اضطراب التفكير عند الأسوياء والمرضى
د. يسرية أمين
إن إصابة الإنسان فى قدرته على التفكير هو خطب عظيم امره، من حيث طبيعته ونتائجه. ففى حالات الاضطراب الجوهرى للتفكير، يختفى قطار الأفكار والرموز المتسلسلة التى تتولد فى مواجهة مشكلة ما، والتى تنتظم وتترابط من أجل تحقيق مهمة معينة لتحل مكانها كلمات مبعثرة لا تقوى على حمل معنى معين، ولا ينظمها منطق عام، ولكن لا يستبعد أن يكون لها منطق خاص جدا يصعب فهمه إلا على صاحبه، وبطريقة ملتوية عادة وذاتية تماما. وبالطبع فإن هذا النوع من التفكير يخطيء الهدف الأساسى من التفكير: حمل المعانى فى أرض الواقع بين الناس وبعضها للتواصل وحل المشاكل والإبداع.
وتجدر الاشارة إلى أن اضطراب التفكير يعنى إصابة الإنسان فى أهم ما يميزه عن بقية الكائنات الحية; حيث أنه يقف على قمة السلسلة التطورية للكائنات الحية بفضل قدرته على النشاط العقلى المتمثل فى استعمال الرموز بصورة تزيد أو تقل فيها درجة التعقيد. وعلى ذلك فإن تحلل هذه القدرة يجعل الإنسان يهبط من مكانته المرتفعة ليجد نفسه فى هوة سحيقة من اللاتميز واللاحدود وربما اللاهوية. وإذا كان اضطراب التفكير، من الناحية النظرية، يؤدى إلى فقد الإنسان لأهم قيمة تطورية تؤثر فى تكوينه، كما ذكرنا، فهو من الناحية العلمية يؤثر على وجود الإنسان الفعلى وسلوكه العملى. والإنسان فى حالته السوية يشعر بأنه كيان متوحد; فهو هيكل واحد، وأن تعددت أجزاؤه، حيث تتفاعل هذه الأجزاء فى إطار تنظيم متكامل. وفى حالة ظهور اضطراب التفكير يصبح هذا الكيان مهددا فيفقد الإنسان القدرة على إدارة توجيه مسار الأفكار نحو هدف معين; فهو ينطق بكلمات لا تطاوعه فى التعبير عما يريد، فتخرج الكلمات وكأنها شىء ما مستقل عنه، وقوى عليه، بل حتى يصبح تفكيره غريبا عليه فى بعض الأحيان، فيستقبله على أنه مقحم عليه من الخارج Thought insertion وربما يفقد القدرة أيضا على الشعور بملكية تفكيره، وبالتالى يكون التفكير – فى رأى مثل هذا المريض – مكشوفا ومذاعا للآخرين Thought broadcastingsأو نهبا لهم يسلبونه اياه بلا أذن thought withdrawal إلى غير ذلك من أنواع اضطراب التفكير التى لا أريد أن أخوض فيها الآن لأنها سوف تحملنا إلى التفرع إلى موضوع ربما لا يهم إلا القارىء المتخصص فى دراسة الأمراض النفسية. ومما لا شك فيه أن أدراك الإنسان المصاب باضطراب التفكير لخطر عجزه – إذا كان ما زال يستطيع أن يدركه – هو شيء مخيف، ففى اللحظات التى تبدو فيها علامات اضطراب التفكير يصير الإنسان غير مسيطر على وجوده. ولعل ‘دكارت’ حين قال: ‘أنا أفكر أنا موجود’ كان يقصد، بالإضافة إلى توافر عنصرى الحيرة والاضطراب، الاشارة إلى ما تتضمنه ماهية هذا الوجود من تحديد لحدوده ومعالمه وشخصيته التى تتكامل فى صورة حرية الإنسان فى قيادة وتسيير هذا الوجود المتمثل فى التفكير.
