حــوار
1- عن “التمثال” و”الكلمة”
(الضيفان المحاوران: م. جاد الرب و ع. الكاشف)
الرخاوى: أهلا يا جاد، أوحشتنا يا رجل، حمدا لله على السلامة، ترى هل من جديد يدعم رأيى أمام زملاء التحرير؟
جاد الرب: أنتهز الفرصة لكى أقول أنك قد ترفض المشروع المرفق، ولكنك لن ترفض القيام بدور المؤرخ الذى إذا فشل فى القيام بدور “شيخ العرب” فلن يفشل فى القيام بدور الأديب أو الباحث الديمقراطي.
الرخاوى : بصراحة، كثرت أدواري، وكثر فشلي، وأنا مصر – ربما مثل أصرارك – أن أواصل “دور المواطن المشارك” حيثما قدر دون صفة مسبقة، لكن يبدو أنى سأعدل عن أغلب أدوارى قريبا، لم أنهك بعد، ولكن أن الآوان أن أختار، فما هو مشروعك الجديد؟
جاد الرب: سؤال إلى تمثال عبد الناصر، هل يستحق الرجل بعد ثلاثين عاما اللقب “رئيس الحياة”؟
الرخاوى: لمن توجه السؤال بالله عليك، أنا غير ذى صفة، وعبد الناصر تاريخ، وأنا لم أحبه شخصيا إلا من 53 حتى 54، وهممت أن احترمه سنة 1961 لكن القشرة لم تنم للداخل، ثم انكشف الملعوب فى 1967، وما تتعتع صخر الهم المر حتى مات رحمه الله، فكيف أجيب بالله عليك؟ لا يوجد يا جاد رئيس للحياة إلا الحياة ذاتها، هى صاحبة الجلالة وحدها.
جاد الرب: أن تعبير “رئيس الحياة” التقطته من “أعمال الرسل” ذلك السفر الجليل الذى يتحدث حول جهاد تلاميذ عيسى الناصري، مسيح فلسطين إذ يقول أحد التلاميذ فى مواجهة اليهود:
”ورئيس الحياة قتلتموه”، وعندى أن لكل حضارة رئيس حياة.
الرخاوى: أو لكل مائة عام “قطب زمائه”، هل كنت معنا – المدثر وأنا – من قليل؟ المسألة يا جاد أنه قد آن لنا أن نتمثل الأربعين عاما الأخيرة، ونحن نتنفس الديمقراطية (الممكنة) لنعيد الحسابات، لا لنقيم الأذكار حول أضرحة الساسة، سواء كان الذى فى الضريح “القطب الغوث” أو “الاشاعة الزبد” لم أعد أطيق يا مدير، يا جاد، أن أمتهن عقلى وعقلك وعقل الكاشف وعقل ابني، بتصوير شخصى كما صور ابن عربى القطب الغوث بأنه “مركز الدائرة ومحيطها، ومرآة الحق تعالي، وعليه مدار العالم.. الخ” ما عاد يصلح يا جاد أن نواصل الذكر دون ذكر، أنا لست ضد دور الفرد، وأنا لا أحاول أن اختبيء فى وهم “المجموع” و “تجريد الشعب”، فما الشعب إلا أنا وأنا، لست ضد دور الفرد، ولكنى ضد فردية الدور، ولعلك تحاول معى – بعد أن تنسى أبطالك ومدنك الفاضلة قليلا – تحاول أن تواكب “البنى آدم” كما هو دون تصفيق أو تصفير.
جاد الرب: هل نستنكر فيضان النيل بسبب الغرين؟
الرخاوى: أبدا، وفى كل خير، عجزت عن الاجابة عن السؤال عن أحقية عبد الناصر باللقب الجديد، ورغم ذلك فإنى أدعوك أن تكمل.
جاد الرب: “بيان الاتفاق على أعادة بناء الاتحاد الاشتراكى الشعبي” وليس الحكومي.
الرخاوى: ماذا؟ ماذا؟ “اتحاد” ماذا يا رجل؟ نحن ما صدقنا، ان فرط سعادتى بما يسمى “التكامل” (وحدة وادى النيل) لا ينغصها إلا النجوم الصفراء فوق مقاعد السياسة تحت اسم الاتحاد الاشتراكي، وقولك أنه ليس حكوميا هو قول يشبه الاشاعة بأن الحكم ليس جيشيا، فعند المأزق يظهر المخبأ تحت كل الدعاوى “واللى عاجبه” حفاظا على ثورة يوليو!!.
جاد الرب: الحق الحق اقول لكم اننى لم أجد نظيرا لجمال عبد الناصر إلا عيسى النارى مسيح فلسطين العظيم.
الرخاوى: لا حول ولا قوة، فلست فى حل أن أضيع السطور فى لعبة “نعم.. ولكن”، أنك مصرى أصيل يا جاد، دائم البحث عن هرم وفرعون، لقد ماتوا بالسلامة كل على منصته، غفر الله للجميع وجزاهم خيرا، فهل نظرنا فى أنفسنا ونحن نودعهم ونراجع قداستهم بما فى ذلك حكاية سعد زغلول نفسه رئيس “الاتحاد الوفدى التجمعي”، هل سيظلون وراءنا أحياء وأمواتا؟ لم كل هذا التمركز حول شخص بذاته؟
جاد الرب: اننى لست ناصريا، ولكننى أعتقد أن طلب الغفران لجمال عبد الناصر هو أول الطريق إلى غفران خطايانا نحن المصريين.
الرخاوى: يا عم: من يغفر لمن؟ دعنا بالله عليك نرى ما نحن فيه الآن، ونواجه المخاطر الحالية بدلا من منح صكوك الغفران، والدوران حول اضرحة خالية إلا من احتياجنا.
جاد الرب: إذا كانت الرحلة عند عيسى الناصرى مسيح فلسطين قد استهلكت عامين كما تقول الأناجيل فهى عند عبد الناصر تقل عن عشرين عاما.. ذلك المعلم الطاهر اليدين الطاهر الذيل الذى شهد له “نيكسون” بالعبقرية والنظافة، ولم يشهد نيكسون لصديقه السادات لا بالنظافة ولا بالعبقرية.
الرخاوى: ما هى حكايتكما أنت والكاشف مع هذا السيد نيكسون لتنصباه شاهد عصره؟ ألم يأن أن تخفف من الاستشهاد بالخواجات صانعى صور “الكارت بوستال” لزعمائنا “بعد الرحيل” (وقبله!!)؟ الشهادة تذكرة، من موقع محدود، ولكنها ليست ملزمة بحال، وليس معنى ذلك أنى أرفض عبقرية عبد الناصر أو أشك فى أمانته، ولكن كلمة عبقرية لا ينبغى أن تعنى مجرد “الانفراد” بل لابد أن تمتد إلى “الابداع” وما يبقى “خلاقا” بعد الشخص، لقد أذن عبد الناصر فوق مئذنة التاريخ، لكنه لم ينقش الرسم المناسب فى القبلة الجديدة، ثم: إلى متى سنظل نركب “الخليفة المحمل” ونتمايل خلفه نتناقش فيما هو، لا نتخلق بما نحن؟ يا أخي..!! يا أخي..!!
……….
……….
الكاشف: (بعد ذكر تجربة شخصية) قلت: لا داعى لأن نصدر أحكاما مؤبدة وبالجملة، وقلت أيضا يجب أن نحاول أن نتعلم كيف ننمى ما يسمى “تحمل الغموض” والصبر على التناقض الحتمى فى تركيب البشر.. .. .. .. والغريب فى الأمر أننى قلت يومها، ومن عشرين سنة، ما قلته أنت فى المقدمة (1) أن ذلك ليس حلا وسطا …. أو تسوية تميع موقفنا من الحق والباطل، ولم أسأل نفسى هل أحب بابا أم ماما؟ أو هل أحب عبد الناصر أو السادات، لأننى أحب الاثنين وأكره الأنانية، أحب الوطنية وأكره الطغيان، أحب الحماس وأكره الغرور.
الرخاوى: عندك يا سيدي، لقد كدت أكتشف من أين يأتى الخلط، لقد فرحت بك لأرد على “جاد” حين سمعتك تقول: أحب الاثنين وأكره الاثنين، لكنك سرعان ما قسمت الصفات مستقطبا، وكنت أحسبك ستتصور أن الوطنية والطغيان يمكن أن يجتمعا فى شخص واحد، كما يجتمع الحماس والغرور فى نفس الشخص، فتستطيع أن تحب الشخص الذى يحوى هذا التناقض فى نفس الوقت الذى ترى فيه جانبيه دون أن يضطرك ذلك إلى التغميض أو التقريب أو التفويت، وهذا ما توقعته من مثلك.
الكاشف: ليس معنى ذلك أننى أنكر عناد ناصر وشجاعة السادات وأمانة مبارك وطيبة النحاس وحماس مصطفى كامل.. أبدا، ولكنى لا أستطيع أن أتجاهل المحصلة النهائية للقائد، أو حتى للإنسان الفرد العادي.
الرخاوى: هذا بديهي، وهو أكثر ضرورة للقائد منه للفرد العادى (مع تحفظ نسبى على كلمة “النهائية”، فكل محصلة هى مرحلية بالضرورة إذا تذكرنا حتم التغيير إلى أعلى أو أسفل).
الكاشف: فهل من ثقلت موازينه كمن خفت موازينه؟
الرخاوى: طبعا لا.
الكاشف: أم أنه من العدل أن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
الرخاوى: عين العدل، ولكن لعله من المناسب قبل الاستطراد أن ألفت نظرك إلى أن الآية الكريمة استعملت “الواو” حرفا للعطف.. وهذه الآية بالذات تكاد تعلن ما أردت توضيحه حرفيا، فشكرا لاستشهادك الدقيق رغم تناقضه مع منطقك، بل أن هذا هو ما جرى فعلا (فى الدنيا فما بالك بالآخرة) فعندما عمل عبد الناصر مثقال ذرة خيرا رآه، وعندما عمل مثقال ذرة شرا رآه، ونفس الأمر عند السادات حين وارب باب الديمقراطية رأى الخير يدخل كالريح الطيب، وحين رعب وأغلقه رأى الشر من قبل انتقاله إلى حيث العدل كله، بصراحة أنا لم أفهم علاقة “مقدماتك واستشهادك”، مع “مؤخراتك واستنتاجاتك”!.
