تحولات الآلهة
نبيل نعـوم
على باب معبد الالهة “لاكشمى” بمدينة “بنارس”، جلس الكاهن العجوز “مونا” لليلة الثالثة من الشهر الرابع فى انتظارها.
“سأعود أليك فى احدى الليالى القادمة. قم يا مونا بجمع أزهار اللوتس الأبيض واذهب الى التاجر “ساركا” واسأله الثوب الذى وعدنى به”. قالت له الهة الحظ والجمال زوجة الرب “فشنو” فى المنام.ومنذ تلك الرؤية ومن بعد غروب الشمس وهو قابع أمام باب معبدها المقدس لا يغادره.
“سأوافيك عند باب المعبد، سآتيك فى الليلة التى يتطهر قلبك وتصفو روحك. ولكن أذهب فى صباح الغد الى التاجر ساركار واسأله عن الثوب الذى نذره لى فى عيد مضت عليه سنوات متلاحقة. قل له: قالت الالهة لاكتشمى زوجة رب الأرباب فشنو الذى أتى الى هذا العام فى جسد “كرشنا “ليخلص البشرية من الشرير “كانسا”. قالت لك”.
فى الفجر أسرع الكاهن مونا الى نهر الجانجز المقدس وغمس جسده الواهن فيه حتى تغفر له ذنوبه. دعا للالهة ودعا للنهر ودعا أن يستجيب له التاجر ساركار. وبعد أن أتم طقوس الاستحمام مع شروق الشمس، أخذ سبيله فى أزقة وشوارع المدينة حتى وصل الى بوابة الربع الذى يملكه ساركار والذى تباع فيه كل أنواع الحاجيات من الغلال للوازم السيارات.
جلس أسفل اللافتة الكبيرة المنقوش عليها بخط هندى جميل اسم صاحب المال. ضم الثوب الأبيض الناصع من حوله ووضع الأناء النحاسى الذى يشرب فيه ويتسول به الى جواره وانتظر.
مع بداية الصباح أخذ العاملون فى المحلات بالنوافذ.حياة البعض. ألقى عدد منهم بقليل من البيزات فى حجره، ومضى أغلبهم مشغول بحياته التى فاتت والآتية. ثم توالى سيل المشترين وغص المكان بالعديد من سكان المدينة والمدن المجاورة بل وأيضا بالكثير من الحجاج الذين تمتلئ بهم شوارع وأسواق هذه المدينة المقدسة.
واذ ارتفع النهار، توقفت سيارة فاخرة أسرع اليها عدد من الموظفين ونزل منها السيد ساركار وسط احتفال كل يوم بوصوله. سار ببطء بجسده الممتلئ يباشر أعماله من قبل دخوله الى مكتبه. ثم التقت عيناه بعينى مونا وأن لم تسره رؤيته الا أنه لم يسمح لمن حوله بملاحظة ما يدور بخاطره. ألتقت اليه بابتسامة فاترة وأمر أحد مساعديه باعطائه بعض الروبيات. وقبل أن يعبر المدخل المؤدى الى صحن الربع اندفع مونا نحوه رافضا احتمال صده أو قبوله وأنما فرض عليه نفسه فرضا؟.
– “سيدى ساركار من عرف بالكرم. لك عندى رسالة هامة.. “.
– “نعم.. نعم..” أجاب ساركار مسرعا ليتفادى هذا الكاهن الذى عرف بنقل الأخبار السيئة وقص الحكايات المختلفة. فكم مرة ومنذ صباهما وهذا المونا يظهر له فجأة كلما نسيه، ليخبره عن حلم أو يبلغه برسالة من أحد الآلهة اساسها الطلب أو العقاب. وها هى السنوات تمر ومن ورائها السنوات ومونا مازال يحلم.
– “سيدى ساركار، لقد ظهرت لى ربة الأرباب.. “.
– “ربة الأباب مجيبة الأدعية” تمتم ساركار فى سره وقد وسع فى خطوته فهو يعرف ما مونا بقائل حتى قبل أن يقول.أما مونا فاستمر فى محاولته باللحاق به.
– “لقد طلبت منى الهة الحظ أن …….. “.
– “أن تطلب منى عشرة آلاف روبية لترميم المعبد أو سبع عربات مملوءة بالغلة للكهنة”.
أكمل ساركار حديث مونا وقد طالت المسافة بينه وبين مكتبة فى نهاية الفناء.
