القتل وسط جو من القبول العام
محمد فتحى عبد الفتاح
لماذا تقتلون ألبرت؟
ليس أخطر القتل ما يتم عمدا ومع سبق الاصرار والترصد وتشغل به وسائل الاعلام، فهناك حالات من القتل تتخذ مظهرا بريئا، وتتم بلا سلاح، ووسط جو من القبول العام، أن لم نقل “المتعة”، رغم أخذها بخناق الانسان، وعلى نطاق شمولى فى القتلة والمقتولين والمتفرجين جميعا.. ومن هنا خطر هذه الحالات الداهم…
وبالرغم من أن العمل الفنى الذى نتناوله هنا – فيلم “لماذا يا البرت؟ “الفائز بجائزة النقاد فى واحد من مهرجانات برلين الأخيرة – بالرغم من أنه يبدو تقريرا دراميا عن حالة فردية، أو قل حتى مرضية، فان ذلك لا يمنع امتداد رموزه وايحاءاته ودلالاته لتشمل كيانات اجتماعية أكبر قد تصل الى طبيعة العلاقات السائدة على نطاق كوكبى..
وفيلم “لماذا يا البرت؟” يبين لنا فى لغة سينمائية راقية أن المرض النفسى ليس مجرد مرض عضوى يبرا المرء منه فور زوال الأعراض كما هو الحال فى الآم الزائدة الدودية ذلك لأنه أزمة كيانية يتعرض لها انسان فى عناق دام مع ما يحيط به من ظروف وإن كان البرء من آلام الزائدة الدودية لا يحتاج الى ما هو أكثر من الاستئصال فالبرء من المرض النفسى لا يقبل بأقل من الخطو بمجتمع المريض.. بقيمه وثقافته وسلوكه بل وطموحاته.. الخطو بهذا المجتمع نحو السواء……
* * *
منذ اللحظة الأولى يفصل بين جمهور المشاهدين واضاءة الشاشة عربات قطار تتباطأ حركته حتى السكون، وتتجاوز قامته سقف الكادر، فتضيع ملامحه ويعم الاظلام، ولا يتسرب النور الى القاعة الا ن طاقة صغيرة هى المسافة ما بين عجلات عربتين متتاليتين، ووسط هذا الاظلام وزيغ ملامح المشهد، ومع الموسيقى التى تنساب فى لحن حزين، من آلة متوحدة وحيدة، يكون الفيلم قد وضع المتفرج فى جو يبشر بماسأة… ويبدأ المشهد الأول لهذه المأساة فور انبلاج النور بعد معاودة القطار لحركته ومغادرة المحطة، حيث يظهر لنا الأب والابن (ألبرت) الذى يتجاوز من أنجبه طولا بما لا يقاس وأن كان هو الآخر فى اطار من زيغ الملامح والحركة…
وهلة ويرتفع صوت جرار بمقطورة يقوده هانز ابن عم ألبرت الذى أهتبل فرصة لقاء العائد بعد غياب ستة اشهر فى مستشفى للأمراض النفسية.. أهتبلها لينقل حمولة تبن/ علف الى مزرعة عمه والد ألبرت..
يجلس الوالد بجوار ابن أخيه فى مقصورة الجرار ويتركان العائد ليلقى بحقيبته الى مقطورة التبن/ العلف، ثم يصعد اليها، ليتحرك الركب الى المزرعة حيث تتوالى الصور والأحداث: تنسج ملامح المأساة……
البيت القديم والبيت الجديد:
منزل بل منزلان وأن كانا خاليين من الأم التى ماتت. أحد المنزلين قديم مهجور، تسود القتامة جنباته، ولا يحوى سوى مخلفات قديمة، وتحس أن سقفه الواطئ سيرتطم بجبهة الأب متواضع القامة فما بالك بألبرت الطويل عله لم يسلم من حدبة كيانية على استقامة الظهر..