الكاشف:…(2)بمنطق المقال: علينا فورا أن نلغى الأحكام القضائية والقوانين، لأن لكل إنسان محكوم عليه بعقوبة، حسنات كثيرة.
الرخاوى: يا سبحان الله !! من قال هذا يا سيدي، وأى منطق وصلك من صريح عباراتي، ألم تقرأ “أذن: أنا لا أنفى مسئولية زعيمى الذاهب عن أى مما حدث، ومما سنكشف أنه حدث”، ثم أنا لم أطلب له الغفران إلا من الحق عز وجل، فهو وحده الذى يملكه، والحسنات اللاتى يذهبن السيئات، يذهبنها عنده تعالى وليس عندك وعندي، وغير وارد أن يتنازل أحد عن حق غيره، وما فعله السادات فى آخر حياته لم يفعله بشخصى أو شخصك حتى أغفر له أو تغفر له، ولكنه فعلها فى الناس، وفى نفسه رحمه الله.
الكاشف: فإذا كنت مكان القاضى فماذا أنت فاعل؟
الرخاوى: ألم تقرأ يا كاشف “… … ولو كان مازال موجودا، وكان ثمة ديمقراطية، وثمة عدل، لخلع من منصبه بكل أمانة” ومع هذا الحكم، فلا قوة فى الدنيا تمنعنى من رؤية ايجابياته فى حينها، والفخر بها كذلك يا سيدي: وفاء وشكرا، وإلا فكيف سننمو يا سيدي؟ بلبس الطراطير أم بضرب النار فى الأشباح؟
الكاشف: ما رأيك يا دكتور يحيى فى الشعب الأمريكي؟ هل هو أيضا شعب متواضع النضج؟؟
الرخاوى: رأيى أنه شعب تافه، ساق براق بلا جذور أو ثمار، حذاء قديم يلبسه من يملك أكثر أو يبرق أكثر أو يخطف أسرع، وهو مثل أى شعب – وأكثر – عنده فرصة الخلاص إذا أراد الخلاص.
الكاشف: ما رأيك فى موقفه العظيم عندما طرح الخيار الأعظم على رئيسه نيكسون: الاستقالة أم المحاكمة.
الرخاوى: راجع ما سبق أن قلته من ثمانية أسطر مقتطفا من المقال لو سمحت، يخيل إلى يا كاشف أنك بنيت كل اعتراضك على تصور أنى دعوتك (ودعوت الشعب للغفران)، وهذا لم يحدث أصلا، ولا أملكه، بل أنى حذرت منه بالكلمات الواضحة الصريحة.
الكاشف: فالذهاب إلى القدس واتخاذ قرار الحرب ليسا غاية فى ذاتها بل هما وسيلتان لتحرير أرادة الإنسان وتحقيق رفاهيته.
الرخاوى: دعها تأتى من غيرك يا كاشف، غيرك ممن لم يقرأ حوار العدد الماضى مع د. شعلان، ألم أرد على شعلان قائلا “.. لقد استثمرنا النصر وحققنا سلاما واستسلاما معا، ولكننا لم نستثمر السلام لنحقق النصر”؟ ألم تعرف أن النصر الذى لم نحققه بالسلام هو هذا الذى تتكلم عنه؟ ولكنى لن أنسى فضل السادات أو غيره، هذه أمانتى – أو ما أتصوره كذلك، ومع ذلك فلو كان كله افضالا فى افضال، ثم أتى بخطأ واحد يمكن أن يحاكم عليه، فلابد أن يحاكم عليه هو أو غيره، ويظل فاضلا أخطأ ونال جزاءه، ماذا فى هذا؟
الكاشف: محاولة أن نأخذ من كل زعيم ما يستطيع أن يعطي، وفى نفس الوقت أن نراه فى حجمه الحقيقى وهو يعطى وهو يخطيء على حد سواء.
الرخاوى: هذا هو.
الكاشف: يا سلام يا دكتور يحيى !! “على حد سواء”، الصواب كالخطأ؟ الأخذ كالعطاء؟ الأمين كاللص؟.
الرخاوى: يا نهارا لن يمضي، من قال هذا يا عبد الحميد، أين هذا فى نص العبارة التى أوردتها، أن كلمة “على حد سواء” ترجع إلى “أن نراه”، نعم لابد أن نراه وهو يخطيء ونراه وهو يصيب، لا نرى الخطأ وحده حين نكرهه (أو حين يموت) ولا نرى الصواب وحده حين نحبه ونعتمد عليه (أو يقهرنا بالرشاوى أو الصياح) – نراه يا كاشف نراه، لا مفر من أن نراه، سامحك الله يا شيخ، لقد صدرت كلمتك إلى بأن اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية، أنا لا أعرف ودا فى المشاركة فى الجهاد للفهم، والاتجاه للهدف قضية، بعدت عنى حتى عدت لا أعرفك وأنت تقول:
الكاشف: ثم تطالبنا بأن نتحمل أخبار الانحراف، حتى لو وصلت إلى ذات الرئيس الراحل نفسه.
الرخاوى: أطالبت أنا أحدا أن يتحمل أخبار الانحراف؟ أرجع إلى النص يا أخى “…. ومن ثم يمكننا أن نتحمل مواجهة أخبار الانحراف” ويظهر أنى لابد أن أترجم من العربية إلى العربية، فخذ يا سيدي: ومن ثم (أى وهكذا .. !!) يمكننا (وليس فيها مطالبة) أن نتحمل “مواجهة” ـ(ولابد من المواجهة التى تتطلب الاحتمال، وليس أشرف من المواجهة ولا ألزم من الاحتمال، وكلاهما لا يعنى القبول أو ما شابه)-.. الخ، ألست معى أننا لابد أن نواجه كل هذا، وأن التحمل أنما يعنى التماسك أخطأت التعبير)؟ لا دعوة للغفران فيما لا نملك حق الغفران فيه، ألم أقل بالنص “.. وأنا لا أوصى بنسيان السيئات، أو أنه عفا الله عما سلف” هل يوجد أصرح من ذلك؟ ثم أن أخذ “الصفقة على بعضها” يا كاشف لا يعنى التسليم لفاسدها، ألم أقل بالنص لــ “.. نحذق تنقيتها وفرزها بالديمقراطية والعدل”، أما الديمقراطية فهى القادرة على خلع الرئيس، أى رئيس بما فى ذلك الرئيس مبارك إذا زادت سيئاته عن 51% فى رأى 51% من الشعب (وهذا بالذات هو المقصود بالمقال)، أما العدل فهو الذى سيحاكم أى فرد، بما فى ذلك الرئيس مبارك، لو خالف القانون “مرة واحدة” حتى وهو يضيء أصابعه العشرة شمعا، إذا لا يوجد “كم” معين من الأخطاء لابد من الوصول إليه قبل المحاكمة !! من أين جئت بكل ما ذهبت إليه؟ وكيف تقول:
الكاشف: أنك أذن يا سيدى لو كنت مواطنا فى دولة انتصر زعيمها فى حرب عالمية لأبحت له السرقة والنهب والسطو بنص دستوري.
الرخاوى: هكذا؟ هكذا؟ يا كاشف يا نابضا بالكلمة، سوف أدعو عليك بما تستأهله جزاء وفاقا: أن تتكور كلماتى التى لويتها، وتلتهب، وتتطاير، وتتجمع، وأما أن تضيء أو تحرق.. (والخايف يبقى يوسع، أحسن يتطرطش، أن تيجى ف عينه شرارة، أو لا سمح الله، يكتشف انه بيحس، أنا مالي، أنا لى الناس، وخلاص”- فاكر؟!: “أغوار النفس”)- لقد كتبت للأهالى أن شرف الشعب الانجليزى أنه أنزل تشرشل بعد الحرب العالمية دون خطأ أو أنحراف، وكنت حينذاك أدعو للاستغناء عن خدمات الضباط الأحرار، ولم تنشر الأهالى المقال- حتى الأهالى – فلا يوجد مكسب يبرر ولاية دائمة، ولا يوجد خطأ يبرر نسيانا غادرا، هذه هى الحكاية.
أسمح لى يا كاشف أن أقف هنا لأترك لك الفرصة تعيد قراءة ما كتبت، وتعيد قراءة المقال، حتى لا أزيد فى عرض ما رأيته تناقضا، فان أصررت على رأيك فعليك بالاستشهاد المباشر من “كل المقال” وليس مما وصلك من أجزاء منه بلا قبل أو بعد وسوف أواصل الحوار، ولقد قرأت مقال عدة مرات وتيقنت أنى لم أدع لغفران أو تفويت، بل قلت “نفهم دون تسليم أو استسلام” ولم.. ولم.. ولكن دعنى أدعوك لأنهاء هذه المرحلة من الحوار بالكلمات التى كنت أود أن أقولها لك فسبقتنى إليها.
الكاشف: ومع أمامنا الشافعى رضى الله عنه وأرضاه أقول: “قولى صحيح يحتمل الخطأ، وقول غيرى خطأ يحتمل الصواب”.
الرخاوى: ولك مثل ما قلت.
2- إبداع صوفى خلاق (المدثر)
أم سكون دائرى براق؟ (الرخاوى)
الرخاوى: نشكرك يا سيدى على تحملنا، وعلى تفضلك باستمرار الحوار رغم ما نتميز به عليك من حذق وايقاف واعادة تنظيم، وان كنت عنونت حديثك إلينا برفض قاطع لما سميناه “سكون الطريقة”.
المدثر: … وما كانت الأنغام ساكنة بل متحركة.. وزاخرة بالتواجد الفعال باجمال تفاصيل الخلق والايجاد.. وما سكن أن تحرك، وما تحرك أن سكن.
