الأفتتاحية
من يقرؤنا؟
– 1 –
… اذن، فنحن لم نكن وحدنا يوما، وفى أصرار كريم .. تحملنا قراؤنا واكرمونا بالصحبة والتلقى، والى درجة أقل: بالهمس والحوار، فحق لنا أن نأمل اكثر: لنلتزم اكثر.
ولكن: من هو قارؤنا؟
ان الخطابات التى تصلنا – وهى جد قليلة – تتركنا مع حقيقة أن الجزء الأكبر من قرائنا ما زال مجهولا، أما الجزء الأقل فيمكن أن نلتقى فيه مع شاب يعيش فى طرف الدنيا العامرة بغير ما يعرف، فالصديق “الشربينى أحمد عبد الهادى” من عزبة شقرف مركز بلقاس يذكرنا بالكدح الذاتى المتواضع قبل اغارة الاعلام على الأحلام وهو يقول “… ولو شرحت لكم شخصيتى فسيطول الكلام .. ولكن باختصار شديد أنا لا أنام من الليل الا قليلا من كثرة تفكيرى فى العلم وما حوى،والكون وما طوى، وما يندرج تحت ذلك من موضوعات علمية وفلسفية: تتوه فيها العقول والأفكار..”و اذن: فمازال فى “عزبة شقرف” من يجرؤ أن يتوه عقله – تفكيرا وتساؤلا – دون أن يتوه هو فى غيبوبة التشنج الأيديولوجى، أو فى مغارة الحشر التحصيلى المجهض؛ هذا الشاب يقول عما نفعل “أنه ملأ فراغا شاسعا فى حياته”..
فنقول له: يا ليتنا نفعل: شكرا.
كما نلتقى بهذا المفكر أو المبدع الذى عنده ما يقوله، والذى عثر علينا اثناء تقليبه فى أكوام الأوراق المطبوعة، واذا به يتصور – لعله صدقا – أننا قادرون على تلقيه وتسهيل عبوره الى من يتصور أننا على اتصال به: قارئ يقظ مبدع؛ انه “محمد عبد المطلب” الذى يقول عن محاولتنا واستمرارنا: “… كسرت القاعدة وبقيت، ولها العناد على البقاء.. ويا له من عناد”.
فنقول له: وهل نملك الا العناد؟ ومن هؤلاء أيضا الموجه الفاضل أميل توفيق، عضو اتحاد الكتاب، الذى أرسل لنا “لمحة عن الفينومينولوجيا”، حسن ظن بنا، ووجدنا لدينا القدرة على الاعتذار له طالبين منه مراجعة أعدادنا السابقة حتى تكون اضافة، ويكون استمرارا.
اذن فنحن نكتشف أنفسنا اذ يكتشفنا قراؤنا، تلك الفئة التى لم تيأس ولم تنس، لم تتمذهب ولم تمرض، لم تقتل ولم تنسحب، … وهى فئة تتضاءل حتما – ربما فى العالم كله – نتيجة للاغارة الأيديولوجية والدينية التقليدية على التفكير المبدع، ودورنا الأساسى يظهر أكثر فى المرحلة المفترقية التى يجد الانسان المواصل النمو نفسه فيها: بين الابداع والجنون، أو بين الجريمة والتسليم.
ليكن …
ولكن الطريق – كما يعلمون ونعلم – أطول من كل تصور، وأصعب من كل حساب
وهل نملك – هم ونحن – أى بديل؟
– 2 –
الهدف والوسيلة:
فاذا كان هؤلاء هم قرؤانا، وكان دورنا ما ذكرنا لنواصل السعى الى هدف الدفع التطورى ضد اى استسهال تسليمى مغر، فما هى وسيلتنا الى ذلك؟
فى مجالنا هذا، لا نملك الا الكلمة، والكلمة عندنا (أو فى أملنا) هى فعل قائم بذاته وليست ديكورا رمزيا أو هدفا فى ذاتها، وبيننا من يفرح بالمقال الرصين أكثر من فرحته بالنبض المحرك (بتشديد الراء وكسرها) فيصف عددا من أعدادنا بأنه “دسم”، ويصف مقالا بأنه “رائع”، وتثور مناقشات لتؤكد أن الغاية هى أن يكون العدد “فاعلا”، وأن تكون الكلمة “مخترقة”، أما مجرد الصقل والحذق الترميزى، والتكرار الموسوعى، فكل هذا هو أبعد ما يكون عن حقيقة دورنا؛ فنحن ضد العمى بكل أنواعه: العمى باللمعان عندنا يساوى العمى بالظلام؛ كلاهما تخريب لفعل الابداع. اما بالدوران المحلى أو بالشلل الموات.
