قصة قصيرة
فك رقبة
خيرى شلبى
كنت أجرى فى خلاء موحش، يتصاعد من جوفى شعور بأن ثمة من يطاردنى غير أننى لم أكن أعرف علام المطاردة أو الألم. وحين نظرت الى الخلاء أمامى وحوالى بدا لى أنه – رغم اتساعه الذى بلا حدود – ضيق غاية الضيق، حيث لم أكن أعرف لى وجهة معينة على التحديد، فقللت من اندفاعى، وهبطت فروة رأسى فأحسست كأنها كانت غائبة تماما منذ زمن بعيد. ثم بدا على كأننى أعرف أن ذلك الذى ربما كان يطاردنى يريد أن يظفر منى بشئ، غير أننى لم أعرف هذا الشئ على وجه التحديد وما كنهه وما قيمته بالنسبة لى أو للآخرين أو حتى للشياطين، أنما أشعر بحقيقة واحدة لا جدال فيها، هى ذلك الاحساس بالرعب الى درجة لا رحمة فيها. اعترانى الاندفاع من جديد فأطلقت ساقى للريح وثمة شئ كاليقين يطوف تحت فروة رأسى بعد مسافة قصرت أو طالت سوف أخر على الأرض راكعا أطلب الصفح، ربما، أو الرحمة – وكنت واثقا بأن ثمة من سيهتز من ركوعى، ولهذا لم أكن قادرا على التمييز بين العرى والدموع، فكلاهما ينثال بدفق مزعج مؤلم، ولهذا أيضا قلت لنفسى أن العرق ربما كان دموع الجسد وأن الدموع ربما كانت عرق العينين …
كنت محتاجا الى الركوع فاعتزمت التعجيل به ايقافا للتعب، وكنت تعبا مجهدا فخررت راكعا. فما أن لثمت جبهتى وجه الأرض حتى وجدتنى فى قلب حفرة عميقة هائلة وجسدى كله مغمور بنشع عطن. خفت لحظتها أن يكون ذلك من عملى فى ماضى لا أذكره الآن ولا أكاد أعرف عنه شيئا أى شئ. وكان ثمة رجل معمم يجلس فوق كومة من التراب الطالع من هذه الحفرة، وكان ظهره لى فيما أحاول تخليص ركبتى المنكسرتين فى قلب عجينة طينية لدنة، وكنت أريد أن أصيح به منبها اياه لعله يقبلنى، لكننى حين شرعت أصيح لم أجد صوتى، وأدركت أن السبب هو اجلال قديم توارئته يمنعنى من الإجتراء على وحدته أو إزعاجه، وأخذت أحاول رفع نفس بكل نفس ذائقة الموت، وفى اللحظة التى خيل الى أن صوتى قد عاد يهدر فى حلقى وأننى أستطيع التأوه على الأقل كانت سحب الصمت قد انجابت فجأة فاذا هذا الرجل يتكلم واذا صوته يجلجل ويداه تهتزان وترسمان فى الفضاء أشكالا وتموجات إيقاعية، وعرفت أن صوتى لن يصل، لكنى مع ذلك تأوهت بصوت عال، ثم جعرت، ثم هتفت، ثم هدنى الاعياء من فرص هذا الرجل وصوت الهدير الخاشع المرتد اليه من حناجر خرافية كانا يعلوان على صوتى الذى لا يلبث أن يغوص معى هو الآخر فر الحفرة، فمن للصارخ فى قلب حفرة بمن يسمعه؟…
هى الرحمة بالتأكيد، إاذ وجدتنى أطفو شيئا فشيئا نحو حافة الحفرة، وكان من الواضح أن فيضانا مفاجئا قد حل بالحفرة رفعنى بقوة صعوده، فعرفت أن الحفرة التى وقعت فيها تابعة لخريطة المجارى، وقلت فليكن ما يكون السائل لكنه فيضان رفعنى من القاع السحيق. تشبثت يداى بحافة الحفرة، أخذت أتسلق الساتر الترابى المرتفع، وكنت ألهث وفى أعماقى رعب لذيذ يوحى لقدمى بفنون من التثبت فوق هشاشة التراب، وكنت