حــوار
حول “الاجتهاد الابداعى” و “موجة الدفاع عن الدين”
تقديم “حكاية هذا الحوار بالذات”
د.محمد السماحى – أ. ابراهيم عادل – د.يحيى الرخاوى
أرسل لنا الدكتور محمد السماحى مقالا عن “موجة الدفاع عن الدين” وبعنوان فرعى: “هل الدين فى موقف ضعيف” وكان جدير بنا أن ننشره كما هو مع الرد أو التحفظ أو بدونهما، الا أن الموضوع بدا لنا محوريا، كما أن القاريء يفضل أن يحضر معنا ونحن نسير على الصراط أولا بأول، ففضلنا أن يكون حواراً رغم علمنا بما يقع من ظلم على صاحب الرسالة أو المقال، اذ لا يملك حق الرد الفورى، كما يفعل المحرر، أو الذى يتكلم أخيرا، الا اننا راجعنا تعهدنا والتزامنا – فوجدنا أن قضيتنا ليست هى أن “فلانا” قال، وأن “علانا” أفحم; وانما هى: أن قضية أثيرت وأن آراء تنوعت.
ونحن نعلم علم اليقين أن نشر كلام الضيف، بهذه الصورة، هو فضل منه علينا وعلى القاريء، وأن له حق الرد دائما فى مقال تال، أو مشروع حوار، ويصح هذا بوجه خاص، مع أمثال د. السماحى; ممن سبق لهم أن شاركوا فى مثل هذا الحوار بفكر ناضج وصدر رحب.
وقد مر هذا الحوار بالذات – لخطورته – بأكثر من مرحلة: فبعد أن دار بين مقال د. السماحى (بعد أن تقطع فى فقرات دون حذف) وحماس رئيس التحرير، عرض على الزميل م. ابراهيم عادل ليضيف ما يشاء بصفته صاحب الفضل فى اثارة الموضوع بمقاله السابق، عن الدين والتقدم، كما ورد فى تذييل د. السماحى بنص كلامه:
”يرجع الفضل فى اثارة هذا الموضوع داخل ذهنى إلى مقال المهندس ابراهيم عادل … لما ورد فيه من تحليل معقول غير متعصب، وغير تقليدي”، وبدخول طرف ثالث “اقتحاما” مثريا بين المتحاورين السابقين، بدأ الحوار “قصا ولصقا” مما اضطررنا لاعادة صياغته بشكل يسمح بالتتبع بدرجة ما.
هو اجتهاد جديد، وظلم قائم، لكن القضية تستأهل “الحضور” المتحمل، والتجاوز الكريم – والله من وراء القصد.
د. السماحى: طرق الفكر المصرى المعاصر (منذ بدايات هذا القرن) عدة قضايا أساسية، وأن وقف على رأس قائمتها، موضوع الدفاع عن الدين، الذى بدأ فى نفس الوقت الذى فتحت مصر فيه بابها بحرص وتردد للثقافة الغربية. سيطر الدفاع عن الدين على معظم كتاب مصر المعاصرين، ولا يزال يسيطر على غالبيتهم.
ابراهيم عادل: أرحب بعودتك يا د. سماحى للكتابة للمجلة مع تزحزح – أرجو أن يكون جوهريا – عن موقف أتصور أنك متمسك به، وأشفق من وضع أقوالك بين شقى رحى هذا القالب المسمى بالحوار.
الرخاوى: لا أسبق الحوادث يا عادل، ولكنى رجعت إلى مقال د. السماحى فى هذه المجلة، عن : “حول حاجة البشرية إلى التدين” ووضعت يدى على قلبى، لأنى رأيت ثمة تراجعا، وثمة حلا وسطا، وثمة …، ولكنى فليتفضل د. السماحي.
د. السماحى: ويحسن بنا أن نبدأ التأمل فى هذه القضية، بعرض موقف الدفاع عن الدين …، ثم نسأل، لماذا يحدث ذلك بتكرار واضح هذه الأعوام بالذات؟
د. الرخاوى: نعم لماذا؟ وأكرر هنا عنوانك الفرعى “هل الدين فى موقف ضعيف” (بحيث يحتاج إلى هذا الدفاع؟)
ابراهيم عادل: أعتقد أن الاجابة بالايجاب ، بل وأعجب لمن لا يعتقد أن الدين يمر بأزمة يستحق معها الدفاع، ممن يستطيع فالدين فى موقف يرثى له، والسؤال الحقيقى، هو: أى نوع من الدفاع يحتاج إليه الدين؟ فبينما أعتقد أن الدفاع الذى يحتاج إليه الدين هو الدعوة إلى اطلاق سراحه ليقوم بدوره فى كافة أنشطة الحياة، وليشغل اهتماما حقيقيا، عند كافة الناس نجد أن أكثر ما يتم به الدفاع عن الدين، انما يساهم فى اضافة المزيد من القيود.
الرخاوى: لا أوافقك يا عادل تماما، وان كنت أفهم وجهة نظرك. فقط، أخاف من كلمة “الدفاع عن الدين” وأتصور أن المطلوب هو تفجير الطاقات الايمانية، وربما كان هذا نوعا من الهجوم الدفاعى على كل حال، ولكن يبدو أن الدكتور السماحى يرفض الدفاع عن الدين، أو قل: لا يشعر بالحاجة الملحة لذلك من منطلق آخر.
د. السماحى: ان الانسان البسيط فى مجتمعات الشرق الأسط لا يستشعر مطلقا مثل هذه الحاجة، بل انه ألا يجد داعيا للدفاع عن الدين لأن ايمانه “فطري” اذا جاز لى استعمال هذه الكلمة الغامضة …
الرخاوى: بصراحة، لا يجوز لك أنت بالذات، وأنت تعرف لماذا وراجع حوارتنا معك على صفحات هذه المجلة أو راجع اعتراضك على كلمة فوق طبيعية Supernatural ومساواتها – منطقيا – بالقوى غير الطبيعيةUnnatural ولكن من يملك أن يحجر على تغيرك؟ ثم أنى ما زلت لا أعرف ماذا تقصد “الآن” بالايمان الفطري؟
د. السماحى: هو ايمان قوى لا تشوبه تعقيدات نظريات المتعلم الذى ينتقل من البيئة المتدينة، إلى البيئة العلمية فى الجامعة، أو الأوساط الاعلامية، والذى لا يستشعر هذه الحاجة للدفاع (عن الدين) فالخوف فى الالحاد ليس مرضا قرويا أو بدويا، بل هو مرض مدني.
ابراهيم عادل: لعلك لا تغضب إذا عنا من الآفاق الرومانسية المشرقة إلى أرض الواقع، فذلك “الانسان البسيط ذو الايمان الفطرى القوي” فى مجتمعات الشرق الأوسط – وفى مصر بالذات – هو نوع منقرض، ساهم فى انقراضه اختفاء الحياة البدوية المعتمدة على الرعى، وبدء اختفاء نمط الحياة الزراعية كما كانت معروفة منذ عقود قليلة من الزمن، واختفى مع ذلك ما كان يصاحب تلك الانماط من هدوء، ورسوخ، فى ايقاع الحياة مقترنا بصلة وثيقة بالنبض الحى للكون الطبيعى، فالبدو الآن يمارسون بمهارة فائقة التجارة فى “وضع اليد” على الأرض “خارج الكردونات” كما أن الفلاح المصرى قد أدرك بذكائه المعهود المميزات الكثيرة التى تعود عليه من الليل من الانتهازية البيروقراطية والسياسية، فتبوأ مركزه المناسب فى مجالس القرى والجمعيات الزراعيه، وتاجر “بالكيماوي”و “التقاوي” و “تصاريح العلف”، علاوة على التجريف، وغير ذلك، مما يبتعد كثيرا عما تظنه فى ذلك المجتمع “الشرق أوسطي”، وقد ساهمت فى ذلك أيضا الميكنه الزراعية والبطالة الصريحة المقنعة وغزو الثقافة التليفزيونية “الفيديو – كاسيتية” للريف، كما أنى أعتقد أن الثنائية التى تفترض تناقض للفطرة مع العلم والتقدم هى ثنائية غير ذات أساس، فالفطرة أصلا هى الخلق، وفطرة الله للانسان على فطرته هى خلق للانسان بشيء من صفاته وروحه تعالى، لذا فالعلم من الفطرة أصلا وليس منقاضا لها، والقوة والقدرة من صفاته تعالى وهى من الفطرة، والخلق والابداع هو الفطرة، وما يفسد الفطرة فى مجتمع المدينة ليس هو العلم والتقدم، بل هو فساد العلم والتقدم، وان كان بعض ما يفسد الفطرة هو بعض مساويء نمط الحياة بمجتمع المدينة، فان ذلك النمط قد بدأ يزحف حثيثا على مجتمع القرية.
كما أن لى تحفظا قويا على ما تطلق عليه يا د. سماحة “الايمان الفطرى القوى الذى لا تشوبه تعقيدات نظريات المتعلم”. اذ أن ذلك النوع من الايمان لم يعد ممكنا، فالايمان الفطرى لكى يكون قويا لابد له أن يصمد أمام تحديات العصر التى لا مهرب لنا منها، والايمان الممكن هو ذلك الايمان الذى يسير على طريق تحمل ومواجهة تحديات العصر: الصراع لكسب العيش – وصاية الأجيال السابقة – كهانة رجال الدين – الجمود الفكرى التعليم والاعلام والتشويش .. الخ)، وهو ايمان ان تكن بدايته المبكرة الفطرة، وقد ينتهى إليها، الا ان طريقه فيما بينهما، مثل الصراط، محفوف بالمعاناة، والمخاطر، وليست مخاطر الالحاد – والخوف من الالحاد – والخوف من الخوف من الالحاد- الا بعض مظاهر تلك المعاناة، وهى بذلك لا تعتبر صحة أو مرضا، ولكنه قد صار طريق يكاد يكون اجباريا، ومغامرة لا مفر منها لكل من لم يقبل وعيه تدينا مسطحا لا عمق له، لانى أكاد أقول الا ايمان بغير ظل من شك (حتى ايمان الانبياء)، ولا عصيان بغير درجة من ايمان (حتى عصيان ابليس) وذلك الطريق الشاق هو طريق مستمر، أما صعودا إلى المزيد من الأعماق والأبعاد، وأما هبوطا إلى المزيد من السطحية أو التشنج (تدينا أو الحادا) وتحف به مخاطر الافراط فى الخوف من الالحاد لدرجة شل الفكر ومخاطر الافراط فى تبسيط المعرفة الانسانية إلى منطق عقلى مادى مسطح.
