مقتطف وموقف
امرؤ القيس والإحساس بالزمن
داوستاشى
المقتطف:
يقول امرؤ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله … على بأنواع الهموم ليبتلى
فقلت لـه لما تمطـى بصلبـه … وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى … بصبح وما الأصباح منك بأمثل
فيـالك من ليل كـان نجومـه … بأمراس كتان إلى صم جندل
الموقف:
أصبح الاحساس بالزمن فى أيامنا هذه أمرا ثانويا مرتبطا بأشياء خارجنا بل وخارج إطار الطبيعة ذاتها، أصبحنا نتعرف على الزمن من آلات نعلقها على حوائط فى أماكن مغلقه، أو نحيط بها رسغنا نضبط أنفسنا عليها ولا نضبطها على إيقاعنا، بعد أن نسينا وأنسينا أن لنا إيقاع حيوى مواكب للكون ودوراته، قبل كل تلك الآلات وبعدها، وموقفنا تجاه إحساس امرؤ القيس لابد أن يكون موقف المتأدب الذى يجفل مما آل إليه حاله، سواء تم ذلك دون وعى أو بوعى غبى، ولكن أليس الحق مع إنسان العصر أن هو أغفل الزمن كل هذا الاغفال؟ إذ من أين له بالصبر على هذا الإيقاع البطئ يتحدى، من أين له أن يحتمل هذه الإحاطة من كل جانب، وهى ليست إحاطة، الستائر الساكنة الداكنة، ولكنها إحاطة الموج المتلاطم القوى فهى إحاطة دافقة هادرة لا تترك الفرصة لغيبوبة أو هروب، بل تحفز المواجهة والمراجعة، استنقاذا وحفزا: فى مواجهة الذات / الزمن/القدر/العجز/الفناء/ الهجر/الوحدة /الحاجة، نعم، أليست هذه هى “أنواع الهموم”؟ تلك الهموم التى نسينا أن لها أنواعا، فرحنا نتصور أنها هم واحد، ثم ذهبنا نطلق عليه اسم مرض سخيف، يحرمنا من عمق الرؤية، وروعة تنوع الآلام البشرية المتحدية المتحفزة، أصبح الهم واحدا، ومع ذلك فهو لا يحتمل، مع أن شاعرا آخر أعلن أنه “ولو كان هما واحدا لإحتملته…. ولكنه هم وثان وثالث”، والهموم العظيمة تأتى لتوقظ: إذ تحد الرؤية، لتبتلى: إذ تشحذ الصبر وتصهر الرجال، ولتردع، وامرؤ القيس هو الذى قال أيضا (بعد أن أبلغ نبأ مقتل أبيه).
أرقت ولم يأرق لما بى نافع وهاج لى الشوق الهموم الروادع
نعم، فقدنا الإحساس بالزمن، وتلمس سدول الليل، وتتبع أعجازه الثقال، وتسلق حبال نجومه الثوابت، وأصبح همنا أن ينقضى الليل على أمل لا يتحقق أبدا، لأننا لا نعرفه أصلا، فإذا حاولنا معرفته القى فى روعنا أنه “الرفاهية” حتما، كلمة ماسخة لا قوام لها، أن صلحت مخدعا متأرجحا لطفل رضيع فهى لا تصح شرفا لوعى متفجر، بل أن امرؤ القيس كان يواصل نداءه للزمن أن يتحرك حتى وهو يعلم أنه قد لا يواجه فى صبحه إلا ما يفر.. منه فى ليله، ومع ذلك.. فايقاع الحركة – حتى دون اليقين ببديل أفضل – هو فى ذاته حياة تستحق أن نطلبها لذاتها، وليكن الإصباح كالليل، والليل كالموج، ولتكن علاقتنا الوثيقة بخطى الحياة ومواكبتنا لها هى الوسيلة الوحيدة لتحقيق “الممكن المجهول”، ذلك الممكن الذى تصرالحياة المعاصرة على أن يكون معلوما أصلا، ومسبقا أبدا، وعلى وجه الدقة، قولوا لى بالله عليكم “كيف”؟، إن إصرار ديننا الحنيف على التأكيد على أن “الإيمان بالغيب” هو أحد أركان الإيمان الأساسية، لابد أن يؤكد التوصية على ضرب غرور البشر “هذا”، حتى تتفتح الآفاق رحبة لعوالم لا نعرفها، ليست واردة أصلا فى برامج “كمبيوتوراتنا” المحسوبة، انى أتصور الإيمان بالغيب على أنه “دعوة مفتوحة” لمعرفة غير محدودة، فهى ليست أبدا تسليما لمجهول، ولكنها سياحة مبدعة فى محيط “الممكن” المتجاوز، هذه هى المسألة، وحتى لو لم يكن “الاصباح” عند امرئ القيس “بأمثل” من ليل هذه الليلة التى يواجهها فى شعره هذا، فإن ذلك لم يثنه عن الذهاب إلى محاولة قلقلة الصخور الصلبة (صم الجنادل) أو قطع حبال الكتان التى تربطها إليها، حتى تتحرك النجوم اذ يعاود فلك الكون دورانه إلى ذلك “الممكن المجهول”.
