رحلة لا مجدية (3)
فاطمة مدكور
– 9 –
سبلت رأسى… ترتخى منى.. أحزانى تتوقد، وأتراخى، ولكنى لا أجعل القدرة تسقط من وعيى…
بدايات من نهايات.. وبداياتى مجهولة المصير – خصلات خيوط رأسى السوداء تحدد كدر رؤيتى .. وتعبيرى حائر.. وأرتج لصدام أوتار حنجرتى المتقززة، لانتفاضة احتكاك تجمع عند فمى وأنفى، تصدر ذلك الصوت الخشن المبحوح بغلظة – أنغام صوت دافئ تتخلل مسامعى، واحساس قادم من ذلك الجهاز الذى يؤانسنى..
وعيناى تشتقيان نظرات عابرة لا مبالية – حبيبى متبهرج بى. يبرق لى نبضة سحب توهمنى.. فحبى متسلط بى.. وأرتعش نشوى، تخمرات الحزن تستعصى بتنهدى.. حزنى فرح….
ابتهال وجداناتى المتداخلة.. الانتصار ينتظر احتراقى.. اتهافت بأبخرة الصعود وتتكاثف متجسمة رغم شفافية التشكل….
يا حبى، يتساقط حولى الورع، يعلو حولى ويحيق بسجنى – وأتدرع من خلف ثقوب التئامه، فجزئياته متباينة وتتسلط على – أنى نصبت صلبا – أتقارب من نفسى تقوقعا.. ألملم وعيى لأعى.. وأصمت صمتى لأصرخ… وأسكن حركتى لأتقلص، وأنكب على وجهى لأنهض، وجفونى هذا المشبوه من عمق صدرى.. اجعلونى أجهل جهلى.. اتركونى شيئا منخورا… يذوب بلا ألم.. ينتهى بلا بداية – يتبدد دون انجذاب.. يتحرق دون رماد.. لكل ذرة مشنقة تتعلق بها.. فلا تتم النهاية.. لكل جزئ منها معضلته، تتوقد فيها تستقصى السكون.. تشعلنى ثورة.. تقتلنى شعورا.. تزيدنى وعيى.. عد لى أو تباعد – اختفاء دون عودة.. أو عودة دون طلسم – لغز اللحظة – لغز الوعى – شفافيتى تنعدم .. وانعدامى شفافية أبخرة الضياع.. ولكنى أتجمع وضياعى هو توترى، وتوترت.. وأرتجف رعدى.. وأنزوى أكتئابا.. آنتظر مالا أعرف… والذى أعرفه مجهول.. أنا جهل المجهول.. أنا وعى اللامعقول.. أنا أتنفس أعيش آليتى – عالم يحركنى.. يصطنعنى.. ووعيى فقط يصنع تساؤلى.. نهب المأساة.. مؤكد الصراع تراجيدية الدراما…
متعبة – رحلة عقيمة – مملة رغم اشتعالى فيها… وعدميتى جدواى – أناديك حبيبى هو وحشة ندائى.. فجة احتياجى، ربما.. ربما شئ.. ما.. أى شئ… ربما أعود خطواتى أرجعها ثانية، نحو أفق يشدنى.. وأكرس جهدى، أنساق اليها.. أستفسرها، تتقدم.. وأمد نهمى ولا أعثر على شئ سوى أن أظل فى رحلة عودتى.. وربما للأزل… عفوا للأبد.
– 10 –
أخترع تعبيرى – كلماتى!!..؟؟ أم هى موجودة… أهنا أو ذاك.. هو الحرف على لعاب لسانى يتراقص يتخلق.. يأتى لتوه.. يتمم ملحمة الكلمة.. يتجسم شكله، يعلن وجوده المرتقب.. عسى أن يجدى لمعنى يتقلقل فى عصب وعيى.. منبثقا آتيا..لأزمة روحه تدفع للرجفة… اكتب كلمتى واتفقدها.. هل هى أنت.. ربما .. ففيك قليل من كثير، واتعلق بك.. فليس بقدرتى أبعد منك.. وقد تجرعت جرعتى التى تتصاعد من زوايا لبى.