وإذا كان اضطراب التفكير يقوض الإنسان فى أعلى درجات وجوده، فهو بالتالى يعرى درجات وجوده الدنيا. فمن المعروف أن نمو التفكير التجريدى عند الإنسان – الذى استلزم تطورا بيولوجيا تشريحيا هاما إلا وهو نمو وزيادة حجم القشرة المخية الحديثة neocortex – هو من أهم الأسلحة التى زود بها ليدافع عن وجوده الغريزي; فهو بديل لمخالب الوحوش وغطاء السلحفاة وأنياب الفيل… الخ.
وبعد هذه المقدمة التى تناولت أهمية اضطراب التفكير فإن هناك سؤالا يفرض نفسه علينا: أى الأمراض النفسية هو الذى تظهر فيه أكثر فأكثر أنواع اضطراب التفكير الجوهرية؟
لقد اقترن ظهور اضطراب التفكير بمرض الفصام لمدة عشرات السنوات وكان بلويلر(Bleuler, 1911) أول من تبنى هذه الفكرة، إذ أشار إلى أهمية اضطراب التفكير فى الفصام، من حيث أنه ظاهرة أساسية تنتج عنها العديد من الأعراض الثانوية التى يتميز بها هذا المرض. وقد أبرز هذه الأهمية، العديدون أمثال ماير جروس وزملاؤه (1969)(Mayer Gross et al, 1969) ونويس وكولب (1963)(Noyes & Kolb) وغيرهم. ويحق للقاريء هنا أن يتساءل ما السبب الذى يكمن وراء ملاحظة ارتباط اضطراب التفكير بمرض الفصام؟. يجمع العديد من الكتاب من أمثال الرخاوى (1979) وآى (1977) على أن الاضطراب الأساسى فى الفصام (بمعناه الأولي) هو تمزيق التنظيم الأساسى للنفس. فالانشقاق أو التفكك أو الانقسام الذى يصيب النفس هو أهم ما يميز مرضى الفصام وأن اختلفت الألفاظ المستعملة فى وصف هذه الظاهرة من تراث إلى آخر – فتسمى عند الانجليزdisorganization وعند الألمان Spalrung وعند الفرنسيين dissociation وفى مصر يقترح الرخاوى (1979) لفظ تفسخ. وهذه الألفاظ تتفق من حيث مرادها، وهو الإشارة إلى تباعد فى أجزاء التركيب – تغير فى التركيب بمعنى اضطراب العلاقات المكونة له – بحيث أنه يؤدى إلى فقد وظائف هذا البناء، وعلى هذا يصبح هذا البناء مفقدا إلى الترابط والتحكم الموجه وأن كنا لا نعرف تحديدا إذا كان ذلك سببا أو نتيجة – فإن ما يحدث فى مرض الفصام هو أن أحادية التنظيمات النفسية تصبح مفقودة مما يؤدى إلى استقلال وتباعد هذه التنظيمات بدلا أن تعمل كهيكل موحد مما يمكن أن يفسر بعض الشيء العلاقة بين ظاهرتى مرض الفصام واضطراب التفكير وربما هما يعبران عن نفس طبيعة السيكوباثولوجيا التى تكمن وراء كل منها.
ويدفع الرخاوى (1979) بمزيد من الجدل فى موضوع اضطراب التفكير حين يشير إلى أن اضطراب التفكير ليس هو العلامة الأساسية التى تميز مرض الفصام وإنما هو الأكثر قدرة على الظهور، ومن ثم على التعبير عن التفكك الذى يحدث فى النفس، وقد أثار العديد من الكتاب فى خارج حدود بلادنا نفس القضية ووضعوا الكثير من علامات الاستفهام حول ارتباط اضطراب التفكير بالفصام كما تعدت هذه الملاحظات مجال التنظير إلى مجال البحث الإكلينيكى وأثبتت العديد من الدراسات أن اضطراب التفكير يحدث فى أنواع أخرى من الأمراض النفسية غير مرض الفصام مثل الاكتئاب والعصاب والهوس واضطراب الشخصية وأن كانت شدته أقل. بابن (1971Papne) رالى وزملاؤه (1975Reilly et al) وهاروه وزملاؤه (أ، ب 1972Harrow et al ) وهاروه وكيلان (1977Harrow & Qwlan).
