الافتتاحية
نعم. هناك أمل يتزايد حتما. عقول تتحرك. ودرجة من السماح تعد بالأخذ والرد. فالحمد لله.
– 1 –
يقول الصديق محمد محمود عثمان: تضمن العدد 50 أكثر من موضوع عن الدين، ولمعرفتى بأهداف المجلة عامة آتمنى ألا يفهم هذا الطرح لتلك الموضوعات على أنه” بوظ” دينى أو مجاراة لما هو مستحدث. ولعله قد قرأ فى عدد يناير 1985 أشارة الى موقفنا من هذا المأزق فى مقال صدر فى أول عدد من هذه المجلة (يناير 1980) ولن نكرر، ولكن ليسمح لنا الصديق أن ندهش حين يعتبر أن الحديث فى موضوع الدين هو أمر” مستحدث”، ولكنه – بعد الدهشة – هو كذلك بمعنى” حديثة” بمعنى أنها بدعة استشرت، وليس بمعنى أنها جديدة أو مبتكرة، كل النقاش مسموح به بشكل أو بآخر، الا النقاش الحر الشجاع فى هذه المسائل ذات الدلالة الخطيرة. ،ما لم يتأصل الفكر الحر بمعنى الكلمة، و ما لم تستقر الأوضاع السياسية والاقتصادية والقانوينة، بطريقة حضارية ترفض التشنجات(حتى تلك التى ترفع لافتات” ثورة ما”، فستظل الحركة محدودةؤ والوصاية جاثمة، لصالح من يملك السلطة( أى سلطة) وعلى حساب من يملك شرف التفكير، وجسارة المراجعة. ونحيل الصديق عثمان الى بعض حوار هذا العدد مع د. السماحى الذى عاد بسلامة الله ليفتح لنا باب الحوار حول الاجتهاد والدفاع عن الدين مع الزميل إبراهيم عادل ورئيس التحرير، وهو حوار نعتبره من أصعب ما نشر فى هذه المجلة حول هذه المسألة التى يكاد نوع النقاش وجرعته من حولها يعلن مرحلة تطورنا المتواضعة. ،مع ذلك فأرجو أن يسهم معنا فى المأزق بشكل أو بآخر.
- ويكتب لنا الصديق جديد وضع حرفين قبل اسمه نرمز اليه بهما(م. ض) دون اسمه رغم أنه لم يشترط ذلك. وهو يستهل خطابه بمقتطف من شروط النشر فى هذه المجل، من حيث:(أننا مستعدون لنشر كل الأمور المتعلقة بماهية الانسان.. والخبرات الذاتية الخاصة ما حوت أضافة ابداعية أو عدت بآثارة حوار.. لأى عقل بشرى مرتب مجتهد دون اشتراط مؤهل بذاته أو تاريخ هلمى خاص..”، ثم يعقب:” ولقد فرحت جدا بهذا لأنه بالفعل لا يمكن تطور المجتمع المحلي، وبالتالى تطوير المجتمع العالمى الا بمثل هذا الأسلوب”، فنفرح به نفس فرحته بنا وأكثر.
وها نحن آولاء نجد من يلتقط رسالتنا، فيذكرنا حماسه بما وعدنا، وتطمءتنا ثقته فينا. والحقيقة أن خطابه المكون من خمس صفحات ملئية بالتسلسل والتماسك، قد بدا لنا – لأول وهلة – واعدا فعلا، خاصة حين يقول:
(كانت المشكلة الأساسية هى أن أبدع!!) الى أن قال:( وبعد جهد جهيد وفقت الى الابداع من خلال تجربة نادرة لا تحدث فى البشرية الا بصورة نادرة كل عدد من القرون)، فنضع يدنا على عقلنا ووعينا وندعو بالستر; فنحن نأمل فى ابداع يومي، ولكل الناس، وليس أبدا بهذه الندرة، وكل عدة قرون. وبعد صعود وهبوط مع الرسل، نجده رغم تماسكه يدعو الى أخطر ما خفنا منه. يدعو الى عقيدة يسيمها( العقيدة السرمدية). ولكننا نرفض أن نسخر ابتداء ومع ذلك..!
وتصلنا دراسة أكثر اتساقا عن العقل فوق الواعى – مصطفى حامد – تطمئننا – رغم كل التحفظات – أن المسألة ما زالت فى حدود التناول.
و كذلك تصلنا نشرة متواضعة(كتيب) بعنوان”سوسيوبيولوجيا شرقية”، لكاتبها: صلاح الدين محسن محمد; بها من الملاحظات واجتهادات التفكير ما يؤكد أن مصراعى الباب لا ينفذان العواصف فحسب، بل الهواء الطلق أصلا.و نأمل أن نقدم بعض الأفكار الأساسية لهذه المحاولات الثلاث فى حوار العدد القادم بأذن الله.