الرخاوى: أذن… لم تقطع أوتارك يا مدثر.
المدثر: بل حركة دائمة تموج بالبشر والبشارة، والبشر: قف وانتظر، فها قد أشرف المعني.. والبشارة معاينات المشاهد الأولى مشاركة فعلية فى الحدث والأحداث.. بعمق يحوى الحل أو البديل.. بادراك هو بحار بلؤلؤ آه يا فؤادي، وصدف هو طبت يا نفسى فادركى نور المحيا.
الرخاوى: أسمح سيدي، لا تستدرجني، وتذكر أنى أبارك ما أنت فيه “لك” – إلا أنى أخاف منه على من لا يدركه أو من يموت تحت وهم السكون إليه، ويظل يدعو إلى الحل الجاهز العام المشل فيظلمنا ويظلم نفسه.
المدثر: “وما ربك بظلام للعبيد”.
الرخاوى: “ولكن كانوا أنفسهم يظلمون”.
المدثر: فهو الساطع أزلا.. المشرق قديما.. المبدع حقا.. وفى معنى الحركة والسكون لا يكفى العنوان.. فديناميكية السكون هى حركة فى ذاتها.. وإذا كانت “النواة” ساكنة فالسكون ساكن، هذا باطل على الاطلاق، فماء الحياة يسرى فى القلوب ابداعا ويطهر ابداعا، فما مسح الابداع القديم بل نماه وانطلق به إلى رحابه الفكرة والمقدرة، والفكرة اطلالة ندية تحيط بمضمون وضاءة السابح فى سماء التجريد دون فك طلاسم والغاز المعني.. ولكنه أشبه بالسيمفونيات الكلاسيكية أو الابداعات التشكيلية أو المعانى الفنية الزاخرة بأنا وأنت على السواء.. دون قيد أو تشبيه، وذلك كله فى ظاهر بديع الفكرة.
الرخاوى: … والمقدرة؟
المدثر: … فان كل ذلك، فالمقدرة التواجد الفعال.. فائقة الابداع وفى غاية الشجاعة والاقدام.. فى الحدث المائل أمامكم بأى معنى له.. أن شئت أدركت ما كان من قديمه.. أو أبحرت فى عيون القمر البدري.. فى لحن اللقاء المحمود.. بكمان الشوق وجيتار العلم.. وبيانو المعرفة.. سماعى أو بياتى أو شئت انساب اللحن من داخل فوهة بركان الصدق فدخل أعماقه.. متجولا فى وديانه.. لما أبصر نقطة الارتكاز بدا له أصالة الإنسان.. “لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم”
الرخاوى: أحسب سيدى أنه آن لى أن أقر أنك ما زلت شاعرا، ولكن حق لى كذلك أن أوقفك متذكرا غناء زميلنا عادل مصطفى فى رسائله وصوره النثرية التى أقف أمامها رافعا حاجبى فحسب، انكما تحركانى إلى حيث أنا، وأنا شديد الشوق إلى حيث لا أنا، والتطور الذى تورطت فى رؤية سهمه لا يدعنى اطمئن إلى ما يصلنى من التآلف الرصين، فأخاف السكون رغم زعمك – صادقا والعهدة عليك – أنه الحركة، أن المعركة.. “المعركة”.. مستمرة وأنا أخشى من أى توقف، اللهم إلا الكمون لإعادة البعث، ولا أراك إلا فى وجد دائم، فأرفضك – ربما غيرة منك، وربما حرصا على حركتي، وعموما فأنا لا أركن كثيرا لكلمات مثل النقاء والصفاء.. مما تحذق العزف على أوتارها بلا كلل.
المدثر: … فى معنى الصفاء تفرد.. عناء أشد.. بل أشد والله من كل محاذير أبى حيان التوحيدي… ففى الثالث عصر.
الرخاوى: أى ثالث؟ وأنا لم ألحظ أن ثمة ثان وأول – أخشى أن أكون المسئول عن سوء النقل أو سوء الاقتطاف.
المدثر: … واسمح لى بهذا التشبيه البسيط “أتيت ببعض حبات البطاطس ثم سلقتها على النار.. ثم نزعت قشرها، وهرستها.. ثم.. وضعتها فى الزيت المغلي” فذاك ما نعنيه من عناء العصر الآن.
الرخاوى: سبحان الله يا أخى …. لم ألتقط التشبيه أن كنت لم أحبه، لم تبق معالم الا هذه العجينة المتمثلة، أين هى من حبات البطاطس تنبت فى الطين فتخرج أوراقها وتنمو أرحامها من جوانبها فتبثوا له الحياة بالاختلاف والاختراق من الطين والماء فى حضن الشمس والهواء.
المدثر: وقد صدق فى كل الوجود قول الله تعالى “واعلموا ان فيكم رسول الله”، ولاحظ وما ذرة فى الكون الا ولها قلب.
الرخاوى: إلى هنا وسأتوقف عن النقل الحرفي، فتتصاعف مسئوليتي، وأول الأمور أنه اذ تستشهد بقوله سبحانه وتعالى استشهادا جديدا وخاصا تضعنى – وأمثالى – فى موقف غير محسود، ذلك أنى أما أن أرد على تفسيرك وانطباعك، وهو خاص وغير واضح، واما أن أرجع لتفسير ثابت متفق عليه، وهو أمر غير وارد لأننا لا نتحاجى فى الدوران حول رؤية غيرنا، واما أن أفهم كلامه تعالى من موقعى الخاص أنا أيضا، وهذا صعب كذلك رغم أنه وارد رضيت أم لم أرض، ثم ان كلام الله تعالى غير قابل فى مرحلتنا هذه فى عصرنا هذا للمناقشة من مواقع ابداعية متجددة .. (وكأنه أنزل عليك) فضلا عن الحوار النقدى المغامر – اذا، فلنتصور أن ثالثا بينى وبينك من دين أخر، بل بلا دين، ولا نحجر على فكره ابتداء بأن ربنا سبحانه وتعالى قال ما قال، بل تفتح له أبواب النور ولن يعمى بعد ذلك الا أعشي، النور من كل مصادر التفجير والتنوير، وكلام ربنا على رأسها، لهذا فاعذرنى ان أنا بدأت أعلن عدم الاستسلام المطلق لما لا يسمح بالرؤية النقدية الحرة – واسمح لى أن أذكرك ثانية أنى لا أرفض رويتك “لك” ، ولكنى لا أفرضها على فكرى أو فكر غيرى من خلال مصادرات مبدئية، دعنا نسير فى النور، بل نفجره من رحابة الظلام ثم نتخلق بين دورات الظلام والنور ونحن نمد أيدينا لمن يضرب فى الجوار، لعل.
المدثر: ….. فما كان امتهان النور ابداع على الاطلاق، فآن له أن يستريح فؤاده من معايشة الأفكار إلى الانطلاق فى بحار ذاته.
الرخاوى: لست أدرى إلى متى يطيقنا القاريء، ولكن لابد من الكف – أنا وأنت – عن رص الكلام مهما بدا جميلا اذا كان لايصل الا بينى وبينك بدرجة شديدة التواضع ولتدع الخبرة لصاحبها يشبع بها، أو لتنتقل، اذ تبعث الحفز إلى التواصل، على أن يحدد نتاج هذا الحفز ما يستعمل من مناهج ورموز، فنجد أمامنا نتاج الفن أو العلم، أو نتجه – معا – إلى أصل الأصول (الدين)، هذه هى مسيرة: المعرفة / الأمانة / السعي، والناس لا يهمهم منها (ولا يمكن غير ذلك) الا نتاجها، وما رفضت “سكون الطريقة” لأنه ليس حقيقيا أو ليس مفيدا لصاحبه، ولكن لأنه لا يعنى الناس، لأنه لا يصلح لكل الناس، لابد من أن تنقلب الخبرة الشخصية – ان صدقت – إلى حفز يحمل صاحبها أمانة الوعى وحتم السعى إليهم، إلى نفسه من خلالهم.
المدثر: فى بعض معنى قول سيدنا الحسن الشاذلى رضى الله عنه:
انظر فى مرآتك ترى العجب … الكل فى ذاتك لا تنحجب فالحجاب نفسي، أليس كذلك؟ والستار وهمي، ألست معي؟ وان لم يكن كذلك … فهل ناقشتنى تفصيلا يا دكتور يحيى فى هذه النقطة الذاتية بمرآة القلوب.
الرخاوى: بدأت دعوة صريحة للتعرى أمامهم، وهذه احدى وسائل حمل الأمانة ومواصلة السعي، وما زالت تحذق تشكيل الألفاظ، وما خشيت من تجربتك – ومثلها – الا أن تحرم أى أحد من حقه فى النظر إلى “الداخل / الخارج”، وبالعكس، لا نظر الاستمفاء لليقين، وانما نظر الاكتشاف للبعث، وهأنت تطمئننى بدعوتك إلى أن خوفى كان – على الأقل – أكثر من الواجب، ولكن يا ترى هل تستطيع – أو أستطيع – أن تنظر فى نفسك لا أن تقصها قصا بعد ما أنهكت من طول المعاناة وطرق الأبواب؟
المدثر: من قال كذلك لزمه ذلك، وتعرية النفس بما فيها من أدران وأغيار … أشرف من غلق نفسى على … مظهرا جمال الظاهر خافيا شرور الباطن … وما كنت أحب لنفسى ذلك أبدا، ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه …. فما كان تفاوت فى الأمر هنا، ولكن ادراكا لما أنه فيه قديما وحديثا.