ولقد أضافت هذه الدراسة الأخيرة ملحوظة هامة وهى أن ظهور اضطراب التفكير يعتمد بدرجة كبيرة على وجود المرض النفسى فى حالته الحادة حيث أنه فى هذه الحالة تكون درجة الاضطراب فى حالة قصوى مما يمكن تفسيره بحالة من الفوضى الشديدة فى النفس فهى بداية الثورة (الذهان) بكل ما فيها من قوة ونشاط وحيوية والأهم من ذلك بكل ما فيها من عدم تنظيم وتضارب وقتال ودفاع غير متأهب. ويكون اضطراب التفكير فى هذه الحالة هو أقوى اللغات تعبيرا عن هذه الحركة المضطرمة. وتنتهى هذه الدراسة إلى أشارة هامة وهى أن اضطراب التفكير لا يكون عاملا متغيرا هاما بالنسبة للتشخيص بمعنى أن وجوده لا يرجح كفة الفصام من عدمه. وربما تكون ملاحظات مثل الأخيرة هى التى دفعت القائمين على صياغة دليل التشخيص الاحصائى الثالث للأمراض (1980DSM-III) إلى أن يقللوا من أهمية اضطراب شكل التفكير (وليس محتوى التفكير بمعنى ظهور أفكار شاذة) فيزيحوه كعلامة تشخيصية إلى مراتب ثانوية أى أنها ليست بالضرورة أساسية جدا فى تشخيص مرض الفصام.
ويعرف كاتب انجليزى اسمه ريد (1970 Reed ) اضطراب التفكير على أنه لا يرجع إلى استعمال ميكانزمات أو (وسائل للتفكير) غير عادية – من حيث اختلاف نوعها، ولكنه يمكن أن نعزيه إلى استعمال بعض الميكانزمات العادية، ولكن بدرجة تتجاوز الحد السوى إلى درجات غير سوية وعلى هذا يترتب أنه يشير إلى أن اضطراب التفكير هو اضطراب كمى وليس نوعيا. ولكن هل يعنى ذلك أن بعض درجات أو صور اضطراب التفكير يمكن أن تحدث فى الأسوياء؟ وإذا كانت الاجابة هى نعم فما هى أشكاله وما هو أساس هذه الظاهرة فى حالات السواء؟ من أجل المحاولة للاجابة على هذه الأسئلة نشير سريعا إلى دراسة قامت بها كاتبة هذا المقال (أمين، 1982) فى البيئة المصرية تناولت ثلاث عينات: الأولى تكونت من عشرين مريضا مصابين بمرض الفصام، وعشرة باضطراب الشخصية، وعشرة آخرين من الأسوياء. ولقد استعملت فى هذه الدراسة- مثلها فى ذلك مثل الدراسات السابق ذكرها – إلى أن اضطراب التفكير لا يقتصر على مرضى الفصام، وإنما يظهر فى اضطراب الشخصية، بل وكذلك فى الأسوياء، وأن كان منظوره وشدته يختلفان أحيانا ويتطابقان أحيانا أخري، ولقد استعملت التحليلات الاحصائية للوقوف على مدى دلالة هذه الفروق القائمة على القياس الإكلينيكى والسيكومتري. وأثبتت الدراسة أن أهم ما يميز اضطراب التفكير عند مرضى الفصام بالمقارنة بمرض اضطراب الشخصية والأسوياء هو أنهم ينفردون بوجود التفكير الشاذ أو الغريب فى حديثهم وتفكك الترابطات فى عملية التفكير بالإضافة إلى عدم القدرة على تطبيق الأفكار المجردة فى مواقف من الحياة العملية أما بالنسبة للتفكير الضلالى والحديث المتمركز حول الذات واضطراب المفهوم، وما تحويه الكلمات من دافع حركى يوجه الإنسان نحو الفعل الإرادى من عدمه، واضطراب الاستجابة الإنفعالية نحو الكلمات، فهى ظواهر لاضطراب التفكير تتواتر فى المجاميع الثلاثة والعامل الفارق المميز هنا: هو شدة الظاهرة أوكميتها بدلا من مجرد وجودها، ولابد من الإشارة أن هذه الفروق كان لها دلالة إحصائية. ولكن الجديد الذى أظهرته هذه الدراسة هو بعض المؤشرات لاضطراب التفكير التى تزيد عند الأسوياء عنها عند مرضى الفصام، ولما كانت هذه النتائج ذات دلالة خاصة بالنسبة لموضوع هذا المقال، كان لزاما الوقوف عندها بعض الوقت للتوضيح والتقييم، وربما محاولة التفسير، وهذه المؤشرات هي:
