حلم (يصلح للسينما!!)
نجاة النحراوى
أستأذن الخطيب والد الفتاة فى اصطحابها إلى رحلة نظمتها الجهة التى يعملان بها إلى آخر حدود أرضنا التى تحررت، واستردت، تلك الأرض المجاورة للأراضى التى مازالت محتلة!
وفى أثناء الرحلة ذهبت بمفردها إلى سوق الذهب لشراء حلية ذات شكل محدد كان يعجبها دائما. ولما سألت الصائغ عن هذه الحلية الخاصة.. أخبرها بقيمتها … وأنها ليست عنده ولكنه سيشتريها لها من صائغ آخر بجانبه فأعطته ثمنها، وذهبت لتقول لفتاتين أخريتين تجلسان بسيارة على بعد ما بين خليط من صاحباتها وأخواتها أنها قد اتفقت فعلا على شراء هذه الحلية المحددة، ودفعت ثمنها.
ولما عادت لتتسلمها وجدت بجانب المحل المغلق هرجا ومرجا شديدين فهمت منه أن الشرطة قد ألقت القبض على صاحب المحل اللص، الذى كثيرا ما يفعل هذه الفعلة ليستولى على أموال الناس بالباطل.. وأنهم قد أغلقوا المحل.. و.. و…
وقفت حائرة للبحث عن وسيلة لاسترداد هذا المبلغ الضخم بالنسبة لمرتبها الضئيل. وفجأة وجدت رجلين على مقربة منها كانا يقفان ضمن حشد المتفرجين أحدهما مازال على عتبة الشباب لا يتجاوز عمره خمسة عشر عاما، والآخر رجل فى منتصف العمر أو بعد ذلك بقليل.. سألتهما عن شيء غير محدد، ولكنه متعلق بالبحث عن وسيلة لاسترداد نقودها ولكنها لم تجد لديهما اجابة قاطعة. يئست.. واستدارت لتتخذ طريق العودة، وإذا بهذين الرجلين يتبعانها، وإذا بالطريق له بوابة كبيرة خلفها أغلقاها وراءهما، وأصبحت فجأة أسيرة فى هذا الطريق المغلق أو هذه المغارة الكبيرة…. دفعها هذا الرجل حول منتصف العمر ملقيا اياها على الأرض، ملقيا بجسمه الثقيل المعتم فوقها، وأمام أعين جمع من الناس كانوا موجودين بالداخل فى هذه المغارة، منهم هذا الشاب وأطفال لهذا الرجل وزوجته وبعض النسوة.. لم تقاوم طويلا، فلم يعطها الفرصة أصلا للمقاومة.. وأدركت رغم سرعة تلاحق الأحداث أن المقاومة لن تغير من النتيجة بحال، وربما تعنى المقاومة الموت بين أنفاس ذلك الوحش الآدمي، وسلبية هؤلاء الناس.
أحست بالمهانة.. بقمة المرارة.. بشيء يقف فى حلقها لا تستطيع أن تلفظه ولا أن تبتلعه.. كيف تمحو تلك اللحظة المريرة من ذاكرتها؟؟ أحست ولأول مرة كيف يسلب الإنسان كرامته بل آدميته عينى عينك أصبحت مجرد تابعة ذليلة لهذا الوغد. لكن حذار من مواقف الصدق والتعبير عن الاحساس.. فالمسألة ليست ترفا. المسألة حياة أو موت.. وحذار أيضا من دعاوى الكذب بأن الموت أهون من الحياة تحت وطأة الظلم.. الذل.. فالحياة من حيث هى حياة فى ذلك الوقت المنذر بالتهديد بالموت تستحق أن نعيشها.. مهما كانت بشاعتها ومهما ضحينا فى سبيلها بكل معانى الصدق والكرامة… الخ.
مضى بعض الوقت على هذا الحال لا تدرى بالضبط مقداره بحساب الزمن إن كان بضع ثوان أو دهورا طويلة..
وجدت نفسها تجلس فى مسطح واسع من الأرض الرملية الصفراء فى عصر يوم مشمس، وقد غرست فى الأرض بعض الأعمدة الخشبية التى شدت فوقها ملاءات من أطرافها الأربعة لتكون ما يشبه المكان الخاص (البيت)، وقد غرست كل مجموعة أو قل أسرة أربعة أعمدة خشبية وفردت فوقها ملاءة لتحدد موقعها فقط. ولكن لا تزال كل الحجرات من الأعمدة الخشبية والسقف، الملاءة، مفتوحة على بعضها.. يمتليء المكان بحكايات النسوة وصرخات الأطفال وضجيج الرجال والعربات المارة.
وهى منزوية، رغم وجودها وسط مجموعة من النسوة والأطفال تأسى لحالها فى صمت.
وإذا بها تسمع جلبة شديدة وترى بعض الناس يهرعون فى فوضى.. تساءلت فى صمت!!
