عدد أبريل 1985
الحق البسيط
د. وفاء
– 1 –
قالت لى أمى دون ألفاظ: لا تكونى مثلى يا بنيتى، لا تكررى مأساتى. قالتها لى وهى تبكى وقد وضحت أكثر زرقة خديها البارزين على جبهتها العريضة. كانت تحكى لىعن الإهانة التى تلقتها من زوجة أخيها المسئول الكبير الموسر. ربما كانت تعنى وقتها أنه لولا زواجها غير المتكافئ من أبى ما تلقت أية إهانة. لكنى فى سنواتى الست عشرة وقتها لم أفهم بالضبط ما كانت تعنيه. كل ما فهمته وقتها وما استطعت أن أشعر به هو كونها مظلومة. وقد أكون قد تصورت وقتها أنه لا توجد عدالة على الأرض أو أن العدالة لا تحدث إلا فى السماء. وكأنما كانت سنواتى الست عشرة وقتها لا تتحمل هذا القدر من المواجهة، مواجهة الظلم والعدل معا..
قالت لى أيضا دون ألفاظ : لا تصدقى ما يقال عن السعادة فى التضحية. لا سعادة فى التضحية يا بنيتى!! هأنذا أموت أمامك غير سعيدة وغير مرضية، حتى أنت وأخواتك لم تعطونى شيئا. كنت أدرك رغم سنواتى الست عشرة أننا لم نعطها شيئا.
وكبرت، وكنت أحاول أن أنسى أو أتناسى ما قالته لى، لكنها كانت تأتينى فى أحلامى كما تركتها آخر مرة، والألم يحفر هذين الخدين الزرقاوين على جبهتها العريضة ووجهها غارق فى الدموع لتذكرنى بحديثها الأخير معى، لا تكونى مثلى يا بنيتى..
ولكنى عندما كبرت أصبحت مثلها. وحملت ألمى وألمها وعندما كنت أحذر نفسى وأتناسى الألم، كنت أشعر بأنفاسها تتردد معى فى غرفتى لتذكرنى بما قد قد نسيت..
بعد موتها لم يعد لى بيت تحملت وأخوتى أربع سنوات. كنت أتعجل أن تمر ساعات النهار لأغلق على نفسى غرفتى فى الليل لأعيش معها – أبكى ألمى وألمها. وكان على أن أهرب من نفسى ومنها، فتزوجت أول طارق. ويبدو، وأنا أهرب من نفسى ومنها، أننى قد نسيت ما قالته لى: لا تكررى مأساتى يا بنيتى..
وعندما كنت أفتش عن الفرحة داخلى كنت أتذكر المرات النادرة التى فتحت فيها الضحكة وجه أمى العابس دائما. هأنذا أكرر مأساتك يا أمى وهأنذا أحلم كما تحلمين بالخلاص. الآن أتذكر شجارك مع أبى على أتفه الأسباب. كنت ترتدين ثيابك وتعزمين على الرحيل ولكنك لم تحققى رغبتك المتكررة والتى لم تتحقق أبدا فى الرحيل. كانت النهاية دائما أن تتساءلى. إلى أين؟ لا مكان أذهب إليه ولا عمل أقتات منه. ولكنى يا أمى أعمل وأكسب رزقى وأستطيع أن أجد مكانا ولكننى أكرر نفس الموقف!! لماذا أخشى الرحيل يا أمى؟
ها أنت تحضرين وتتردد أنفاسك معى فى الغرفة لتذكرينى بحديثك وتطلبى منى بإصرار أن أفعلها لأجلى وأجلك. رغم الموت والفشل والنهاية غير السعيدة فما زلت لم تفتقدى الأمل بعد يا أمى. مازلت تحضرين، تصرين، تلحين وأنا أهرب يا أمى. وعندما تواجهنى الحقيقة لا أجد إلا الشعور بالذنب مهربا فأعمل أكثر، أنظف، أرتب، وألمع!! ولكن يا أمى رغم الجهد واللمعان لماذا هذا الإحساس الفظيع بالضيق والحصار والافتقاد!! افتقاد ماذا؟ هناك شئ مفقود أبحث عنه دائماً يا أمى. ألا تريحيننى وتقولين لى ما هو هذا الشئ المفقود؟ ماذا تقولين؟ أنت تعرفينه أيضا!! تقولين أن هذا ما كنت تقصدين حين ذكرت لى ألا أكرر مأستك!!.
هأنذا أفشل فى الهروب مرة أخرى وأستيقظ فى الرابعة صباحاً وأجلس فى غرفتى أتأمل هذا “البورتريه” المعلق على الحائط. حتى هذا الرسام لا يتركنى فى حالى. يرسم وجها لامرأة بلا ملامح إلى دمعة تسيل مكان العين بلا عين على خد. حتى هذا “البورتريه” يذكرنى حتى لا أنسى أو أتناسى ما قلته لى.
– 2 –
قلت له: أريد أن ننفصل. لا يمكن أن أستمر فى الحياة معك. بوغت بقرارى هذا وسألنى: لماذا؟ ولم أجد إجابة إلا تلك الأسباب التافهة التى كانت سبب شجار أبى وأمى..
قلت له: يجب أن تبدأ فى إعداد خططك ومشاريعك بعيدا عنى..
أجاب دون أن تهتز له شعرة: أنت خطتى ومشروعى!
اجتمع الأهل والأصدقاء بناء على رغبته، سألونى: لماذا هذا القرار؟
أجبت : أريد حقى البسيط.
ضحكوا ساخرين، أى حق بسيط؟ ألا تحمدى الله. لا يوجد أحد مثلك يفعل كل ما تريدينه دون اعتراض وليست له أية مطالب، يتحمل تقلباتك وقراراتك المضحكة بصبر جميل. أى حق تتحدثين عنه؟
أسقط فى يدى ولم أستطع الرد أو شرح معنى الحق البسيط..
– 3 –
فى المساء، واجهنى “البورتريه” دون ملامح إلا الدمعة على الخد فقمت من مكانى ومسحت الدمعة لكى تتضح معالم الوجه تدريجيا. عندئذ أدركت بوضوح معنى الحق البسيط ولم أعد بعدها فى حاجة إلى شرح ما أعنيه.