غــرق
د. سيد حفظى
أنها ليست مياه نهر النيل العذبة المسترسلة تهبط من السماء، ولا مياه البحر الزرقاء الصافية التى تبحر فيها المراكب الصغيرة بهدوء تصطاد سمكاتها، لكنها مياه المحيط المتلاطمة أمواجه، المتلاحقة هجماته، التى لا تدع للقبطان فرصة لمراجعة حساباته واستطلاع طريقه.
أنه الغرق بعينه …
كيف يمكن للأجزاء المتناثرة ان تعيد البناء؟!! لقد أصبح الهواء غير نقى.. لم تعد هناك فراغات تملؤها ذرات الأوكسجين التى تتحد مع بعضها البعض لتلم شملها ويصبح لها كيان… المكان أصبحت تفوح منه رائحة الشواء.. شواء اللحم.. لحم الانسان… وأين هو هذا الغرق العجيب؟ أنه أشد حرارة من الغرق الكهربائى.. أنه يستطيع تحمل قوى الضغط الشديدة تحت أعمق أعماق مياه المحيط.. حتى أنه يقوم بعملية الفرم ايضا ثم يعقبها بالشواء.. أن الدماء هى المكون الأساسى البديل عن صلصة الطماطم. حيث أن علب الصلصة قد تم سحبها تماما من الجمعيات التعاونية لاستهلاك الاجساد البشرية تمهيدا للأعداد لاستهلاك النفوس.
وماذا يجرى يا ترى فى العظام التى يقوم عليها البنيان والتى تتحمل وزنه وهى العمود الرئيسى فى حركته؟ أن بها خشب يصلح أثاثا كأحدث ما فى الموضات العصر الحديث! ويكتب عليه” خشب طبيعى” وأن أراد البائع الدعوة بطريقة أفضل وأكثر ذكاء لمعروضاته، وفى التجارة ليس هناك عيب لأن هناك كذبة “بيضاء”، فسوف يكتب بالخط العريض:
“منتجاتنا من الأثاث قامت بتصنيعها امهر الأيدى العاملة المصرية، وأخشابنا تضاهى منتجات السوق، وأسعارنا تفتح شهية الجميع”
وهكذا يبيعون عظامهم بأرخص الاسعار!!.. أن النخاع الموجود بداخل قنوات العظام لهو أصلح ما يصلح لهذا الفرن الضخم، حيث انه يتحمل الضغوظ الشديدة، فتتفكك الروابط بين جزئياته ويتخذ أشكالا شبه مانعة؛ وهى اذا ما اضيف الى هذا درجات الحرارة المرتفعة كان الناتج هو مركب متجلط، لم تعد به اية صفة للتحركات الجزئية، أصبح يعطى شكلا وكأنه قد نضج وأصبح له قوام؛ مع أنه قد فقد خصائصه الابتدائية تماما… وباتت له صفات لا تتغير حتى لو تغيرت درجة الحرارة، وعادت طبيعية…. لقد نجح هذا الفرن فى هذا التعبير.. أن مذاق هذا المركب لهو لذيذ لا يشبع… مهما تأكل منه لن تشعر بارتواء؛ ستتخم المعدة، وسيصعب الهضم ….
وما أن يتخلص الجهاز الهضمى من الفضل او الأفضال أو الفضلات حتى لا تجد الفسيولوجيا وظيفة إلا إعادة تناول نفس الطعام من جديد؛ وهكذا، وفى ازياد، وذلك أملا خادعا فى ارتواء صعب التحقيق.
المحطـة التاليـة
ظهرت الجزر المرجانية وسط أعمق أعماق المحيطات. باتت ضائعة فى وسط هذا الكم المتزايد من الماء وبين هذه الشعب المتفرعة المتعددة المتكاثرة بسرعة. ولم تعد شوربة الضفادع التى تنمو على الشاطئ هى الطعام الوحيد المستساغ، وانما اصبحت الخيوط المرجانية تثير شهية أمهر السباحين .
وقد تحدث عمليات كيميائية تغيرية جذرية فى تركيبات مكوناتها الفيزيقية وتصبح لها ألياف تتحمل قوى ضغط واحتكاك الأرجل، أقصد أرجل البشر والأدوات التى يستعملها البشر. لن تذوب او يذبل لونها، انما تستطيع أن تحنى وبراتها تحت مرور ما فوقها حتى انها تخفى لونها عن التعرض للاحتكاك وبذلك يظل هذا اللون محتفظا ببهائه وزهائه .
وتمر عملية التحويل هذه من كائن حى قابع فى أعماق هذه الأمواج المتلاطمة، ينحنى للأمواج ويستقبلها بهدوء وترحاب واستعداد لتقبل واستقبال الأمواج الى تليها دون أن يتشوه أو يحدث فيه تغيير نوعى سريع سرعة البرق، إلى أداة لتفريغ طاقة القتل والعدوانية لدى البشر… أنهم يستلذون بالفرجة عليها، وبالجلوس فوقها؛ حتى أنهم يدعون المحافظة على لونها الزاهى فأنهم يرفعون ما فوقها بخفة ورقة ونشاط، ويتركون أرجلهم تعبث فى هذه الألياف المرجانية الأصل وتبعثرها ذات اليمين وذات الشمال؛ انها لا تراعى كيف تتجه هذه المرجانيات فى حالها؛ وحينما يريدون توجيهها وتلقينها فأنهم ينهالون عليها ضربا بالسياط والمعاول التى تبعثر كل أثر لبقاء هذه المرجانيات فوق سطح البحر.
وفى النهاية، يشترك الكل فى” تفنيش” اللوحة الكلية ويحتفظ الإنسان بلقب “غريق” دون سائر المخلوقات وذلك لأنه هو المهم فى هذه اللوحة المدعاة بـ” الفنية”.