أولا: مدى اتساع المفاهيم:
فلقد أظهرت الدراسة أن اضطراب اتساع أو حدود المفاهيم يزداد فى الاتجاه المضاد للمرض بحيث أنه يزيد بين الأسوياء عنه فى مرضى الفصام، وبالطبع تبدو هذه النتيجة غريبة لأول وهلة، ولكن إذا ما حاولنا تحليل نوعية محتوى الاجابات فى كل من المجموعتين: لوجدنا أن طبيعة الاضطراب الحادث فى كل مجموعة يكون مختلفا. إذ أن حكم التقييم السيكومترى على إجابة على محور واحد – بأنها صائبة أو غير صائبة – يكون قاصرا فى معظم الأحيان بل وربما يكون ظالما بمعنى أن الحكم على اجابتين قد يكون واحدا بالرغم من اختلاف محتوى كل منها. وبتحليل محتوى اجابات المريض المصاب بالفصام حينما يحاول تعريف بعض الكلمات: وجد أنه يتسع عموما بالمفهوم وفى بعض الأحيان يكون هذا الإتساع مقبولا منطقيا وفى بعض الأحوال يكون متجاوزا لكل الحدود. وهناك سمة هامة طالما شدت انتباهى وهى أن مريض الفصام يقترب أكثر من معانى الكلمات، فهو يعايش الكلمة بطريقة أكثر قربا، ولكن هذا لا ينفى أنه فى بعض حالات الفصام المتدهورة يعبر المريض الفصامى عن مفهومه لمعانى الكلمات بصورة مفككة بحيث أنه يعطى الإحساس بأنه يلهث وراء المعنى ويكاد أو لا يكاد يمسك به. أما بالنسبة للأسوياء فإن معانى الكلمات تبدو بعيدة عن إحساسهم، ولتوضيح الفرق بين السوى والمريض الفصامى فى علاقة كل منهما بالكلمة يمكن تشبيه الكلمة عند السوى بأنه يمتلك حقيبة ويعرف جيدا أنها موجودة ويعرف شكلها ولكنه لا يعرف ما بداخلها، أما المريض الفصامى فبالإضافة للعلاقة السابقة بالكلمة فهو يعرف ما بداخل الحقيبة بشكل أوضح، لكن الحقيبة مفتوحة، ليس لها صاحب، ولا يمكن حملها.
ويمكن أن نقترح أن يكون هذا الاختلاف الملاحظ راجعا إلى أن المفهوم فى حالة السواء ربما يكون مغلفا بأغلفة عديدة، وقد تناول بعض الفلاسفة والأدباء هذه الظاهرة ولكن بطريقة غير مباشرة فنجد أن سقراط فى محاورة بروتاجوراس – كما نقلها أفلاطون – يبذل جهودا كبيرة فيها كثير من الصبر والمثابرة من أجل تخليص مفهوم كلمة (الفضيلة) من الشوائب العديدة التى تمنع السفسطائيين وغيرهم من الوصول إلى المعنى الحقيقى للكلمات ترجع إلى أسباب شخصية عند السفسطائيين وهنا يمكن الاشارة إلى أن هناك علاقة بين نبض الكلمات وكمية ونوعية ميكانزمات الدفاع المستعملة بحيث أن هذه الدفاعات تحول بين الاحساس بالمعانى الحقيقية للكلمات، ويصور نيقوس كازنتزاكس محاولات أحد الأبطال لسبر أغوار المعانى الخفية للكلمات، فيشبه كل كلمة بحبة اللوز، وللحصول على الثمرة الحلوة بداخلها لابد من جهد وعناء، إذ لابد ‘من كسر القشرة الصلبة التى حولها رويدا رويدا فتتفتق الكلمات مع المجهود والعناد وتلين قشرتها الصلة وتكشف عن معانيها…’.