الرخاوى: أذكرك للمرة الأخيرة أنى لا أريدك أن ترجع عن ما وصلك ووصلت إليه، وأكاد أكون على يقين مطلق أنك لن تفعل، وهذا أول ما هو “ضد زعم الابداع”، فالابداع مغامرة مستمرة ليس لها نهاية، ليس لها نهاية، فاذا انتهيت إلى الجنة ذاتها فليس ثمة ابداع، وأناقض نفسى فأقول اذا لماذا أحاورك، وأجدنى أجيب أنى انما أحاورك احتراما لما لا أعرف عنك، ورفضا لوصاية الخوف عليك، واشراكا لقارئنا فى المسيرة، والا: فلا داع للنشر، ولا معنى للكلمات، ثم أقول: ان كشف الحجاب عن الذات فى مرآة المعرفة (والتصوف هو من عمق المعرفة) هو المخاطرة الكبري، وأخطر ما فيه أنك كلما عرفت طبقة ظهر على حدودها ما يليها ملحا لمواصلة السعى إلى غير نهاية، أكرر: إلى غير نهاية، فالمسألة ليست أنك “كنت” كذا، فصرت “كيت” لأن الرؤية الملزمة هى تحمل وجود الأغيار “الآن”، وعدم الركون إلى البديل مهما سطع نوره، فهو طريق وليس محطة النهاية: سيدي، وليس ثمة ابداع، ما لم يتحقق شرطان: ان أى احتمال آخر (أى احتمال آخر) جائز، وأن كل نهاية ليست سوى بداية، وأنا أكاد أحسب أن هذا غير وارد عندك، لذلك ظننت أنك استبدلت بالابداع السكينة.
المدثر: أى ابداع ترى مسح من فؤادى …. أراك تعنى ابداع الفن، هو موجود والله وأكثر وأكبر … وانما بعدت بمحض ارادتي.
الرخاوى: الابداع فعل فى ذاته وله نتائج ومظاهر تختلف باختلاف الأداة، وهناك خلط شديد بين كلمتى الابداع والفن، وان كان الفن من أهم مظاهر الابداع أو قل من أشهرها، فانه لا ينبغى أن يحتكرها، بل لقد مرت لى مرحلة كدت أعتبره (الفن) من أخبث أشكاله (الابداع) لأنه قد يحفز الاغتراب اذ قد يتم فى وعى مغاير، ولكن بعد مواجهة العجز الذاتى والعام: رضيت باعتباره تخطيطا مستقبليا، وعينات جاذبة، أما ابداع الحياة الواقعية (الثورة) وابداع الذات (كدح التصوف) وابداع النظريات العلمية، فهى عادة بعيدة عن لغة المتحدثين فى الموضوع، وما أحزننى – ربما بغير وجه حق – أنك لم تحتمل “الجرعة” اللاحقة، فركنت “فجأة” وهأنت تقول أن ترك الفن كان بارادتك، ليكن، ولكنى لم أكتشف البديل المبدع (فالمعلومات قليلة، ما زالت) لقد عشت مسرحك المرعب، وعلمت فرط الجرعة، ثم.
المدثر: على فكرة هل تسمح لى قبل المواصلة فى الحديث أن أخبرك بشيء، انى أزور القاهرة كثيرا جدا، وكأن القاهرة مدينتي، وقد ولدت فيها رغم ان مسقط رأسى الاسماعيلية … ألاحظ كما تلاحظ ويلاحظ غيرنا الازدحام المرعب … فماذا يكون الحال بعد مائة سنة مثلا … فما رأيك أن نبنبى مدينة فوق القاهرة مقامة على أعمدة خرسانية وبيوتها من المنازل الجاهزة وحدائقها صناعية ومدارسها أخلاقية علمية .. ووسائل الانتقال فيها “ميني” سيارة تسع لفردين خلفى وأمامى .. بكامل مرافقها، وتصعد إليها بسلالم لا كما فى كوم الدكة بالاسكندرية ولكن سلالم متحركة كما فى بعض الفنادق العالمية … والمنازل وكافة مبانيها من دور واحد … بألوان جذابة … لا بألوان القتامة مما نشاهده الآن … مسارحها مستطيلة ودائرية ومعاهدها بللورية .. مع كافة الضمانات الأمنية ضد الصواعق والهزات الأرضية، مع مطارات ممراتها تسع طائرات الهلوكوبتر والطائرة ذات المحرك الواحد والطائرات الشراعية والنوادى الرياضية بالألعاب غير العنيفة كالسباحة والتنس والاسكواش … ولأن الطائر ما زال طائرا وبجناحين من صلبه فعلا … فيكفيه أنه طائر فى أودية نفسه وذاته من خلال تحليقه فوق روابى القمر الذهبية حيث ربوة العشاق المتوكلين على الله لا المتواكلين على الله.
الرخاوى: تركت استطرادتك حتى نهايتها، ولم أفهم ما وراءها تحديدا، فان قبلت ظنى فقد حملت محاولة اثبات ان شطحات الخيال ما زالت تبدع الحلول، ولكن هذا هو ما أخافنى تحديدا، وأنا أرفض كل المدن المثالية (3) (الا جمهورية أفلاطون “بشروط” لأنها داخل النفس لا خارجها رغم تصور غير ذلك) ومدينتك بدت لى قبيحة بلا حدود، وخاصة اذا ما قورنت بمسرحك المتواضع، المنازل جاهزة، الحدائق صناعية، والأعمدة خرسانية، أعوذ بك من شر ما تدعونا إليه، يبدو أن مثل هذا هو ما دعانى إلى أن أتصور أنه قد خفت ضوؤك سيدى والعهدة أنك قرأتها “خفت” (بكسر الخاء وتسكين الفاء) وانما كنت أعنى “خفت” (بفتح الخاء والفاء)، (والحاج سيد عطوة لا يريد أن يأتى لنا بالتشكيل لزوم الشعر ومنع اللبس) ليكن، لعل استقبالك أدق، وربما كان خوفا وليس خفوتا.
المدثر: كيف يخاف اذن من ضوء مصنوع من وهمه أو خياله أو عقله … أو من شيطانه .. وما يصح أن يكون الهى هواى …
الرخاوى: رفضت سكونك لأنك رفضت شيطانك، وما زلت أرفض من يتحدث عن شيطان الشعر (“مثلا” … والابداع عامة)، وكأن الشيطان هو المسئول عن أروع ما نفعل، وخاصة اذا كان المعنى المتضمن فى لفظ الشيطان هو الشر، وليس هو “ابليس” الحلاج طبعا، الذى صاحبه الحلاج “الحق” واعتبره وفرعون استأذيه.
المدثر: ما يصح أن يكون الهى هواي.
الرخاوى: أليس الهوى ( دون تفصيل) هو من صلب مقومات الفعل الابداعى أبدا، لا يكون الهك، نعم، ولكن لا تقصه فتنطفيء.
المدثر: ما كان هذا قتلا للابداع أبدا، بل انطلاقة الابداع فى دنيا الابداع الحق، حتى ولو اختلفت معى فى الرأى هنا يا دكتور يحيي.
الرخاوى: ليكن ثمة ابداع فى الحق، وابداع فى الباطل، ولكن – وعذرا – أشم رائحة “المصادرة على المطلوب” فعملية الابداع – رغم اليقين – هى دائما أبدا تحريك إلى المجهول، وهذا ما لا يصلنى منك، ربما لعجز فى رؤيتي، رغم علمى أن التصوف الحقيقى ليس سوى هذه الرحلة بلا نهاية رغم لمحات الرؤى ومحطات تناسق المعارف من لدنه لدنا …
المدثر: فاذا كانت العوارف والمعارف محيطة بكافة جوانبها الذوقية والعلمية بنقطة سر الضمير للإنسان، فى ذات كل انسان .. فهل اطلاع الفؤاد على ذلك عقيدة دون مشاهدة، وهذا جائز تماما …
الرخاوى: اعذرنى أن أنا توقفت لأسأل: “هل تعنى بالعوارف” جمع عروف من عرف للأمر: صبر، أم عرف على القوم دبر أمرهم أم هى مرادفة للأعراف: الحاجز بين الجنة والنار؟ كذلك لم أفهم ما تقصد من “عقيدة دون المشاهدة” ولا أظن أنك حاولت “التغميض” الذى هو من ضروريات “الرواية” مع احترام “العامة”، أغمضت يا مدثر فاعذر عيني، وعموما فان اضطلاع العقل الكلى (وليس “الفؤاد” فما أحب هذه اللغة، أو قل ما أوافق عليها – الا مجازا أدبيا، مهما بررها فلاسفة محدثون وعلماء مستسهلون) على “ذلك” هو الخطوة الأولى – معلنة أو خفية، مدركة أو غامضة – وانما نناقش الخبرة ونتاجها بعد “ذلك”، فان توقف “المطلع” وانبسط فقد نام.
المدثر: هل يكون ذلك مؤمن مخدر؟.
الرخاوى: لا أذكر أنى قرنت الايمان بالتخدير أبدا، فليس “الايمان” بالضرورة هو ما نتناقش حوله، وانما نتناقش حول مائدة تدعو إليه تحديدا وتفصيلا وتعميما والحاحا، وهو ما نخاف من استحالة تعميمه حتى لو أفادك شخصيا، ونشك فى جدوى عطائه حضاريا ومعرفيا اذا ظللت “عندك تدور” .
المدثر: فما خفنا على الحقيقة من الضياع بل خفنا على القلب من الضياع، فهل تتحمل أنت ذلك يا دكتور يحيي.
الرخاوى: بصراحة أنا لا أتحمل الضياع، ولكنى أجد نفسى فيه فلا أملك حتمي، وهكذا، رحلة لم تتوقف أبدا، ولم يغننى فيها أى شيء، لا علم طبي، ولا وهم نجاح حرفي، ولا منهج ثابت، ولا مذهب صارخ، ولا دين جاهز، ولا طلبة منبهرين، ولا فن مقدر، كل ثابت مضروب ابتداء، وكل مضروب متفجر، وكل متفجر قادر. وعلى “من يريد”: أن يتحمل، وعلى من يتحمل أن يفعل، وعلى من لا يتحمل ألا يدعونا إلى خميلة جانبية يبرر بها عجزه الطبيعى الذى أشاركه فيه رغم – أنى – أرفض دعوته بكل ما أملك.
