عدد ابريل 1981
“هنرى إى”
HENRY EY
والمرض النفسى والتطور
د. يسرية أمين
الموجز
تقدم هذه الدراسة محاولة الطبيب النفسى الفرنسى هنرى إى فى التوليف بين الاتجاه الدينامى والاتجاه العضوى فى نظرية متكاملة فى الأمراض النفسية, كما نوضح كيف استعان هذا المفكر بمباديء هوجاج جاكسون فى بناء مذهبه وكيف انطلق من هذه النقطة إلى نظرية تحمل موقفا جديدا تجاه المريض والمرض النفسى بل تجاه العالم بأكمله.
إن الصراع بين الفكر الدينامى والفكر الآلى لتفهم الأمراض قديم قدم تاريخ الطب, كما أن التأرجح المستمر – بل وربما سيكون الدائم – بين هذين المذهبين وتداخلهما وتضادهما وتتابعهما فى توجيه التفكير والبحث والسيطرة إنما يمثل إيقاع التاريخ الطبى وحركته الديالكتيكية, ويمكننا أن نتتبع هذا الصراع من عصر هيبوقراط إلى يومنا هذا ولكن ذلك سوف يتطرق بنا بعيدا وطويلا عن موضوعنا الأساسى ألا وهو مفهوم هنرى إى فى العضوانية الدينامية فى مجال الأمراض النفسية وقبل أن نستطرد إلى هذا الموضوع نود أن نوضح ما هى سمات الموقف الدينامى فى التفكير وسمات التفكير وسمات الموقف الآلى من ناحية أخرى حيث أن هذين الاتجاهين يشكلان الخلفية التى ساهمت فى تكوين دعامات وأسس مذهب هنرى إى فى العضوانية الدينامية. إن المفهوم الدينامى Le dynamisme للمرض هو مفهوم حيوى (1) vitaliste بيولوجى biologique وكلىtotaliste قائم على مفهوم مذهب الأخلاط (2) humoral وهو قائم على تفهم علم الأمراض بطريقة كلية ولافية لاتهتم بإعتبار المرض جسما غريبا وإنما بوصفه جزءا من سلسلة من الترابطات المتعلقة بحياة المريض نفسها, فهو جزء لا يتجزأ من “الميكانزم الجوهرى للحياة” “Le mcanicisme intrinsque de la vie” والمرض فى هذا التفكير لا يعتبر إصابة ولكنه تدهور يبدو فى صورة خلل وظيفي.
أما المفهوم الآلى La mcanicismeفهو مفهوم تشريحى anatomisteقائم على أساس أن الجسم مصمت solidiste , ذرى atomistique , وهو يتفهم الأمراض بطريقة تحليلية تسعى إلى عزل نوعيات من المرض. وفى هذا التفكير يكون المرض ناتجا عن سبب خارجى على الجسم لابد من الكشف عنه ومقاومته, ويسمى هذا النوع من الطب بالطب التحليلى وهو قائم على تفكير مادى محدد بجسم الإنسان الذى ينظر له على أنه مجموعة مختلفة من الأعضاء أو الأجزاء التى تشارك بإضافة قواها وبتجاور صورها فى تكوين وحدة إجمالية. وعلى هذا فإن الدينامية مستوحاة من مصدر بيولوجى وفسيولوجى فى حين أن الآلية مستوحاة من مصدر فيزيائى وشكلي, وفى حين أن التيار الأول يقبل استقلالا ذاتيا نسبيا بالنسبة للحياة فإن الثانى يجعل من الحياة نوعا من المادة ولكنها تتميز بكونها أكثر تعقيدا, وفى حين أن الدينامية تقبل نوعا من اللاحتمية فى الحياة وتغيراتها فإن الآلية محسوبة بطريقة حتمية. وقد حاول هنرى إى أن يزاوج بين هذين التيارين من خلال تفكيره وبحثه ولقد أستبدل المفهوم الآلي (3)فى الأمراض النفسية – الذى يقف منه موقفا متشددا – بالعضوانية. (4) وهذين التيارين يشتركان معا فى نسبهما المرض إلى سبب عضوى أو فيزيائى إلا أن العضوانية تنظر إليه من خلال منظور مختلف يقبل تفاعل الأجزاء المختلفة ولكنه يستبعد تفتيت المرض إلى أجزاء معزولة عن بعضها كما هو الحال فى الآلية. وبالطبع فإن هذه الفكرة – زواج الدينامية والعضوانية – قد نبعت من موقف هنرى إى من الإنسان فهو يقول: ” إنه لمن الملائم أن نرى فى الكائن الحي, كصورة فى الوجود, ليس فقط بناء هندسيا ولكن “صيرورة” devenir تحول نظرتنا إليه من نمط الحيوية إلى نمط الانسانية”. وفى مكان آخر يكتب: “إنه من الواجب علينا أن ننظر إلى الحياة النفسية كشكل لتنظيم, حيث الحياة العضوية تشكل شرطا أساسيا لها ولكنها فى نفس الوقت غير كافية لتفسيرها”. وعلى هذا الاساس فإن هنرى إى رفض أن يفصل فى تفكيره بين الجانب العضوى والجانب المعنوى وسعى جاهدا من أجل الوصول إلى مفهوم دينامى ديالكتيكى فى العلاقة بين الفيزيائى والمعنوي.