– “أن أراك… ” سار مونا الآن الى جواره وسبقه بخطوة ليحدثه وجها لوجه.
– “أول شئ وأن.. ” ينطق ساركار بالنيابة عن الكاهن وقد حفظ حديثه عن ظهر قلب.
– “أن أراك أول شئ وان تفى بوعدك لها وتعطيها الثوب الذى طلبته منك”. أكمل كاهن الالهة لاكشمى جملته فى نفس واحد.
– “الثوب؟ “توقف ساركار للحظة لغرابة هذه الطلبة التى لم يسمع بمثلها من قبل من مونا. فكل طلباته أو طلباتها كانت غير شخصية. ولكن ثوبا لها.. انفكت اسارير ساركار مبتسما وابتسم من حوله أعوانه.
– “يبدو أنك أبليت كل ملابسك يا مونا” ضحك ساركار وعلا الضحك من حوله…
– “تقول الربة” استمر مونا غير عابئ بالسخرية وقد وصل الركب الآن الى المدخل الخاص بصاحب المال واعتراض طريقة أحد الموظفين فبعد هذه النقطة لا يعبر سوى السيد والمقرب منه:
“تقول أن لم توافها بمطلبها فستزل عنك نعمتها وتجف أرضك لن تعرف الحظ. وستتكدر الأيام بعد صفوها… “.
قاطعه ساركار بحزم: “سأعطيك الثوب أيهما العجوز المخرف. لاتستزد من هذه الثرثرة. سأعطيك الثوب”.
أمر ساركار أحد موظفيه باصطحاب الكاهن الى المتجر المخصص للأقمشة وأنواع السارى والملابس الجاهزة، والسماح له باختيار الثوب الذى يراه مناسبا.
- أرجو الا أراك لمدة طويلة أيها الكهل. خذ ما يحلو لك من الأثواب ولكن حاول أن تحلم بغيرى فالسوق ملئ بالتجار.
انحنى مونا شاكرا أمام صديقه القديم الذى لم يخذله أبدا ولم يتوان فى تلبية طلبات الآلهة. اختار ثوبا فضفاضا لامعا من الحرير الأصفر المذهب. اللون الذى هكذا تفضله الآلهة.
* * *
مرت الليلة الأولى ولم تظهر الآلهة لمونا. ظل ساهرا عند باب المعبد حسب وعدها وقد انتقى أجمل وأفضل ما فى السوق من زهر اللوتس الأبيض وجهزه فى سبع قلادات. وضع الورد فوق الثوب وانتظر دون فائدة.
وكما مرت الليلة الأولى، مرت الثانية، وانقضت ليالى الشهر الأول. وانتهى موسم الأمطار وبدأ الخريف والآلهة لا تزوره فى المنام ولا تأتيه كما وعدته عند باب معبدها الذى هو كاهنه.
كم لام مونا نفسه خطاياه. أخطاء الصبا والشباب. والمرة التى لم يضع البخور كاملا وهو عن يمين مذبحها. والمرة التى خانه صوته وهو يردد أدعيتها. والمرة التى شغل باله غيرها حتى ولو لمرة.
كم تألم مونا بسبب نجاسة قلبه وثقل جسده، وكل هذا العمر الذى قضاه صامتا حتى يولد كل هذا العمر أحزنه أنه أضاعه سدى بسبب غلظة قلبه وقلة ايمانه. فالالهة اشترطت عليه ظهورها يوم يتم له طهارة القلب وصفاء الروح.
“ليس لك أن تفتخر بها” ظل يوبخ نفسه بالنهار كما بالليل. النهار بعد النهار والليل بعد الليل. وكلما دار الزمن دورة يوم كلما ازداد به الألم والحزن. عافت نفسه الطعام والشراب. يدعوها كل صباح بمحرابها المذهب بمعبدها الذى هو كاهنه. يبكى تحت قدميها ويتحسس ثوبها الحريرى ويقلدها قلادات اللوتس. يسألها المغفرة ورفع غضبها عنه. وحين يحل الظلام، ظلام كل ليلة، كان يعود لمكانه عند الباب فى انتظارها.