المدثر: اعذرنى فالتبرير فيما انتهت إليه الصرخة هنا .. تبرير حقيقى وليس وهميا، “هو تفتكر يعنى احنا كان عاجبنا حد .. أو يهمنا حد .. طب اسأل الكاشف كده”
الرخاوى: اسأل نفسى أولا، وأصر على رفضى لتبريرك، ولرفضك كل أحد، وليس وراء رفض الكل، وعدم الاهتمام بالكل الا البحث عن المطلق، ودعنى أذكر لك أنى لم أتمتع أبدا بهذه الرفاهية، حيث نقطة البداية دائما وهى “الموجودة” فكيف أبدأ من رفضه ومعاناة قبوله هى الوسيلة الوحيدة لتغييره، وفرق بين القبول والمعانى وبين الاستسلام المبرر ان كنت توافقني.
المدثر: لكن صدق النفس مع الضمير ومع الله ليس فيها أنصاف حلول، وليس من الشرف على الاطلاق أن أمسك الحبل من الوسط، فلم أكابر اذن، وهل الرجوع إلى الحق فضيلة أم رذيلة.
الرخاوى: بصراحة، أنا لا أستريح لاستعمالنا لكلمة الرجوع، أصلا، ولا أظن أن ثمة حقا يقع خلفنا، وعلينا أن نرجع إليه، لم لا نقول الانطلاق إلى الحق فضيلة، الحق دائما متجدد من صدق التفاعل وحمل الأمانة، فلم نرجع إليه وهو أمامنا؟ ولم لا تفجره باستمرار، فيتخلق من الابداع الملتزم فى المجال الذى تحذق، وأنت قادر على ذلك؟ ولم تلجأ إلى غيرك إلا مؤتنسا، لكنك – فيما خيل إلى – استسهلت أخذها “جاهزة”، فقد كانت المعاناة – وما أشرفها – هو لا حقيقيا.
المدثر: لنرجع إلى معنى “الاجارة” من مصادرها الأولى فى قريش مثلا .. لنعرف حقيقتها، وقد استجرت بمجير، فأجارنى حتى دون المناداة … ولست بلاجيء سياسى يا دكتور … فلا تتوهم محاولة الصدق .. ولكن ان سمحت لى تأكد منها تماما.
الرخاوى: صدقك ليس مجال تساؤل أصلا يا مدثر، ولا حتى حلك المطمئن، كل ما يدور حوله الحوار هو: دعوتك للتعميم. وأملنا فى ابداعك فى كل مجال (ابداعك ليس بصفتك “أنت” شخصيا وانما أى “أنت”) الأمر الذى بدا لى أنى أفتقده فى موقفك الآن مقارنة بمأزقك المرعب، وأنا – وصدقنى أنت بدورك – أحاول جاهدا أن أستوعب الجانب الشخصى الايجابى فيما وصلت إليه.
المدثر: لست أدفعك لذلك، لكنك بتجاربك الطبية النفسية ..
الرخاوى: عندك، فما أتحدث معك من موقع طبى نفسى أو علمى متخصص (لعلك تعلم أنى حدقت هنا صفات أخرى وصفتنى بها) وانما يشرفنى أن أتحدث معك من موقع “المواكب” الذى أتيحت له فرصا على فرص، من بينها صدق مرضاي، أما علمى فهو عامل مساعد تحتد به رؤية البعض وتغشى “به” رؤية آخرين، وأرجو أن أكون بين من رأي، ويا هول ما أري، وهأنذا آحاول التعرف عليك فى داخلى أولا ..
المدثر: … ما كان العاشق موتورا، أو متفيهقا جهولا، أو مسلما كسولا، أو عالما لا يعى مايقول، ولا يدرى ما يقال، يملأون الساحة والوديان يدنسون الأخبار، والأقلام تعرفهم وأعرفهم وخذ عندك من صنوف الجهل الكثير.
الرخاوى: يطل منك الرفض، ولكن منطقك – حتى ان صح – لا يبرر فعلتك.
المدثر: فما بصقت على الضياء لأنه ضياء، ولكننى بصقت عليه لأننى عرفت أنه ضياء جاهلى أصنامى .. من حمم اللاشيء والله كان …. فلفظته قبل أن يلتهم ما بقى من أنفاسي.
الرخاوى: لا يوجد سبب كائنا ما كان يبرر “البصق على الضياء”، وليس ثمة ضياء جاهلى وآخر متدين، فهو اما ضياء أو سراب، أما عذرك الذى أحترمه بشكل لا يعلمه إلا هو، فهو أنك كنت “وحدك” وأنك رفضت الجنون فما أنذله حلا لمن يقدر على غيره، وأنك لم تجد الفرصة – وأين هى حتى الآن؟ – وأنك قررت أن تحافظ على “بقية أنفاسك” بعون الخلق إلى الخالق، وهل كان أمامك الا هذا؟ مع تحياتى لوزارات الثقافة، وكيمياء السعادة، وتشنج المذهبية، سامحهم الله وكف شرهم عن عباده.
المدثر: فما هربت إلى الحق بالطريق السهل .. وأنا أفهم تماما ما ترمى إليه، وان صح المعنى فأنا على أعتاب الحق.
الرخاوى: لا أعرف ما تعنى تحديدا، لكنى أعلم يقينا أننا دائما على أعتابه ان صح العزم واستحال السهل .. حتى ولو …
المدثر: هى معاناة ما بعدها معاناة: من ألم خلاق، وفكر مبدع الهامى رائع ومشرق وجميل يحيطه عناد العصر من كل جوانبه، وقد قالو فى معنى ذلك:
لو شاهد لوعتى الخليل احترقا
أو شاهد نوح دمع عينى غرقا
أو حملت الجبال ما أحمله
لصارت دكا وخر موسى صعقا.
الرخاوى: هل يحق لى أن أشهد أن عمق حديثك الشعرى قد وصلنى أعمق من شعرهم المستشهد به، ومع ذلك فلا أحسبك الا عرفت أنى أعرف هول ما تتحدث عنه، وان كنت لا أحب الاستشهاد عامة فانى سوف أقول لك بعض شعر لى لم ينشر بعد، وقد لا ينشر أبدا، أقوله لك حتى تطمئن إلى عدم استهانتى بحجم الحكاية: فى مثل ذلك قلت “لو أننى لم أرفع الغطاء، عن شفرة الرموز والأجنة، لو أننى لم أقرب الفاكهة المحرمة، لم أخترق صفوفنا المنتظمة..” إلى أن قلت “يا ليتنى طفوت دون وزن، يا ليتنى عبرت نهر الحزن، من غير أن يبتل طرفى خوفا، البرق والرياح والرعود، وهجرة الطيور، فى الداخل المهجور، تقول باقتراب تلك العاصفة” إلى أن قلت”يا مقود الزمان لا تطلقني، ثقيلة ومرعبة: “كن”، يا وحدتى لو كان، يا نشوتى لو كان” والحل يا سيدي: “فلأجرعن الكأس للثمالة ولتشرق الشمس من عمق الألم، ولأحترق، ….. أو أرضع الضياء أنفجر، أشيد الكلام والبشر” ولابد أن أعتذر أن أعرض كل هذا المقتطف، ولكنى أردت أن أوفر عليك التأكيد والوصف المفصل، ولولا علمى بحجم الجرعة وحدة صراعك ما أشفقت على اختيارك، وما رفضت تنازلك عن ارادتك.
المدثر: كان امتهانى لارادتى سابقا وليس حادثا، ولا خوف على القاريء ولا يحزنون، والتصوف له أهله، وما كان للعامة كما تعلم سيادتكم جيدا، ولست أعمم أو أصنف القاريء، فان للجميع فى قلبى احترام شديد وخاصة قراء تلك المجلة.
الرخاوى: معك فى هذه الهيراركية اللازمة، ليس فى التصوف فحسب، وانما فى كل مجال ترتبط فيه المعارف بمساحة الوعي، الا أنى لست معك أبدا فى أن تدعونا لكتاب بذاته (بالاسم) وطريقة بذاتها (بالاسم) وهذا بعض ما حذفته بلا اذن منك، ثم ان هذه المجلة التى لا تصنع الا أن تؤنس من هم فى مفترق الطرق، دون فرض حل بذاته، ونحن لا نفخر – كما تلاحظ – برصانة الأسلوب أو تنميق الشكل بقدر ما يهمنا طمأنة “أبطال الرواية” إلى بطولتهم رغم وحدتهم، ولى اذا ان أخاف من تقديم أى حل جاهز، ثم انى أرعب أكثر حين أتصور أن يأخذ القاريء نتاج تجربتك باعتبارها “الحل السعيد ” … دون ما سبقه، حقيقة أنك وصلت إلى يقينك من خلال قراءة كتاب “بذاته”، ولكن – كما سبق أن أشرت – كم واحد قرأ نفس الكتاب ولم يفهم ما فهمت، فضلا عن الذى قرأه وقال فيه ما لا يرضيك؟ هذه هى المسألة، وهى تتعلق بأمانة الكلمة ووظيفتها أساسا، ثم أنى رفضت دعوتك “لنا – الآ”ن ونحن أحوج ما نكون إلى كل مساحة الوعي وكل ارادة الخلق، وكل نتاج الذراع … لنواجه ما فرضه علينا “جوارنا” و “قرارنا” .. والا ..، ومن هنا جاءت سخريتى من دعوتك التى بلغت ذراها حين اقترحت دعوة الليكود والمعراخ لها حتى “نتحاب جميعا” ودمتم، وان كان يبدو أنك لم تقبل أسفى الخبيث.
المدثر: اعتبرتها نكته …. ولا أقول “انشاء”، ولكننى أقول بمنتهى القوة: الصوفية فى كل مكان، كانوا على الجبهة، كانوا وما زالوا فى موقع الانتاج والعمل، وقد كنا أول من ساهم فى حملة التبرع بالدم.