الرخاوى: لى تحفظ هامشى يا د. سماحى وآسف لتكاثرنا عليك، بشأن تعبيرك عن الخوف من الالحاد، باعتباره مرضا مدنيا، حيث أنى أتصوره صحة، لأنه يدل على احتمال مغامرة توليد ايمان أعمق من موقع ابداعى جديد، أما الالحاد نفسه والاستقرار عليه، فهو الذى أتصوره مرضا، حيث لا يتم الحاد متشنج راسخ إلا من خلال اختزال الوجود البشرى إلى: عقل منطقى وتجربة حسية، وهذا فى رأيى هو المرض بعينه (بلغة الاغتراب، لا لغة الطب) ولست أدرى لماذا هذه المقابلة بين “البيئة المدنية” و “البيئة العلمية”؟
د. السماحى: ترى هل الاعتقاد فى مناهج تجريبية، الذى يكتسب من خلال التعليم، يسبب قلقا لدى المتدين الذى لا يستطيع الفصل بين مجال الدين ومجال المعرفة، فيحدث له لبس عقلي؟ يحتمل ان هذا هو أحد العوامل التى تؤدى إلى الشك اللا شعورى فى صحة قضايا الدين لعدم قيامها على المنهج المعرفى، ويكون رد الفعل لموقف كهذا، هو فى معظم الأحيان، الدفاع عن الدين لكونه الاعتقاد الأقوى والأقدم والأعز على النفس، وفى اعتقادى أن تدريب العقول على قبول فصل منهج الدين عن منهج المعرفة سوف يساعد على تخفيف المعاناة العقلية التى تشتعل نفوس المتدينين.
الرخاوى: أولا أنا أعترض على هذه المقابلة بين مجال الدين، ومجال المعرفة، وهذه القضية هى من شغل هذه المجلة الشاغل منذ صدورها،اذ تريد أن تقول دائما أبدا أن كلمة “المعرفة” هى كلمة أشمل من العلم، وأنها – المعرفة – انما تتحقق عن طريق الدين، والعلم، والفن جميعا، والدين أقرب إلى الفن منه إلى العلم، ولكنه – فى حقيقة توجهه – كشف مستمر له أسلوبه الخاص، وربما المباشر، ففى حين أن الفن الذى يحمل نفس النكهة يستعمل “الرمز” كوسيط إلى الكشف، فان الدين يمارس “الكشف” من خلال عباداته، ثم التوغل بها إلى المعرفة المباشرة، أما العلم – كما شاع تعريفه – فرسائله أكثر تحديدا كما تتصورها أنت بالذات.
وثانيا: فان ثمة نشاطات مشتركة تقع فى المنطقة المتداخلة بين وسائل المعرفة الثلاث، والامل فى تكامل مستقبلى يترعرع فى تلك المنطقة، ومنها مثلا، المنهج الفينومينولوجى الذى لا يستبعد الذات كموضوع وأداة بحث معا (وللمرة المليون: ليس بالاستبطان وانما بالخبرة الموضوعية بما هو ذات) – وأن كان هذا المنهج لم يقترب مباشرة من تفسير الحدس الايمانى الذى يتم بوجه خاص فى الخبرة الصوفية – وحتى دعوة التوازى (المعرفة الموازية) التى رددتها فى أكثر من موقع، ضد التفسير العلمى للدين، باعتبار أن هذه لغة وتلك لغة، لابد وأن أتراجع عنها الآن، لان التوازى يعنى، هندسيا، يعنى استحالة الالتقاء مهما مددنا الخطوط، المهم أنى ضد الفصل حتى بالتوازى الا كنقطة انطلاق – وفى نفس الوقت فأنا ضد وصاية احدى هذه الوسائل لما هو معرفى، ولا تتصور حساسيتى لتعبيرك المنهج المعرفى، وأنت تعنى – فى تصورى0 المنهج العلمى فهذا الترادف هو بداية الاحتكار لا محالة، وهو مرفوض عندى ابتداء، ومطلقا.
د. السماحى: منهج الدين صحيح فى الدين، حيث أنه كيان وجدانى لا منطقى، بينما منهج المعرفة لا مكان له فى الدين ولا أشكال فى ذلك، فنحن نفعل شيئا مشابها مع الفن والأدب، حيث أنهما بعيدان عن المنطق والمعرفة، ورغم ذلك لانخاف عليهما، ولا نضطر للدفاع الانفعالى عنهما، كما أن عليهما، ولا نضطر للدفاع الانفعالى عنهما، كما أن المنطق خلق للمعرفة وليس للايمان، والتجريب، خلق لفهم الطبيعة لا لفهم الكتب المقدسة.
ابراهيم عادل: وأنا أعترض على هذا التخصيص بهذه الصورة مجالات ومناهج لكل من: العلم، والفن، والدين، فهناك مجالات يصبح فيها العلم عملا خلاقا، فالاكتشاف العلمى والاختراع والتصميمات المبتكرة هى أنشطة علمية ولكنها ابداعية، فلا تقتصر أدواتها على التجريب أو المنطق الرياضى، فهى طفرة فوقهما، وهى طفرة لها منطقها الخاص، هى أنشطة علمية لكنها تحتوى على نوع من “الحدس”، ذلك الحدس الذى لا يمكن وصفه بأنه قفزة من فراغ، فهو حدس ناتج عن “معاناة علمية”، بعد فشل ويأس من المنطق الرياضى التقليدى، وبعد نظرة ثاقبة غير تقليدية على نتائج التجريب، وفى نفس الوقت فان الكثير من الاعمال الفنية – كالاعمال الموسيقية الكبرى – ليست مجرد شطحات فنية، بل ان ما يكسب هذه الأعمال عظمتها ليس جمال اللحن فقط ولكنه نشاط التأليف والبناء، ذلك النشاط الذى يتسم – فوق أنه عملية ابداعية – بأنه عملية مدروسة لها مقاييسها الخاصة ولها ما يمكن تسميته بمنطقها الخاص الذى يمكن مقارنته بالمنطق الرياضى أو الهندسى، من ناحية أخرى فان الدين – بمعناه العام – يشمل كافة أنشطة الحياة، وهو بذلك ليس “كيانا وجدانيا لا منطقيا”، فقضايا الدين هى قضايا الحياة كلها، وبذلك فأدواته ومناهجه هى كافة الأدوات والمناهج. والقول بأن “تدريب العقول على قبول فصل منهج الدين عن منهج المعرفة سوف يساعد على تخفيف المعاناة الفعلية التى تثقل نفوس المتدينين” قد يكون قولا صحيحا، ولكن اختلافى هو فيما استنتجه من ذلك، فتخفيف المعاناة ليس هدفا فى ذاته، بل ان تلك المعاناة العقلية، التى ما زالت تثقل نفوس بعض المتدينين، انما هى، “بشرى خير” بأن قتل الدين الحقيقى فى أنفسنا لم يبلغ بعد منتهاه، وأن بعض الأنفاس ما زالت تتردد، وأخشى أن عملية “تدريب العقول على الفصل..” تلك انما هى عملية خطيرة، اذ أنها عملية قطع لكافة أنشطتنا الانسانية عن جوهرها وجذورها الحية داخل نفوسنا.
الرخاوى: وأنا فى أشد الحرج يا عادل وأنت وأنا نمثل شتى الرحى كما أشرت فى استهلالك (رغم اختلافنا فى أمور كثيرة أخري) ولكن د. السماحى قادر على الرد على كلينا فى العدد القادم، ثم أنه أصلب عودا من أن يزداد الا تفجرا واقتحاما، ولهذا أتجرأ، فاسأله: عن أى منطق تتحدث وأنت تقول ان الفن والأدب بعيدان عن المنطق والمعرفة؟ عن المنطق “الارسطي” المتهم بتسطيح العقل البشرى أكثر من قرنين من الزمان، أم عن منطق “الأرسطي” المتهم بتسطيح العقل البشرى أكثر من قرنين من الزمان، أم عن منطق “فون دوما روس”Von Daumerus الأحدث، والذى يقبل التناقض، ويشرع للتكثيف، ولا يقص أطراف القضية حتى تلائم تفكيرا مختزلا؟ وما هذا المنطق الذى خلق للمعرفة، ومن الذى خلقه؟ ألسنا نحن – وليس كلنا – الذين سننا قوانينه ثم أشهرناها فى وجوهنا نقيس بها ونحجرعلى ما بعدها؟ ومن قال ان الفن والأدب بعيدان عن المنطق والمعرفة. قد يكونان بعيدين عن منطق محدود بذاته، وعن المعارف العيانيةالمجزأة، ولكن لهما منطقهما الخاص حتى لو كان اسمه “الهارموني” أما بعدهما عن المعرفة فهذا ما قررت اختلافى معك فيه منذ البداية، أما أن المنطق خلق للمرفة وليس للإيمان، فهذا أمر عجيب، واعجب منه أولئك الذين استملوا المنطق المحدود المشكوك فى قوانينه فى “اثبات” وجود الله مثلا (بالدور، أو بالتسلسل، فى علم الكلام:!) كذلك أولئك الذين استعملوا منطقا طفليا مبسطا لنفس الهدف، كان يقول أحدهم ان جمال جناح الفراشة ونظام عمل النحلة يثبت وجود الله، اذ بهذا المنطق نفسه يمكن القول ان قبح شكل أبو جلمبو وانتحار جماعات السمان ينفى وجود الله، هذه كلها عمليات تسطيح وتقريب، مثل قياس المسافات بالكيلو جرام.
ولعلك يا د. سماحى – بل أنك فعلت على صفحات هذه المجلة، ولكنى أضيف أن لكل وسيلة من وسائل المعرفة منطقها الخاص بها دون فصل نهائى، والمنطق المجرد هكذا – اذن – لم يخلق للمعرفة المحددة بصفته “العلمية” كما تقصد وتعلن، وانما منطق العلم خلق للعلم (بل منطق العلم الفلانى خلق للعلم الفلاني) وحتى أكون أكثر تحديدا فانى أرفض أن نبنى فعل خلق “للمجهول”، لأنه غموض لغوى ينبغى الحذر منه، فنحن الذين وضعنا هذا المنطق وخلقناه لتسهيل الفهم مؤقتا، لا ليحكر على انطلاقنا المعرفى ونحن نحترمه فى حدوده حتى نجد منطقا جديدا وهكذا، كذلك “التجريب” هو لم يخلق لفهم الطبيعة، فهو اعجز عن أن يلم بها اذا التزمنا بحرفيته المختزلة، وبالتالى هو اعجز عن فهم الكتب المقدسة، وأيضا فاننا لابد أن نفرق بين الموقف التجريبى والموقف الخبراتىExperimental Vs Experiential، وهذا الأخير (الخبراتى) هو وسيلة معرفية لها أصولها وعطاؤها فى كل مجال.
وأحسب أن موقع تخصصى، فيما يسمى بالطب النفسى والعلوم المتصلة به، هو الذى وضعنى فى مفترق الطرق بين كل وسائل المرفة المتاحة، وان كنت لا أخفى عليك أنه حتى صورة علمى الحديثة هى فى سبيلها إلى اختزال الظاهرة البشرية تحت تأثير سطوة شركات الدواد وعلماء الغرب التابعين لها – ونحن بدورنا تابعون لهم .. أليس كذلك؟
وهذا بعض ما بدا لى أنك تشير إليه ضمنا، وتعزو إليه موقفنا من تقليدهم حتى الالحاد.
د. السماحى: (نعم) ربما يتسرب الخوف من الالحاد إلينا من وعينا بأن نسبة ما من أهل الغرب الذين نقتدى بحضارتهم قد هجرت المسيحية، ولكن ليس معنى أننا نقتدى بحضارة قوم أن يحدث لنا كل ما حدث لهم، فهذا شيء غير ملحوظ فى تاريخ البشر، وعندما تحتك الشعوب ببعضها البعض لا ينقل أحدها عن الآخر كل أنماط السلوك، وإنما بعضها أو جزء من بعضها.