المادة الخام واللغة الصورة:
وقد واجهنا ونحن نعد هذا العدد تحديا مثيرا ظهر من خلال دعوانا بأننا قادرون على تلقى الخبرة المباشرة واستيعابها، وهذه الدعوى قد تفتح الباب أمام سيل هائل من المادة البشرية الخام: سواء من حيث فجاجة الفكرة أم تداعى الاسلوب أم اختيار اللغة، وقد أقبلنا على مثل هذا فى بداية صدورنا فصنعنا منها حوارا تطور حتى صار الى ما صار اليه، ومازلنا نجد أن هذا فتح طيب فى الكتابة المعاصرة رغم الظلم الواقع على المحاور الضيف. أما تحدى هذا العدد فقد تمثل فى هذا المقال الذى أتانا بالعامية من صديق سبق أن شرفنا بطلقات مضيئة نابعة من نبض وحدته والمه، فنرفضه ابتداء ونقرر من خلال ذلك أن نقبل بالعامية ما هو شعر (وليس زجلا) وما هو خبرة فنية مباشرة تكاد تكون صورة فجة متكاملة تصلح أن تدخل فى اطار حوار تفسيرى أو تكاملى .. وهذا ما حاولناه فى هذه المادة المشار اليها؛ حيث يجد القارئ بعضا مما اقتطعناه فى “حوار الشجرة” فى هذا العدد.
ونحن اذ نعود الى فتح ملف “العربية والعامية” ونحن ننظر فى “وسيلتنا” نتذكر التفرقة بين اللغة والكلام، ونكاد نقبل العامية حين تكون “صورة كلامية” وليست (فى المقام الأول) رموزا تواصلية – أى اذا كانت شعرا بالمعنى الشامل للشعر.
وقد يكون مناسبا فى هذا الاستطراد أن نشير الى تعقيب جاءنا من الصديق عبد الحميد الكاشف (وهو كاتب وقصصى تكررت استضافته على صفحات مجلتنا أكثر من مرة)، وفيه يتكلم عبد الحميد عن قضية العامية وكيف انه اسئ استغلالها فى رفض “ادارى” لمجموعته القصصية الأولى التى قبلت فى سلسلة (لم تظهر) “الكتاب الأول”، قبلت فنيا رأى فيها رواد افاضل (مثل جاذبية صدقى) رأيا رائعا مشرفا.
ونحن اذ نشكر له ثقته بمجلتنا المتواضعه، نعتذر عن فتح هذا الملف الخاص، ولعل فى رأينا السابق – حالا – عن الكلام واللغة وموقع العامية من ذلك ما يحفزه لنقاش يصلح حوارا مما اعتدنا الترحيب به.
– 3 –
الابداع والشباب والأصالة والمعاصرة:
وتظهر الشقيقة الجديدة “ابداع”, ونؤجل ملاحظاتنا حتى نتعرف عليها أكثر، ولكننا نجده مناسبا أن نذكر أنفسنا واياها: (1) بمسئولية الاسم (2) بضخامة التوقع (3) بتجنب التمييز بين أدب الشباب وأدب الشيوخ، فلا يوجد ابداع الا وهو شاب، وسن المبدع، أو حتى بكارة انتاجه، لا يصنفانه شابا من عدمه؛ فالابداع تجديد دائم ومغامرة مسئولة، واصالة متجددة.. وفى العددين الثانى والثالث اطمأننا أكثر، فمرحبا واملا.
وعلى ذكر الاصالة فانه يجدر بنا أن نراجع هذه التفرقة الشائعة بين لفظ الاصالة باعتبارها مرادفة للقديم التراثى، ولفظ المعاصرة باعتبارها دالة على مسايرة العصر، والخلط يأتى من تصور أن الاصالة من الاصل بمعنى الاساس، لكن الاصالة تشير الى الجودة والابتكار معا (الوسيط)، والابتكار هو الابداع وهو الجديد، وقد تكون المعاصرة – بمعنى “مسايرة” العصر – هى قمة ما يشير الى الجمود الحالى والتسليم بالقيم “المعاصرة السائدة”، وتحديد ادب للشباب كنوع منفرد، وكذلك مراجعة هذا الشائع حول الاصالة والمعاصرة يتركنا أمام الاختيار المبدئى: أما ابداع مغامر، واما تكرار مصقول أو سخيف. ومن هنا فان تقييم ما يأتينا من “مادة للنشر” لا يأخذ فى الاعتبار مقاييس نقدية محددة بقدر ما يلتزم بتقدير جرعة المعاناة الشخصية والمغامرة، فليعذرنا من يجدنا قد اعتذرنا له، وبديهى أن رفضنا النشر بامكانياتنا النقدية المتواضعة لا يقلل من شأن المادة التى وصلتنا، بل لعلها “أحسن” من أن تنشر لدينا، ولعل لها فرصة أفضل فى مكان افضل ..