أهتدى – أطمئن.. أتمادى… تتوالى كلماتى فزعة.. قد وضعن مخطوفة من ويح التهافت.. مزنوقة .. تشع لمسبق وآت.. تتوهج فى مربطها تستشف منهجا وربما لأعلى وأسفل. يبزغ هذا المعنى الذى لم يتجسم، ولكن يتألق طوافا عبر تباريق الحروف والكلمات والعبارات… ومض طائر منقض مندفع متقوقع – نور الاحساس…
أدراك الروح … وعى التخلق.. واتفقد طريقى.. كانت سرعتى.. سرعة انبطاحى .. خلفها.. شئ لا يقول.. فاق احساسى.. فاق كهربيات نبضى… ذلك العالم السارى عبر رحلة وجودى.. زمنه سر غموضه وغموضه قمة بداياته.. وبداياته فوق وعيى اللاواعى.. فوق قدرة ايحاء ثقل الغموض.. روعى روعى… حتى الآن لم نتواصل.. لغتنا مجهولة.. ولا نتورع عنها بحثا.. والبحث عودة للمجهول والمجهول مقنع.. طلسم ثابت لا يتحرك.. الا من خلال تخليى.. وتخليى زنبقة تتوه وتضيع، وتختفى، وتتوقد، وتتخايل، وتعلن عن رقصتها.. تثير فى صراعى.. تخيلى قلقلة الصراع.. مصباح التعثر… ومضى الظلام فى عمق لا يوارى.. بزغات لا تندمل… آه، نبض يخرج من رأسى.. يعلو ويهبط ويتطاير نبضى.
الى متى يتطاير بى نبضى… انت سجنى وصراخى.
– 11 –
( ربما بداهات).
تصاعداتى الغاضبة تحملنى ويتحملنى صندوق الترام.. أجلس بما، كنت أصرخ.. حرب قذرة تواجهنى.. تتمدد ألسنتها المنكرة.. يقضمها تأججى.. ضوئى الحارق.. تبذأت كلماتى ولكنها الحقيقة.. والحقيقة بذئية..!! قطرات الدم المتفحمة وهج تتطاير بصرخاتى.. قطرات الصراخ الغاضبة تشعل أمعائى، تتألم..آه أمى….. انظرى!! ما هذا الذى يجرحنى فى خلاياى، دعيه يبتعد أو يهدأ.. لم أتمالك.. ما هذا يا أمى.. أحترق.. ووعيى أيضا.. أعصابى متصلبة.. وعيى صارخ لم يتراجع… آه حاولت أن أتذكر حبيبى، ولكن للآن ورغم ذلك أمعائى منتفخة تورما – الغضب يذكرنى، ولكنى سأتذكر وأنتصر وأحب ذكرى حبيبى.
– 12 –
ربما بداهات.. نعم.. لا أدرى.. ولم لا تدرى؟.. لا أعرف.. ولكنك قلت.. نعم .. هذا عكس هذا.. كله صحيح.. أذن كنت تعنى.. ربما بداهات، نعم لهذا.. لكن لم تقولى شيئا… أشعر أنكم قلتم، تصيديه مشاعرى وظننتكم قلتم.. هذا غير معقول! ولم نكرانه.. لأنه ليس بدليل ملزم.. هو معقول، فان العقل يرفض كل ما يمكن أن يبرر، هو يرفض لأن الحقيقة لن تعرض عليه ولكنها لبست الحوار فى لحظة، وعندما عجز العقل عن أن يترفع رفضا أو ايجابا، أنى أصلب، الحقيقة ولم توات الحقيقة صلبى، أننى نهضت للحقيقة ولم يبرر خطوى.. أننى أتكلم دون أن تسمعوا.. لهذا أصمت…
– 13 –
آن لكفوف التمنع أن ترتفع.. آن لعصبيات الغيثان أن تصرخ وتترفع.. حدود التحمل قد فاقتها اللحظات.. وقفات التأمل قد تناهت.. تريثت التريث… أننى أصد بقدمى.. وأمقت تفاهات القيم.. مشعوذات العقائد والنوازع.. ولن تسمع أذنى غير نداءات الصخب تمطرها مدارك الغيب… لم أسمع الا همس الأعماق تتحدث… وتنصت لها أكاليل السماء… طيور الزرقة الشفافة المتكثفة تسكب فى عينى رقرقات غامضة، تبتسم فى قلبى تتفتح بها أعماقى فى جولة التنفس.. تبتسم على شفتى.. عينى تلمع وتبرق وتتهلل… والرؤية لم تواتينى.. عينى مدها لا نهائى.. لا نهائية تشد عينى… عينى تتخطى لترى… عيونى الكثيرة تتسع لترى وعيون عقلى تصخب.. استوعب وأختزن وتتضارب الرؤية.. تنازع رغبات الفضول.. وبعد، فأنى ببطء أموت واستعيد تذكرى عندما أتوقد لأحيا.. لأخطو وأخطو.. وأخطو.. ودائما أتوهم الوصول ولكنى لم أصل.