وإذا كانت الخلفية التاريخية لمفهومى العضوانية والدينامية, وكذلك موقف هنرى إى من الإنسان قد لعبت دورا هاما فى تكوين فكرته فإن هناك عاملا ثالثا قد لعب دورا أساسيا فى بلورة وتشكيل مفهومه فى العضوانية الدينامية, هذا العامل الثالث والأساسى هو مباديء هو جلج جاكسون فى التطور والإنحلال للوظائف العصبية والنفسية. فلقد قام هنرى أى مع ج. روا J. Rouart. فى عام 1936 بدراسة أعمال هو جلج جاكسون وتوصلا إلى أن أفكاره يمكن أن تطبق على الأمراض النفسية بأبعاد أوسع مما تخيل طبيب الأعصاب الإنجليزى نفسه. وقد كان استعمال هذه المباديء – حتى ذلك الحين – قاصرا على تفسير الإنحلالات المحددة فى الأمراض العصبية, أما فى مجال الأمراض النفسية فقد كانت هذه الأفكار محل رفض من الذين يؤمنون بالمسببات النفسية la psychogense للأمراض النفسية كما كانت محل رفض من الذين يؤمنون بالتفكير الآلى لتفهم الأمراض النفسية, حيث أن المجموعة الأولى كانت مرتابة فى استعمال مبدأ التحديد العضوى الضيق وغير المقبول لتفسير المظاهر الذهانية والعصابية فى حين أن المجموعة الثانية لم تكن لتقنع بالأشارة إلى مفهوم الإنحلال لتفسير الاعراض التى طبقا للمباديء الأساسية لهذا المذهب لابد أن تخرج فى شكلها المميز عن عملية إثارة أو عن ميكانزمات مشابه للإثارة فى حين أن الإنحلال عملية أوسع من كونها إثارة محددة.
ومن الملاحظ أن هنرى إى فى دراسته لأعمال هوجلج جاكسون وفى جهوده الخاصة لتطبيق مبادئه فى التطور والإنحلال فى مجال الأمراض النفسية قد ارتبط بروح النظرية اكثر من حرفيتها. وقد قدمنا فى العدد السابق المباديء الاساسية لهوجلج جاكسون وسوف نتطرق الآن إلى تفسير هنرى إى واضافاته لهذه المباديء.
1- بالنسبة للمبدأ الأول- وهو التسلسل التصاعدى فى الوظائف – الذى يتضمن أن التكامل بين نمو الجهاز العصبى والجسم ككل ينتج عنه تطور فى وظائف الحياة العلاقاتية Les fonctions de la vie de relation حيث تخضع فيها المراحل الأولية أو للسلفى للتنظيمات العليا وتدمج معها. ويستوحى هنرى إى من مثال التطور أو التسلسل التصاعدى فى الأمراض العصبية – حيث يكون هذا التسلسل ممثلا مكانيا عن طريق ترتيب الأجهزة العصبية – مبدأ التطور الوظيفى فى مجال الأمراض النفسية, فهو يفسر هذا الأخير على أساس أنه يحدث كما لو كان نظام طاقة ينمو فى الزمان (5).