الرخاوى: بصراحة أعيذها نظرات منك صادقة أن تغفل أننا فى الموقف الأضعف إقتصاديا وإعلاميا وسياسيا، وهذا يسهل النقل التقليد وبالتالى يبرر المخاوف ثم أن أهل الغرب انما هجروا أو تحرروا من شكل المسيحية بصورتها السلطوية بعد أن شوهتها كنيسة القرون الوسطى أو الكنيسة عامة، وأصبح رجال الدين بالتعيين هم وسيلة لاحياء الطبيعة البشرية العتيقة بشكل عيانى فوقى، لا بتقشف شخصى كادح، أما هجرتهم للدين والايمان من أبواب أخرى فقد اعادوا طرحها للمراجعة الأن وما ينبغى أن ننتبه إليه هو أننا انما نمر هنا بمرحلة كهنوتيه تقابل نفس موقفهم حينذاك فيصبح عندنا نفس مبرراتهم لسلوك مسلكهم ليس من باب التقليد، وانما من باب النتاج الطبيعى للمقومات المتماثلة، ذلك أن بعض طبقة رجال الدين عندنا – التى ليس لها وجود أصلا فى ديننا تكاد تمارس أشاكالا من الاحتكار والوصاية تجعل أى عقل حر شريف عرضة لان يبتعدعن المجاهدة على طريق الايمان أصلا، وما دام لن يرضى على عقلة بالتبعية لهم رغم رضائه المبدئى بالتبعية لله تعالى، فهو عرضة للالحاد حتما، وهم يدفعونه إليه دفعا بسبب هذا الاحتكار الكهنوتى، فالخوف من نفس خطوات المسيرة التى سبقنا إليها الغرب قائم لا محالة، لقد كادوا يغلقون الباب صفقا دون المحاولة الخلاقة كدحا إلى وجه ربنا، ومع ذلك فأنا على يقين من حسن نية أغلب الوصاه، بقدر ما أنا على يقين من استسهال أغلب المشاه، ولكن هذا لا يبرر ذلك، فالخاسر فى النهاية هو السعى إلى الحقيقة ومواصلة الابداع ان هؤلاء وأولئك، بفرط الوصاية أو قدر الاستسهال، هم الذين جعلوا الدين فى هذا الموقف الضعيف.
ابراهيم عادل: وأنا أخشى أن تكون أزمتنا الدينية الحالية أشد صعوبة وتقيدا من أزمة الغرب السابقة، فكنيسة الصور الوسطى كانت قد اتخذت شكلا سلطويا صريحا وكانت تناقضاتها مع التيارات الفكرية التقدمية واضحة، وكان قهرها للفكر العلمى قهرا مستفزا، مما جعل المثقفين وحتى عامة الناس ينفرون منها، الأمر الذى ساعد على قيام حركات الاصلاح الدينى وعجل بنهاية ذلك الشكل فى آخر الأمر، لذا فان وضوح صورة ذلك الصراع وتبلور أطرافه وغياته هو ما يساعد الغرب الآن على اعادة طرح الدين والايمان من جديد أما عندنا فالامر مختلف وغامض، فهناك من يقول بأننا حاليا فى حالة نهضة دينية، لمجرد ارتداء بعض الفتيات للحجاب، وترك بعض الشباب لذقونهم بدون حلاقة، ولان بعض البنوك قد أضافت لاسمائها كلمة “اسلامية” مع اتباع بعض الحيل السحرية الاقتصادية التى يتيح لها القيام بجميع أنشطة البنوك الاخرى بعد اضافة كلمة “اسلامية” لهذه الأنشطة لاجتذاب أكبر قدر من العلماء الذين يريدون الاطمئنان “دنيا وأخرة” وسلطة رجل الدين ليست سلطة صريحة استفزازية ، بل هى سلطة ضمنية مختفية وان تكن قوية، وهى سائرة فى ركاب السلطة الحاكمة وتابعة لها. والصراع الفكرى لا يتخذ كلا واضحا فنحن نجد رجالا للدين يلونون الدين بكل لون، ويشكلونه ليلائم جميع أنواع القوالب (حسب المطلوب)، فهم مع العلم الحديث وهم مع المنطق والفلسفة وهم مع الاشتراكية، لذا فإن الوصاية على الفكر وصاية هلامية لا يسهل الامساك بها، لذا فإنى أخشى أن يكون توقعك أن نسير فى نفس خطوات المسيرة التى سبقنا إليها الغرب تفاؤلا لا مبرر له، إذ أنى لا المح بوادر أى تغير – على الأقل فى المستقبل القريب، أما يقينك بحسن نية الوصاة فأنا أخشى منه أيضا، فهو حسن نية مغلف غالبا بغشاء مانع من الانتهازية والتوثب للسيطرة، لذا فإنى اعتقد أن أزمة الدين عندنا أشد مما نظن، وأن الدين فى موقف جد ضعيف
الرخاوى: لم أفهم لمن توجه الخطاب يا عادل، ولما كنت آخر المتحاورين قبلك مباشرة فآخذه لى، فأنا لست متفائلا بأننا نسير نفس الخطوات التى سبقنا إليها الغرب، ولا أريد ذلك، بل انى أرعب منه أشد الرعب، لانه سباق غير متكافيء. حتى لو عادوا هم إلى دين ما، فقد لا نفعل اذا تورطنا فى مغامرة غير محسوبة، أما يقينى بحسن نية الوصاة، فقد قلت أغلب الوصاة، وأحسب أن عندك حق مع ذلك، ولكن – عموما – فان حسن النية ليست مزية أصلا، فقد هزمنا فى 1967 بحسن النية، وكم منا سيدخل النار – أو هو فى النار فعلا – بحسن النية لكنى أتفق معك فى أن الدين فى موقف ضعيف، بحيث يحتاج إلى كل عقل أمين وحس كادح ووجود مثابر، ولكن يبدو أن للدكتور السماحى رأى أخر، نابع من طمأنينه أخرى .
د . السماحى: أننى لا أعتقد أن الدين فى موقف ضعيف أو يحتاج إلى دفاع، ولذلك فبدلا من استرسال كتابنا فى اتخاذ موقف الخطيب، الذى يحمى الدين، فانه من الأفضل لهم توجيه جهودهم إلى حل المشاكل الصغيرة المحيطة بتكييف الرؤية الدينية لمعاصريهم مع الواقع المتغير، وهو أمر يستلزم مراجعة التصورات التى تنقل بشكل أعمى عن قدامى اللاهوتيين، وأناأقدر مدى صعوبة وحساسية عمل كهذا، لكنه ضرورى ونتيجته الوحيدة هى التقدم.
الرخاوى: عليك نور، ولكنى لست متأكدا بمن تعنى بكلمة “كتابنا”؟ هلى تعنى أولئك العلماء الذين يخفون جذور الدين بقشور العلم دفاعا مجيدا ؟!! أم تعنى الكتاب السياسيين الذين يستعملون الدين لتحريك انفعالات المجاميع لصالح أفكارهم الخاصة، ولعبة مقاليد القوي؟ أم تعنى الكتاب الذين يحتمون من فكرهم بمبدأ السلامة أولا؟ أن المسألة يا سيدى أصعب من كل تصور، ومع ذلك فلا مفر من المحاولة ايمانا واحتسابا.
ابراهيم عادل: أظن أن د . السماحى يعنى غير كل هؤلاء، يعنى الكاتب الذى يملك قدرا من الرؤية لإدراك أبعاد المأزق وموقف كل فريق ودوافعه وأعذاره ومحاذيره، وقدرا من الأمانة ليحدد موقفه كما يقبله ضميره، وقدرا من الشجاعة ليكون موقفه ذلك ايجابيا، وقدرا من القوة والاصرار يساعده على العودة إلى الوقوف ثانية بعد تلقى الضربات التى لابد أنه ملاقيها، لعل المطلوب نبى أو عدة أنبياء . . فهل انقضى عهد الانبياء أم هو قادم؟
الرخاوى: اختلف معك يا عادل، فمثل من وصفت لا يتخذ موقف الخطيب، وهم ندرة تماما، وأوافقك أننا نحتاج لأنبياء ليسوا مرسلين، وذات مرة كتبت: “لسنا فى حاجة إلى دين جديد، ولكنا فى حاجة إلى ملايين الأنبياء”. وأظنك تذكر أن رأى محمد اقبال فى ختم النبوة بديننا الحنيف، هو أن يتحمل كل منا مصيره فى ابداع حياته دون انتظار وحى السماء من جديد. عهد الأنبياء انقضى بالمعنى التقليدى، وهو قادم بالمعنى الابداعى الشامل، ولكنى أظن أن الدكتور السماحى يوصى بتكييف الرؤية الدينية مع الواقع المتغير وهذه ليست نبوة أصلا، لان النبوة بدع الواقع من جديد ليتلائم مع الرؤية الأعمق والأكثر اتزانا وصلاحا، ومع ذلك فانظر إلى أين نذهب – أنا وأنت – وقد عتبنا على د . السماحى الرومانسية مع أنه يبدو أكثر واقعية منى ومنك، اذ يتناول مشاكل عملية لفظية محددة .
د. السماحى: من الطبيعى أن تنشأ ألغاز ومشكلات عند محاولة فهم أى نص دينى فهما حرفيا لأننا سنواجه عبارات تتعارض مع أفكارنا عن الطبيعة اذا أخذناها كما هى بنظرة ضيقة، فمثلا قد يفهم حرفيا من نصوص القرآن أن الأرض مستوية وأن فوقها سقفا مرفوعا من سبع طبقات تزينه الكواكب والنجوم التى تشبه المصابيح، وهذا بالطبع يتعارض مع فكرتنا “الكوزمولوجية” عن الكون، لكنا اذا فسرنا النص رمزيا لا حرفيا لفهمنا أن الأرض كيان مستقر لنا ممهد من أجل معيشتنا وأن ما خارجها هو السماء، أى الفضاء، والذى تبدو نجومه وكأنها مصابيح معلقة فى سقف كونى رائع، فنحن هنا بصدد تشبيه وكناية وصورة جمالية، ولسنا بصدد عبارات علمية; لأن الله لم يقصد ان يعطينا مقررا فى الفيزياء والفلك، فهذا من شأن كليات العلوم .
الرخاوى: ها نحن نحوم حول الحمى، وقبل أن أرد عليك استسمحك فى أن أذكر لك ما سمعته من أحد المفسرين العلميين (!!!) فى هذا الشأن، وهو : أن من إعجاز القرآن أنه ذكر أن الأرض لا هى مبسوطة ولا هى كروية، وهذا الانبعاج لا يكون الا فى البيضة، “ودحاها” أى جعلها مثل البيضة، أى والله العظيم هذا حصل، ورجعت إلى كلمة دحا، ودحو، فلم أجد الا معانى البسط والاتساع، دحا الشيء: بسطه ووسعه، (الوسيط)[1]، ولقد عرجت إلى ذلك حتى أشهدك على ما وصلنا إليه من تمسح بالخطأ والتأفه، وحتى لو كان “الدح” هو “البيض”، كما يقولها بعض أهل محافظة الشرقية وأهل الصعيد، فان ذلك لا يسمح بهذه التفاسير أصلا.