إن هذا الوعى بالزمن: إذ هو تلاحق دورات فى تصعيد منتظم متعاظم، لابد وأن يواصل الواعى منا إلى انتسابه الأول إلى تراب الأرض، أصلا.. ومصيرا، وكفى بهذا النسب هاديا ومربيا ولائما ومعلما بالموت.. أيضا:
فكما فقدنا الإحساس بإيقاع الزمن فقدنا – بالمرة – الاحساس بنهاية دورة حياة الفرد منا، ذلك “الموت العظيم”، وحين تختفى هذه الحقيقة “الزمنية” وراء إغماء الجشع أو أوهام الخلود، يحل كل شئ وتفقد الحياة الإنسانية شرف الوعى بالبداية والنهاية، وتهتز القيم وتتميع الأخلاق، وامرؤ القيس – أيضا – يتذكر ذلك، لأنه هو الذى يقول:
فبعض اللوم عاذلتى، فانى ستكفينى التجارب، وانتسابى:
إلى عرق الثرى، وشجت عروقى وهذا الموت يسلبنى شبابى
وإن كنا نجحنا فى أن نعايش مواكبته لإيقاع الزمن بكل هذه الدقة وعمق هذا الوعى، فاننا نقف معارضينه حين يعلن أن هذا الموت يسلبه شبابه، اللهم إلا إذا رضينا أن نقف عند لفظة “هذا”، فنقول أنه لم يعمم إذ لم يقل: “وإن الموت يسلبنى شبابى”؛ بل خصص موتا بذاته لعله يعنى به الجمود، أو اليأس، أو الاستسلام، ولكنه أبدا ليس “كل الموت”، لا: ليس الموت المربى الأعظم، إذ أن الأصل هو أن يكون اليقين بالموت هو الدافع الحقيقى إلى اثراء الحياة، وتحسين نوع التواجد فيها، وحفز الإبداع صلاة لها وتسبيحا أثناء رحلتنا المحدودة، فالوعى بالموت ليس إلا حافز نحو الحياة النابضة الغنية، أما “هذا” الموت بالغيبوبة والتخدير والاغتراب فهو الذى يسلب كل شئ، نعم كل شئ، الشباب والوعى والإبداع جميعا.
الأهلة والمواقيت:
ولعل هذه الوقفة أمام الاحساس بالزمن إذ هو بعد داخلى / خارجى دوار، يذكرنا بالقضية المثارة كل عام، وإصرار فقهاء المسلمين على رؤية الهلال رؤى العين دون الاعتماد على الحساب الفلكى، وقد كنت دائما – ومازلت أحيانا – أرفض هذا الاسلوب اللاعلمى فى التعامل مع “المواقيت”، الا اننى ذات رمضان – وكنت فى باريس – أتصل بى زميل ظريف، على غير دينى وأخبرنى أنه سمع مصادفة من إذاعة الجزائر أن رمضان يحل غدا، هكذا فجأة، ومضى فى دعابته يسائلنى “ألن يرسى مشايخكم على رأى يريحكم من هذه الحيرة كل عام؟”، وكدت أخجل، لكن خاطرا قفز إلى ذهنى يقولك “ولم لا؟”، هل فريضة الصيام هذه سوف تكون أكثر قربا إلى الحق سبحانه، حين نتبع فى بدايتها كلام مراصد تنوب عن حواسنا، ألا يمكن أن يكون التأكيد على أن تظل الأهلة – رغم كل التقدم – هى هى مواقيت للناس، وأن يتبع المسلمون جميعا نظرة عابر سبيل، أشعث أغبر، رأى الهلال، أو خيل له أنه رآه؟ ألا يكون فى هذا – ضمنا – توثيق للعلاقة بين الحواس المباشرة والزمن الدائر، الدائر فعلا، وليس المحسوب: خبرا، كما أنه يتضمن أيضا أن يتبع أينا – مهما كان – أيا منا مهما هان؟ فالعبرة بالإتفاق – أى إتفاق – والحفاظ على حق الإنسان (مجرد دون آلة) أن ينظم عباداته مع ربه، وأن يتفق فى ذلك مع سائر من يتوجهون وجهته؟ نعم،. .. لم لا؟- ولم أقتنع كثيرا بهذا الخاطر الطيب، ولكنى لم أعد أرفض متشنجا غلو فقهاء المسلمين فى التمسك بتفسير لفظ “رؤيته”، ولم أخجل من لمز صديقى على أى حال .
نعم … ولكن:
ولست فى دعوتى الضمنية هذه إلى ضرورة الإحساس بالزمن، والوعى بيقين الموت، والإتصال المباشر بالطبيعة، أرفض ضمنا منمنمات العلم، أو ضرورة الانضباط، وانما أنبه على أنه لا ينبغى أن نستغنى عن حواسنا تماما، إنبهارا بما يقوم مقامها حتى ولو كان أدق وأمهر، قد يصح التوقيت الإلكترونى (!!) فى حسابات دورات القمر الصناعى، ورحلات الفضاء، وتشغيل مصنع، وحسابات “كم” الإنتاج، ولكنه لا يصح على اطلاقه فى تعميق وعى، وتجديد وجدان، وترسيخ علاقة إيمانية مع الأكوان ورب الأكوان، ومواكبة الأحزان، وتفجير طاقة الإبداع من المباشرة الحية الإنسانية الفردية المتميزة .
أليس كذلك؟
ى .أ .
* * *