الافتتاحية
… فهى المعرفة من أوسع أبوابها، وعلى اختلاف لغاتها، وهو السعى الحثيث لأن تكون هذه الإضافة المعرفية ذات وظيفة حاضرة فى عالم الواقع، تحاول أن تحدد أبعاده، وتمتزج بألوانه، وتقدر على الحوار معه، فتحويره فتطويره، فاعادة صياغته ما أمكن.
والحركة المستهدفة من هذا المزيج المختلط من لغات المعرفة هى أن ينهل كل فريق من معين الآخر، دون حياء متردد، وأن يصب كل تخصص فى أرض الآخر دون احتكار أو استعلاء، وعن رواية من صديق صادف أن رأى هذه المجلة فى يد أحد زملائه فى غرفة المحامين باحدى المحاكم فدهش أن تصل الى هذا المكان وذاك الزميل على غير توقع منه، فسأله كيف؟ ولماذا؟، فأجاب بأنه وجد فيها رأيا عدلا، ورؤية موضوعية جعلته يتناول مادتها دون تحفظ سابق أو تحيز مائل، وأنه عادة ما يشترى منها عددين: واحدا له وواحد لصديق يعرف عنه رغبته فى مثل ذلك، وفرحت بهذا الحديث أكثر من فرحتى بأى تقريظ متحمس أو اشادة مندفعة، وتذكرته وأنا أقلب مادة هذا العدد لأكتب الافتتاحية، وأجدها تكاد تفتقر الى ما وعدنا به من زيادة جرعة “التخصص”، فيغلب عليها الجانب الأدبى والنقدى والكتابة الطليقة والآراء الشخصية فى محاولة صدق، وقلت انه وجب علينا أن نرجع عن وعدنا، وألا نلتزم الا بالجدية والاستمرار والاضافة فيما وجدنا أنفسنا فيه، وأن نلتمس العذر المرة تلو المرة ممن يرجو منا أكثر فأكثر مما يتصور أننا نعرف أكثر فأكثر، ولهؤلاء القراء بالذات، اضطررنا فى آخر لحظة الى البدء فى نشر رأى متكامل عن “ماهية الوجدان وتطوره” يحمل بصمات التخصص من جانب، ويفتح الباب لاعادة النظر فى نفس التخصص من جانب آخر، ورغم خبرتنا السابقة عن خطورة نشر موضوع مسلسل فى أكثر من عدد، حيث أن قارئنا غير منتظم، كما نحن كذلك، فاننا غامرنا مرة أخرى آملين أن يكون استمرار صدورنا لخمس سنوات هو مبرر لمثل هذه الدراسات فى حلقات، وموضوع الوجدان والعواطف والانفعالات بوجه خاص – وهو موضوع هذه الدراسة الطويلة – يتجاوز حتما المنهج التقليدى لتناول الظواهر النفسية، بل يكاد يتناقض معه فى كثير من الوجوه، وهو يؤكد فى نفس الوقت موقعنا فى مفترق طرق (أو ملتقى طرق) مختلف وسائل المعرفة، وها هو د.ماهر شفيق فريد يتقدم الصف فى تلقائية محمودة ليقدم لنا فرويد العظيم من خلال قصيدة رثاء للشاعر و . هــ . أودن، فيؤكد لنا عدة أمور طالما احتجنا الى من يؤكدها بطريقة عملية، فهو يشير الى استيحاء الشعر الانجليزى الحديث انساقا فكرية غير أدبية بالضرورة، ومنها – مثل هذه القصيدة – التحليل النفسى، وهو يرسم لنا بأسلوب أدبى راق صورة جديدة وجادة لسيجموند فرويد الذى لا يكاد القاريء العربى يعرف عنه الا ما يشاع حوله أكثر مما هو حقيقته، ولا أحسب أن أية سيرة مباشرة أو دراسة علمية ناقدة، بقادرة على رسم مثل هذه الصورة الأمينة الجميلة، ثم هو يضيف اخيرا آراء صفوة من النقاد حول هذه القصيدة ومن قيلت فيه وفى فكره، وان كنا قد افتقرنا الى رأيه شخصيا، رغم أنه متضمن فى انتقائه المتميز، وننتهز هذه المناسبة لنرحب بالكاتب مشاركا “غامضا”، يساهم فيما يكره (بحب صادق) – لعله يعيد النظر فى طبيعة الصعوبة التى تحيط بنا من كل جانب، فيدفعنا أكثر فأكثر لما نلتقى به أرقى فأرقى.
ثم تطالعنا دراسة عن أبى حيان التوحيدى، وقد سبق أن أشرنا الى ثراء هذه الشخصية وضرورة اعادة دراستها من منظور جدلى أعمق، ويفتح بذلك د. رفعت محفوظ الباب على تراثنا الزاخر، الذى لا نحسب أنه يستطيع أن يقوم بدوره الايجابى الا باعادة معايشته دون الاكتفاء بنقله، ومثل هذا قد ورد أيضا فى قراءتنا لمقتطف أمرؤ القيس فى هذا العدد.