ابراهيم عادل: ……. ما دمنا قد دخلنا فى هذه التفاصيل، فانى قد سمعت هذا التفسير وكان تعليقى عليه أنه للأسف ان انبعاج البيضة عكس انبعاج الأرض وليس مثله، فانبعاج البيض هو كروية مع ميل للاستطالة أما انبعاج الأرض فهو كروية مع ميل إلى الفلطحة، مما قد يوضح قابلية أى تفسير سطحى متمسح فى الاعجاز فالافلاس بأى معالجة. وبالمناسبة “والشيء بالشيء يذكر” فقد صدرت أبحاث مطولة عن “الاعجاز العددى للقرآن” يثبت اعجاز القرآن عن طريق عدد مرات تكرار بعض الحروف والكلمات فى القرآن (وهى أبحاث بالكمبيوتر)، ويمكن بنفس الطريقة (وبالكمبيوتر أيضا) اثبات الاعجاز العددى لكتاب القراءة للصف الأول الاعدادى – استغفر الله العظيم.
الرخاوى: فهذا الطريق من أساسه باطل حتى لو أصاب، وأنا – اذن – أوافقك – يا د. سماحى – على حكاية ان الله لم يقصد أن يعطينا مقررا فى الفيزياء والفلك، ورغم هذه الموافقة فانى اختلف معك أنت أيضا فى أن المسألة مجرد تشبيه وكناية وصورة جمالية، نعم أنا لا أوافقك ولا أوافقهم، ولكن دعنى أتركك تكمل قبل أن أحاول أن أشرح تصوري.
د. السماحى: موقف مشابه حين نقرأ فى القرآن ما يوحى بأن الله عز وجل يستوى على عرش تحمله الملائكة، ان فى ذلك مجرد صورة مجازية ربما تهدف إلى تذكير المسملين بعلو شأنه فوق الكون بأجمعه، لكن الله ليس كملوك الأرض سبحانه عن كل تشبيه.
الرخاوى: أتحفظ على مبدأ هذه المحاولة، وخاصة على تعبير “مجرد صورة مجازية” وأؤجل الرد.
د. السماحى: وبنفس الطريقة يمكن فهم قصة عدم سجود الشيطان لآدم وتمرده على ربه وتحديه له ثم طرده من الجنة وما ترتب على ذلك من نشأة الشر على الأرض بفعل صراع ابليس مع الله، على أنها اشارة إلى أن الشر ليس كامنا داخل الانسان وانما نشأ من اغراءات الحياة خذف وصعوبة تغليب ضميره على نزواته عند الاختبارات الصعبة، وذلك لان التفسير الحرفى يؤدى إلى سوء فهم وإلى أن نظن إن الشيطان قد تحدى الله ونجح فى إفساد عباده بإقناعهم بالشر رغم أن مقصد الاله كان خلقهم كائنات خيره تخلفه فى الأرض، كما يؤدى إلى انعدام أى مغزى أخلاقى فى القصة، وإلى توهم أن البشر ضحية كبرياء إبليس.
الرخاوى: الله ! الله! لهذا ومثله فضلت أن يكون حوارا، وأظنك تذكر جيدا موقف الحلاج من إيمان إبليس، أو قصيدة العقاد فى الشيطان؟ وأتحفظ على استهانتك هذه بهذا العدد المتميز (ابليس)، وعلى استنتاجك بما يتعلق بطبيعة البشر الخيرة (ألا تذكر: فألهمها فجورها وتقواها) – ولا أستعجل الرد، فأتركك تكمل
د. السماحى: كذلك يمكن فهم الأمر الموجه من الله إلى نساء النبى والمؤمنين باطاله ملابسهن واخفاء صدورهن بالخمار وعدم ابداء الزينه لا على أنه فرض لزى محدد أو نوع بالذات من الملابس بقدر ما هو دعوة إلى الاحتشام والأدب واحترام الجسد، فالله عز وجل أعظم من أن تشغله قضايا صغيرة كقضية طول رداء المرأة أو اخفاء شعرها عن عيون الذكر.
الرخاوى: آمل يا سيدى أن تكون قد قرأت رأى “حسين أحمد أمين” فى صحيفة “الآهالي” – مثلا – عن هذا الموضوع، ثم الرد عليه من بعض مسلمى حزب “التجمع” شخصيا، ثم وعد الصحيفة بنشر “آلاف” الرسائل التى وصلت فى هذا الموضوع احتجاجا صارخا، ولعلك تفهم من ذلك ما ينبغى أن تفهم، ولكن قل لى ما هو المخرج من هذا المأزق كما تتصور؟
د. السماحى: ان التفسير الرمزى يجنب الاسلام التناقض والشك والاختلاف حول معنى كلمة أو حرف، ويصرفنا عن اللغو حول أمور نحوية ويوجهنا إلى أمور جوهرية وجادة، كما أنه يعيد الثقة إلى المسلم، فيعرف أن بامكانه فهم مقاصد الدين دون الرجوع إلى الفقهاء، وهم فئة تخصصت فى نقل اجتهادات القدماء، وحرمت اجتهادات المعاصرين، وأرهبت الفرد من محاولة الاعتماد على النفس فى فهم الدين.
ابراهيم عادل: أخشى يا د. سماحى أنك بدأت داعيا إلى عدم حاجة الدين إلى دفاع، وانتهيت إلى ابتكار دفاع جديد عن الدين هو “الدفاع الرمزي” يضاف إلى قائمة الدفاعات القائمة حاليا وأهمها: الدفاع عن الدين بالقول بتمشية مع المنطق، الدفاع عن الدين بالاعجاز الفنى والجمالى فى الطبيعة، ولكن دعنا نسمع رأى الدكتور الرخاوى.
الرخاوى: شكرا يا عم عادل، ثم اسمح لى يا د. سماحى، فقهك الله، أن أعتذر أنى لا أستطيع أن ألاحقك بكل ما تلقى فى وعى، فأولا: لم أفهم جيدا ماذا تعنى بالتفسير الرمزى، وعندى تحفظات خاصة على ماهو “رمز” حتى بالنسبة للغة، فالعلامة (الصوتية) مثلا اذا دلت على معنى متفق عليه بين عدد من الناس لفترة من الزمن، اعتبرناها رمزا لغويا، لكننا نتوقف رويدا رويدا عند هذا الرمز لتجعله أصلا ثابتا، وننسى أنه تولد بفعل حاجتنا إليه، وأنه قابل للتغيير والتطوير أو الالغاء والايدال اذا ما انتهت الحاجة إليه، أو تغير مضمونه بتغير ما يدل عليه بمزيد من الكشف والمعرفة والاحاطة والسير .. الخ الخ، لذلك فان التفسير الرمزى الذى تحاول أن تخرجنا به من هذا المأزق هو تفسير جامد حتما، حقيقة أنه قد يخرجنا من “الحرفي” إلى “الرمزي”، ولكن كلاهما جمود خطر وثانيا: حكاية “اللغو حول أمور نحوية”، أتوقف عندها طويلا فلكل لغة أصولها، ويستحيل أن تستوعب نبضها ومضمونها ما لم تفهمها حقها، وتلم بأبعادها، وقد عانيت الكثير فى ترجمة بعض المعانى البسيطة من لغة لأخرى حتى كدت أقول باستحالة الترجمة، ومرة أخرى تيقنت أن الترجمة الصادقة أعظم من بعض التأليف، كل ذلك علمنى أن اللغة ليست ألفاظا لها معان فى معاجم، وإنما هى كيان حى، وسياق متكامل، يستحيل أن تلم به ما لم تحترم أبسط قواعده، ثم تعش نبض أدائه، والعلوم النحوية هى بعض هذا – ولكنى معك أن الافراط فى تفاصيل مشاكل الشكل قد يكون مسلكا هروبيا حتى لانواجه أصل نبض المعنى وطبيعة توجه المضمون، كما أنى معك فى أن اللغة – بكل رصانتها وقواعدها – لا ينبغى أن تكون سجنا لمضمونها، فاللغة كائن متحرك متطور، ولكن بالأصول، بالأصول يا سيدى بالأصول، ولعلك لاحظت أن هذا التطور هو الذى يهز قيمتها الرمزية وفى نفس الوقت يبعت فيها حياة خاصة بها، وأطوارا متجددة لنموها، وقدرة على الانسلاخ والتناسخ، وبغير هذا كله نصبح سجنا معيقا وليست أداة دالة، أو مضمونا متحكما.
وثالثاً: موضوع أن “الفقهاء، هم فئة متخصصة فى نقل اجتهادات القدماء” هو تعميم جديد خطير، فأصل الفقه حسن الادراك([2]) فأين هذا من: نقل اجتهادات القدماء؟ وأنا أعذرك كل العذر فى الانطباع الذى انتهيت إليه من فرط الوصاية، ولكنى لا استسلم له، ودعنا نقول ” بعض” الفقهاء، أو حتى “كثير من” الفقهاء، بل دعنا نقول بعض من يعمل بفقه القدماء، لأن الفقيه الفقيه: هو الذى يحسن ادراك النص بتجدد مستمر حسب: تطور اللغة دائما، والمعارف جميعا، وشخصه خبراتيا، وايمانه واقعا – أما الناقل الحرفى فهو جهاز تسجيل حسن “أوسيء” وهو ليس بفقيه أصلا.
ورابعا: حكاية “حرمت اجتهادات المعاصرين، وأرهبت الفرد من محاولة الاعتماد على النفس فى فهم الدين” …، ان هذا الأمر يا سيدى له ما يبرره، وان كانت عاقبته وخيمة على من اجتهد بغير جهاد، ومن حرم (بتشديد الراء) بغير تمييز، فعلاقتنا يا سيدى باللغة أضعف من الضعف، وعلاقتنا بالعلم أسطح من أى معرفة، ومجاهدتنا للنفس أمر غير مطروح فى تربية تركز على الرفاهية وعبق الاحساس، فكيف بالله فى مثل هذا الجو، يأتى أحد الفقهاء من الحريصين على دينهم الواعين بواجبهم ليفتح الباب على مصراعيه لكل من لا يفك الخط ليس فى أمر دينه فحسب، ولكن فى أمر ذاته أساسا،
ذلك أن مثل هذا الشخص لن يعدو أن يكون بوقا يردد أما لقشور العلم ، أو اشاعات الحضارة الآفلة (أو المهددة بالأفول) أنا أعرف مأزقك يا د. سماحى وأعيشه، ولكن أرجو أن تعذر من خاف على دينه فمنع مقابل من استسهل، وتمطى، فأفتى، (متصورا أنه اجتهد) وكما سترى، فأنا لا أعرف مخرجا سهلا من هذا المأزق، وخاصة بالرمزية التى تتصور أنها ستحل الاشكال بهذه البساطة.