الرخاوى: سيدي، لا تعدد لى أفضال المواطن على الوطن، وأنا لم أشك – تعميما – على ما يتم من أفعال ايجابية، ولكنى أحذر مطلقا من تسليم الارادة لغير صاحبها، حتى لو أمر “شيخنا” بالتبرع بالدم فهو مواطن صالح له الشكر منا والثواب من ربنا، ولكن هذا لا يتم على حساب ارادة المتبرع فقد يأمر شيخ آخر فى زمن آخر بغير ذلك، وهذا معنى حرب الأحرار وحرب العبيد، (وأنا لا أعنى أن الصوفى عبد، بل لعله الحر الأوحد من عمق بذاته) فالأحرار يشاركون – حقا وفعلا – فى القرار، والعبيد يمتثلون للأوامر ولا يعلم الا الله طول نفسهم، الأحرار – بالمعنى الصوفى الأعمق – لو أقسموا على الله أبرهم، فلا تقف أمام فعل جيد لتقول أنه دال على مبدأ جيد، وفى نفس الوقت على ألا أدمغ فريق لا أعرف مدى فضله على بلدى لمجرد مخاوفى النابعة من جهلي، لكن حماسك هذا يوهمنى أنى أعيش فى بلد آخر غير الذى تتحدث عنه، فلو كان ثمة عشر معشار تعداد هذا البلد كما تقول لا نصلح الحال حتما … وفورا ..، فاما أنى شديد الجهل بما يجرى من ايجابيات، أو أنك شديد الحماس لما تسقط من آمال، وليشهدنا القاريء.
المدثر: … كانوا وما زالوا الشعلة المضيئة فى هذا الوطن الغالى ..، بمعنى المواطن الصالح حقا وصدقا ويقينا، بتوهج الفكر لا بركون الكسل، بجدية الفعل والقدرة عليه لا بالخمول والاسترخاء، بل بالابداع الفكرى والتألق القلبي.
الرخاوى: رجعنا إلى حكاية الابداع الفكري، كيف أتمثل ما تقول وقد حبستنى ابتداء فى فكر بذاته؟
المدثر: ما تصبو إليه نصبو إليه، كل بطريقته، أوليس ما تصبو إليه يا دكتور … الله … أم شيء آخر؟
الرخاوى: رضيت أم لم أرض، فهو الغاية، حيث يقينى أن غير ذلك استحالة بيولوجية، ولكنى لا أقبل أن تصنفنى ابتداء كما تريد، ولتتذكر أيام أن كنت لا تصبو إليه، وما كان ينبغى حينذاك أن يدمغك أحد وأنت فى أعماق ألمك تحاول جاهدا فى كل اتجاه، لا أقبل أى مصادرة على المطلوب، ورحلة كل فرد هى شرفه، والوسائل عوامل مساعدة وليست غاية فى ذاتها، وتضمين الألفاظ بما فى ذلك لفظ الجلالة يحمل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فلماذا تستسهل الأمر بهذه الصورة وأنت سيد العارفين، لهذا رفضت أفكارك لماضيك، لأن ماضيك هو حاضر “غيرك” الآن، وما كنت تحب أن يفرض أحد عليك “مصادرة” مبدئية حينذاك، فما ينبغى أن تسارع بفعل ما كنت ترفضه مع اختلاف المراحل ليكن ما نصبوا إليه واحدا، ولتتعدد الطرق، ولكنى لا أراك جادا فى مساحة السماح أو مدى الاختلاف.
المدثر: اذا كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان، فما حقيقتنا الآن … أشباح مثلا … أو مسخ من الدمى .. دع عنك التحديات الكبرى والصغرى وما جاء بعد ذلك فنحن نعيها جيدا ابداعا وفهما وتفهما وفعلا وحدثا.
الرخاوى: بصراحة، الكلام أعلى نبرة من تصوراتي، لذلك لا أقبله ولا أرفضه، واسمح لنفسى أن أشك فيه وأنتظر نتاجه بالقياس الحضارى لوطننا هذا فى عصرنا هذا، (وهو جزء من مسيرة البشر فى موكب التاريخ) “ابداعا وفهما وتفهما وفعلا وحدثا”!!! يا سبحان الله ! وأنا ولا عندى فكرة، هل تعذر جهلى أم تشاركنى غيظى وأملى فى آن؟ التحديات أكبر من كل حساب، واليابان واسرائيل والصين والاتحاد السوفيتى وفرنسا وحتى أمريكا يتربصون بكل من اشترى بضاعة ولم يصنعها، من نقل قولا ولم يفهمه، من قرأ رأيا ولم يطبقه، من ادعى ابداعا ولم يحمل أمانته: مخاطرة مستمرة، وتجدد مغامر، دائما أبدا.
المدثر: الناظر للعسل غير شاربه، والسامع عن العسل غير ناظره، فمن مات بوهمه يظن أنه حل شيئا فذاك الذى أعمته الحيرة أنه حل وربط، ولا تؤاخذنى فليس حل طريقنا قرصا كأقراصك أو أحسن بل هو حل جذري.
الرخاوى: لا يكون الحل الابداعى جذريا أبدا، فجذر الشيء جذر استأصله، وانجذر انقطع، وأنا لا أتنطع فى فذلكة لغوية، ولكن هذا ما استوحيته من تعبيرك قبل أن أستثير المعجم، ثم هب أنى لا أحب العسل يا أخي، فما رأيك؟ هب أنى أفضل عليه قطف الزهور، آسف بل زراعتها، بل أفضل على هذا وذاك دفن البطاطس فى الطين انتظارا لثمارها، ألا أحظى باحترامك وتقبلنى مواكبا رحلتك، أم لابد من احتساء عسلك المصفي؟
المدثر: وان اختلفت مرة ثالثة معى .. فهل المفكر عين العالم أم العالم عين المفكر، أم الاثنين معا .. أم الأول ما نراه فى بعض وسائل الاعلام بشتى أرجاء المعمورة.
الرخاوى: اعذرنى فلم أستطع أن أميز بين الأول والثانى واحترت فى سلسلة بقية الفقرة (وخفت أن أغمضك على القاريء برجاء الرجوع إلى الأصل عندك)، فقفزت فوقها.
المدثر: يا دكتور يحيى أنا أرحب بقتالك لي، فاختر ما شئت من حراب الفكر … أو سيوف القلب، ولتكن المبارزة فكرية علمية ذوقية، … وليقض الله أمرا كان مفعولا، فما كانت حافية أو منتعلة (ومعلش نعدى دي)، ولم تنته الرحلة بعد …، وحتى نهاية الإنسان بالموت بداية أخرى فى الحياة الأخري، والله تعالى يقول فى القرآن الكريم “هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم. لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا” صدق الله العظيم، لاحظ أبدا، وجمع أبد آباد، اذن هناك آباد أخري. نهايات وبدايات ونهايات وبدايات دون حصر وقيد، حيث الوجود الالهى الخلاق ابداعا وتصويرا … فيما جاء “حيث لا حيث ولا أين ولا كيفيه”، وهنا نهاية بداية المسألة بمعانيها الاعجازية المحبطة بكل مركبة وبسيطة، أو كما قال عمر الخيام “أن تفصل القطرة من بحرها، ففى مداه منتهى أمرها” وهنا هو معنى التصوف الحياة يا دكتور يحيي.
الرخاوى: التصوف الحياة! .. ما أدق العبارة، وما أخطر والخلط
المدثر: مشاركة دائمة فى الحدث المواكب لحياة الفرد أو الجماعة، مع الذوبان فيما سبق فى معنى الخيام للقطرة والبحر، وفى معنانا الصوفي: الجزء والكل، والجذبة من جزء الجزء الكلى لما ترى وتشاهد من سطور ما مضي، وقد قلنا الاعتقاد جائز تماما دون المشاهدة، وما كان تبسيط الأمور تعقيدها .. والتركيز فى معنى دون الآخر ليس استخفافا بالعقول .. وبلا شك عصرنا الذرى النووى الآن ليس كعصر سيدنا أبى حامد الغزالى رضى الله عنه وقدس الله سره، مع عدم الخلط فى الفهم والتركيز فى عصره وعصرنا .. والعلم الحديث بكل أبجدياته الرهيبة من أقمار صناعية، وخلط خلايا قرد بخلايا انسان، والتهام خلايا القرد خلايا الانسان كما جاء فى التجارب العلمية الحديثة “علم المعمل والتشريح”
الرخاوى: تركتك يا سيدى “تقول” كافا عادتى السخيفة (اللازمة ليكون حوارا) فى المقاطعة، رغم عجزى عن تتبع الفكرة المحورية، ولأبدأ من البداية (1) فلماذا قلت “قتالك لي” ولم تقل “قتالنا” ان كان ثمة قتال، (2) والنهايات البدايات النهايات البدايات هى رحلة الأبد فى كل دار، ما دام الابداع هو صفة الحياة (3) وعلم المعمل والتشريح لم يعد قادرا على احتكار المعرفة. (4) فالباب مفتوح على مصراعيه شريطة السماح لكل جاد.
المدثر: …. ترشيدنا للعقول …. لا ترشيدنا للاستهلاك ..
الرخاوى: على أن يكون الترشيد هو “سنة أولي”، ثم تأتى التنمية، فالاطلاق، فالتغذية المرتجعة، فالبدايات النهايات البدايات، أبدا ..
المدثر: فى تساؤل الدكتور سامى عبد القوى على فى قصيدته الجميلة، والمنشورة فى مجلتنا .. متى ينساب فوق الجرح ماء النيل … لطف البهاء وطهارته، وقد انساب، فماذا بعد يا دكتور يحيي.
الرخاوى: لا أحسب أنه انساب، واشتياقنا (لاخر الترحال” هو الذى يوهمنا بامكان “اتحاد ذرات هذا العالم” والحياة سوف تظل تلح على الحلول “الجذرية”: تتعتعها من جذورها، ولا تحسب أنى أدعو إلى شك مطلق أو يأس عدمي، فهذه رفاهية لم أنعم بها أبدا، فقط: أصر على استمرار السير يقظا.
المدثر: التواجد الفعلى “لأنا” هنا ادراك التعقل السابق، واستيعاب التعقل اللاحق، ومزج الاثنين فى التواجد الآني.
الرخاوى: هذا هو.