والمنزل الآخر من طراز حديث. واسع رحب أمامه سيارة من طراز الثمانيات..، منزل يروق للمرء سكناه، لكن الظروف تضافرت لتحويل ألبرت فيه الى ضيف. فالأب بعيدا عن مشاعر الأمومة (أجمل ما فيهم بنتى)، وبمنطق التاجر، قام بعملية انتزاع واحلال، بتر فيها الابن ليزرع ابن العم، الذى يجيد نفس المنطق (خذى بختك من حضن أختك)، لا فى البيت وحده وأنما فى المزرعة التى يمرح فيها الجرار، كما تتسع لقطعان من الماشية والخنازير، لكنها تضيق رغم ذلك على العصفور الذى خلفه ألبرت وراءه – حين ذهب الى المستشفى- ليموت حزنا على صاحبه، أو بالأحرى مشاركة له فى عدم التواؤم مع الجو الجديد، كما لا تتسع لأرانبه القليلة التى لم تجد وسط القطعان، وكنتيجة لمنطق العقلية التجارية التى تعرف كيف تستمر علفها لتحقق أكبر جنى، لم تجد الأرانب من يطعمها لتموت….
منذ اللحظة الأولى تستقبل هذه العقلية الحادة القاطعة ألبرت وهو على عتبة السواء بعد الخروج من المستشفى… وتستقبله وقد قتلت رموز عالمه: العصفور والأرانب، وبترته من عالم الحلم والتطلع، ولم تغرس ابن العم فى المزرعة والبيت فقط بل مكنته حتى من قلب صديقة الطفولة (الاستمرار والمستقبل). ولم يعد أقرب الناس اليه يحدثونه، ومن أول لحظة، الا عن الطعام (العلف) والعمل (المقطوعية) مقابل العلف… الاسم عمل لكنه نشاط مبتور تماما عن معنى الاكتشاف والتحقق والانجاز والاحساس بالأهمية وتأكيد الفعالية وتحقيق الذات، قصى عن كل القيم التى تبعد الانسان عن كونه ثورا يعلف ليدور وهو مغمى فى ساقية بلا أفق خاص أو مشاركة فى أفق جماعى، أو خلق مستقبل أرقى….. لكن ألبرت يتمرد وينغمس من جديد فى الشراب ويرفض العمل فى الاطار المطروح عليه، وأن كان يداعبه، وكما لو كان سرا، خارج هذا الاطار، ناهيك عن تردده على قبر أمه وانسحابه الى البيت القديم…
الدراجة واستعادة الطفل فى داخله:
وهناك يتشبث ألبرت بأهداب الحياة يحاول احياء الطفل فى داخله يحمل حطام دراجته القديمة على عربة يد صغيرة (بعجلة واحدة)، يقف ليدفعها أمامه كما هو مفروض، لكن سرعان ما يغير رأيه ويستدير ليسحبها كالدابة، يسحبها طويلا، وفى جزء من المشهد، يطلع علينا أطفال كثيرون من خلفه يطيرون فى مرح فوق دراجاتهم الجديدة..
يساعد فى ورشة الحداد على اصلاح الدراجة رغم حصاره هناك بالحديث عن المرض والمستشفى، والعودة اليها، وتنازل أبيه عن المزرعة والبيت لابن عمه، يخترق الحصار راكبا دراجته منطلقا الى بقعة مليئة بالأوز الذى يستغرق ألبرت فى مداعبة جموعه فى مرح وسعادة طويلا، ومع صوت الأوز الذى يتعالى تنفرج موسيقى الفيلم للمرة الأولى والأخيرة فى لحن مرح يعكس فرحته………
بالطبع لا يعترض عالم الأوز ولا يعتدى على ألبرت لكن كيف بعالم البشر بعقولهم الحادة الباترة؟ الناس ليسوا أوزا، وكلما حاول ألبرت أن ينطلق وسطهم تزايد حصارهم له.. الأب وابن العم، الغريب والقريب، الصغير والكبير……
ينغمس ألبرت فى ملاعبة طفل فى حماس واقبال مشترك بل وفرحة، لكن ما يلبث عطاؤه للطفل (الأمل الحلم والتجاوز) أن يتحول الى زنزانة. فها هو طفل آخر ينضم اليهم ويحاصر ألبرت بترديد ما تمكن من عقله مما يقال فى بيتهم عن ألبرت المجنون الذى ذهب الى المستشفى.. ومن أن من يذهب مرة لابد أن يعود اليها ثانية وثالثة……
وحين يتزوج ابن العم هانز بايفا صديقة صبى ألبرت!! التى كان يهديها الورد أيام الدراسة، يهرب ألبرت من حفل الزواج الى بار القرية، فيحاصره “الحكم” العام الذى يتداوله المجتمع بشأنه.. الجنون والعودة. وينتهى الأمر بالعراك…..