د. السماحى: الرمزية لا تجعل من الأمثال التى يضربها الدين مجرد أساطير تحفظ بنصها كما جاءت، وتتحدى معارفنا العلمية، بل تجعلها أمثلة أخلاقية تنقل مقاصد الدين بالمجاز والتلميح، وربما لأن التلميح والرمز والايحاء زبقى وأقدر على مسايرة كل عصر، وكل ثقافة بينما تتحطم الحرفيات عندما تواجه متغيرات زمنية وثقافية. والرمز أصل فى الد ين، فالحج رمزى وذبح الكبش قرب الكعبة رمزى، والرمز الشائعة فى القرآن خاصة عند وصف الجنة والنار ولحظة القيامة والبعث وفى قصة الاسراء وفى قصة ابتلاع الحوت لسيدنا يونس ثم خروجه من بطنه عندما استغفر لخطئه وهكذا، كما أنه (الرمز) شائع أيضا فى كل الكتب المقدسة ويشكل جزءا كبيرا من النصوص والطقوس فى الديانة المسيحية بالذات.
الرخاوى: يا سيدى واحدة، واحدة، غفر الله لنا ولك، هل لى أن أدعوك أن تبتعد خطوتين لتنظر إلى كلامك من بعد، فتلاحظ – شئت أو استطعت – معى أن أحكامك تلقى بتعميم وحسم شديدين، الحج رمز: يرمز لماذا؟ لشيء نعرفه؟ وماذا نعرف تحديدا ويقينا بما يسمح لنا بترجمة هذا النشاط: الجماعى الحدسى التربوى: مما يمحق التعصب فى ظلمة كهفه، وينظم الرؤى إلى ما بعدها … الخ.، كل هذا رمز؟ إلى ماذا: مما اتفقنا عليه؟ وقل مثل ذلك على البسمله …. والقيامة …. والبعث، أنى أفهم دافعك وأومن بصدق محاولتك، لكنى لا أتفق معك على هذه المباشرة والتعميم والتفسير الرمزى، لأن معنى ذلك – ضمنا – اننا اذا كنا لا نستوعب المعنى الظاهر أو الخفى وراء سلوك ما، أو يقين ما، لأننا لا نستطيع أن نترجمه لأقرب “واحد صحيح” من معرفتنا، اختزلناه إلى أن يكون رمزا لما تعرف “تحديدا” لأننا – ببساطة – لا نستطيع أن نحتمل أن يظل مجهولا لنا، وفى نفس الوقت يحتمل الصدق ويصف حقيقة أبعد من تناولنا، ونفس هذا الموقف هو ما يدعو علماء اللغة والتفسير إلى ما أسميته أنت بالتفسير الحرف فى، أو الحرفية، لأنهم اذا أعجزهم تحمل الغموض – كما هو – رغم أنه دال على حقيقة ليست بالضرورة فى متناول عقلنا المحدود (كما تعود)، سارعوا بالتخريج وحشر المعانى تعسفا فى الألفاظ سجنا، والنتيجة أن كلا من التفسير الرمزى والتفسير الحرفى هو استسهال يمهد الطريق أمامنا كى نهرب من الصبر على مالا نفهم – كما اعتدنا أن نفهم – (آسف لما يبدو من حديثى الآن، ولكنى بدأت أبدى وجه نظرى غير المألوفة فلابد من تحمل الصعوبة لو شئت للحوار أن يستمر) – وباختصار فأن تحفظى ضد الرمزية لا يقل عن تحفظى ضد الحرفية.
ابراهيم عادل: أكاد أفهم ما تعنيه يا د. سماحى بالرمزية، لست أرفضه ابتداء، وأن كنت أعترض على تعميمه أو ادخال الدين فى قالب رمزى، وسأحاول التعبير عما أفهمه قدر استطاعتى من قصة آدم عليه السلام مثلا: “اتجاه قصد الله إلى خلق خليفة فى الأرض … على غير شاكلة الملائكة … ثم خلقه لآدم .. من طين .. ونفخه فيه من روحه … وعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال وأبائهن حملها … وقبول حملها … مع الظلم والجهل … وأمر الملائكة بالسجود … ورفض إبليس … وتوليه .. “بعزة الله” … مهمة الاضلال وعصيان آدم .. والتوبة .. والهبوط إلى الأرض .. لتولى الخلافة .. مع احتمالات الضلال .. والهدي” أى أن القول بأن هذه القصة رمزية هو قول ضحل – وعذرا – فالقصة عندى، حقيقية حدثت وتحدث الأن فى كل لحظة، وهى موثاة بالرمزية، رمزية شديدة التكاثف، رمزية تغوص إلى منطقة صعوبة الحصر فالرمز هو ما يمكن حصره والاصطلاح عليه، رمزية فى نطاق التقاء الرمز بالحقيقة ذاتها. لذا فانى أرفض أنا أيضا فكرة اختزال الحج البسملة إلى رموز، كما أرفض أن الأوصاف الكونية هى مجرد صور مجازية أو تعبيرات جمالية وأن كنت لا أرفض احتواء الدين على الرمز والمجاز والابداع الجمالى، وأعتقد أن فشلنا فى محالة التفسير بتحليل الدين إلى مكونات أولية هى: حقيقة – ورمز – وابداع جمالى فنى، ليس من عيوبنا أو عيوب الدين، ولا حتى من عيوب المحاولة ولكنها من طبيعة الأمور، فليس كل ما يعيه الانسان يمكنه التعبير عنه بالكلام أو حتى بالفن بجميع صوره من موسيقى وتشكيل وآداب، وهذا التحدى والاستقصاء هو ما يحفظ للأصل أصالته وللوعى عمقه ولوسيلة التعبير استمرار الجدة والتنوع، ولذا فاننى أقول لك يا د. سماحى أنه بالرغم من هجوم د. الرخاوى الشديد على الرمزية وبالرغم من رفضى التام لتعميمها، واعتقادى أن تبسيط الأمور بتقسيمها إلى مجالات محددة – لكل مجال منهج – وتعميم الأحكام لتكون مطلقة حاسمة فيه الكثير من الاجحاف، الا انى أقول أنها محاوله مشكورة فهى أولا لابد نابعة عن حيرة حقيقية لفرط صعوبة أمر الدين واستعصائه على الاستيعاب بالمنطق العلمى المجرد واستعصائه عن أن يوضع فى جانب الأمور الوجدانية الصرفة أو الفنية الصرفة وباختصار صعوبه وضع الدين فى وضع “أحادى البعد” فهى حيرة وليست رغبة استعراضية فى التفلسف وهى ناجمة عن شدة الصعوبة مع نوع من “الخوف من الالحاد” مع تعجل للوصول إلى حقيقة، وثانيا لأن أحدا لا يملك أن يحجر على محاولة أحد للاجتهاد وهذا يجرنا إلى موضوع الاجتهاد.
الرخاوى: بصراحة يا عادل أنا أقف أمام يقينك هذا، هنا، منبهر واسمح لى أولا أن أوضح لك هجومى على الرمزية، ذلك أنى أهاجم الرمز بالمعنى الذى تصورت أن د. السماحى يقصده، أى بمعنى أنه لفظ أو علامة اتفقنا جميعا أو غالبيتنا على ما تشير إليه، لأن ذلك يسجننا فيما اتفقنا عليه، وهو مرحلى بالضرورة بالنسبة لحتمية تطور اللغة، أما الرمز بمعنى الاشارة إلى ما هو أعمق منه أو إلى كل يشمه، أو إيحاء يلمح إليه، فهذا مقبول عندي،وهو الاستعمال الذى قال به يونج متخطيا رمزية فرويد بشكل أو بآخر – ثم أعود ليقينك من مغزى خلق آم، وأنها قصة حقيقية حدثت، وتحدث الآن، فى كل لحظة – فأقول أنى أقف احتراما، وأصدقك حتما، ولا أفهمك عذرا، لكنى أشعر تجاه جديتك بصدق ما، لذلك لن أستزيدك إيضاحا … وإسمح لى أن أفهم منك – بكل خطأ محتمل – أنك “عشت الرسالة” كما هى دون تمسك بحرفية الألفاظ كما هى فى المعجم، ودن القفز إلى رمز متفق عليه من علوم البلاغة أو قشور العلم – ليكن، ولينكن هذا هو تحذير د. السماحى من سجن الحرفيه، وان كنت أشك فى ذلك.
السماحى: الحرفية والتزام النص ضرورة للقانون والتجارة والمعاهدات الدولية والعلم، لكنها تفسد الفنون والآداب، كما تشوه فكرتنا عن الدين، وتصعب إلى أقصى حد تشكيل سلوكنا الأخلاقى، أما عن ضرر الحرفية على الأخلاق فيظهر بجلاء عندما يضطر الإنسان إلى مخالفة نص ما من أجل أن يعيش: كأن يأكل لحم خنزير أو ميته إذا لم يجد سواهما ينقذه من الجوع، أو أن يكذب إذا إستجوبه عدو ظالم عن معلومات تخص أسرار وطنه مثلا.
الرخاوى: ما هذا يا سيدي؟ لا يوجد تفسير حرفى – فيما أعلم – يمنع أحدا أن يتبع مبدأ “الضرورات تبيح المحظورات) وأن “الحرب خدعة” أعذرنى إذا أنا لم أضع أمثلتك هذه فى مكانها الذى أردت لها …، بل ان تفسيرك الرمزى هو الذى قد يحبسنا فيما إرتضيت لنا أن يرمز النص إليه، والإسلام – مثلا – أرحب من حروفه، ومن معانى رموزك معا.
السماحى: التفسير الرمزى ليس جديدا على الإسلام، بل هو قديم جدا، وهناك فى أيامنا هذه كثيرون من ذوى المزاج المستنير الهادى، يأخذون به، وأن فعلوا ذلك فى صمت، فانما يصمتون لتجنب إرهاب ذوى الصوت المرتقع من التقليديين الحرفيين الذين يعاملون أصحاب التيار العقلانى فى الإسلام معاملة الملحدين سواء عن تعصب أو قلة فهم.