أرتدى “أفرول” الجندية وأحمل فوق ظهرى جربندية، ويتعلق فى كتفى مدفع كبير أحسست كأنه صديقى الذى أعرفه من زمن بعيد وقد أبى ألا أن يرافقنى فى هذه الرحلة الفاصلة التى سأعود منها ظافزا حتى ولو أكلنى المجهول. أخذت أواصل الصعود، ومن خلفى هدير آخر مختلف تطلقه نفس الحناجر الخرافية التى أحببتها هذه المرة لأنها كانت تشق صمت الفضاء، فتضاعف تموجات الصوت من قوتى على الصعود، بل كانت تقذفنى الى أعلى قذفا، وكانت القوة المطلوبة للصعود قد بدأت تزيد عن حاجتى فعرفت أن الأرض قد استوت تحت قدمى، ولم يكن ثمة من خطر داهم يواجهنى كما كنت أتوقع، وكنت أنظر عن يمينى وعن يسارى فلا أجد سوى صفوفا متكررة لظلى بنفس الخوذة ونفس الخطوة المحسوبة المنتظمة، وقد اعتراها نزق لعله من شدة الفرح باجتياز مانع سرمدى كان معششا فى القلب. وسرعان ما انبعث أزيز يشق أجواز الفضاء، فلما نظرت للسماء وجدتها غاصة بأسراب من طير أبابيل تساقط حمما، فمع مدفعى صوبت عشرات المئات من ظلال المدافع المجاورة لى فاذا بالطائرات الجهنمية تهوى نحو الأرض شيئا فشيئا، وائا هى مجرد عصافير ترفرف وتتوقف بكل براءة على فوهات المدافع تلتقط الأنفاس وتنفض الأجنحة مما علق بها من ذعر بائد…
وكنت أحس أننى قد وصلت الى نقطة أمان عظيمة حقا، لكننى توجست الخطر فيها، وخفت أن تكون هى مجرد البرهة التى يستغرقها زمن الوصول الى ذروة الانفجار الماحق، فشرعت أنشر سيطرتى على القمة العريضة، بأن رحت أجوبها مستطلعا منافذ الخطر الذى قد يكون. فما أن خطوت خطوات حتى وجدت درجا حجريا عريضا سميكا منحوتا بدقة ومهارة يأخذ فى الهبوط الى أسفل، أطلقت فى مساره كثيرا من الطلقات النارية ولففت حوله لأطلق من كل ناحية، فلما استيقنت من غياب الصدى شرعت أهبط الدرج فى حذر واستطلاع، وكان الخوف قد شرع يعترينى من جديد لسبب غامض فنفيته بقوة، ولحظتها تكشف لى أن الدرج لم يكن درجا ولم يكن حجريا بل كان أليافا سميكة منحوتة بشجرة عظيمة الحجم، وأننى لم أكن أهبط بل كنت أصعد الشجرة، وكنت لحظتها ألبس الزرد وأوصل الصعود فى مهارة النمر وروح وخفة القط. فلما استوت قدمى على أول فرع نورق أخذت أمشى فوقه والفرح يهدهد أعطافى، ذلك أننى ألقيت بصرى على شبكة الفروع العريضة المورقة فوجدت عشرات من الأبقار السمان الحلوب تقف فوق الفروع تأكل وترسل عيونا فيلسوفة، لا تمل من التحديق كما لا تمل أنداؤها المنتفخة من ادرار الحليب.
تذكرت أن أمى كانت تحلم بواحدة من هذه الأبقار، وكانت لا تنسى توصينى اذا ما لبست الزرد وطلعت هذه الشجرة أن أجئ لها بواحدة. أنبثق بداخلى فرح غامر، ورأيت الخضرة حولى تعانق الشمس فى قبلة عظيمة حارة من فرط حرارتها تبدو بلا نهاية. ولم تكن الأبقار مربوطة وليس عليها ثمة من حرس، وكنت أحس كأن لى حقا أزليا فيها، وها هى ذى أحدى الأبقار تومئ لى صائحة، بل أكاد أظنها تبتسم لى وتنادينى.