يغادر بار الكبار الى مهلى للشباب تشحذ الفتيات فيه من يراقصهن، ولا يطلب ألبرت الرقص من أحد. لكن كيف تفوت مثل هذه الفرصة على الناس الأذكياء… لابد ممن يقترح على من تشحذ أى عابر سبيل أن تراقص ألبرت، ولابد من أن تستهجن الشحاذة ذلك…..
أمل التواصل أو السراب:
ثم يأتى مشهد السراب مع الساقية “البارمان”، وهى شابة ليست صاعقة الجمال فقط وانما لعوبا تجيد – وفق مواصفات الوظيفة- مجاراة الجميع… تمعن الساقية فى دور من الدعابة مع زبون على البار، وألبرت يجلس على طاولة بعيدة فيغمزه الصغير الذى يشارمه الطاولة: “ما رأيك؟ سأصحب هذا الزبون الى الخارج لتبقى معها وحدك وتفعل ماتريده. وهى لن تعارض” وبالفعل يصحب الصغير الزبون ويذهب ألبرت الى الفتاة يحاول أن يتقرب اليها متحسسا صدرها. فتطلب منه أن ينتظر لحظة تبتعد عنه وتزيل ما يستر صدرها الرائع لتلوح به عاريا لكن من على البعد… مجرد سراب ممنوع لمسه أو الاقتراب منه.
تستدير الساقية لوهلة فيعمل ذهن فيعمل ذهن ألبرت المضاد فى لماحية.. يتناول زجاجة مغلقة من الزجاجات الموضوعة على البار ويخفيها داخل سترته، ينصرف الى معلف أو مخزن للتبن ويجلس ليحتسى من الزجاجة ويسكب على التبن ويشعل النار..”ويتسلى” باخماد ما أشعله، لكن النار تتزايد وتهزمه وتحرق المكان.. والأهم من ذلك يلتهم الحريق دراجته…
فى توازن مع الحصار والسراب والحريق الذى التهم الأمل فى معاودة الانطلاق ظهرت الحيلة وظهر الاحتيال بل وظهر ما هو أخطر.. تسلل ألبرت الى كهف وأخرج بندقية رش من مخبئها وبعد أن راجعها وجربها بعقل واع أصاب حمامة من المحاولة الأولى. وأمامنا فصل راس الحمامة عن جسدها فى فظاظة وقذف بالراس وحمل الحمامة تنزف…
وبنفس القسوة ضرب راس السمكة التى اصطادها لغذائه فى مرة أخرى !….
دعم السواء ممكن ولكن…….:
لكن يلوح أمل: يصاب هانز ابن العم “بالأعور”. ويغيب عن المزرعة والبيت والزوجة ويسأل الأب، كما تسال ايفا زوجة هانز، ألبرت أن يساعد فى العمل وتذكره صديقة طفولته بالورد الذى كان يهديه اليها أيام الدراسة، ولأول مرة ينتقل مجال العمل الذى داعبه ألبرت منذ أن عاد، كما لو كان فى السر، الى الحظائر والحقل حيث يقود الجرار ويحرث طويلا فى اتقان وبلا كلل..، ويحاول أن يطرق باب “ايفا” لكنها تصده وتغلق بابها دونه…..