ولكن فى حالة الفصام يبدو أن التمزق أو التفكك الذى يحدث فى النفس يصاحبه تغيير فى استراتيجية ميكانزمات الدفاع، وتصبح البناءات الداخلية للنفس (أو المفاهيم) طليقة وسهلة الحركة، ولكن هذا لا يعنى أن المفاهيم تبقى واضحة المعالم والحدود كما كانت، ذلك لأن هذه الحرية خطيرة من حيث أنه ليس لها قواعد تنظم علاقاتها ببعضها وبالهيكل المتكامل، مما يجعل هذه المفاهيم عرضة للتضارب والتحلل والتفكك.
ثانيا- الميل نحو العيانية:
أما بالنسبة للميل نحو العيانية فهو المؤشر الثانى الذى زاد فيه الاضطراب عند الأسوياء عنه فى مرضى الفصام وهى نتيجة تبعث على الدهشة وتحتاج إلى محاولة لتفسيرها، وقبل تتطرق لهذا الموضوع لابد من تعريف ما هو المراد من مفهوم ‘الميل نحو العيانية’. فهذا الأخير يشير إلى تعريف الكلمات عن طريق مجموعة من الأفكار ترتبط بمبدأ تجريدى يميز القدرة على ربط مكونات هذا المفهوم، على عكس التفكير التجريدى السليم حيث تتجمع وتترابط الأفكار بصورة قوية من أجل التعبير عن مبدأ معين، ولابد من الإشارة هنا أن الميل نحو العيانية يختلف عن العيانية، إذ أن الأول يرمى إلى ضعف فى تركيب المفهوم وفى التعبير عنه مما يظهر فى تعدد الترابطات المستعملة، وذلك لقصور هذه الأخيرة فى تحديد المعني، هذا بالإضافة إلى ضعف أنواعها. أما العيانية فإن المبدأ الأساسى الذى يمكن من خلاله تعريف الكلمات يكون مفقودا بمعنى أن التجريد حتى فى صوره الضعيفة – والموجودة فى الميل نحو العيانية – يختفى ليحل مكانه موقف يتسم بالتصاق الفرد بالكلمة بحيث لا تكون هذه الكلمة جزء من كل وانما هى قائمة بثقل شديد وقائمة بذاتها وبمعالمها فى ذاتها فهى لا تشير إلى شيء آخر سوى شكلها وتركيبها ورنينها الصوتى وفى هذه الحالة يكون الفرد عاجزا عن تخليص نفسه من هذه الرابطة.
وقد انتهى البحث إلى أن الميل نحو العيانية يزيد فى الأسوياء عنه فى مرضى الفصام بصورة ذات دلالة احصائية وهى نتيجة غير مألوفة فى ظاهرها، وقد تعنى أن ثمة استعدادا كامنا فى كل الأفراد للميل نحو العيانية، وأن تطوره فى اتجاه المرض لابد وأن يؤدى إلى العيانية المتعارف عليها فى مرضى الفصام، ولكن بالنظر إلى مؤشر التفكير العيانى فى ذات الدراسة نجد أن الفرق بين الأسوياء ومرضى الفصام ليس ذا دلالة احصائية ومن ثم فهو قليل الأهمية، وربما تعطينا هذه الملاحظات السابق ذكرها الحق فى أن نفكر أن الميل نحو العيانية هو استعداد مشترك، يرتبط أكثر بمراحل تطور المفاهيم فى الفرد أكثر من ارتباطه بالمرض، ولقد وصف كل من سوليفان (1925Sullivan) وسبيرمان (1923Spearman) وجينيس وزملاؤه (1975Jenness et al) وآريتى (1974Arieti) مراحل إعداد المفاهيم من المفاهيم ذات المستوى الأدنى إلى المفاهيم ذات المستوى الأعلى عن طريق عمليات جمع وطرح لمكونات المفاهيم، بحيث أنه مع تزايد النمو يزداد وضوحها وتتوافق أكثر حدودها مع معانيها، وهذا يعنى أنه فى أى وقت: لابد من وجود أشكال مرحلة ناقصة للمفاهيم، تظهر من الناحية الإكلينيكية فى صورة ميل نحو العيانية بالمعنى الذى سبق شرحه.