2- وإذا كان الافتراض الثانى لهوجلج جاكسون هو أن الحالات المرضية تمثل حركة إنحلال للوظائف النائمة يترتب عليها تحرر كيانات غائرة أو تحتية, فإن المرض يمثل نكوصا فى الجهاز الوظيفى لمستوى أدنى سابق وواقع قبل هذا المستوي. ولقد قسم هوجلج جاكسون الاضطرابات إلى سالبة troubles ngatifs (وهى تمثل الأثر المباشر للعملية المولدة للاضطراب) والاضطرابات الايجابية les troubles positifs (وهى تمثل رد الفعل العملى الذى من شأنه محاولة إعادة البناء reconstruction وإعادة الدمج والترابط Reiniegration بالنسبة للمستوى المتبقى بعد الإنحلال), ويضيف هنرى إى أنه من هنا يبدو جليا الصفة التطورية الحية ألا وهى البناء الدينامى لهذه الحالات الإنحلالية.
3- أما بالنسبة للوجه الثالث لنظرية هوجلج جاكسون وهو التمييز بين الإنحلالات “الكلية” أو “المنتظمة” والإنحلالات “الجزئية” أو “المحددة” فلقد كانت نقطة بداية بالنسبة لهنرى إى مكنته من تحديد نوعى الإنحلال الذى يحدث فى كل من الأمراض العصبية والأمراض النفسية على التوالي. لقد استعان هنرى إى بمبدأ التصاعد التسلسلى الوظيفى الذى يشمل على نمو الوظائف “العلاقاتية” حيث نظر إلى تلك الأخيرة على أنها سلسلة من المستويات تبدأ من الوظائف الأولية المحددة فى شكل أجهزة مرتبطة بالمادة العصبية لتصل إلى الوظائف الأولية المؤدية للولافات الوظيفية الأكثر اتساعا وتعقيدا فى الحياة النفسية مثل وظائف الوعى وأداء الشخصية. وأضاف هنرى إى أن تفكك الوظائف الجزئية المسجلة والمنظمة عن طريق أجهزة عصبية تعرف بالتفككات “الحسية الحركية” وتقع فى مجال الأمراض العصبية فى حين أن تفكك الدوائر العصبية العليا – التى لا يمكن إلا أن تكون كلية حيث أن من طبيعتها السيطرة على الحياة النفسية ككل وهى التى تكفل حمل وتلك الأخيرة إلى أعلى درجات التكامل – تقع فى مجال الأمراض النفسية.
4- أما المبدأ الرابع وهو الموقف المضاد للتصنيفات المرضيةprincipe antinosographique وهو المبدأ المبنى على ما تقدم من أفكار هوجلج جاكسون حيث أن النتائج المترتبة عليها تشير إلى أن الصورة الإكلينيكية للمرض تتكون بتحرر الكيانات الغائرة مما يقلل من الأثر المباشر للعملية المسببة للمرض ومما يضعف من فكرة تشكيل نوعيات مرضية تشريحية إكلينيكية مميزة. ففى رأى هنرى إى أن على الاكلينيكيين أن يدرسوا مستويات الانحلال الناتجة من عوامل مسببة مختلفة.