يتمسك ألبرت بأهداب الأمل.. يحمل كيسين من الحبوب متوجها الى بائع الارانب فى محاولة لاستعادة الأرانب الى عالمه لكن الأطفال لا يكتفون بملاحقته فى “زفة المجنون” بل يبقر أحد أذكيائهم بطن أحد الكيسين لتتسرب الحبوب منه فيتركه ألبرت ليبلغ بائع الأرانب بكيس واحد. ويستتقبله البائع بنفس المنطق التجارى السائد.. فكيف لا يستفيد من الصيد الذى سعى بنفسه الى شباكه… يبالغ فى سعر الأرانب: “قل كلاما آخر يارجل. ارنبين. هل جننت؟! ولا ارنب واحد”. يؤكد له أن ما أحضره من حبوب لا يكفى لشراء شئ، وامعانا فى النكاية يتركه الرجل وينصرف الى عمله.. لكن ذهن ألبرت المضاد يعمل فى لماحية، وما أن يلتفت الرجل عنه حتى يأخذ زوج الأرانب الذى يود ويخفيه فى صندوقه، لكن التاجر يعود بعد برهة بنقلته الجديدة المدبرة على رقعة السرقة/ الصفقة.. ساعطيك الأرنبين شريطة أن تأتى لى بكم آخر من الحبوب. ويوافق ألبرت عائدا بغنيمته المضاعفة، ويعرج على صاحب البار يعطيه أرنبين، أو يسرقهما الرجل منه علنا، ثمنا للشراب بينما يحتفظ هو بالزوج الذى أراد…
حكم القتل نهائى:
لكن هيهات…. تنبلج كل مشاهد السراب مع عودة هانز بعد العملية ليبتر ألبرت عن المحراث اذ تعرجت خطوط الحرث بالفعل بين يديه.. ويصفع هانز ألبرت بانه لا يصلح لشئ وبأنه مجنون. ونجدنا أماما ألبرت وهو يقتل الخنازير بالفعل بعد أن كان يطعمها….
يعود ألبرت للتجوال فى القرية ويسأله أحدهم مساعدته على رفع جذع شجرة مقطوع.. وحين تخفق محاولتهما فى التحكم بالجذع ويسقط منهما فى الماء ينهال الرجل سبا واتهاما لائما ألبرت وجنونه.. ويعمل عقل ألبرت المضاد بلماحية، فيدس قطعة صغيرة من الخشب فى ميكانيزم الناقل اليدوى الذى يستخدمه الرجل، فتنقلب بقية الجذوع فى الماء…
هكذا تتواصل الحلقات. ما يكاد حوار ألبرت مع أى من البشر يتصل حتى يتطرق الى اللعنة التى كتبت عليه بالمرض الأبدى والبوار..
الكل يهددونه بالعودة.. من الغرباء فى الورشة وهو يصلح دراجته.. الى أيفا وهى تطلب ألا يلوثها بدم الحمامة وتقول أنهم لو عرفوا بأمر البندقية فسيأخذونه من جديد، وعبثا يحاول افهامها أن بندقية رش فى يده ليست على هذا القدر من الخطورة…
القول يتردد على لسان الأطفال والكبار فى البيت والغيط ويظل يلاحقه حتى فى الحانة، بل وتأتى سيارة مرسيدس نضوى تحمل له نفس التهديد.. المستشفى يهتم بأمره ويتابع تصرفاته ويطالبه بحسن السير والسلوك.. الكل يهددونه بالعودة ويطالبونه بالمقطوعية… حتى أبيه لا يكف عن قوله أعمل لأسدد عنك ثمن الشراب… يجب أن… والا ستعود. ستعود….
أسمعت لو ناديت حيا:
ووسط هذا الجو الخانق، الذى تحاصره فيه الكلمات، يعاوده الحنين الى قبر أمه وهناك يلتقى بالمرأة التى كانت قد قابلته من قبل فى ورشة الحداد عند اصلاح دراجته، والتى كانت قد سألته ساعتها فى استنكار أن كان الأب قد تنازل فعلا عن المزرعة لهانز…
وفى هذه المرة تحاول المراة طمأنته بأن هذه الحياة التى نحياها ليست سوى تجربة فى الطريق الى الحياة الأخرى حياة النور والخلود.. ويطالعنا المشهد الأخير فى الفيلم بألبرت وقد مضى يدق جرس الكنيسة بلا توقف وفى صوت الجرس تمزق الهدوء صرخات ألبرت التى لم يتحدث عنها تقريرا بالمرة طوال الفيلم… صرخاته التى ود فى النهاية أن تتخذ مظهر الرسالة الاتصالية التى تحاول ايقاظ من يتمادون فى القتل بأعصاب باردة….