حتى كانت الليلة الثالثة من الشهر الرابع وبينما هو فى جلسته أمام باب المعبد، أقتربت منه أمراة فى ملابس غريبة. فى أول الأمر لم يتمكن بسبب الظلام التحقق من شكلها، ولكن باقترابها منه تبين له أنها غريبة عن المدينة بل والبلد بأسره. أحدى السائحات اللاتى تعج بهن بنارس فى هذه الفترة من العام بسبب عيد “الرامالا”. كانت فى مقتبل العمر ذات جمال خلاب. وبرقة شديدة حيته الفتاة وسألته أن كان بامكانه ارشادها عن أقرب طريق الى معبد الاله شيفا.
وبعد أن شرح لها السكة وقبل آن تنصرف لمحت الورد الذى أمامه، وبابتسامة مشرقة انحنت الى جواره وتحسست آزهار اللوتس البيضاء. أخذت قلادة من القلادات السبع وضعتها من حول رقبتها ثم أخرجت ورقة بعشرة روبيات وأعطتها لمونا فى يده.
لم تتح له الفتاة الفرصة ليخبرها بأن هذا الورد للالهة وأنه قد جمعه من أجلها…
ولكن فى لحظة خاطفة انعكست بعينيها نظرة بعرفها الكاهن من طول انشغاله بالالهة. كسرت فى قلبه حاجزا أو ترقبا. ومرة أخرى قبل أن يفتح فمه مدت يدها الى باقى القلادات تتحسسها.
- ”كل هذا الورد الجميل فى هذا الوقت من الليل” ابتسمت له ابتسامتها العذبة ونظرت فى الحقيبة التى تحملها على كتفها تبحث عن المزيد من الروبيات، وكأن بحثها عن النقود لفت نظرها الى الثوب الأصفر الذى أخذت خيوطه المذهبة تبرق الآن وسط سطحه الحريري.
- وهذا؟ سألته الفتاة برقة وقد أعجبت باللون ورحلت أصابعها تتحسس الملمس الناعم اللين للقماش.
فجأة تبين له الأمر… وانقشعت عن عينه الغشاوة. وابتسم الآن مونا وقد تألقت اساريره بالفرح وفى خجل شديد أخذ بوضع القلادات، الواحدة بعد الأخرى من حول رقبتها.
أنحنى أمامها… ثم قدم لها الثوب.
لاكشمى أيتها الالهة النورانية
أيتها الالهة أم الاله
بنورك يا الهة الحظ أنت النور الحقيقي
بنورك أيتها الممتلئة نعمة
أنت الجمال الحقيقى.
* * *
على شاطئ نهر الجانجز المقدس بمدينة بنارس، وعلى السلالم الملونة قبل غروب الشمس، سارت “آنيتا براندورف” ترتدى الثوب الذى أهداه لها أحد الكهنة فى ليلة سابقة.
وفى نفس تلك الساعة كان أيضا “أناندا ساركار” فى طريقة لنزهة بالنهر فى أحد القوارب. أناندا ساركار الوريث الوحيد للثروة الهائلة التى يملكها أبوه. وقد عاد منذ قريب بعد أن أتم دراسة ادارة الأعمال بانجلترا.
وكما يتقابل النهر مع الشاطئ، هكذا لم يعوزهما الوقت حتى يقفا.. يحيى كل منهما الآخر.. يحكى كلاهما عن طفولته وصباه.. يتم التعارف ويشتركا فى الرحلة النهرية.
وفى جلستها أمامه بالقارب وقد آنحسر الثوب الأصفر عن ساقيها وكشف له عن موضع فتنتها.. نظر اليها وكانت تنظر اليه.
وفى غمرة التعارف اتسعت المسافة بينهما وبين الشاطئ. وكلما أوغل فى البعد أوغلت هى فر الكشف عن مدى جمالها… وبالاقتراب من المصدر كان البعد…
لم يدرك أن التعاقب الأبدى للزمن أسرع من ادراكه بالتعاقب الأبدى للزمن، وأنه يسقط فى المياه. وأنه يغرق.
* * *
على الشاطئ تجمعت المدينة بأسرها من حول جسد الشاب المسجى والملفوف بالثوب الأصفر المصنوع من القماش الحريرى اللين الموشى بالخيوط المذهبة. تغطية زهور اللوتس البيضاء والبنفسجية قبل أن يحرق بمحرقة الالهة المجاورة لمعبدها المطل على النهر.
بينما تسابقت دقات مونا تلهث خلف شفتيه بالصلاة لها:
“لاكشمى يا لوتس الالهة
أنت يا من بين ساقيك حبل بالعالم
السلام لك يا صديقة البشر
السلام لك يا لاكشمى يا الهة الحظ
أيتها الحمامة الحسناء”.