاتبة أنثى لم يدفع بها – وهى المبتدئة – إلى اختزال القضية إلى معركة مستقطبة بين الرجولة والأنوثة لتقدم لنا أدبا نسائيا زائفا، بل جاء نسيجها الفنى الفج فى تكثيفات تلقائية: أثبتت مرة أخرى ما أردنا تأكيده فى هذه القراءة النقدية : لا أدب نسائى، وإنما إبداع إنسانى.
– 3 –
ثم تعرض لنا الكاتبتان الثالثة والرابعة “، . فاء” و “هالة جبر” مشكلة تكاد تكون متشابهة رغم اختلاف الإيقاع والنضج والشكل الفنى، أما الكاتبة الأولى “، . فاء” وهو الاسم “الحركى” لكاتبة سبق أن كتبت بعض صور نابضة بنفس الاسم فى هذه المجلة* كما سبق أن كتبت باسمها الصريح مثل ذلك وهذا عكس هالة الصغيرة التى نشرنا لها الصرخة* باسمها الأول فقط حسب طلبها، ثم أرسلت لنا بعد طول صمت هذه القصة بعنوان “..واخترت الموت”، وإن كان التحرير قد فضل العنوان الجديد، ومجرد إخفاء الاسم عند الكاتبتين فى بعض مراحل تعرضهما للنشر، قد يكون ذا دلالة متعلقة بأنوثتهما خاصة وموقف المجتمع من الكشف عنها حتى من خلال اسقاطات الأدب. وكل ما أريد أن نختم به هذه القراءة الإشارة إلى وجه الشبه بين الكاتبتين كلتاهما تعانى من خوفها من أن تكون مثل أمها.
الأولى،”.، فاء”، تسمع كلام أمها حرفيا التى نهتها عن التضحية حتى تلقى مصيرها وهى لا تستطيع أن تتجاوز أمها، أن تخترقها، وكل ما تفعله هو أن تكرر وتكرر وتكرر دون إرادة، وكأنها بهذا القهر المعاد، تمهد لهرب نقيضى هو فى عمقه يساوى ما هربت منه، وهى فى معركتها الفاشلة تتصور أنها قد حققت ما عجزت أمها عن تحقيقه، وكل ما فعلته أنها أصبحت امتدادا لأمانى أم فاشلة، ولم تكن أبدا نفسها حتى لو ادعت أنها إنما تطالب بهذا” الحق البسيط” فى أن تكون نفسها، فهى خدعة – فى حدود القصة القصيرة – لم تختبر.
وقد تطورت نفس القضية بشكل أعمق فنيا، وإن كانت بدت كالنسخة المعدلة لنفس هذه المعركة الفاشلة أيضا وحتما، فالأم هنا سعيدة، متسامحة، موافقة، ودودة، لم تثر، ولم تمت (والموت نوع من الثورة أحيانا) لكنها من فرط سماحها مهدت لموت “كل احتمال آخر”، فماتت .. (موتة ربنا !!).
هنا لا توجد تضحية، ولا توجد معركة، ولكن توجد قضية، وأى قضية، انتهت إليها بطلة القصة من البداية، ولم تنسها رغم استسلامها لمصير أمها، ولكنها أبت أ ن تترك ابنتها الرضيعة تكرر فشلها بنفس السلاسة، فقتلت (بيدى لا بيد أمى) وكأنها انتصرت، وهذا فشل أكثر صراحة ووضوحاً؛ فالمسألة فى القصتين أن المرأة هنا وهناك استسلمت لأمها مع اختلاف الأسباب والدوافع، واختلاف صور النهاية.
ويحق للقارئ أن يقول لنا الآن: قف: هذا أدب خاص بمعركة الفتاة (المرأة) فى محاولتها الانسلاخ من قهر استسلام الأم.. هذا أدب نسائى حتما. ونقول نعم ولا؛ هى معركة امرأة ولا تكتبها بالضرورة معركة المرأة بالذات؛ ليست معركة لا تعيشها إلا امرأة ولا تكتبها إلا امرأة ، بل هل معركة التطور البشرى: هل نحن نكرر أسلافنا مع اختلاف صور النجاح، وتنوع أشكال الهرب؟ أم أننا قادرون على استيعاب الماضى – احتواء – لنخلق منه “الآن” فالمستقبل. حقيقة أن قهر الأنثى أظهر وأكثر دلالة، وخاصة فى مجتمعنا، لكنه نفس القهر حتما، وانظر إلى “هالة” حين توجز المشكلة على لسان أستاذ يوم الأحد “لقد أكد لى مرارا أنه طريق طويل وشاق… وأنه يخشى أن أمل انتظار الوقت المناسب لبدء التحدى”، ثم انظر إليها وهى تستسلم للسعادة “إياها” التى نفرغها من كل شئ، وحين امتلأت “بطنها” بابنتها لم يمتلئ فراغها، ثم تكتشف رضاها بمصير لم تفكر فيه يوما، بل وتتيقن من أنها تعد نفس المصير لابنتها: وكأنها تهتف أنه “لا جدوى يا يسوع” “لا جدوى” فتقتل نفسها فى ابنتها، وتعلن فشلا مضاعفا رهيبا.
وقد كانت هذه الصورة المرعبة للفشل أكثر شجاعة وتحديا من تعليق القضية “بحق بسيط” له حدس صادق، ونهاية مشكوك فيها من واقع الهرب وفى ثنايا الغموض الخادع.
نعم: هى مشكلة ظاهرها أنثوى، وباطنها أزمة اختراق التكرار لإبداع الوجود المتجرد باستيعاب القديم دون نسخه حرفيا،
****
وهكذا، نكون قد تجرأنا هذه المرة بتجربة نريد رأى القارئ فيها، لعلها أن نجحت تكون اسوة لمجلات أدبية شقيقة، بما يجعل تحريرها هو قارئها فى نفس الوقت، فتحفز حركة النقد مباشرة، وتسمح بالنشر حتى للأعمال الناقصة بشكل أو بآخر، وتدفع بعجلة الإبداع الإنشائى والنقدى فى آن.
كل ما نرجوه ألا تكون قراءتنا هذه وصية على انطباعات القارئ التلقائية، بما يخالفها أو يتجاوزها.
[1] الإنسان والتطور – عدد إبريل 83 (ص 32 – 35)، عدد يناير 84 (ص 90 – 97). عدد إبريل 84 ( ص 80 – 86).
* كتب هذا النقد قبل أن نأتنس برأى الناقدة صافيناز كاظم الذى أشرنا إليه فى الافتتاحية.
* حول موقف علم النفس من قضية الأخلاق – الإنسان والتطور – إبرايل 1980 (ص: 124 – 127).
* – الإنسان والتطور: الحصار يوليو 1984 ص 117 – 118)، فى غيبوبة التفاصيل أكتوبر 1984 (57-58).
* – الصرخة – الإنسان والتطور – يناير 1984 (ص 77-84).