اقتربت منها وأخذت أربت عليها بحنان، وأفاضل بينها وبين الأخريات فتعجزنى المفاضلة. ثم أننى سحبتها ومضيت فمضت ورائى تتبختر وتنقل الخطو على الأفرع المتشابكة فى رشاقة. ثم استطالت الأفرع تحت أقدامنا وما لبثت أن التحمت بالأرض فيما يشبه المرتفع الذى يكشف وراءه مباشرة عن منحدر. وبدأ صوت خطوات البقرة يقرع الأرض فى خبيب واصطكاك، فلما نظرت الأرض وجدت المرتفع مرصوفا وكذلك المنخفض، فداخلنى الانزعاج الغامض. وما أن شرعنا ننحدر فى المنخفض المرصوف حتى شرعنا نتأهب لصعود مرتفع آخر، مرصوف أيضا. وكان على قمته زئيط هائل ورؤس رجال ونساء وأطفال بدوا لى كأنهم غرباء عن هذه المنطقة، والكل يصوت بأنغام مختلفة الايقاعات، وعجزت البقرة عن مواصلة الصعود فأخذت أصيح فى دفعها دون مجيب. فكرت فى الارتداد والبحث عن طريق آخر لكننى فوجئت بأن المشكلة نفسها قائمة عند الارتداد لأن البقرة لن تتمكن من صعود المرتفع الذى انحدرنا منه، المطلوب أذن أن تنجح البقرة فى صعود أحد المنحدرين. كدت أبكى، الا أن البقرة وسعت ما بين ساقيها فعرفت أنها تستعد لافراغ بطنها من الغائط، لكن مؤرختها صارت تساقط أطباقا من الصينى وملاعق ما تكاد تصل الى الأرض حتى تتكسر وتصير هشيما، وكأن نفس الهشيم يتساقط من قمة الزئيط البشرى فلما تفحصته تبينت أنه هشيم زجاج سيارات لابد أن الزئيط والتجمع بسبب حادثة بين سيارتين وطلبت الستر من الله. وبدا أن الرؤوس فوق قمة الزئيط قد لمحتنا فصارت تضحك وتشير الينا ثم تأخذ فى الهبوط نحونا كالقردة مما أخافنى، لكننى لما رأيتهم يتجهون تلقائيا نحو البقرة ويمسكون بمؤخرتها ويساعدونها على الصعود بدفعها بقوة عجيبة…. عرفت أنهم من أهلنا، وأن كنت لا أعرفهم أويعرفوننى. أخذت أبادلهم حديث المجاملة فسألتهم عن سر هذا الزئيط فقالوا لى أن “حميدة” قد ولدت اليوم ولدا. قلت رغم أنى لا أعرفها: طيبة وغلبانة، حمدا لله أن رزقها ولدا ينفعها، ألهذا تفرحون؟. قالت جوقة الأصوات الهمجية اللطيفة: نعم ولهذا نبكى ونصرح من أجلها أيضا. قلت: كيف؟ لماذا؟ قالوا: لأن الحداة قد اختطفت رأسه. قلت: أى حداة؟ قالوا: أى حداة، اذ أن حميدة كانت تستعجل قيامه واستقامة عوده، فجلست على الطريق فرحة تحاول تدريبه على المشى والنهوض فما درت الا وجسده بين يديها بلا راس، والدم ينزف من عنقه المبتور. قلت: يا حفيظ يارب، ثم واصلت الصعود. ثم وقفنا جميعا وسط الزئيط نمسح عرقنا ونلتقط الأنفاس، والبقرة المسكينة هى الأخرى تتصبب عرقا وتنظر فينا فيتصاعد من عينيها صبر عريق بارد محزون. وكنت مطمئنا الى أن مقودها فى يدى، فأخذت كالموتور أبحث بلهفة وحيوية غريبتين عن شئ لعله جثة الطفل الذى اختطفت الحداة رأسه، وصيرت الأمل العزيز بين يدى الأم كتلة من اللحم الأعز. وحين تمكنت من الغوص بين كتل الجماهير تكفلت البقرة من ورائى بشق طريق مريح لنا. وكنت أتوقع أن أكون موضع أسئلة كثيرة من الجمهور الذى ساعدنى على صعود المنحدر وتركنى أغوص فيه ببقرتى، لكننى حين وجدتهم لا يفعلون بل يصبحون هم موضع أسئلة منى، تيقنت من أنهم رهط من بقايا عشيرتى وبلدتى البكر الطيبون، كانوا يمشون فى فروغ بال وثمة شبه كبير جدا بين حالتهم تلك وبين ما يتصاعد من عينى بقرتى، اذ تنضح وجوههم بصبر عريق بارد ومحزون وكان منهم من يتطوع بمساعدتى فى سياقة البقرة وذب الأطفال عنها، وقلت لبعضهم بصبر نافد: أين حميدة أذن؟ فأشاحوا عنى بوجوههم كأنهم يتهربون من سؤالى وهم فى نفس الوقت يشيرون لى باشاحة الوجوه نحو مكان بعينه. نظرت الى حيث اتجهت وجوههم، فرأيت جسرا حديثا من الحديد والأسمنت ذا أفريز ودهاليز يمتد فيخترق العمائر ويشطر الأبنية العتيقة الثمينة، ويمتطى ظهر النهر، ويتلوى ويتلوى، وتتفرع منه قنوات وأرجل ورؤوس لا حصر لها كحيوان ديناصورى خرافى، وأسرابا لا حدود لها ن السيارات مجهولة البدايات والنهايات تزحف متداخلة متعارضة متقابلة فى نفس الآن……..
انبهرت حقا، ولكننى حين رأيت كثافة الزحف فوقه، أحسست بالخطر الداهم يجتاحنى فجأة. ثم رأيتنى فى الحال أمشى فوق هذا الجسر بين السيارات ساحبا بقرتى. ومع ذلك لم نصطدم بأحد ولم يصطدم بنا أحد، بل كان يخيل الى أننى أمشى فى تطامن وهدوء لا يزعجنى سوى هبوب الرياح العاصفة الزائرة بأصوات المحركات وهى تنزلق حوالى مسرعة الى الأمام مثيرة عواصف الغبار، وقد عجبت من شئ واحد هو اطمئنان بقرتى الحبيبة التى لم تنزعج ولم يركبها الهياج فتكون الكارثة. ولكن بدا أننى قد حسدتها، اذ بها فجأة تتوقف دفعة واحدة وتحرن عن السير وأنا أشد المقود حتى تكاد رقبتها تختنق، مما اضطر السيارات الى التلكؤ والتوقف والزار المتواصل بالاحتجاج المهول. وقلت لنفسى لابد أنها فعلت ذلك لحكمة أو لسبب من الأسباب طرأ. من فرط حيرتى وعجزى توقفت ناظرا فى الأرض أنفخ غيظا وسخطا، وكانت اطارات السيارات تتحرك أمامى ببطء، فعلقت بها نظراتى فاذا بى أرى قطعا وفتافيت من اللحم البشرى عالقة بها مسحوقة بين اضلاع الكاوتشوك المتين الجديد، وبقايا دم متجلط، فأحسست بالارتياع، ومع ذلك لم أستطع أغماض عينى، فوقع بصرى على بقايا اصابع طفل صغير محشورة بين أضلاع الكاوتشوك، فصرخت وظللت أصرخ عاليا مشيرا بأصبعى نحو الاطارات الزاحفة فى بلادة ولا مبالاة وجبروت. ثم اذا برهط من راكبى السيارات البكوات قد نزلوا من سياراتهم وأقبلوا نحوى وسحبوا بقرتى بقوة ودفعوها دفع الى الافريز وأوقفوها فوقه أستأنفت السيارات هديرها وزحفها، وقفت جوار بقرتى وحيدا. وأن هى الا برهة وجيزة حتى رأيت سيارة كبيرة محملة برجال الشرطة مقبلة نحوى .. ثم توقفت وهبط منها سبع رجال غلاظ شداد، تقدم نحوى أحدهم قائلا:” بتعمل ايه هنا ياخويه.. أيه اللى جابك هنا؟” قلت له بصدر مضطرب وصوت ينضح بالبكاء “لقد عثرت على جثته وكنت أصيح فى طلبكم منذ برهة لترونها بأنفسكم “نظروا الى بعضهم فى تشكك ممزوج بكثير من الهزل وقليل من الجد:” جثة من يا أخانا؟” قلت:” جثة عبد الصمد” قال:” عبد الصمد من؟” قلت: ” ابن حميدة.الذى قيل أن الحداة قد اختطفت راسه ورأيت أنا جسده مسحوقا وموزعا بين اطارات هذه السيارات” قال:” أمعك بطاقة شخصية؟”.