* * *
تحليل الفيلم:
هكذا ينتهى الفيلم دون أن يقرر لنا – فيما عدا الاشارة الى معاودة ألبرت للشراب والادمان – شيئا عن المرض الذى اصاب ألبرت وقاده الى مستشفى الأمراض النفسية. لكنه برغم ذلك يكون قد اضاء الموقف بلغة سينمائية بلغية فـ “موت الأم” وبناء البيت الجيد أمور لم تحدث بين عشية وضحاها.. ومنطق الأب فى بناء هذا البيت الجديد واقتناء السيارة الحديثة وتجهيز المزرعة لا يتفق وعالم ألبرت النفسى الذى يتراءى لنا فى لمسات سريعة مثلما يحدث حين يسألونه أن يمارس العمل العمل (عند مرض هانز) فيجرى ليدير موسيقى تغلب عليها الصبغة الهارمونية للمرة الأولى فى الفيلم وأن كان المذياع – الذى يبدو كسماعة على كابل اذاعى عمومى – يخنقها فتخرج متحشرجة.. وحين تذكره ايفا بالورد الذى كان يضعه بجوار طاولتها فى المدرسة، ناهيك عن المشاهد التى تضمنت موقفه من الطبيعة والعلاقة بها عامة…
وقد ساهمت هذه الظروف بلا شك فى ادمان ومرض البرت كما كانت وراء قتل رموز عالمه فحين يتناول قفص العصفور – بعد العودة من المصح – يقول له أبوه لقد مات بعد ذهابك بوقت قصير، وحين ينظر الى صندوق الأرانب يقول أبوه لم تجد من يطعمها فماتت…
رتوش متناثرة وان كانت تكفى لتصوير جو بداية هاوية الادمان والمرض. لكن الفيلم اختار أن يكرس مساحته الزمنية لمرحلة اخرى من حياة ألبرت تبدا مع عودته من المصح الأمر الذى يعنى ضمنا أنه صار يقف على عتبة السواء، ليجسد لنا فى براعة مجموعة من الظروف الشديدة الخصوصية التى تحيط بالمرض النفسى على نحو ما أوضحت فى المقدمة……..
أن خروج ألبرت من المستشفى يعنى شهادة طبية بأنه على عتبة السواء ذلك بالإضافة الى أن امكانية السواء حتى بالنسبة للانسان تحت العادى واردة (بل أكيدة) فى عمل مثل الذى اختاره الفيلم فهو لا يتطلب الا حرث الأرض واطعام الحيوانات…. ولا يحتاج الى قدرات متميزة…
وهكذا فان كان المرض قد نشأ من عدم التوافق مع قيم عالم جديد كما رجحنا فان ملابسات قتل الانسان فى ألبرت تكتمل مع قتل فرصته فى حياة أفضل يلعب العمل/ العمل، لا العمل/ المقطوعية دورا اساسيا فيها، يعززه قبول الآخرين عامة وقبول نصف أخر خاصة، ليتحقق من خلالهما معا الامتداد…….
أى أن الفيلم يؤكد سواء فى نظاق الاصابة بالمرض أو نطاق العلاج منه، يؤكد على الشق الذى يتصل بالمجتمع، والعمل الذى يحقق فيه المرء ذاته، كما يشير الى ما يكرسه عالمنا حاليا من قتل للداخل فى مقابل المظهر، بل ومن قتل يمارسه مظهر الصحة والعيش المرفة لانسانية الانسان.
وربما كان الأخطر هنا هو امتداد نفس النظرة الى الوظيفة الطبية ذاتها حين تتبنى المفهوم العلاجى القاصر والمحدود بأسوار المستشفى وتعجز عن ادراك ضرورة امتداد دورها الى ما هو خارج الأسوار. ذلك بالاضافة الى طبيعة الدور الواجب عليها القيام به حين تتجاوز أسوار المستشفى. فما طالعنا من هذه الوظيفة لا يعدو سيارة مرسيدس فخمة جدا تمارس “تماما” هامشيا على صحة ألبرت فى القرية، دون فهم حقيقى أو غموض فى مأساته. بل قد تتردى هذه الوظيفة الى درك تصبح معه صوتا ضمن الجوقة التى تطالب ألبرت بحسن السير والسلوك والا!! فالويل والثبور والعودة الى المصح!!