ويعترض الصديق رضا عطية لعدم نشر قصيدته بعنوان” اعتراض دامع” متصورا أننا خفنا بطش السلطة لدرجة احتمال غلق المجلة(بسبب قصيدته؟!); باعتبار أن بها من اللمز السياسى ما يبرر خوفنا المفترض هذا، فيقول عاتبا: حتى أنت يا بروتس؟ ولا ندافع عن أنفسنا، ولكننا نأمل فى أن يضع احتمالا آخر، وهو أنها ربما تكون غير متناسبة – زمنيا – مع ما نتصور أننا التزمنا به. ونحن لا نجرؤ أن نعدل فى شعر أسمى نفسه كذلك، ولا نملك أن ندرج ما أسماه صاحبه لنا أن نقول قولا متواضعا فيما كتب، كنوع من السعى نحو لغة مشتركة وتفهم موضوعي، فها نحن أولاء نفعل:
يقول سيادته – مثلا – فى تلك القصيدة:
صرتما شبق المشانق للرؤوس
ورعش أسلاك الحصار، لجثتي
صرتما نقع المرار، فمن نجا منه،
………… يجن
آه منـك……
والوطن
ويتصور أحدنا – بلا وجه حق! – أنه لو قال:
قد صرتما شبق المسانق،
رعش أسلاك الحصار
قد صرتما نقع المرار،
فمن نجا منه
….. يجن
ثم توقف، لا ستقام الوزن، وتعمق المراد، وهو أعلم.
نعم ليس من حقنا آن نقول ذلك، ولكن اليس من حقك علينا -0 سيدى – أن تعرف آن المسألة ليست مسألة محتوى سياسى أو جبن …. الخ.
وشكرا على شجاعتك، وسماحك، ومثابرتك، وحماسك; فنحن أحوج ما نكون الى صاحب مثلك. والمأزق أكبر من أن تتصور، وتتسرع، وتتوقف، فتتباعد ونفقدك صديقا شجاعا مثابرا….
***
هـذا العـدد
ويبدأ هذا العدد بدراسة الدكتورة يسرية أمين عن التفكير بين المريض والسوي. ويذكرنا ذلك بمقالها السابق حول نفس موضوع التفكير” وجود دينامى هادف خلاق”[1] الا أنها تكشف الستار عن الخطوط العامة لدراسة مصرية، خرجت منها بأن ما يسمي” اضطراب التفكير” هو شكل من أشكاله، موجود بدرجة أقل عند الأسوياء، وأن شدة هذا الاضطراب ليست صفة مميزة لمرض نفسى واحد(الفصام بالذات)، وأنما هى موجودة فى أمراض أخري; فتفتح لنا بذلك الطريق للنظر الأعمق فيما هو” سواء” وللاهتمام الأولى بوظيفة التفكير فى تماسك الشخصية وليس فقط فى حل المشاكل. وتعد هذه الدراسة بشكل ما بالنظر فى بعض تفكير الأسوياء بنفس المقياس الذى نقيس به تفكير المرضي.
ويعود الينا الزميل محمد فتحى عبد الفتاح، فى دراسته ” رحلة فى مجرة الانسان” ومن مدخل نقد فنى – فيلم أشراق Shining – الى عرض مشكلة الانسان فى افتقاره الى فرص الابداع التى لا تتولد الا بحركة مرنة تماما، ما بين النكوص والتدفق، ما بين السماح والالتزام; وليس أخيرا ما بين الطفولة والوعى الفائق. ومحمد فتحى يصحبنا فى مواكبته للمخرج كوبريك منذ ” سبارتاكوس” حين شاهده فى الستينات” أيام شجون الدفء والبكارة والحماسة الرومانتيكية فى النظرة للعالم والثورة” وحتى هذا” الاشراق” الجديد. وهو اذ ينضج فعلا يستطيع أن يستوعب بوهيمية الفن; فى معنى أكثر تكاملا بإحاطة الابداع، فنجد أن الفن الجديد يعلمنا – من خلال معنى مشاهد يقظ – من خبايا النفس ورموزها وتباديل تواجدها ما ينبغى أن نتعلم بحق.
وتتواصل الأبواب الثابتة هذه المرة فرحين بعدم العودة الى اخلاف الوعد. فالمقتطف يقرأ فى التراث الرصين مقتطفا للقاضى الجرجانى فى دفاعه عن حقه في” الانقباض”. والمثل والموال يعرض لنا موضوعا حرجا حول صعوبة التناول الواقعى للمشكلة الأخلاقية(فصل فى الخسة والنذالة). وتستمر حلقات الناس والطريق لتصف رحلة الداخل أكثر من الخارج; حيث زادت جرعة السيرة الذاتية بما نحتاج معه الى آراء القراء حتما، حيث أنها تأخذ حجما من المجلة لا نجد مبررا للاستمرار فى احتلاله الا بقدر ما يقول القراء مدى تقبلهم لنشر هذه الخبرة.
وما زلنا نفتقر الى القدر الكافى من الشعر الجيد، وآن كان صديقنا أحمد زرزوز ما زال لا يبخل علينا بعطائه، الا أن التحفظات ازاء غموضه، ووظيفة غنائه قد أثارت بعض القراء ممن وعد بكتابة رأيه، لكن الشاعر زرزوز هذه المرة يقفز الى أعمق متجاوزا الايقاع الظاهر ويرفض – فى مقابلة شخصية – أن نسميها “قصيدة النثر”، ونتحرج نحن من تسميتها كتابة طليقة لأنها ملتزمة أبلغ الالتزام وأعمقه، فما العمل؟ ننشر… ويقول لنا القارئ…..