العضوائية Organocisme :
إن مفهوم هنرى إى القائم على أفكار هوجلج جاكسون لابد أن يكون عضويا حيث أن تفكير هذا الأخير قائم على أساس أن أى تغير فى الحالة العقلية لابد وأن يكون مشروطا باضطراب فى الوظائف العضوية وعلى الأخص العصبية، ويواكب هذا التغير انقلاب فى التنظيم الوظيفى القائم، والسؤال الذى يطرح نفسه الآن هو: “ماهى نوعية هذا الاضطراب العضوى فى مفهوم هنرى اي”؟ وللإجابة على هذا السؤال إستمد هنرى إى فكرته من تفهمه للعلاقة القائمة بين ما هو فيزيائى وما هو معنوي. وقد استبعد هنرى إى من منهجه الفكرى “الثنائية الديكاريتة” le dualism cartesian التى تشير إلى أن ما هو عضوى فهو آلى وما هو نفسى فهو غير عضوي، فقد رأى هنرى إى أن العضوية والنفسانية ليستا مادتين مختلفتين وإنما هما مستويات بنائية مختلفة فى السلم التطوري. إن هنرى إى يرى العالم كله من خلال هذا المنظور كما لو كان مكونا من سلسلة متصاعدة من “البناءات “structures أو “الصور”formes التى تنتظم بحيث أن كل بناء علوى يتضمن البناءات السفلى بل ويتعداها, وأن كل بناء سفلى شرط لوجود البناء الأعلى لكنه غير قادر على شرحه, والسلم التصاعدى فى مفهوم هنرى إى يحوى بناءات نفسية, وكما أن البيولوجيا لا يمكن اختزالها إلى ما هو كيميائى – فزيائى فإن النفسانية لا يمكن اختزالها ببساطة إلى وظائف عضوية. وإذا كان ما تقدم هو مفهوم هنرى إى للسلم التطورى ببساطة فى بنيات العالم المختلفة فإنه يرى أنه يمكن التمييز بين قطبين فى الوظائف النفسية تتجلى فيهما الصفة التطورية:
فتوجد الوظائف النفسية المرتبطة والقريبة من صورة الجهاز العصبى مثل المعرفة المباشرة gnosie والحركه الإرادية القائمة على فكرة الحركة,Praxie ووظائف اللغة fonctions du langage ومجموعة ردود الفعل الشرطىsystemes de reflexes conditionnels أما القطب الثانى فيتضمن الوظائف النفسية الطاقاتية مثل وظائف التكيف مع الواقع, ووظائف الوعي, وتلك الوظائف الأخيرة تكون نوعا من النشاط المفتوح : بطريقة لانهائية للتطور المعرفى والإرادى . ونشاط هذا النوع من الوظائف العليا يدخل فى حياة الإنسان تغيرات يمكن أن تعتبر نفسية بصورة قاطعة, وهكذا يصل بنا هنرى إى إلى أن ما هو نفسى فهو قائم على النشاط العضوى لبعض المستويات الوظيفية العليا ويمضى هنرى إى فى تفكيره فينسب الأمراض النفسية إلى نوع من التغيرات التى تمثل الخط المضاد للتطور – وهو النكوص – وهى ناتجة عن الأثر المعطل أو الهدام الذى تحدده الاضطرابات الوظيفية العضوية بالنسبة للنشاط النفسى وهكذا يقترب هنرى اى أكثر من نوعية الاضطراب العضوى الذى يسبب الأمراض النفسية فهى عبارة عن تغيرات فى البناءات التحتية وهى تظهر فى صورة انحلالات أو نكوص فى النشاط النفسي. ويمضى هنرى إى فى شرحه ملقيا مزيدا من الضوء على نوعية الإنحلال الذى يؤدى إلى الأمراض النفسية من خلال الأمثلة التى يطرحها, فهو يرى أن الإنحلال الكلى الذى يحدث فى النوم والذى يولد الأحلام قادر على شرح كثير من الحالات السيكوباثولوجية, ففى حالة النوم والأحلام العادية, يحدث نوع من الإنحلال الشديد المفاجيء شديد العمق ويرى هنرى إى أنه يمكن اعتبار الدرجات البينية من حيث شدة المفاجأة والسرعة سلما من المستويات يفسر ما يحدث فى الحالات النفسية غير العادية.
ومن أجل مزيد من التوضيح والتمييز بالنسبة لنوعية الانحلالات فى مجال الأمراض النفسية يضيف هنرى إى أن تفكك الوظائف الأدوية les fonctions instrumentales تبقى جزئية ومعزولة, مثال لذلك الحبسةaphasia , والأجنوزياagnosia , والأبراكسيا apraxie وهى بالطبع من اختصاص الأمراض العصبية. وكان من الطبيعى أن يتطرق هنرى إى إلى مفهوم المراكز المخية من خلال منظوره إلى الوظائف الأدواتية (مثل أجهزة الاستقبال ومراكز اللغة.. الخ) والوظائف الطاقاتية التى تنظم الحياة النفسية, فيضيف هنرى إى أن التحديد الصارم لهذه المراكز فى بعض النقاط فى الجهاز العصبى لا يتعارض مع فرضه كما لا تفرضه فى نفس الوقت حيث أن أى مركز منظم يمكن أن يشغل نقطة ما ( فى الوظائف الأدواتية) كما يمكن أنه يوافق مجموعة لانهائية من النقط (الوظائف النفسية) وهذه المسألة سوف يقطع فيها ما سيأتى من الدراسات فى مجال الأمراض المخية فى المستقبل.