ما هذا؟؟؟
قالت لها النسوة فى صمت أيضا…
- هذا عرض تقوم به السلطات المحتلة.. تقوم به اسرائيل…
- عرض ماذا؟.. و … وماذا جاء باسرائيل هنا.. ألسنا فى سيناء، وسيناء أرض مصرية؟
هى لا تدرى أنها شردت لتشترى الذهب وتركت وراءها الأرض المتحررة التى نزل بها أفراد الرحلة وفيهم خطيبها ..، لقد مرت بالحدود دون أن تدري..
يا للمصيبة.. لأحاول اخفاء الخبر والا قبضوا على وأودعونى سجونهم وحاكمونى محاكماتهم الصورية التى تحكى عنها الروايات فى السينما والتليفزيون واعتبرونى من الفدائيين.. وأنا طيلة عمرى تلميذة مجتهدة وفتاة مليحة ستتزوج قريبا بالطريق الرسمى فحسب.. لم أفكر أن أنضم لمجموعة ما مناهضة أو حتى غير مناهضة.. ولم أفكر حتى فى قصة حب رومانسية ومغامرات عاطفية.. خطبنى زميلى بالعمل ووافق أبي.. وحسب.. مالى أنا وما لهذا كله؟؟
ومر العرض.. من مسافة غير بعيدة.. ثم اقترب منهم، فقام الجميع وقوفا حتى الأطفال.. هكذا الأوامر.. حاولت أن تقف فى الصف الثانى من الصفوف غير المنتظمة من المتفرجين، لكى لا يراها أفراد الطاقم الذين يقومون بالعرض.. ولكن بحيث ترى العرض تماما، فلديها رغبة شديدة فى رؤية ما يحدث… إلى جانب صفتها العامة وهى حب الاستطلاع.
ومر العرض.. ثلاثة من الاسرائيليين يسحبون بأيديهم ثلاثة مخلوقات… شبه آدمية.. ربما كانوا أطفالا.. هذه المخلوقات كانت بشرا مثلنا ولكنها ممسوخة بفعل تأثير وسائل علمية حديثة ما، من نتاج تكنولوجيا الحرب.. قد تكون هذه الوسائل اشعاعات معينة تسخط والعياذ بالله من تسلط عليه، أو مواد كيماوية معينة تعطى عن طريق الحقن.. هى لا تدرى بالضبط.. فهذه الوسيلة مازالت سرا يحتفظ به مخترعوها. وهذا التأثير عبارة عن قصر شديد يصيب القامة حتى ينكمش الرجل ليصير فى حجم طفل عمره سنوات قليلة، ثم يفرغ هذا الجسم من محتواه ويظل هيكلا من الصفيح الصديء له رأس بها شعر أشعث محروق بفعل التأثير، وبه فتحتان للعينين وأخرى للفم، ويمشى ويتحرك مثل الإنسان الآلي.. لا ينطق.. هو فعلا إنسان آلى غير أن بداخله بقايا الجسم البشرى القديم عبارة عن قطعة رخوة مثل تلك التى توجد فى القواقع، هى أصل الشخص المسخوط.
هالها المنظر.. شعرت بقشعريرة شديدة تسرى فى جسدها كله، كان الرعب بداخلها أكبر من أى كلام.. تعجبت.. تساءلت فى صمت أيضا:
هل مازالت هذه المخلوقات الممسوخة لها ‘روح’ مثلنا.. أم أن التشويه قد أماتهم؟؟ كيف تعيش هذه المخلوقات؟ .. هل يشعرون بدنيانا هذه.. أنهم بالتأكيد لم يموتوا تماما، كما أنهم لا يحيون طبعا.. أنهم لا ينطقون، ليس لهم من أثر صوتى سوى صوت حركات أجسامهم الصفيح.. إلى أى عالم ينتمون.. تريد أن ترفض.. تريد أن تستنكر.. تريد أن تصرخ.. أين ضمير العالم؟؟ تريد أن تغمض عينيها فلا تري.. أو تبتعد بكلها عن مجال الرؤيا.. ولكن ممنوع.. هكذا الأوامر.. لابد أن يرى الجميع بما فيهم النسوة والأطفال .. حتى يعتبروا.
قالت بعض النسوة.. هذا فلان.. ابن فلان.. كان ثائرا.. وتعرفن على اثنين منهم وربما على ثلاثتهم .. همت إمرأة بجانبها أن تصرخ مولولة عليهم فلكزتها صاحبتنا بذراعها لتسكت حتى يمر الموكب البشع بسلام، ولا يجعل عويلها المشرف ينتبه إليها والمجموعة التى تقف فيها ويكتشف أمرها.