المدثر: ولست عليما بما هو حادث الا بمدى تعقلي، فان حدث، فماذا يكون الأمر الثاني، وهو أيضا من بدايات مرحلة التأهيل إلى ما هو مفروض وحقى بمعنى الحديث القدسى “كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا ليعرفوني”، ولم يقل سبحانه أردت، بل قال أحببت .. فخلق الله الكون على الحب، وأصل حب .. بأصل الحب والنوي، فهو حب، فالحاء حساه، والباء بقاء وسبحان الحى الباقي.
الرخاوى: قف عندك …، ولكن …، أنت وما تري.
المدثر: هل أطلت عليك أم أستمر؟ ان كان الثانى فنقول بعون الله وتوفيقه: ان المعانى وليست المبانى هى صفات الابداع الصوفى الخلاق ..، وان كانت المبانى أسبابا فقد أمرنا الله بالأخذ فى الأسباب، ونحن فى ذلك ان شاء الله عز وجل، فلا خلاف، بل تعميقا للاتفاق، ولولا الاختلاف ما ظهرت الآراء، ثم ما كان الاتفاق، فهل أنت متفق معى فى ذلك يا دكتور يحيى أم لا؟
الرخاوى: لو علمت ما هو “ذلك” تحديدا لقلت لك، ولكنى أخاف الاتفاق على الألفاظ، فاذا بكل منا يفسرها حسب قاموسه الخاص.
المدثر: الصوفية ان اتفقوا سقطوا.
الرخاوى: أخيرا؟ قد كنت على وشك أن أذكرك بقول البغدادى “ما تزال الصوفية بخير ما تنافروا، فاذا اصطلحوا فلا خير فيهم” وهذا وحده الزام بالابداع “الفردي” بكل لغة فى كل مجال.
المدثر: أقصد أن أستفيد ويستفيد القاريء من تجربة عريضة لك مع العلم والمعرفة أو مع من من تسميهم أنت “أصدقائى المجانين”.
الرخاوى: ذكرت لك قبل الصفة التى أتحدث بها، وأنا أعترف بفضل “مجانيني” على “عقلي”، رغم رفضى لحلهم على اللقاء فهى فى حتم الاستمرار وأمل التخلى عن كل قول ثابت، حتى لو تمسكنا بثبات الرسم: خوفا أو تحسبا أو يقينا أو اتباعا، فعلينا أن نغامر بخوض المحتوى بلا قيد على فعل العقل المباشر، وبلا اغفال لعطائه السابق المتاح، ولنتفق أيضا على أن الصوفية هى معرفة “خاصة” تصدق بمقدار جهد صاحبها واقترابه من كونه “أداة حيوية موضوعية” صالحة لتلقى المعارف “مباشرة” وهذا أمر خطر كما تعلم لصعوبة التمييز بين نقاء وأصالة الأدوات البشر، والمساحة الواقعة بين حدث الرؤية وعجز اللغة، هى التى تسبب الخلخلة الدافعة إلى الابداع بكل أدواته الرمزية، فمن اكتفى بالرؤية فله ما رأى تصوفا أو حكمة أو تكاملا، وليس علينا اتباعه، اذ كيف نتبع ما لا نعرف، ومن جاهد ليبلغنا بعض ما كان: أفرز ابداعا علميا أو أدبيا أو فنيا أو صنع ثورة على أرض الواقع فهو أقرب إلينا رغم تواضع ما أظهر، بالنسبة لما علم، أما من لم يتحمل رؤيته فتناثرت منه نفسه وأخذ يتلألأ من شظاياه الوهج المؤثت المبهر، فوا أسفى عليه ويا عجزى أمامه رغم فضله.
فهل بلغك – سيدى ما أردت من عدم رفضى لطريقك “لك” وعدم قبولى لابداعك محلك؟ وهل قبلت دعوتى (ان كانت الطاقة النابعة من الحاح الرؤية مع عجز اللغة كافية) ان تجرب خطا موازيا جنبا إلى جنب مع اصرارك على المصادر المبدئية؟ وهل سمحت حقيقة وفعلا بالاختلاف مع احتمال استمرار الصداقة؟
المدثر: الصداقة يا دكتور يحيى شيء غال … لن تفقد صداقتى ولن أفقد صداقتك رغم اختلاف الرأى ورغم شرطكم الظالم فى الحوار.
الرخاوى: هو ذاك … والله يغفر للجميع، فهل قبلت دعوتى لتصحبنا فى خبرة فجأة تتحدى قبل أن تهمد … لعلها لا تهمد .
3- رحلة استعادة ونهاية مفتوحة
المحاور الضيف: حافظ عزيز
الرخاوى: هل كنت معنا يا حافظ؟ وهل عذرتنا ونحن نحاول التفاهم رغم مصاعب اللغة واختلاف مضمونها؟ … تذكرتك وأنت ترى شجرة، وكأنك تراها لأول مرة، ثم تكتب لنا بالعامية، فنرفض، ثم نتحفظ، ثم نتحرج، ثم نحاول أن نصنع حوارا من نوع جديد، فماذا قلت، وماذا أنت قائل؟
حافظ: ايه حكاية شجرة دى كأنى أول مرة أسمع الاسم ده، أنا عارف شكل الشجر طبعا …. الشجر ساعات كده يبقى شكله زى المكسوف الحزين، زى شجر الصفصفاف مثلا اللى نزار قال فيه: وتعيش وحيدا كالأصداف وتظل حزينا كالصفصاف.
الرخاوى: يخيل إلى أنك تكتشف الدنيا من جديد، هل هذا حزنك … أم هى وحدتك؟
حافظ: الشجرة دى مش حقيقى أبدا، الشجرة دى زى ما تقول كده صورة .. ظل .. ذكري، لكن الثانية الحقيقية اللى كانت هناك … كانت معنى – كانت جواى معنى، بالعربى كده زى ما أكون باشوف الشجرة من قفايا، وفهمها صعب جدا، وحسها أصعب كمان.
الرخاوى: ربما لذلك كنت حريصا على العامية، وعلى النشر، اذ أراك تكتشف الفاصل بين “الداخل المعني” وكأنه الحقيقة أو هو الحقيقة، وبين “الخارج المنفصل”: اما ليلتحم بالحقيقة ليولد حقيقة جديدة، واما أن يظل منفصلا، وتعبيرك عن الشوفان من القفا يفتح آفاق التساؤل حول مداخل العقل الظاهر المسجونة فى الحواس الخمس اياها، لكن لماذا تصر على الفهم والحس ما دامت قد “وصلتك” الرؤية والسلام؟ أم أنك تعنى بالرؤية من القفا: العمى عن جوهرها؟.
حافظ: لو حد سألني، أو حتى سألت نفسي، أقول لها إيه؟
الرخاوى: هذا هو التحدى الذى كنت أحدث عنه المدثر حالا، المساحة بين حجم الرؤية وعجز اللغة، فى رحلة العبور تضيع حقيقة الشيء.
حافظ: يبقى لازم نقسمه بقى ونخليه حتت، الجذور لوحدها، الجذع لوحده، الفروع لوحدها، الزهرة، الثمرة والجذر بيتكون من كذا وكذا، والجذع ده هو كذا، وكذا.
الرخاوى: باظت الشجرة، لم تعد شجرة ولا حول إلا بالله.
حافظ: الحمد لله ان ربنا خلق لنا العلم، انتوا عارفين ليه، علشان أنتقم من كل الشجر .. الصور .. التقليد ده، وأخليه حتت صغيرة، أمزعه، وأفرتكه كده.
الرخاوى: تصور يا حفاظ أن علم السلوك – مع احترامى – يفعل فى “ماهو انسان” شخصيا مثلما فعل علم الشجر بشجرتك، وان كنت أختلف معك فى أنك وأنت تمزق الشجر الصور، مزقت الشجرة الأصل، مزقتها داخلك، مزقتك يا حافظ.
حافظ: حافضل أقسم فيه كده عشان هو ما بيشبعنيش، ولو أن الحكاية دى صعبة عليا يا جماعة، صعب على الواحد أنه يقطع حته منه، صعب أنه يشرح نفسه، مهما كان يا جماعة، دى هى أنا وأنا هي.
الرخاوى: جاء لك كلامي؟ ولكن لابد من المحافظة على خيط ما، على علاقة بالخارج مهما كان “ليس هو”، أى شكل .. أى شكل، والا …
حافظ: صورة ، صورة لكن أهو والسلام أى حاجة تفكرني.
الرخاوى: ويا ترى إلى أى مدى ستتحمل لصق الصور ما دامت لا تشبعك.
حافظ: والله مانا متعلم العلم ده ..، علم ايه وهباب ايه اللى كل حاجة عايز يدغدغها كده لحد ما يبقاش فيها حاجة.
الرخاوى: قرار صعب، صعب، ولكن كيف حل الآخرون “العلماء” الأشكال.
حافظ: يا ترى فيه واحد فينا عالم فى الشجر، كويس كده وممتاز، يكون أساس نجاحه ده والنبوغ بتاعه انه قرر يعتدى على الشجرة ويقطعها حتت حتت، ويعرف عنها مجاهيل كثيرة … وصغيرة، عشان أشواقه.
الرخاوى: أين ذهبت يا حافظ؟ كشفتنا يا رجل والذى كان قد كان، ولكن عندك، أى شوق قاتل هذا؟ ولماذا؟
حافظ: لأنه يرجع هو وهى واحد ماتكويهوش، بالعربى كده، علشان ينسى الموضوع: ان هوه شجره.
الرخاوى: الله الله!! كسرت الحواجز، وفقست اللعبة، الستر يا رجل.
حافظ: يبقى مفيش قدامى غير انى أرسم شجرة علشان أحس بيها، رحمة بيها، ورحمة بى أنا كمان.
الرخاوى: ألم أقل لك لابد من أى خيط للخارج يمسكنا مثل الخطاف يمسك بالمركب الى الشاطيء، أى شيء ولو صورة.