ابراهيم عادل: أما “المستنيرون الهادئون” فهم متناقضون بالتعريف، فمن أين يأتى الهدوء مع الاستنارة والحال كما هو عليه، فالعلم مع الاضطرار إلى الصمت جحيم يستحيل معه الهدوء أن هذه الاستنارة الهادئة لا تتم إلا بتعاطى جرعة من مخدر يساعد على الوصول إليها، سواء كان هذا المخدر “مخدر مادي” أو “مخدر فكري” مثل فكرة الصمت خوفا من التعصب، ومن “استنار” فلابد “أن ينير حتى ينور الله عليه وعلى الناس، وتبادل الاستنارة بإعلان الرأى وطرحه للاختبار هو الضمان الوحيد ألا تكون هذه الاستنارة محض عبق أو تقوقع عقلى، ومهرب استسهالى مستتر وراء فكرة الصمت إزاء تعصب الحرفيين التقليديين، أنا معك أن الحجر الفكرى شديد وأن إرهاب الأصوات المرتفعة ثقيل الوطأة ولكن هل لديك وسيلة أخري؟
الرخاوى: أظن يا عادل أن الدكتور سماحى عنده وسيلة ما، وأحسب أنه يؤمن بمعطيات العلم ايمانا مطلقا، ويود لو ترجم معطيات الدين إلى ما يوافق عليه العلم، وإنى أتصور أنه يظن أن كل ما خلا ذلك فهو من المحسنات البديعية والمجاز. ولعلى أكون مخطئا، ثم أن ما يقال عنه أنه تفسير رمزى يأخذ به كثيرون من المستنيرون العرب على وزن المقاولون العرب) – أقول أنه قد يعنى به (أو هذا ما وصلني) “التفسير الخاص”، وليس الرمزى، وهذا أمر قديم جدا فان صح أن للقرآن مثلا ظاهرا وباطنا ومنطلقا واحدا وتفسيرا لا يعلمه إلا رسول الله وتفسيرا لا يعلمه إلا الله، فان المرتبة الخامسة “تفسيرا لا يعلمه إلا رسول الله)، هى التى يمكن أن يقال عنها “تفسير خاص” برسول الله … ثم بمن يخاطر ويتحمل المسئولية، وقد اعترف الإمام الغزالى وابن طفيل والتوحيدى وابن سينا باحتمال وجود هذا التفسير الخاص، مما أدرجه بعضهم تحت علوم المكاشفة، وحين فاض بالحلاج الوجد وأعلن “تفسيره الخاص” “الخبرانى المجاهدي” ناله ما ناله، وأنا لا أدعو إلى تفسير خاص بالمعنى السهل (الاستسهالي) بل أحذر منه حذرى من القهر العام، ولكنى لا أستطيع أن أحول دونه (لأنه خاص)، (ولأنه انساني) (ولأنه فى بعض الأحيان – اذا دفع صاحبه ثمنه مسئولية وجهادا – تشريف للعقل البشرى، ولكنه “تفسير سري” (بنص التعريف) وهنا الخطر الأكبر، فما الذى يعدل الفكر الخاص الا اختبار الحوار، ومواجهة الواقع؟ وأصحابك الصامتون “من ذوى المزاج المستنير الهادئ” ليس لهم نفع حقيقى رغم احتمال صدقهم، وحكاية التيار العقلانى هذه أصبحت – ولا مؤاخذة – قديمة، إذ لم يعد العقل عقلا واحدا بل عدة عقول ناضجة وقادرة وفاعلة وموجهة فى آن، مالى أى منها تنسب صفة “عقلاني” وكيف تصفهم “بهذا المزاج المستنير الهاديء” فى حين أنهم – أن صدق الجهاد – لابد وأن يكونوا فى موقف لا يحسدون عليه إذا ما سلكوا طريق الابداع الدينى الخاص، فإزدادوا وحدة وحصرا، أى هدوء فى كل هذا؟ إلا أن كان حلهم مهربا عصريا، لكنى معك فى أن من يستعمل عقله الخاص “بعد الحدود” يكفرونه فورا وحتما.
ولا أظن أن فى هذا فائدة كبيرة لا للإسلام ولا للعقل، بل أتصور ويغفر الله لى – أن الالحاد نفسه لابد أن يقابل بالسماح، لأنى أتصور أنه شرف للعقل أن صدق فى اجتهاده (ولم يستسهل ليهدأ باستنارة عقلانية مشكوك فى مصدرها وموضوعيتها – بل إنى ذهبت إلى يقين بأن “الالحاد استحالة بيولوجية” بمعنى معين – فظاهر الالحاد هو لعبة فكريد مضروبة بمنطق الفطرة وحتم الأيض الكونىCosmic Metabolison وهى فى جو “صحي” بكل معنى الكلمة وأبعادها – منتهية حتما إلى طريق التوازن الأكمل (الايمان) ولا معنى لاجهاض نور العقل البشرى باعلان غارة وهمية خوفا على حقيقة الشمس من الألعاب النارية، وانما يمنع الإلحاد بالقانون أو الحد إذا حال الملحد دون عقل انسان آخر أن يواصل مسيرته نحو التوازن التصعيدى بالسعى -بكل عقوله – نحو المطلق فيما وراء الحدود (وليس وراء الطبيعة أى ليس “الميتافيزيقا” فلم يعد ثمة شيء يستحق هذا الاسم) – فالملحدون الذين يخافون الإيمان فيتشنجون قهرا ضد كل من يهددهم بما ليس كذلك، هم فقط الذين ينبغى أن نقابل قهرهم بقهر مماثل، وربما أسبق، بمعنى أنهم اذا حالوا دوننا وطريق الايمان (التفكير الإبداعى المتصل المغامر) تحت وهم عبادة العلم القشرى الخائف، فمن حقنا أن نتقى شرهم فنحرمهم من رفاهة إعلان الالحاد، ولكنها قضية قديمة دائرية، “فمن” الذى يحكم على من؟ “ومن” ذا الذى يعطى “من” حق المنح وحق المنع؟ سيأتى الغيور على دينه بنص إعدام المرتد، وسيأتى المسمى بالعقلانى، الخائف على إلهه الجديد بقيود المنهج وفذلكة الرمز ويشجب بهما ما يسميه خرافة، بما فى ذلك الدين والايمان أو يسمح بممارسة الدين فى أوقات الفراغ والعطلات الرسمية للبركة واستجلاب رفاهية الدارين!! وسيقيد العقل البشرى من كل جانب، ثم تستأنف القضية فى محكمة السلطة السياسية (والاقتصادية) فيصدر الحكم لصالح “الأقوي” لا “الأحق” ودمتم، سامحك الله يا د. سماحى، فتحت علينا ما نحاول أن نؤجله وواجهتنا بحتم القول دون ضمانات لأدنى درجة من المناخ الصحى الذى يتيح لنا أى حركة نحو تفسير خاص أو إبداعى أو ما شابه.
ابراهيم عادل: أما التفسير الخاص فانى لا أستطيع قبوله وحتى تأويله بأن ذلك التفسير الذى لا يعلمه إلا رسول الله فهو غير مفهوم – فالرسول – مكلف بالإبلاغ- وغير مسموح له بالاحتفاظ بتفسير خاص لنفسه – اللهم إلا إذا كان قد أدركه ثم قصرت إمكانياته عن إبلاغه بالرغم من المحاولة، ولا أستطيع أن أتصور إلا أن الرسول قد أمضى سنوات دعوته فى محاولة جاهدة شاقة للإبلاغ، وكان دائما يردد : “ألا هل بلغت .. اللهم فاشهد” وأرانى لا أستطيع التعاطف مع رأى الإمام الغزالى بوجود التفسير الخاص بمعنى كتمان الرسول لبعض الحقائق التى يعلمها عن عامة الناس لأنها قد تفسدهم، فكيف يتمشى ذلك مع أحاديث أخرى – أكثر تمشيا مع أخلاق الرسول. “بأخذ الميثاق على العلماء بعدم كتمان علمهم” وأن الله سيحاسب العلماء عما فعلده بعلمهم. وإذا كان هناك إستناد إلى قول الرسول “بمخاطبة الناس على قدر عقولهم” فانى لا أفهم ذلك على إن الرسول كان يحتفظ بتفسيرات خاصة لنفسه لاعتقاده بأن عامة الناس لا يجب أن يعرفوها، بل أفهمه على أنه العكس من ذلك، أى على أنه المحاولة الجاهدة لتوصيل العلم لجميع الناس سواء صغر عقلهم أم كبر، وقد تختلف الوسيلة ولكن الرسول يبقى عليه البلاغ المبين، أما فهم التفسير الخاص على أنه اجتهاد من الرسول فى تأويل ما لم يوح إليه به صراحة .. (هو ومن خاطر فتحمل المسئولية) .. فأنا أتفق عليه، وقد تحمل الرسل فى اجتهادهم عتاباً من ربهم، وبالرغم من جمع المحاذير فأول وجوه المخاطر وتحمل المسئولية هو إعلان الرأى وتحمل مسئولية الدعوة إليه، وإلا فلنقبل الدخول فى زمرة المستنيرين الهادئين.
الرخاوى: وها أنت ذا يا عادل – بدورك – تستدرجنى بشجاة الأمناء المغامرين، وسأحاول أن أفوت عليك ما سحبتنى إليه، فابتداء أنا قلت ” إن صح … أن للقرآن ظاهرا .. إلخ) وهذا يعنى إنه لم يصح عندى تماما، ولكنه قد يصح أحيانا وحين أسمع عن رسول الله ما معناه: لو علمتم ما اعلم لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا، وأشفق عليه وعلى نفسى من العلم الذى لا يعلمه كل الناس، فالمسألة ليست كتمانا وإنما هى إيمان متواضع، والآية التى تشير إلى أن الناس طبقات أنا أفهمها – مثلا – على أنها طبقات فى الوعى أساسا، وأنا حذر مثلك وأكثر من لعبة “الباطنية” كما أنى عالم بمصائبها العظمى عبر التاريخ ولكننا كدنا نتفق أن اللغة أعجز من أن تستوعب الرؤية الإيمانية كلها، وحين يكون رسول الله خلقه القرآن، فانى أرى ذلك تفسيرا يمشى على أرجل دون حاجة إلى خاص وعام فالخاص قد لا يحمله اللفظ، لكن لابد وأن يظهر فى كل سلوك، وكل نبض ولابد أن يغطى جوانب الوجود بما لا يمكن إخفاءه، واعلان الرأى الخاص بالألفاظ العاجزة جدا ولكل من هب ودب لمن وعى ومن لم يع هو غاية يفرح بتحقيقها المتربصون من القوى المعطلة، وهو الأمر الذى إستدرج إليه الحلاج فما استطاع له دفعا، فكان ما كان، وحتى الإجتهاد الذى نسمع عن فتح أبوابه بين الحين والحين كأنه لا يفتح إلا بإذن سلطوى خاص، هو إجتهاد بشروط تمنعه، وإنى آسف، ودعنا نسمع الدكتور السماحى فى هذه النقطة.
د. السماحى: الاجتهاد ضرورة كبرى فى الوقت الحالى (ولكن) بسبب إنخفاض مستوانا التعليمى والحضارى منذ قرون طويلة فقد لجأنا إلى حل كسول وهو ترك الاجتهاد وإسناد مسألة حل المشكلات الدينية إلى سلطة تتولى إصدار “فتاوي” تكون بمثابة حجة يقينية نلتزم بها بشكل أعمي. هذا الوضع لا يناسب طبيعة الدين ولا طبيعة العصر، وأن أهل الثقة هؤلاء ليسوا إلا مرددين لأقوال القدماء، يقومون بقياس الموقف الجديد الغامض بموقف قديم مشابه، ويستنبطون حلا منسوخا من الحل القديم الذى إقترحه عربى عاش منذ ألف سنة فى مجتمع غير يجتمعنا المعاصر، وفى ظروف جد مختلفة، وأهل الثقة رغم حسن نواياهم وجدهم لم نعدهم ثقافيا الإعداد الواجب، فهم درسوا ما وصل إليهم من التراث بشكل انتقائى يناسب المزاج المحافظ، واستبدوا من التراث الإسلامى ما يناسب الفكر الحر، ومعظمهم لا يعرف “الغزالي” أو “ابن رشد” ويجهل مباديء العلوم الانسانية الأخرى مثل التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وهى ضرورية لتكوين أحكام دينية وأخلاقية ورغم إن الإسلام لا يعرف الكهانة، إلا أن المسلمين بعد ضربة التتار القاضية، تخلفوا فكريا وقبلوا أن يعيش بينهم أشباه كهنة يتولون وحدهم إصدار الأحكام الدينية، ويحتكرون الإجتهاد الذى لم يحسنوه بعد أن كان فى الإسلام مفكرون وفلاسفة كبار.