ثالثا: القدرة على زيادة التجريد:
أثبت البحث من خلال نتائجه أن مرضى الفصام يفوقون الأسوياء فى قدرتهم على زيادة التجريد بصورة لها دلالة احصائية، هذا بالإضافة إلى أنهم قد أعطوا على نسبة من الاستجابات الصائبة وغير الصائبة فى التجريد المتزايد. ولم تكن هذه النتائج جديدة حيث أن الكثير من الكتاب والباحثين أجمعوا على أن مرضى الفصام أكثر قدرة على التفكير فائق التجريد. وربما تكون هذه النتيجة مؤشرا آخر نحو انطلاق المفاهيم نتيجة لتفكك الجهاز النفسى ولكن هذا الانطلاق لا يخدم إلا معانى مجردة تكون على الأكثر ذاتية بمعنى أنها بعيدة عن نقد واختبار الواقع فهى معان لا يمكن توظيفها لأنها لا تخضع بصورة كافية للقانون العام للهيكل النفسي.
وإذا كان مريض الفصام فى أحد مراحل تطور مرضه يكون علاقة وثيقة بمعانى الكلمات فإن هذه المعانى حينما لا توظف فى الواقع ولا تحقق فى صورة أهداف فهى تغترب عن الواقع وربما تكون هى الفكرة نفسها التى دفعت بعض الكتاب إلى تصوير هذه الزيادة فى القدرة على التجريد على أنها ‘زمزية ذاتية أكثر من كونها تجريدا’ بمبوراد وبنسكر )1974Bomporad & Pinswer(.
رابعا: القدرة على التوفيق بين معانى الأمثلة العامية المختلفة:
وقد وجدنا فى نفس البحث أن الأسوياء أكثر قدرة على التوفيق بين معانى الأمثلة العامية عن مرضى الفصام، وكانت هذه العلاقة أكيدة بحيث أنه ثبت أن لها دلالة احصائية، وهكذا فإنه على الرغم من زيادة القدرة على التجريد عند مرضى الفصام واقترابه من معانى الكلمات فى كثير من الأحيان – فإن أداء المريض فى التوفيق بين المعانى هو أقل كفاءة من الأسوياء مما يجعلنا نفترض أن المريض الفصامى أقل قدرة فى التحكم فى ربط وفهم الأفكار.
وإذا كانت المؤشرات السابقة هى التى أظهرت دلالة احصائية، فإن هذا لا يعنى أن حديث الأسوياء كان خالياً من نفس أنواع اضطراب التفكير الأخرى المتواترة فى حديث مرضى الفصام، ولكن بالطبع كانت شدتها أقل.
وفى كثير من الأحيان نقابل اضطراب التفكير – فى صور يزيد أو يقل وضوحها وتواترها – فى خطاب سياسى أو بحث عملى أو مقال أدبي، وكل هذا ليس له دلالة مرضية مباشرة، وإن كان ينبغى الوقوف عنده بعلمية وموضوعية، لعل دلالاته وأن لم تكن مرضية يكون لها ما نستفيد منه فى غير مجال التطبيب: تشخيصا أو تداويا.
وقد يكون من المناسب أن نرجيء هذا التحليل لبعض عينات تفكير الأسوياء لمقال آخر.