حافظ: والنبى ده اسمه كلام؟ طيب ما هى موجودة كده، صورة، لازمته ايه بقى التقليد، ده حتى يبقى اسمه غش وربنا ما يحبش الغشاشين.
الرخاوى: من السهل أن يقول قائل أنك قرأت أفلاطون، وأنك تنقل عنه، وأنا لست أميل إلى ذلك، والا فلماذا اصراراك على الكتابة بالعامية، أصحابك وراءنا بالرفض والتحقير الجاهزين، حتى اذا أعدنا اكتشاف أفلاطون، فان هذا يدل – كما يجب أن يصفوه – على جهلنا، وكأن “اعادة الاكتشاف” تتساوى عندهم مع “استذكار الاكتشاف” للحفظ والتسميع، وكأن اللاحق ليس من حقه أن يثبت السابق ليس بتصديقه وانما بالوصول إلى ما وصل إليه، حجروا على الابداع أصلا، فلم نستطع أن نتحمل حتى مسئولية حفظ نتاجه، ثم قصرنا فى استيعاب أبجدية جديدة تصلح للتعبير عنه، فحق لهم تصنيفنا، ولكن هل يمنع أى من هذا أن ترى ما رأيت، ليكن الفن تقليدا للتقليد، أو تجريدا للتقليد، ولكنه صلة ما، فهل أغناك؟
حافظ: بس ده حرام، أولا لأنى غيرت شكلها، اعتديت عليها وشوهتها من غير ما استأذنها .. وبعدين الحكاية دى غش برضه، ازاي، ما هو أنا لو أخليها تبقى عاملة زى ما تكون معنى وبس تقريبا .. ده بيخلينى أحس أنها بقت قريبة منى شوية لأنى أصلا كنت عارف معنى الشجرة من غير ما أشوف ولا شجرة.
الرخاوى: تصور يا حافظ أنى لم أصدق أبدا أن أفلاطون قد وضع المثل “فى الخارج” كنت دائما أحس أن الشجرة الأصل الشجرة المثال، الشجره الاله هى فى الداخل، وعندما يصفون أفلاطون بالمثالية، أتململ، أغلقوا المصطلح عليهم، وليس أمامنا الا التسليم أو اللغة الجديدة، وما أصعب المخاطرة، المهم، لم يسعفك الفن.
حافظ: يعنى كده كأنى بأوهم نفسي، وأنا ما أحبش أوهم نفسي، مش لاعب.
الرخاوى: وما العمل؟
حافظ: أيوه الواحد لما يحتار يرجع للدين، قالو كده، هوه البلسم هو الشافى باذنه، لا اله الا الله، … ربنا قال فى الحرب ممنوع تقطيع الشجر، والنبى عليه الصلاة والسلام قال كده كمان، شوف، أهى هى دى الرحمة صحيح … ولا بلاش …. سيبها زى ما هى اوعى تأذيها كأنها روح تمام، أهو كده الكلام … سبحانه كمان قال ان الشجر بيسبح بحمده، طبعا بيسبح، هو مش ربنا اللى خلق الشجرة هو اللى خلقني، أيوه، وأنا بأسبح، أيوه يبقى أشمعنى الشجر ما يسبحش يعني.
…………
أهو كده الواحد فاهم يا جماعة كل حاجة … مش قلت لكم كله فى الدين، كله بالتمام والكمال.
الرخاوى: كله بمعنى التمام الجاهز، أم بمعنى الفتح بلا حدود؟ هلا حضرتنا: المدثر وأنا؟
حافظ: لكن الدين مش كله شجرة، يعنى مثلا حكاية الصلاة دي.
الرخاوى: حاسب، عندك.
حافظ: قالوا يا اما تاخذ الدين كله يا اما تسيبه كله، وكمان الدين عمره ما قال ان أنا كنت شجرة، مش لاعب، هه، مش لاعب.
الرخاوى: وبعد؟
حافظ: أيوه، أيوه، وجدتها، هى دي: يا بن آدم، أنا خالق كل شيء، خلقتك وخلقت الشجرة، وذهبت أنت إلى الشجرة تبحث عن الظل، ونسيت أنى أنا الظل، ففارقتك أنا وغادرتك الشجرة، فلا بالظل احتميت، ولا لصحبتى احتملت، فصنعت لك شجرة، واستويت على عرشي,. اذا استوقدت حطبها، وأكلت ثمرها فاعلم أننى أنا التواب الرحيم.
الرخاوى: وهكذا نطقت بالفصحى فلماذا كانت المشادة، المهم: كأنى بك كنت معنا “هناك” فى “حضرة” المدثر، اذا فقد علمت خوفى وحذرى من هذه “المنطقة” وما بعدها، ولا يقدر على القدرة الا الله.
حافظ: نعم … نعم؟! ايه يا سيدي؟! دى وحدة “الوجود” أيوه أيوه، دى بقى فيها اعدام يا جميل، طيب وماله، اعدام اعدام، حتى الواحد يبقى هوه الوحيد فى التاريخ اللى انعدم علشان شجرة.
الرخاوى: من أجل شجرة أم من أجل رؤية، واعادة اكتشاف، وعجزك عن الترجمة وضبط الجرعة؟
حافظ: بس انتم عارفين يا جماعة .. المصيبة الحقيقية ان ما فيش حد ياخد فى باله، ولا يعدمونى ولا حاجة، أيوه هوه مين يقدر يفهم فى وسط الزحمة دي.
الرخاوى: أمر المر يا حافظ أن تحتاج إلى من يسمعك حتى لو كان الثمن رفضك حتى القتل!! فما العمل بعد كل هذا؟ رحلتك سريعة الايقاع وكأنك تلخص تاريخ خيبة البشر.
حافظ: بصراحة بقى صعب قوى ان الواحد يكون كل ده جواه ويطلع الأتوبيس أو يقف فى طابور الجمعية، صعب قوى … كمان مش ممكن أقعد فى الصحرا وأرعى غنم ومعيز، وأتعبد، ده أنا متهيألى ان حتى الصحرا مبقاتش فاضية، كلها جاز دلوقتي، ثم ده اسمه انسحاب، أيوه انسحاب، مش لاعب …
الرخاوى: أفهم أنك رفضت الانسحاب أيضا، ماذا بقى اذا؟
حافظ: كان ليه يا آدم كان ليه؟ كان ليه يا أخى تاكل من الشجرة، يعنى هوه انت كنت أيامها بتاكل، أو كنت عمرك جعت، أو حسيت بالجوع، أديك كنت الشجرة يا سيدي، كنت انت وهو وهى واحد.
الرخاوى: أين أنت ذاهب؟ لعلك تتكلم عن نفسك، هكذا أفهمك وأنت تعيد الحكاية من داخلك.
حافظ: أنزل يا حلو بقي، اشرب ثمن عملتك، انزل قطعها وقسمها وفرتكها، فرتك نفسك، اضرب سكاكين فى كل حته منك، وان ما قدرتش انقلها زى ما هية، غش يعني، قلدها، واوهم نفسك، واستمنى يا حلو انك انت وهى تبقوا واحد، استمنى بقى لعبة بايخة، أو اعمل نفسك خلاص معاها، وقول عنها كلام لا حد فاهمه ولا حد راح يفهمه … يمكن كمان يقتلوك يا جميل بسببه، ويكون ايه السب: انك كافر، واكتوى يا حلو بنار الشوق أن تبقى شجرة تانى يا حلو، آدى آخرة عدم سماع الكلام.
الرخاوى: صعب، صعب أن ترى هذا، وأصعب منه أن تكتبه، وأصعب منهما أن يفهمك أحد، فيا ترى هل ستلف حول نفسك، أم تدعى الابداع بكل هذا الغموض؟ أم تذهب تجمع الرموز وتصقلها، ويطول جمعك حتى تنسى الخبرة التى جمعت من أجلها أدوات اللغة؟ افعل شيئا قبل أن يبنى الفعل للمجهول، فتبحث عن فاعل ضمير مستتر تقديره هو.
حافظ: أنا كمان كلت، لكن يمكن الفرق ان ما حدش قال لى انه محرم، شيء من جواى قال لى انه حلال، حلال انى أحب أكون شجرة، حلال أنى أتعذب وأنا نفسى أحس بشجرة.
الرخاوى: كل ما حملت مسئوليته فهو حلال، لكن الأمر يحتاج إلى جهد أكبر، ونفس أطول، وناس أكثر، وصبر أعظم، لا أملك لك شيئا، لا أوافق، ولا أتغافل، وعليك الباقي.
حافظ: نفسى أرجع شجرة، ويمكن اللى يغفر لي، أنى أنا الشجرة وأنا الجوع الشيطان، وأنا الثمرة اللى اتكلت، وأنا اللى حاشق سكك الغربة عني، عن الشجرة، وان يكون كل ده جوايا، وأكون شايفه.
الرخاوى: تشق سكك الغربة، هذا هو شرفك ونتاج رؤيتك، أما أن تقف عند الشوفان فاسمح لي.
حافظ: …. تبقى هى دى مأساتى
****
(“مأساة الفتى حسام”: عنوان المقال الخبرة، الذى رفضناه للعامية، ثم اقتطف أغلبه ليكون حوارا، فهل اقتربنا أم اغتربنا؟).
[1] – يشير إلى مقال لى بعنوان: صورة الرئيس: قص ولصق (الأحرار 14 / 2) حيث ذكرت مناقب ومثالب المرحوم السادات بتداخل رفضه الطرفان.
[2] – حذف التحريرهنا كلمة “والا . . فــ .. ” وهى تأتى فى رسالة الكاشف بعد “شرايره” مباشرة، وتم الحذف لسياق الحوار دون اخلال بموقف الضيف، لأن اثباتها يضاعف التناقض، وقد أوردنا هذا الهامش خشية أن يكون قد جانبنا الصواب
[3] – يا حبذا لو راجعت معركة جاد الرب معى حول هذه المن التى يعشق بناءها ولا يكل من الدعوة للعيش فيها – يمكن أن ترجع إلى الأعداد الأولى من هذه المجلة.