الدينامية Le dynamisme :
أما بالنسبة للشق الدينامى فى نظرية هنرى إى فيبدو جليا فى العديد من أوجه نظريته. فهو يفترض أن العصاب والذهان ينتجان من خلل (نقص) طاقاتى deficit energitique فهنالك طاقة معينة “أو شدة نفسية” tension psychologique كما أسماها جانيهJanet – تحافظ فى الحالات العادية من اليقظة vigilance على توازن الغرائز والتى تؤكد فى نفس الوقت دقة وفاعلية أفعالنا وأفكارنا وتساعد على تكيفها مع الواقع. وهنرى إى يؤمن بأن الحياة النفسية فى صورها المختلفة تختلف من حيث الشدة النفسية المصاحبة لها, فهى عالية تارة ومنخفضة تارة أخرى.
وتبدو النزعة الدينامية فى نظرية هنرى إى حين يصف الذهان على أنه ينتج عن التحرر الفوضوى للكيانات أو العناصر الدينامية الغائرة أو التحتية, فإن العملية المرضية لا تؤثر على مادة جامدة ولكن على نظام مورث أو مكتسب من الطاقات المنظمة, وتبقى هذه الكيانات أو العناصر الدينامية خاضعة للنظام السائد أو محجور عليها إلا أن انخفاض الشدة النفسية يؤدى إلى تحررها, وهى ماجرت العادة على تسميتها باللاوعى تارة وبالغرائز تارة أخري.
أما الوجه الثالث فى نظرية هنرى إى الذى يظهر فيه البعد الدينامى فهو ما وصفه “بالشغل التطوري” للذهان “le travail evolutif”, ويطلق هنرى إى هذه التسمية على التغيرات التى تحدث فى وعى وشخصية المريض كنتاج للخلل الطاقاتى وردود الفعل الحية للكيانات أو العناصر الدينامية النفسية المتبقية بعد الإنحلال وميول الشخصية.
ولقد وجد هنرى إى أن هناك سلما متدرجا لمستويات الإنحلال مطابق للتسلسل التصاعدى للوظائف النفسية, وحاول هنرى إى أن يضع بيانا مختصرا لها كالآتي:
1- إنحلال الوظائف النفسية العليا التى تضمن تكامل وترابط الشخصية على المستوى الإجتماعى (مثل السلوك المتكيف, التمسك بالقيم المعنوية والاجتماعية الخ…).
2- إنحلال الوظائف التى تؤمن “اتزان المزاج” “Le equilibre thymique” أو بمعنى آخر تكامل القوى الغريزية والعاطفية فى التكيف مع الواقع.
3- إنحلال الوظائف التى تكفل التنظيم الاستقبالى للعالم الخارجى والعالم الداخلى كما تكفل التمييز بوضوح بين الذاتية والموضوعية المعاشة.
4- إنحلال الوظائف العقلية الأساسية.
ويضيف هنرى أى أن هذه الانحلالات تتمثل إكلينيكيا على التوالى فى الصور الآتية:
1- حالات اضطراب السلوك.
2- حالات الهوس أو الميلا نخوليا (الاكتئاب).
3- الحالات الحالمة أو الهلوسية أو ضلال التأثير delire d”influence أو ضلال تغير مفهوم الذات delire de depersonalisation.
4- الحالات الخلطية الحالمة etats confuso-oniriques وكل هذه الحالات تكون مجموعة مميزة من حيث أنها ترجع إلى تغيرات فى بناء الوعى “alterarion de la structure de la conscience” أى بتعبير آخر فى وظائف التيقظ التى تسمح لنا بالتكيف مع كل لحظة حالية, وتتميز هذه الحالات فينومنولوجيا بخبرات سيكوباثولوجية معاشة Vecu تبدو فى آنية المقابلة بين الطبيب والمريض وهى توافق ما أسماه ياسبرز “التجارب الضلالية الأولية” les experiences delirantes primaires وهى تلك التى يمكن أن تكون موضع ” تحليل الوجود” Daseinanalyse والتى يمكن أن تكشف عن التغيرات التى تحدث فى التبادلات بين الكائن ومحيطه من حيث أنها تبحث فى الانقلاب bouleversement الذى يحدث فى الحياة النفسية الحالية كما تبدو فى قطاع عرضي.
