قصة قصيرة
قلب الأم
د. عادل مصطفى
كيسا من الملح .. وزجاجة خل وعشرة ارغفه.. المهم ان تحرص على النقود .. والأهم أن تحذر ترام الشارع العمومى حين تعبر…
وتظل الأم تطارد صغيرها بالوصايا الممحضة، والرحمة تعمد حروفها فتسيل صافية كالدمع قربانا لأنصات الطريق، بينما هو يهبط الدرج فى حماسة ابن الثامنة ورعونته.
ويمشى الوقت رفيقا متئدا بقلب الساعة المعدنية، لكنه يهوى فى قلبها هوى السيف، ويذرع مدى كافيا ليجد ظن مرتعة، ويبلغ خوف أشده، ويفرخ رؤى سوداوية تسود وتطمس خيالات الرجاء والتمني.
ولا يبقى بين الحق والوهم غير شعرة لا تلبث أن تشعلها ضجة منكرة وولولة مشربة بالشؤم آتية من الشارع العمومي، فتهرع الأم المذعورة الى الشارع كسهم فارق قوسه، دون أن تمر بمرآة أو تمتطى مداسا.. ليبغتها ما استعجلت به: حادث جلل.. صبى مضغه الترام وبصقه.. وركام من البشر قد رسم حول البقعة المشئومة كرة من الفضول، لحم ملتئم يجثم على لحم مقدد، ودم مهتد يطوق دما ضالا. البقعة تجذب اليها كل حى كأنها وليمة، غير أنه اذ يستشرفها ترشق فى قفاه سيخا من الرعدة فاذا به يطل على الموت مروعا متوجسا كأنما يخشى أن يغرق فيه، المنظر يوقظ فى قلوب النسوة شبقا قديما فتعول ملتذة بالعويل، وتبكى مستمرئة دموعها معجبة بنشيجها. يقلن لعله طفل بين السادسة والسابعة ملابسه حمراء ان لم يكن الدم لونها… وتجثم القرائن على رأس الأم كالصاعقة فترشق نفسها فى الركام البشرى بشراسة مستعارة تجاوز قدرة ذراعيها المتهرئين وصدرها المترهل.. هو آبنها اذن لا ريب.. السن سنه والملابس ملابسه والأوصاف أوصافه ـ وأن تغيب السن والملابس والأوصاف عن هذا الفتات المبهم تعيب القصد عن هذا القضاء المشبوه ـ وها هى ذى تقذف نفسها فى المستنقع الدموى الغليظ.. والصراخ يخدش حلقها فيتخثر العويل فى زورها الخرب، وتلعن ربها الذى فر من السماء لعنات عارية الشارع، اذا بطفلها المتأخر يغزو حدقتيها حيا مغلفا كامل المحتويات الا من النقود التى ضيعها والأرغفة التى ضيعته. لم يكن الصريع ولدها اذن.. وما كان السن سنه ولا الملابس ملابسه.. وها هى تبتلع ولدها الحق فى حضنها حتى لتكاد تخنقه.. لقد عاد الاله الحنون الى سمائه.. لتنبت دوحة الرضا فى لحظة وتضرب جذرها فى لحم ذلك القتيل ويبدو الدم أكليلا من الورد يدعو الى الغبطة ويكسر الرتابة وينسحق العويل بأذنها الى أنغام مرحة ذات بهجة فاذا بها ترقص فوق بحيرة الدم وتزغرد فى حضرة الموت وتدندن دندنات بدائية لا تفقه معناها. وكان البعض لما يزل يغزل تفجعه على الطفل الصريع.. وكان البعض لما يزل يجثو يلم أشلاءه .. وكان البعض من كرة الفضول قد انفلتوا سويا .. وخلصوا نجيا.