الرخاوى: هنا أقول نعم (مع بعض التحفظات وكثير من التفاصيل) ولكنى أقول فى نفس الوقت أن الحل الكسول الذى أخذته لى الذين يقيسون بموقف قديم، يمكن أن يوصف به من دعوتهم بالعقلانيين الذين إختبأوا فى المنهج أو قدسوا معطيات العلم الجزئية والمؤقتة، حلهم أيضا كسول وربما أكثر كسلا رغم ظاهر الحركة وإحكام “لغة التجربة” وأخالفك أيضا فى إن مبادئ العلوم الإنسانية مثل التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس هى ما ينقص أهل الثقة من المفتتين، فان هذه العلوم – بمقياسك أنت بالذات – يمكن ألا تكون علوما، وفى ندوة شاركت فيها برأى متواضع فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية عن إشكالية العلوم الانسانية حاولت أن أوكد أن حدس الناس الوارد فى الأدب والفن والتراث الشعبى (والخرافة!) قد يكون أصدق تسجيلا وموضوعية لما هو علم اجتماع وعلم نفس من معطيات هذه العلوم الأحدث التى يختزلها المنهج المحدود إلى قشور القشور، ثم يعود يفرضها وصاية على قول ومسيرة البشر أكبر بكثير (وأكثر خطأ وخطرا) من وصاية ثقاة الفقهاء، وموضوع الاجتهاد الذى نردده طول الوقت، مثلا حين نتكلم نتكلم عن إسلام جارودى، والإسلام بوجه خاص، وليس فى مجال أفقى ما يبشر أن ثمة مناخا صحيا يمكن توفيره بالقدر الذى تسمح فيه بالإجتهاد وإعادة إبداع النص، وتعبير إعادة إبداع النص يتخطى – عندى – مجرد تفسير النص، (لا رمزيا ولا بين تنصيص لاختلافنا حول تعريفها) المتكاملة المتمثلة “لمثيرات” النص اللغوى، اذ يمارس فعلا يوميا مهتديا بمناخ يسمح للفظرة بالانطلاق فى أطار الالتزام الجاد بنبض مسيرة البشر وجماع عطاء الأقدمين، نعم … نعم .. أعلم أنى غامض، ولكن ما باليد حيلة، ولأبسط الموضوع فأكرر بعض ما يمكن أن يفسر ما اعنيه “كان رسول الله خلقه القرآن” … اقرأ القرآن (لم يقل فسره) كأنه أنزل عليك” “صهيب مؤمن نسى، اذا ذكر ذكر، خلط الإيمان بلحمه ودمه، ليس للنار فيه نصيب” فاذا نزل النص – من جديد – ايحاءا: تناسقيا، فاختلط نبضه باللحم والدم، فسار فعلا يوميا ظاهرا على أرجل: قلنا “هذا هو” “هذا هو” ولكن أين هو؟ أين هو؟ وكيف؟ المسألة يا سيدى صعبه نعم هى ليست مستحيلة، لأن الله سبحانه سوف يحاسبنا على صمتنا كما سيحاسبنا على تصريحنا سواء بسواء، ولكن “أنظر حولك” وقل لى من يجتهد ومن يستمع من ذا الذى دفع ثمن إعلان الإبداع الدينى، ومن ذا الذى يكسل عن أن يستكمل تعليمه أولا، لا فى فقه اللغة ولا التفسير فحسب، وإنما فى تنمية الفطرة “وموضعة” الذات (!!!)
د. السماحى: أننى أطالب كل مسلم أن يجتهد وأن يفسر بقفله ما لم تغطه النصوص القرآنية فليس فى إستعمال العقل خطرعلى الدين كما أن اللغز الدينى لا يحتاج إلى المام بمواقف أئمة الدولة العباسية من أجل حله بل يحتاج إلى نية سليمة ومستوى تعليمى مقبول وقدرة على إستعمال الحس السليم الذى بواسطته نحل مشاكلنا الملية اليومية لندع خوفنا من قصور عقولنا ولنثق فى إيماننا وعقولنا ولنثق فى مستقبل ديننا فلا خوف عليه من حضارة الغرب
الرخاوى: ها أنت يا سيدى تفتح الباب “لكل مسلم” (كل مسلم)، لكنك تقفله تماما بقولك (ما لم تغطه النصوص) – ألم تسمع يا سيدى القول المؤكد بأن النصوص لم تترك كبيرة أو صغيرة إلا غطتها؟ وأنا لست معك لا فى هذا ولا ذاك (وليس عندى حل جاهز كما أعلنت من البداية) فلابد للمسلم أن يكون مسلما (على الفطرة دين الفطرة) – لا أن يمسلم (بضم الياء) حتى لا ينقصه إلا “العماد” ليعترف بتغيير طبيعته (العتيقة!!) ولابد أن يكون له “عقل” حتى يستعمله، ليس بالضرورة ذلك العقل الذى يتخرج من الجامعة أو يحصل على الدكتوراه، إنما العقل الذى يشمل هذا الأول ويتجاوزه ليحاور الطبيعة بكل ما لا يعرف من رموز- فأين نحن ومناخنا التعليمى والإعلامى من كل ذلك، الوصاية الوصاية من كل جانب، والتشويه المنظم، والاستهلاك المهلك، والرفاهية المخدرة، “وضمانات” الآخرة قبل الدنيا وبالعكس، حتى يخيل إلى أحيانا أن معروضات الدنيا والآخرة أصبحت تعرض فى نفس المتجر الأعظم (السوبر ماركت) – وهى فى متناول من عنده الثمن، والثمن غاليا لا يتضمن جهادا أو إبداعا، وإنما شطارة وبعد النظر فى الحالين (ان صح قولكما فلست بخاسر .. أو صح قولى فالخسار عليكما)، الناس تؤمن هذه الأيام يا سيدى “من باب الاحتياط” وتفكر من باب الديكورات القلية، ودمتم، وبيننا بين الحس السليم الذى تتحدث عنه حواجز من القهر والوصاية من كل لون وشكل، (سوبر ماركت أيضا: للقيود والسلاسل والمخدرات والقوانين) أنت تدعونا لحل اللغز الدينى أن نثق بإيماننا وعقولنا؟ يا لتفاؤلك الكريم !! يا لتفاؤلك الكريم!! ما زلت فاغرا فمى رغم أنى لم أسمح لنفسى طوال حياتى (حتى الآن) برفاهية اليأس أو أناقة التشاؤم، ولكن هذه الثقة التى تحتمى بها لها متطلباتها التى لا ألمح معالمها فى مدى أفقى رؤيتى أصلا، وخصوصا فى مواجهة حضارة الغرب، التى تضحك علينا باشاعة قرب زوالها.
إبراهيم عادل: لا أنكر يا د. الرخاوى ندرة العلم وندرة الجد فى الاجتهاد ولا أنكر جميع المخاطر التى عددتها، ولكن لا يجبرك على المر إلا ما هو أمر منه. الإجتهاد حق لكل إنسان مسلم – بما هو إنسان وبما هو مسلم – ولكنه واجبه أيضا، وإذا كان فتح باب الاجتهاد وسوف يدخل منه كل من “تمطى فأفتى أو تشنج فمنع” فهو مفتوح لهما أصلا، أما إغلاق أو تغليب الخوف والتشاؤم فسوف يحول كل من غامر ففكر إلى “مستنير هاديء” ولا يملك أى فقيه عالم حتى ولو كان من الحريصين على الدين والواعين بواجبهم أن يخاف فيفرض نفسه وصيا على الدين، فتمنع اجتهاد المجتهدين. إن خلافة الإنسان وتحمله للأمانة ليست عبثا وليست مجرد رمز فارغ بل هو حقيقة لا يملك أحد التملص منها.
الرخاوى: ماذا أقول؟ بالله عليك ماذا أقول؟ هأنذا أقترب من المأزق الأزلى، فلا أستطيع أن أوافقك، ولا أستطيع أن أضع الشروط، لأنى لست الذى سينفذها طوال الوقت مع كل الناس، وحتى لو كنت المنفذ الوحيد فلست أضمن نفسى، نعم هى أمانة ما أثقلها. لتكن لى حق، كل الحق، ولأترك الكلمة للدكتور السماحى له يبعدنا عن منطقةالخطر هذه، باستطراد أسهل فى مقارناته لنا مع الغرب مثلا.
السماحى: بهذه المناسبة لابد من الإعتراف بأن حضارة الغرب أخلاقية، تقوم على الأمانة والصدق، ولا تعادى الأديان بل تحترم المسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية والكونفوشيوسية كما تحترم الإسلام، قد لا تعجبنا عاداتهم الإجتماعية ولكن هذا أمر يخصهم وحدهم، أما ما يخصنا من ثقافتهم فهو العلم والصناعة والفنون، إننا كمسلمين سنلحق بالغرب عندما لا نسمح لسلطة ثيولوجية بإستعمال حق الفيتو ضد عقولنا حين نحاول فهم الدين ولا خوف على الإسلام من الإلحاد حتى ولو دخلت كل إختراعات وبدع الغرب إلى بيوتنا لأن الإسلام ينبض بالحياة وبعنف فى داخل صدور كل هذه الملايين التى تدين به وسيظل كذلك إلى أن يشاء الله.
الرخاوى: وماذا بعد؟ أنت تفتح يا سيدى كل الأبواب مرة واحدة، وأنا اغبطك على هذا اليقين الآمن، بل أنى احسدك على هدوئك المستنير!!، ثم لا أملك إلا أن أقفز من داخلى صائحا: يا عم “رووح”، إن السماح الذى أعلنته مما يصف موقف الرجل الغربى من الأديان هو سماح بمعنى “ليس من شأني”None of my buisiness وهو نوع من الأخلاق الجيدة، لكنه ليس انتماء ولا إيمانا على كل حال، واحترامهم للإسلام بالذات يا سيدى كثيرا ما يكون مصحوبا بشيء أشبه بالشفقة، أو بالسماح المتعالى (التفويت)، ونحن نلحق بهم أبدا: ليس بسبب الاعاقة بسلطة ثيولوجية (لا هوتية) وإنما بطبيعة وسائلنا ووسائلهم إذا أصررنا على كلمة “اللحاق” هذه، فالمسافة فى اتساع متصل ومتزايد بمتتالية هندسية (لا حسابية)، والاختلاف ليس فى العادات الاجتماعية وإنما فى الموقف من الوجود، وعلينا – وعليهم – أن نجيب على أسئلة من نوع:
1– ما هى غاية الوجود الكونى: لخدمة الإنسان، أم لتناسق لا نعلمه، يمثل الإنسان فيه همسة نغم محدودة يرجى لها ألا تكون نشازا؟
2- ما هى غاية الوجود الفردى: توفير الرفاهية أم توفير مناخ الحوار الخلاق المصاحب بمغامرات وجودية غير معروفة النتائج.
3- ما هو ترتيب الأولويات: هل نحن نعمل لنستريح (فى نهاية الأسبوع أو فى المعاش؟) – أم أننا نستريح لنعمل وفقا لقوانين الحركة لا قوانين السكون.