وفى مجال النقد يقدم لنا م. ابراهيم عادل قراءته فى مسرحية الذباب لسارتر، وهى صياغة جديدة لرأيه الذى سبق أن قدمه فى احدى ندوات الجمعية السابقة وهو ينتهز الفرصة لتقديم ونقد فلسفة سارتر الوجودية التى لم تنل من عامة الناس عندنا الا: اما الهجوم والشجب، واما التصفيق والتحيز، رغم أنها تستأهل غير هذا وذاك، ونحن نأمل من مثل هذه القراءات المكتوبة، أن نعلن الطبيعة النقدية الضرورية لكل قراءة دون سجن منهج أو فرض لغة، وهذه الدعوة الضمنية هى أمل دائم متضمن فى تحريكنا المعرفى لتلقى الناس معطيات الابداع عامة، ويعود الينا م. محمد فتحى عبد الفتاح ناقدا لفيلم “لماذا تقتلون البرت”، فيعلق من خلال معايشته كيف يتم “القتل وسط جو من القبول العام” ويحاول أن يفسر لنا “المدخل النفسي” لمشكلة الوجود الفردى للشباب المنعزل هجرا واهمالا .. بل وطردا من فطرته ومن الآخرين فى آن، وكيف يمكن أن تكون بعض مظاهر هذه القضية الأساسية هو ما يسمى أحيانا بالمرض النفسى، وربما دون مبرر أخلاقى.
وفى مجال الكتابة الطليقة، تختتم الفنانة فاطمة مدكور رحلتها اللامجدية، بما يشعرنا بعمق الجدوى من هذه المحاولة الأمينة للرؤية، حيث اللاجدوى الحقيقية هى فى العمى والتبلد، وكذلك يعود د. سيد حفظى الى سباحته “غريقا” فى صدق المشاعر ونبض الألفاظ.
ومازلنا نفتقر الى مادة الشعر الجيد الملتزم، ولعل فى قصيدة الشاعر أحمد زرزور فى تكثيفها ودقتها مايغنى عما سواها.
ثم يجد القاريء حفلا من القصص القصيرة، والقصيرة جدا، مما اعتدنا ألا نقدمه أو نعلق عليه، وان كنا ننتهز الفرصة لنرحب بالصديق خيرى شلبى ترحيبا متواضعا بما نملك من كلمات.
وأخيرا، فقد سألنى أحد القراء الكرام عن الصديق جاد الرب الذى “… كان لوجوده مذاقه الخاص” حسب تعبيره، وتذكرت هذا السؤال حين اكتشفت أن هذا العدد يفتقر الى الحوار كما الفه القاريء، ثم تذكرته أكثر حين قدم لى رضا الكاشف شيئا موجها لجاد الرب أعتبره قصة قصيرة، واعتبرته حوارا، واستأذنته أن ينشر “هكذا” فى هذا الباب لعله يقول شيئا، أو يمثل دعوة، أو يحيى ذكرى.
وبعد.
فمازالت الدنيا تضرب تقلب حولنا دون منطق، أو بمنطق شائه مقلوب، وهذه الدماء التى تتدفق من أحشائنا فى كل من لبنان وايران والعراق تتحدى أى اغتراب أو تسويف، ولكنها تثير أسئلة تغيظ: اذا كانت لدينا كل هذه القدرة على القتال فلماذا لا نوجهها – كلها – الى اسرائيل دون انتظار أو استئذان؟ واذا ظلت العقائد الفرقية والعرقية والقبلية هى القادرة وحدها على تحريك الصراع وتسييل الدماء، فهى تصبح انسانيين نساهم – حقا – فى البناء؟ ثم من هو المستفيد الحقيقى بعد الانهاك ووسط الاشلاء؟ وأين يقف الوسطاء؟ – أسئلة هى فى نفس الوقت اجاباتها،
ومع ذلك، فمن يدري؟ ألا يكون فى جوف كل هذا خير اثبات امكانية اليقظة وقدرات التحدى، من يدري؟
ثم تقترب الانتخابات المصرية بكل ما تعنى وما تهدد به، فاما افاقة معقولة، واما نكسة مريرة، ويؤكد النظام القوائمى أن الأحزاب مرشحة للفوز بقدر ما تجذب من عصبيات وأسماء ذات تاريخ تجميعى، أو سلطة واعدة، فينفصل الناخب الحقيقى عن القائمة والبرامج لتصبح المزايدات حول العصبيات والأقارب، وان صح هذا كله فلا خير فى أى نتيجة، ولا اعتبار لأى فوز، وان كذب الظن – ولعله يكذب – فالأمل قائم فى الانتقال من رشوة الناخب الى خدمة الوطن، ومن ارضاء الفائز بالتسهيلات والتشهيلات، الى تحميله مسئولية تصديه للخدمة العامة.
نعم؟ نعم؟
وهل نملك – ونحن نشارك بالممكن – إلا الاصرار على الأمل؟.