وهنالك بعد دينامى آخر فى نظرية هنرى إى يظهر فى وصفه للتغيرات التى تحدث فى بناء الشخصية alteration de la structure de la personalit وتلك الأخيرة كما يشير هنرى إى تنتج من إعادة تنظيم مستويات الانحلال. كما يضيف هنرى إى مزيد من الوضوح على فكرته فيشير إلى أن هنالك بعض الذهانات التى يقال عنها أنها “حادة” “aigue” تؤدى إلى حالات انحلالية- وقتية وبسيطة – للوعى بدون تداخل دائم من “خبراتها المعاشة” فى مسار الشخصية فى حين أن هناك نوعا آخر من الذهانات تحدث فيه تغيرات مزمنة فى الشخصية تأتى على أرضية من اضطرابات الوعى الدائمة بصورة ثابتة أو بصورة متدرجة فى التدهور (الفصام والعته)، وهنالك مجموعة أخرى تكون تغيرات مزمنة عصابية أو ضلالية تحدث كنتاج ثانوى للتأثير التحتى أو الغائر أو المجاور لاضطراب الوعي، وتتميز كل من المجموعتين الأخيرتين بإنقلاب فى مفاهيم وفى قيم الشخصية كنظام إيديولوجى وبرنامج حيوي. وهذه التغيرات الأخيرة توافق “البناءات الضلالية الثانوية” لياسبرز “les elaborations secondaires” وتلك يمكن أن تكون موضوع “تحليل للوجود” “Daseinanalyse”وهذا الأخير يتناول تغيير الشخصية كنظام من القيم وكتطور تاريخى وذلك يمكن أن يتبدى من خلال منظور قطاع طولى فى الشخصية.
بعض النتائج العملية لفاهيم هنرى إى:
فى ضوء المفهوم العضوى الدينامى حاول هنرى إى أن يوضح بعض النتائج المبنية عليها والتى يمكن أن تكون بمثابة موجهات للتفكير فى علم الأمراض النفسية أكثر من كونهما مسلمات نهائية وسوف نسرد هنا بعض هذه النتائج.
بما أن الذهانات المختلفة فى منظور هنرى إى تمثل تغيرات كلية فى بناء الشخصية والوعى فإن تناول الأعراض بالطريقة التحليلية الكلاسيكية التى تسعى إلى تفتيت المرض إلى عناصره – تصبح عاجزة عن تفهم المرض النفسى ولهذا فهو يقترح أن يحل محلها تناول فينومنولوجى بنائى أكثر حيوية وواقعية يسعى إلى اختراق التجارب المعاشة أو المجموعات الكلية آخذين فى الاعتبار بالكائن فى ارتباطه وتفاعله مع العالم.