وسمة التناقض بين التقدم المادى الملحوظ فى اطار من التخلف الانسانى المريع سمة تلقى بظلها على موضوع الفيلم عامة…
* * *
والقصة السينمائية على هذا النحو ليست مما تعوده المشاهد فهى اشبه “بمونودراما” سينمائية لشخصية محورية واحدة لكنها مرسومة بصورة بارعة اذ تحاصرنا بالعذاب دون أن تشكى لنا مرة واحدة.. بل وتبدى على ضعفها وعجزها الظاهر مثابرة تحسد عليها فنحن لا نرى منها الا محاولات متكررة لا تكل لتجاوز الأزمة التى تأخذ بخناقها.. وكل الجرم الذى يرتكب فى حق هذه الشخصية يصلنا عبر تصرفات الاخرين وأقوالهم وهم يبدون أمامنا وكأنهم تجمعوا على اداء عملية قتل ببراءة شديدة..
ومن الأمور المميزة أن العمل لم يلجا الى “الفلاش باك” مرة واحدة فقد قال لنا كل شئ فى تتابع واتساق دون نكوص الى الماضى، أى قاله لنا بلغة “الهنا والآن” التى تتضمن الماضى بصورة عضوية.. وقد حالف الممثل التوفيق فى اداء الدور باقتدار، على صعوبته البالغة.
وقد جاء الايقاع البطئ الذى يفاجئ متفرج عصر الصواريخ والتليفزيون والقتل بالبندقية السريعة الطلقات ملائما تماما لابراز ما يطويه عنا هذا الايقاع السريع من قتل بطئ.. وللبطء هنا دوره الدرامى ناهيك عن انه الأكثر انسجاما مع حالة ألبرت، فاذا كان البطء يضاعف جرعة ألم المشاهد فما بالنا ببطء ايقاع الحياة ذاتها – فى زمنها الحقيقى – على ألبرت. أن البطئ يعمق من احساس المتفرج بمأساته…
وقد طالت عدة مشاهد فى الفيلم عن قصد لتأكيد بعض ما هدف اليه… فللتأكيد على امكانية تحقق السواء طاال مشهد حرث البرت للحقل الواسع بالخطوط المستقيمة للحرث وراء الجرار. ولنفس السبب طال مشهد قيادة ألبرت لدراجته وسط الأوز دون اصابته بأذى، رغم ضيق الرقعة…
وهكذا تعاونت عناصر فنية متعددة مع اللونين الأبيض والأسود لتجسيد الصبغة المأساوية لحياة”بطل”يجالد”جريمة ترتكب ببراءة شديدة “وبمشاركة جماعية، ويلعب “الأب” الدور الأساسى فيها….. وألبرت بطل حقيقى لعدم هزيمته أمام الجو العام ولبقائه رغم العجز وفيا لشوقه الى استعادة نفسه وانسانيته فى كامل سوائها… ومن هنا رسالته الاتصالية الأخيرة للقتلة المقتولين “أن استيقظوا”..
* * *
وعلى الشعور المؤسى الذى يحسه المرء مع الاقتراب من موضوع الفيلم، وبالذات حين تقع أحداثه فى مجتمع على درجة رفعية من التمدين لابد وأن يحس بنوع من الارتياح على الجانب الآخر لأن يختار النقاد* بالذات مثل هذا الفيلم لجائزتهم. الأمر الذى يبين مدى توفيق مبدعيه فى الانتصار للقضية التى أثاروها.. ويعزز مشاعر الارتياح أيضا أن الرأى العام الذى ساد من تابعو برنامج الأفلام الفائزة بجوائز مهرجان برلين السينمائى – الذى عرض فى اطار احتفال معهد جوته بمرور 25 سنة على انشائه – قد وضع فيلم “لماذا يا ألبرت؟” بين أفضل الأفلام المعروضة….
* ذلك أن جوائز”النقاد”من الجوائز السينمائية الهامة التى تعامل العمل الفنى ككائن عضوى متكامل ولا تبتر منه تمثيلا أو سيناريو أو… الخ لتخصه بالجائزة.