4- ما هو شكل العلاقات بين الأفراد: “دعنى وحدى ادعك وحدك” أم ” لا تتركنى فلن أستطيع أن أمضى إليه بدونك .. اجتمعا عليه وافترقا عليه)؟
5- ما هى حدود المعرفة: هل هى أقصى معطيات الحس (والحساب) ونتائج التجارب؟ أم هى: مطلقة لكل تفتحات الوعى بحيث تساهم كل اللغات (الفنية والإيمانية والعلمية وحدس الناس (حتى الخرافة) – فى تعميق طبقات الوعى ونشر مساحته إلى ما لا نعرف (يؤمنون بالغيب)؟
وأوقف نفسى هنا، فالاجابات ليست سهلة أبدا، ولتكن موضوع حوار قادم لمن يشاء، ولكنى أذكرك أنه منذ تنازلت الفلسفة (أو تنوزلت) عن الخوض فى هذه الأمور وخاصة كفعل يومى يصل إلى الشخص العادى، ومنذ رضيت العلوم بأن تهمل (بكسر الميم) تماما ما لا تملك وسائل فحصه، ومنذ إنغلق الدين على آخر حرف نزل به فأحاطت حروفه ورموزه بالقل البشرى إحاطة الأب الخائف أو الحاكم القاهر، منذ حدث كل ذلك أصبح الحديث فى مثل هذه المسائل ترفعا، أو فذلكة (أو جنونا حسب وصاية الطب النفسى الحديث)، وأخلاق الغرب يا سيدى لا جدال فى متانتها، ولكنها ليست قضيتنا فى إختلافنا معهم، وأرجوك ألا تظن إنى أعيش معركة وهمية مع إستعمار قديم أو حديث، ولعلك تلاحظ فى ما أنشر تحت عنوان “الناس والطريق” أنى فى محاولة تصالح مع إيقاع الحياة اليومية فى الغرب – لكنى فى نفس الوقت أعلم أنى لابد أن أحذر أشد الحذر من “كرات البلياردو الخشبية” و “كرات الجليد الهشة”، مهما جرت الأولى على البساط الأخضر، وطارت الأخيرة فى السماء الصافية فوق القمم الجميلة، لا إعتراض لنا على دخول مخترعاتهم وبدعهم إلى بيوتنا، ولكن الحذر كل الحذر من ما يبث منها، وما تعنيه من تغيير جذرى لموقفنا من الوجود أصلا … هذه هى الحكاية – وهذا هو الخطر، ولن يدفه عنا أن “تعلن” أن “الإسلام ينبض بالحياة وبعت فى داخل صدور كل هذه الملايين” .. يا ليت !! وكيف؟
وإنى آسف يا سيدى بحق، فما أردت فتح كل هذه الأبواب، ولكنى احتراما لمحاولتك أردت أن أقترب بنفس صدقك، وإن كنت أقل متعة بأى “إستنارة هادئة” .. وأعتقد أن من حق القاريء علينا أن كان قد احتملنا حتى هنا أن يوجز له كل منا موقفه:
السماحى: أرى أن الدفاع المستميت عن الدين هو رد فل مبالغ فيه يؤدى إلى تصوير الدين وكأنه المتهم المظلوم المحتاج إلى من يسانده ويثبت براءته، وأرى أن الدين الوجدانى يفهم بالرمزية لا بالحرفية وأن التمسك بالنص حرفيا يخلق مواجهة بين الدين والعلم هى مواجهة مفتعلة زائفة.
كما أرى أن الخوف من ترك كل مسلم يجتهد فى حدود مباديء الإسلام الكبرى العامة هو خوف مدمر ومريض، ويعوق التقدم لأنه يقيد العقول. وفى إعتقادى أن شيوع الكتابة الدفاعية عن الدين فى هذه الأيام يرجع إلى أن المسلم يعيش فى خوف لا مبرر له من عدوان الحضارة الغربية – وهو عدوان متخيل – على الإسلام ومن الآثار الجانبية للتقدم، وأحذر، مع من حذروا، من أن الاستمرار فى هذا الخوف، سيقود إلى التطرف: والطائفية والمذاهب الدينية تحت الأرضية وربما انقسام الشعوب المسلمة.
الرخاوى: وأنا أرى أنى لابد أن أشاركك مخاوفك، ثم إختلف معك فى حلولك، فى نفس الوقت الذى لا أملك فيه حلا بديلا سهلا، والأسلوب الفنى الذى لجأ إليه بعض من مر بمثل محنتك ومحنتى قد أضاف إضافات ذات دلالة من أول “حى بن يقظان” حتى “أولاد حارتنا” مارا “بكليلة ودمنة” – وأعتقد أن هذا من أروع الاجتهادات المقبولة، وحين كتبت روايتى الطويلة – الوحيدة “المشى على الصراط” (الواقعة / مدرسة العراة) كنت أجتهد فى نفس الاتجاه، حتى أنى أشرت إلى ذلك صراحة فى المقدمة، ولكن – ولله الحمد- لم يصل “هذا البعد” لأحد ممن أردت، (رغم جائزة الدولة)، وهذا الذى أسميه “ابداع التراث” ليس حلا، ولكنه نشاط مساعد مواز بالضرورة، وموقفى من النص الدينى أنه “هكذا” يقوم بنفسه، وأنه أثبت جدارته ونفعه بحكم التاريخ وإنارة ملايين البشر عبر آلاف السنين، وهذا فى ذاته ما يجعلنا نقف عنده “كما هو” احتراما وإستلهاما، فهو لا يحتاج إلى تفسير أصلا، وإن كان لا يرفض “هوامش توضيحية كفروض محلية” أو كتنظيم معاملاتى محدود، ولكن دون وصاية جمود لغوى أو جزئيات علم قشرى، لكن النص يظل “هو بما هو” يخاطب كل طبقات الوجود البشرى (كل عقولنا المتداخلة المتصاعدة المتكاثفة المتبادلة) فى آن – ومن لم يستطع أن يحتمل غموض النص أو طبقات إرساله، أو بعض ظاهر تناقضه، فما عليه إلا أن “يتجرع” منه ما يقدر عليه، بدلا من أن يسارع إلى حشره فى لفظه، أو تشويهه بشرحه بغير لغته (بالرموز أو بقشور العلم المتساقطة) – ثم عليه أن يذهب ينمى فطرته بالعبادة والابداع دائما أبدا تلاحما لا ينفصل، ثم يعود إلى النص “كما هو” وسوف يجد نفسه قادرا على تمثل جرعة أكبر، تدفعه إلى تنمية فطرته وتنقيتها أكثر فأكثر … وهكذا، والله أعلم.
وليتفضل عادل ليوجز لنا تعقيبه الأخير.
إبراهيم عادل: إنى أرى أن الدين فى أزمة، وهو فى حاجة شديدة إلى الدفاع والنجدة ولكن الدفاعات المطروحة ومنها ذلك التفسير الرمزى للدين تزيد الحال سوءا، فالأزمة الحقيقية للدين هى أنه قد تحول إلى حرفة وكهانة عند روضنا، وإلى تمائم نضعها فى مكاتبنا وسيارتنا ونلقها على الحوائط أحيانا، كما تحول إلى درع تحتمى به السلطة أحيانا، وإلى وسيلة نخيف بها شبابنا أحيانا أخرى، وهو فى جميع هذه الأحوال منفصل عن حياتنا وواقعنا وعن عملنا وعن علاقتنا برؤسائنا وحكامنا، وحتى ن فكرنا وقيمنا.
الاجتهاد مظلوم بين الأوصياء الذين إعتبروا أنفسهم أصحاب الحق الوحيد فيه سواء لعلمهم، أو لخوفهم الحقيقى على الدين ولأغراض أخرى فى نفوسهم، وبين المستسهلين المفتين بغير جهد حقيقى، وبين المستنيرين الهادئين المحتمين وراء صمتهم بأفكار قد لا تتحمل إختبار مسئولية الإعلان، ولكن الإجتهاد قدر لكل إنسان مسلم ولا مفر من فتح باب الإجتهاد بالرغم من وجود هؤلاء وهؤلاء، والأمل هو أن يذهب الزن جفاء وأن يبقى فى الأرض ما ينفع الناس.
ثم إن البديل الفنى يا د. الرخاوى هو مخرج للفنان أساسا وهو مسكن طيب أحيانا أخرى، وقد يكون الملجأ الوحيد حينما يزداد قهر السلطة أو الكهنة الأوصياء، ولكنه ليس حلا للأزمة وليس البديل الكامل، فلا بديل عن أن نحيا الدين بكل أبعاده واقعا وفكرا وفنا.
- النص الدينى يقوم بنفسه فعلا، ويخاطب جميع طبقات وجودنا وبه من الأبعاد ما لا نستطيع سبر غوره، واذا استطعنا، فقد لا نستطيع التعبير بالكلام عما استوعبناه من انطباع، ولكن التفسير الجاد المجتهد ضرورة، فهو يضيء بض الجوانب وسوف يأتى تفسير مجتهد آخر ليضيء جوانب أخرى، وسوف يبقى النص “كما هو” قبل ذلك وبعد ذلك، لنستلهم أعماقه وننمى قدرتنا على إستيعاب جرعات أكبر منه، وخطر الاقتراب بالتفسير من النص بحجة أنه “هو كماهو” يصور الدين على أنه اسرار وجوانية وكهانة ويفتح الباب على مصراعيه للتفسيرات الخاصة والاستنارة الهادئة.
”جزى الله كل مجتهد ما جد وأجتهد، وغفر له ما أخطأ”
الرخاوى: طال الحوار يا عادل، وتجددت الآلام نتيجة لمواجهة العجز وإستمرار الكدح فى آن، والفضل – كما توافقنى – للدكتور السماحى، وعندى الكثير مما لم يعد يسمح به المكان أو المقام، فقط قبل أن ننتهى أقول لك أنى أفضل كلمة “القرآن “التفسير” حتى فى النقد الأدبى هو ليس إلا قراءة، والقراءة رؤية إبداية، والتفسير – أغلبه – تأويل، وهيا نقرأ أول تنزيل كريم على نبينا الأمين: “اقرأ..” وما كان بقارئ، لكنه قرأ، فلنقرأ، ولندفع الثمن .. لا مهرب ولا بديل .. شكرا لك ومن قبلك شكرا لضيفنا الكريم د. السماحى وحمدا لله على سلامته، وفى انتظار مزيد من التنوير والإثارة من قلمه المغامر المضيء.
[1] – وفى الزمخشرى (أساس البلاغة) دحو – خلق الله الأرض مجتمعة ثم دحاها أى بسطها ومدها ووسعها، كما يأخذ الخباز الفرزدقة فيدحوها ‘ثم استشهد بقول ابن الرومى … يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر’ أما حكاية البيض، فليس لها أصل، الا أن الأدحوة: موضع بيض النعام وتفريخه (الوسيط) (فهى ليست البيضة، ولكنها موضعها المنبسط) وفى الزمخشرى: باضت النعامة فى أدحيها وهو مفرخها، لأنها تدحوه، أى تبسطه وتوسعه.
[2] – فقه الأمر فقها: أحسن ادراكه، وفقه الكلام فهمه، وفقه الأمر: تفهمه وتيقنه، والفقه: الفهم والفطنة، اذن: فالفقيه هو العالم الفطن (وليس غير ذاك مما شاع فى العربية والعامية على حد سواء).