– 14 –
أقرر موتى بنفسى .. أن عمق كل رؤية.. كل شعور.. كل وعى… -… عودة المسيرة نحو هذه النقطة هى الموت قلبى نابض.. روحى نقية… خصلات نسيجى طاهرة وعيى مشتعل.. أحترق حياة لأموت فى كل لحظة.. يتزاحم كل شئ فى لحظة.. وأقرر بهدوء.. الموت … الموت يداعبنى..طفح.. طفح.. طفح الوهج.. احتراق للنهاية.. نهاية قمة طفح، وهج الحياة.. هو الموت، أننى أموت بسعادة.. فى القبر ماذا سيكون… ربما يكون كما كان لى فى قبر الحياة السابق… أختار وأرفض وأرحل عنه… لا تواجد بصورة أخرى فى عالم آخر غير عالم الموت، وأختار وأرفض، وفى عالم آخر أعود لأختار وأرفض.. دون توقف – دون نهاية.. ولكنها الحرية.. هى الحرية… الحرية – أشعر فى لحظة ما أننى سأرجعها عنى.. أفقدها نفسى.. ربما هى سر عذابات ترحلى.. يتجدد المصير.. يتكثف الوعى.. حتى تقبله مداركى… أكون بها، أتركز فى حقيقة واحدة شاملة، فى المحتوى فى كل بازغة كثيفة، وأبدو وكأن الغباء ذكائى.. تتوه عنى بعيدا بعيدا قوى الاهتمامات بنوازعها بى من موضعها وضغطها وسرعتها.. أننى أرحل بعيدا وينعدم المكان حولى.. ويظل الزمن يقلقنى يتسلط على.. لا كدر لى غير هذا المطاف!! !!.. أطوف.. أطوف.. والموت طوفى.. نجم أفقى المرصد… خلاصة الرؤية…
– 15 –
كلمتى ترحلى، ترحلى وامتصى ترياق عصب وجودك.. جوبى بحارى وفضائى واركضى فوق لسانى.. تتذبذب عندى المعانى، تتخلقى فيها، تتزججى نهى التمعن.. ترحلى لتعودى ليتأنق خلقك.. سحر قابض، طرق فاتح على بوابة التخاطب، قداسى خالد من كل بازغة طفيفة فوق عمق عمق تفوح سخانات غامضة.. رهبة مديدة… أدرك أدركت.. تداركت، سمائى تشدنى.. اسبح فيها… وتشنج شدودى صوت اذنى الرهيب.
كلمتى ترحلى.. ازيجى عنى صراخى.. احملى رسل ندائى جوبى بحارهم وفضاءهم واتركى لذيلك الحركة.. تنهدى الخصوبة.. لتلوعاتك الآلية.. لاستجاباتك الروحية فوق بقع لا نهائية من الجفاف والماء.. رحتلك أبدية حتى لو لم تخوضيها…
ترحلى واعكسى لتهافت عيون الوعى حديث كدر وجودك المنتمى.. خطى المدارك الباطنة بأشعة التعانق.. اضاءة الايحاء لقفزات البعث المنزوى، وأفغرى الشفاه ابتساما.. وأبرقى العيون ضوءا.. دمع حياة..
اشعلى الوعى.. قلبى يرعدنى.. يدق.. نبضه قويم.. وأعماقى بعيدة تردد ترانيمه.. كشمول قطب مرصد.. حتى.. قدمى حرة.. رؤية عينى بعيدة ثابتة.. استدفئ بصومعتى.. اطارى الهادئ.. مجال جاذبيتى، استجمع بحواسى، اهتدى بمسلكى.. تختطفنى وتشدنى مسالكى، انى أسير.. أقفز.. لن أعود.. ذاتى تطير منخفضة بين نخب حبى وحبى وحبى .. أحب فى كل لحظة.. آه تذكرت.. ..!! .. حبيبى يقترب لى .. انتظره.