تحسست جيوبى فلم أجد بها شيئا، لكننى كنت لا أزال ألبس الزرد، فقلت له” هذه هى بطاقتى” واشرت الى الزرد. فمد يده فى صفاقة وربت بها على ظهرى فى حنان مصطنع وهو فى الواقع يدفعنى نحو السيارة بكل غلظة كأنه يدفع لصا. فتوقفت محتجا: “من فضلك.. معى بقرتى ولابد من تأمنيها قبل الذهاب معك” نظروا جمعيا نحوى فى استغراب شديد ثم نظروا حواليهم قائلين: “عن أى بقرة تتكلم يا…… ثور”. صحت قائلا: “ها هى” واخذت أهز المقود فى يدى فاذا بيدى فارغة تماما و ليس ثمة من بقرة على الاطلاق، فأخذت أستجمع ريقى وشجاعتى ناظرا فى كل اتجاه فلا أجد لها أثرا، ولم يكن أمامى مفر من الركوب معهم فى الصندوق العلوى الكبير مخفورا ببنادق يتدلى من ورائها أشباه رجال، ولم تكن البنادق لتخيفنى بالطبع وأنا لا زلت ألبس الزرد، لكننى كنت لا أزال أشعر بالوحدة والعزلة الراعبة. وكانت السيارة تندفع بسرعة جنونية مخترقة صفوف السيارات متسربة من بينها فى حركة حلزونية ماهرة والريح تقلبنى بين البنادق التى انحنت هاماتها من فرط الشعور بالخواء. ثم رأيتنى معلقا فى الريح واقفا ممدود الذارعين ورأسى مائلة على كتفى فى استكانة وصبر عريق محزون، ثم تدفعنى الريح وتدفعنى الى الوارء ليصطدم ظهرى بناطحة سحاب فوق شاطئ النهر واذا بى ملتصق تماما على الجدار، ونظرت فى الأرض السحيقة فرأيتها حفرا حفرا وبركا بركا وخنادق خنادق وأكواما من النفايات يجلس فوقها جمع غفير جدا منكس الرؤوس فى خشوع وثمة من يجلس بينهم متكلما فيهم وهم يصعدون من حناجرهم هديرا يصعد نحو قدمى المعلقتين كريح سامة باردة، ولحظتها شعرت بالغثيان فرفعت راسى قليلا لأرى فى مواجهتى ناطحات سحاب أخرى جدرانها من الزجاج والألمونيوم، تمتلئ غرفها وشرفاتها بنساء عاريات تماما يمددن الموائد التى تحلقتها كروش ذات وجوه غليظة يبدو عليها الطابع الحيوانى، واياد اشد غلظة ملوثة بالشحوم والأحبار والدم والجاف، ورايت الأطباق والصوانى حافة بقطع من الشواء السمين أدركت أنه من لحم بقرتى بدليل أننى أحسست بأسنانى تغوص فى لحمى أنا، فتذكرت حلم أمى وأخذت أزار صائحا وجسدى كله يهتز من غضب عارم مفاجئ، واذا بذراعى منفصلان عن الجدار وكذا ظهرى، واذا بى أستشعر الأرض تحت قدمى، ففرحت جدا وحاولت التعرف على نفسى، فبدأ لى أن أسمى ربما كان عبد الصمد ابن حميدة، وحاولت أن أعرف منذ متى وقفت ها هنا فبدا لى أننى أنتظر شيئا ربما كان الأتوبيس الذى بدا أنه ربما لن يجئ، والذى أن جاء فليقلنى الى حيث لايرحب بى أحد ولا يريدنى أحد. لكننى مع ذلك أمتلأت تحفزا رغم كل العناء، وشرعت أخطو من جديد فى كل اتجاه صادفنى، ولم أكن أعرف الى أين أتجه أو ماذا أفعل، ولكننى كنت مصرا وموقنا بأنى لابد أن أسترد بقرتى مهما كانت الأحوال.