ويعود الينا الشاعر عباس الصهبى بعد غيبة يتحرك فى همس ساحر، فيخفف الجرعة، ونأمل فى توازن2…
ويتصادف أن نجد أنفسنا فى ضيافة أربع كاتبات أديبات، ما بين الكتابة الطليقة والقصة القصيرة، فنغامر بأن ننشر هذه الوجبة الخاصة ملحقة بدراسة نقدية متواضعة تعلن – بشكل ما – أنه لا يوجد مبرر للحديث أصلا عن “أدب نسائي”; فجرعة الإبداع عند فاطمة مدكور – رغم جسارتها اللغوية – ما هى إلا إغارة مخترقة عبر طبقات وعى إنسان فائق الحس، بلا أى تمييز نسائي. وحلم نجاة النحراوى – رغم أنه يبدو بداية متواضعة لمحاولة واعدة – يتناول مشكلة الأنوثة كأحد أشكال ضحايا القهر لا أكثر. أما تكرار “نص (سكريبت) الأم المجوفة” فى رؤية. وفاء، وهالة جبر، فقد بدا لنا صرخة ضد قتل الإبداع أكثر منه قضية نسائية بوجه خاص – ولو نجحت هذه التجربة (النقد يواكب النشر)، فإن أملنا سيتضاعف، ولكن أين المادة الكافية؟
وبعودة الفنانة فاطمة مدكور للكتابة بطريقتها الفذة يجدر بنا أن نفرح أننا قدمناها لتمثل أمام عقل واع وحس مرهف (صافيناز كاظم) فيقول فيها قولا صدقا[2] “.. ما أن تبدأ فى قراءة أول سطر حتى تشعر أنها تسحبك من طرف ثوبك فى آلة حلزونية سريعة الحركة تعصرك وتلطمك وترجك رجاء عنيفا وتصرخ فى وجهك كأنها تتهمك، ثم تدير لك ظهرها فى برهة هادئة لتعود ترفعك بغتة من شعرك ثم تشدك من قدمك… الخ” وهذا المقتطف من مقال صافيناز يكاد يتفق – بالصدفة – مع النقد المواكب لما ننشره لفاطمة فى هذا العدد.
على أن هذا الاتفاق يسمح لنا بأن نتوقف لحظة أمام أمانة قارئتنا الناقدة اليقظة إذ هى (صافيناز) ممثلة لهذا الجيل فى “توليفة” متحدية، نرجو أن نتعلم منها، إذ أنه يبدو أننا قد لا نستطيع أن نتحاور معها يوما ما، فإذا كان لها علينا حق الشكر، فنحن نشكرها بمحاولة رؤيتها كما رأتنا وهي: تجمع بين نقاء الحس، وأمتلاك ناصية القلم الذى تغمسه فى مداد من نار وتنير به صفحاتها – فوعينا – بالسنة من لهب، وفى نفس الوقت تتلفح بالتزام دينى حرفى مطلق، لا يعوق حركة نبضها.
-3-
ويلوح فى الأرضية الاقتصادية السياسية علامات إفاقة واستقرار معا، ونحن لا يهمنا كثيرا أن نخوض فى مدى فعالية القرارات الاقتصادية الأخيرة، ولكننا نأمل حتما فى نظام يقلل حتما من “سرية التعامل” و “تنافس الشطار”، وذلك أن الانتعاش الاقتصادى ليس له أية قيمة حضارية ما لم يصب فى دفع عجلة التطور لأغلب الناس، وما لم يواكبه نمو متصاعد فى قيم ثقافية وأخلاقية لا يكون الغنى غنيا إلا إذا تحلى بها، ولو حتى من باب التباهى كبداية ما، وما لم تترسخ “وظيفة المال: للناس” فى نفوس من يملكونه، فلا جدوى من اقتنائه، والاستزادة منه، لا لمن يملكه، ولا لغيره، وهذا التحول الصعب يحتاج أكثر ما يحتاج إلى صبر وإعادة ترتيب لهيراركية “القيم”، بالممارس، وليس بالخطابة.
وهذا بعض ما نأمل أن نساهم به.
-4-
وتصدر مجلة “القاهرة” الأسبوعية خافتة الصوت فى البداية، ثم تتلاحق أعدادها فى رشاقة وأمانة، فتبدأ حوارا، وتعد بموضوعية، وترحب بالتجريب، وتذكر بالأصيل، فأهلا أهلا، ولعلنا نستطيع أن نواكبها بأمانة تحدد شكلنا أكثر فأكثر، وسط هذا النشاط المبشر بحركة فانطلاقة.
[1] – الانسان والتطور – 1984 – المجلد الخامس – العدد الثالث (يوليو) (ص 11 – 22).
[2] – المصور العدد 3147 الصادر فى 31/1/1985 ص 56، 57.