ولكن المشرف على العرض لاحظ لكزتها للمرأة فاستدعاها إلى حلبة العرض وهى ‘حصيرة’ يفترشها أصحاب الخيمة.. فرفعت يديها بسرعة راكعة على الأرض لكى يسهل تفتيشها وتنتهى بسرعة اجراءات التفتيش ولا تكون هناك فرصة للتحقيق، حتى لا يفتضح أمرها وينكشف سرها أنها ليست من المصرح لهم بالتواجد هنا.. وأنها مجرد زائرة تائهة ساقها شراء الذهب إلى حيث لا تدري.. فوضع يديه مفتشا جيوبها.. محسسا سترتها متفحصا وجهها قائلا.. انتظري.. وأخرج من جيبه جهازا صغيرا يشبه الآلة الحاسبة.. وعرف من هذا الجهاز أن اسمها ليس مدرجا ضمن أسماء ‘الخطيرين’ أو من هم ‘مطلوب القبض عليهم’.
ورجعت إلى صفوف المتفرجين.. لا تدرى أن كانت تشكر حظها أو تلعنه.. فهى ما زالت قادرة على حسد هؤلاء الشهداء الأبطال رغم ما هم فيه، لكنها لا تستطيع أن تفعل مثلهم.
انتهى العرض.. ودخل إلى الحجرة بدون جدران (ملاءة مربوطة من أطرافها الأربعة بأطراف أعمدة خشبية)، ذلك الوغد الجبان الذى يستبيح النساء: دمائهن وكرامتهن سواء.. متسائلا تساؤل من يعرف الجواب.. هل انتهى العرض؟..
لقد استطاع أن يفلت من الرؤية.. فهو رجل يستطيع أن يخرج من الحجرة بدون جدران ليتوه وسط الزحام إلى أن يمر العرض من خيمتهم فلا يراه أحد.
وتعجبت.. هل يستبشع هذا الوغد شيئا مهما بلغت بشاعته حتى يتحاشى رؤيته.. هل حقا يحمل هذا الجبان قلب بشر..
أحست بالاشفاق عليه.. عليهم جميعا.. وعلى الفور استدعت عقلها المفكر الذى يخلط دائما قدرا من العلم بقدر أكبر من الفهم بقدر أكبر من عدالة الحس حين التعرض لأى قضية أو تفسير أى شيء يعن له.. وغالبا لا يقول هذا العقل عن شيء ما أنه خطأ تماما، أو أن شيأ آخر صحيح تماما.. كغالبية فكر المثقفين من مرجحى الحلول الوسط… وتبرير الأشياء.. استدعته على هذا العقل يجد تفسيرا أو تبريرا لتناقض صورتى هذا الوغد الشرير الرقيق حتى أنه يتجنب رغم الأوامر رؤية شيء بشع.. فقال لها عقلها.. أنه يطفيء النار بداخله.. ولكنه لا يدرى أنه يطفيء النار بماء النا، فالحلقة مفرغة ومزيد من الوحشية وامتصاص دماء الناس غصبا يؤدى إلى مزيد من امتصاص دماء الناس غصبا.. وهو أحد هؤلاء الناس.
وجدت نفسها فى مكان آخر غير بعيد عن مسرح الأحداث، لكنه يحوى نفس الناس، ولكن موقفها كان قد تغير من رب هذه الأسرة ذلك الرجل حول منتصف العمر أو بعده بقليل، ووجدت بركن من المكان ‘كنبه’ من الطوب مفروشة بقماش أزرق وعليها وسادة مهلهلة.. لتنام حتى الصباح لتسافر غدا رحلة العودة وأعطاها صاحبنا الأمان فى صمت.. نظر إليها دون أن يقول شيئا وقال.. لا تخافي. لا أستطيع فعل ما فعلت بك لأيام بعد هذا العرض الذى يفيقنى من غفوتى بعض الوقت.
قالت فى نفسها، مكان متواضع.. لكن يكفى أنه آمن.. لا تدرى أن كانت نامت فعلا أم لا، لكنها وجدت نفسها دون أن تركب سيارة أو طائرة أو حتى تمشى على رجلين.. هناك فى بلدها.. لكنها لم تجد أحدا من زملاء الرحلة أو حتى خطيبها (وقد ألغت خطبتها له بينها وبين نفسها بعد هذا الحدث البشع) فقط وجدت زميلة لها تكبرها بقليل.. تكن لها كل الاحترام، وتعجبها فى قوة شخصيتها وقراراتها الواضحة.. همت أن تحكى لها الرؤيا.. الحلم.. لكنها لم تفعل… جربت أن تحكى لها فى صمت.. فهمت الأخرى بعض الكلمات فقط.. لكنها لم تفهم حسها بالكلمات.. خافت أن تحكى بصوت عالي، تتهم أنها من الساسة.. وتأخذ رقما حزبيا وتختم بعلامة جودة أو لا جودة.. وتحاكم فيما بعد بتهمة محاولة قلب نظام الحكم.. ولو كانت تفعل ما كان الأمر يهم… لكنها لا تعلم ما هو نظام الحكم من الأصل.. أو حتى أن كان للحكم نظام.. ولا تفهم فى علامات وأختام تصنيف الساسة.. فلماذا تجازف؟
لا .. لا.. فلأجعلها قصة.. تنفع للسينما وتقوم ببطولتها ممثلة أولى تحذق فن التعبير.