– 4 –
هـذا العدد..
ونأمل أن يجد القارئ فى هذا العدد محاولة مستمرة لأن يتناسب الشكل مع الأمل والمحتوى، وأن يقبل عذرنا عن بعض شوائب المحاولة السابقة مما سنحاول تلافيه.
ثم نقرأ معا كتابين يقدم أولهما د. عاطف طنطاوى عن أزمة الانسان الحديث والمجتمع المجرد (أو التجريدى)، ويقدم الثانى د. مجدى عرفة عن “الحضارة .. والمعرفة .. والوعى”، واذ ينبهنا مؤلف الكتاب الأول “زيدرفيلد” الى مخاطر اختفاء “المعنى” من الفعل، وتهديدات العقلية التجريدية البديلة عن الحقيقة الجوهرية والكلية الوجودية لما هو انسان – نجد أن “فوجل” (مؤلف الكتاب الثانى) يتحدانا بتقديم تجربة اليابان، حيث سخرت الجزئيات جميعا لخدمة الدفع البشرى الكلى عندما استطاعت أن “تعى” المعلومات فى ابداع منتج متصل، وما اسميناه “نقرأ معا” هو الاسلوب الذى فضلناه عما هو ترجمة مباشرة أو تلخيص مباشر. وهو اسلوب يتجاوز الترجمة ولا يدعى الاصالة، ونحن نجدنا أحوج اليه حيث المعارف تكاد تكون أزلية متكررة، أما اعادة صياغتها من المادة الجديدة والمعلومات الجديدة فهو ما يحدونا الى “القراءة معا” لعل وعسى.
ويعود الصديق الشاب محمد يحيى يذكرنا بقضيتنا المستمرة عن التطور والغائية، فيكتب هوامشه الحوارية فى تكثيف شديد نقبله “كما هو” فى اطار الاصرار على جدية التلقى من جانب، وتقبل “الجرعة الأولى” من جانب أخر خوفا عليها من التشويه أو التراجع عند اعادة الصياغة او تحت ضربات الوصاية المرجعية الكاسحة.
وفى مقابل ما تحوى هذه “الهوامش” من نظرة افتراضية طموحة يكاد يجزم نبضها باحتمالات شديدة الثراء يرجعنا الدكتور السماحى – فى مقاله عن “تهافت الفيزياء” – الى أرض الحواس المضبوطة، وان كان يستعمل نفس قضبان السجن الحسى فى تحقيق حرية نقدية ثائرة، وهو اذ يحذق هذه اللعبة التناقضية يواصل رفضه للتناقض المنطقى والتعبيرى فى كل آن. وما زلنا نجد فى هذا التباين المثير فى المواقف ما يميز هذه المجلة بوجه خاص من قبول لمختلف وجهات النظر مع الالتزام باعلان “موقفها المنحاز” تقدمه قبل المقال حفزا للحوار وأملا فى المواجهة بالاستمرار.
وفى مجال النقد يهل علينا ضيف عزيز هو د. ابراهيم ابو عوف اذ يقدم لنا بعض وجوه الانتحار كما رآها “ديستويفسكى” من خلال المهندس “كيريليوف”، دون أن يغفل الاشارة الى النشاطات شبه الصرعية التى تميز بها “عالم” ديستويفسكى؟.
أما المادة الأدبية المباشرة فنتركها بين يدى القارئ دون تقديم؛ حتى لا نصادر على تلقيه المبدع ابتداء، وان كان الزميل د. عادل مصطفى قد قام بجهد جاد كريم فى تقويم مادة العدد كله وهو يعد – باسلوبه المتميز – “افتتاحية بديلة”، ويبدو أنه قد قرأ المادة بكرم وأمانة فقال فى اغلبها قولا حسنا، وكان من رأيه أن فى هذا رسالة احترام للكاتب وترحيب به، وقبلت الفكرة لأول وهلة، الا أن النقاش مع الآخرين رجح أن يكون مثل هذا الموقف النقدى قراءة فى مادة العدد تمثل رأيا شخصيا مسئولا، فيأتى موقعها فى نهاية العدد، بل ربما يكون من الافضل أن يأتى فى عدد تال حتى نتجنب الحكم الصادر تماما، وهذا ما انتهينا اليه، وهو ما ندعو اليه من يشاء من قرائنا أن ينقد عددا بأكلمه اذا وجد فيه ما يستحق ذلك.
واخيرا، نجدنا ملزمين بكلمة شكر للفنانين التشكيليين الذين استضافهم الزميل عصمت داوستاشى فقبلوا فى كرم أن يدعموا الكلمة بفيض ابداعهم، أما الشكر الحقيقى فهو أن نكون أهلا للثقة بحق.