ومما تقدم نستطيع أن نشير إلى أن التفكير هو ملكة مرتبطة بنوعية وجود الإنسان ومسئوليته نحو نفسه ونحو الآخرين. فالتفكير كوظيفة تضطرب وتفشل حين يغترب وجود الإنسان عن دوافعه وأهدافه ومشاعره. كما أن تطور وبناء وتكامل الجهاز الوظيفى للتفكير يعتمد على مدى محاولة الإنسان لاستيعاب الواقع، وعلى حقيقة تفاعله بل تصادمه معه، فكلما كان هذا اللقاء حيا ونشطا – أى يبعث على التفكير والتأمل – كان دافعا نحو البناء المتماسك، هذا ومن ناحية أخرى كلما كان هناك علاقة بين معانى الكلمات والأهداف الداخلية فالخارجية كان هناك تغذية مرتجعة لهذا البناء، تساعد على صلابته وتطوره ونموه، إذ يبدو أن إمكانية اضطراب التفكير هو استعداد موجود لدى كل إنسان، فهو مرتبط بنوعية وجود الإنسان، وحدوث المرض النفسى وبالذات الفصام يفسح الطريق لتضاعف هذا الخلل وتماديه، وربما تكون الدراسات التى قامت على فحص حديث أقارب مرضى الفصام لمقارنة تفكيرهم بتفكير المرضى منهم إنما تفترض وجود نفس أنواع اضطراب التفكير فى كليهما مما يمكن تصوره على أساس أنه شيء كامن عند الأفراد الذين يشتركون فى التكوين الوراثى المتماثل ويعيشون فى نفس البيئة فيشتركون تقريبا فى نفس نوع الوجود وربما يكون هو نفس السبب الذى دفع ريد 1970 إلى تعريف اضطراب التفكير على أساس أنه اضطراب كمى وليس نوعيا على أن هذه الملاحظات لا تتهم الأسوياء أساسا بقدر ما نأمل أن تضاعف من مسئولية الفرد تجاه وجوده وتجعله فى مأزق لا يحسد عليه.
المراجع الأجنبية
- American Psychiatric Association (1980) Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders. (3rd edition). Washington: The Association.
- Amin Selim, Y. (1982) Clinical and Psychometric Assessment of Disturbance of the Process and Content of Thought in Egyptian Schizophrenic patients. An M.D. Thesis, Cairo University.
- Arieti, S. (1974) Interpretation of Schizophrenia. London: Crosby Lockwood Stables.
Bemporad, J.K. and Pinsker, H. (1974) Schizophrenia: The manifest symptomatology. In Arieti, S. and Brdy, E.B. (eds), American handbook of Psychiatry (2nd edition). Vol. III. New York: Basic Books, Inc. Publishers.
- Bleuler, E. (1911) Dementia Praecox or the Group of Schizophrenia, New York: International Universities Press.
- Ey, H. (1977) Le processus schizophrenic. In Ey, H., Aranaudies, J., Gazalis De Fontdouce, G. & Marcians, P. (eds). La Notion de Schizophrenia. (Seminaire de Thuin, Fevrier – Juin 1975). Paris: Desclee De Brouwer.
- Harrow, M., Tucker, J.G. & Adler, D. (1972a) Concrete and indiosyncratic thinking. Archives of General Psychiatry, 26: 433-.439
- Harrow, M., Tucker, J.G., Himmelhoch, J. AND Putanam, n. (1972b) Schizophrenic thought disorder after the acute phase. American Journal of Psychiatry, 28: 179-.182
- Harrow, M. & Quilan, D. (1977) Is thought disorder unique to schizophrenia? Archives of General Psychiatry, 34: 15-.21
- Jenness, D., Kietzman, M.L. & Zubin, J. (1975) Cognition and perception. In Freedman A.M., Kaplan H.I., and Sadock, B.J. (eds). Comrehesive Textbook of Psychiatry. Baltimore: Williams and Wilkins.
- Mayer-Gross W., Slater E., and Roth M. (1969) Clinical Psychiatry. London: Bailliere Tindall and Cassell.
Noyes A.P., and Kolb L.C. (1963)odennnn clinical Psychiatry. 6th Ed. Philadelphia W.B. Saunders.
- Payne R., (1971) Cognitive defects in schizophrenia, overinclusive thinking. In Helmuth, J. (ed) Cognitive Studies: Deficits in Cognition. New York: Brunner Mazel.
– Reed J.L. (1970) Schizophrenic thought disorder: A review and hypothesis. Comprehensive Psychiatry. 11: 403-.432
- Reilly F., Harrow M., Tucker G., Quilan D., and Siegel A. (1975) Looseness of associations in acute schizophrenia. British Journal of Psychiatry 107: 240-.246
- Spearman C.H. (1923) The Nature of Intelligence and the Principles of Cognition. London: Macmillan.
المراجع العربية
– الرخاوى ى . ت (1979) دراسة فى علم السيكوباثولوجى – القاهرة- دار الغد للثقافة والنشر.