ويحاول هنرى إى أن يلقى بعض الضوء على الأثر العلاجى للصدمات الكهربية فى الأمراض النفسية من خلال نظريته فيفسر قدرة ذلك النوع من العلاج على تغيير الصورة الاكلينيكية على أساس أن العلاج الكهربائى قادر على تحريك مستويات -كانت حتى تلك الآونة خاملة – وهذه الأخيرة يمكن أن توقظ شغلا بنائيا يسعى إلى إعادة البناء ويسمى هنرى أى هذا النوع من النشاط “بالإلتئام النفسي” .cicatrisation psychique
وهنرى إى كطبيب نفسى مؤمن بمكانة العلاج النفسى فى مجال الأمراض النفسية يتطرق إلى هذا الموضوع من خلال نظريته, فهو يرى أن حركة العملية العلاجية فى العلاج النفسى تأتى بين إحداثيين أساسين وهما فعل أو أثر action شخصية المعالج ورد فعل reaction شخصية المريض, فهى فى رأيه عملية دينامية يشترك فيها كل من المعالج والمريض وهو يرى أن أى علاج نفسى هو فعل إجتماعى تختلط فيه شخصية بشخصية أخرى وتخترق شخصية أخري, ويضرب هنرى إى أمثلة توضيحية فيسرد أنه فى حالة التنويم المغناطيسى – وهو نوع من العلاجات التى استخدمت قديما – يقف المنوم وينقل إليه أو يفرض عليه شكلا من التفكير السوى والجاهز, أما فى التحليل النفسى فإن المحلل النفسى يجبر لاوعى المريض على التغيير من خلال انكساره فى وعى الآخر, أما فى العلاج بالعمل والعلاج الجمعى فإن المعالج يوجه قدرته فى شكل إجتماعى وإنسانى ويحميها بشخصيته. ويضيف هنرى إى أن أساس العملية العلاجية هى “فعل تكميليacte comptementaire من جانب المعالج ففى أى نوع من العلاج النفسى يكون العلاج النفسى مركزا حول شخصيه المعالج حيث أن هذا الأخير طبقا لتفكير هنرى إى يقوم بالدور الذى لا تستطيع أن تلعبه “أنا” المريض. ويؤكد هنرى إى أنه فى أى علاج نفساني, يساهم فى علاجه ويتأتى هذا من حيث أن كيانه النفسى متعطش (6) ففى حالات التنويم المغناطيسى يقدم المريض على الصورة المقدمة إليه والمفروضة عليها ويتشربها, أما فى حالات التحليل النفسى فإن المريض يبنى نفسه من جديد عن طريق الميكانزم الأساسى للطرح transfert أما فى حالات العلاج بالعمل فإن نشاط المريض الموجه يدفعه إلى أبعاد أوسع من حدود نفسه التى ألفها مما يساعده على التكيف بطريقة جديدة.
*****
وهكذا استطاع الطبيب النفسى والفيلسوف والمفكر الفرنسى هنرى إي, من منطلق تفهمه للانسان وبفضل جسارة تفكيرة وجرأته العلمية وغزارة علمه أن يضيف أبعادا جديدة لأفكار هوجلج جاكسون مكنته من أن يولف بين الموقف العضوى والموقف الدينامى فى التفكير فكانت محاولته الناجحة فى كسر الثنائية الديكارتية التى تولد عنها منهج جديد فى التفكير ونظرية متكاملة فى الأمراض النفسية. وقد سبقت هذه المحاولة محاولات أخرى فى فرنسا من جانب موردى تور Moreau de Tours فى 1845 وجانيه فى 1932 كما لحقت بها محاولات أخرى مثل محاولة بوبر Popper وأكلز Eccles فى 1979 فى أنجلترا فى وصفهما للتداخل المستمر بين النفس كنشاط دينامى والمخ كبناء عضوى والقاسم المشترك فى نظرية هنرى إى العضوانية الدينامية هو التطور فهو القنطرة التى التقى عليها التياران العضوى والدينامي, وهو المنطلق إلى النظرة الكلية الشاملة للانسان فى السواء والمرض.
المراجع
– Ey, H. (1950) Etudes Psychiatriques. Decleé de Brouwer et
Cie: Paris.
– Ey, H., Bernard, P. & Brisset, C. (1978) Manuel de Psychiatrie. Masson: Paris.
– Janet, P. (1932) La force et la Faiblesse. Psychologiques.
Maloine: Paris.
– Popper, C.&Eccles, J.(1979) The Self and Its Brain. Springer
International: West Germany.
*****
[1] – حيوى هى الصفة المشتقة من الحيوية Vitanlisme . . “وهو المذهب الذى يشير إلى أنه يوجد فى كل فرد “المبدأ الحيوى” المميز عن الروح المفكره وعن المادة” (قاموس روبير Robert 1979).
[2] – وهى الصفة المشقة من كلمة humorism وهو المذهب الطبى القديم الذى ينسب الاضطرابات المرضية إلى التغيرات فى الأخلاط أو السوائل العضوية وقديما كانت أربعة: السوداء والصفراء والدم والسائل الليمفاوى، وأعتقد أن الفكرة التى لها معنى بالنسبة لمفهوم الدينامية هى أن الصحة قائمة على النسبة الملائمة لكل منهم وأن الاضطراب فىهذه النسب يؤدى إلى المرض فهى تتفاعل فيما بينها طبقا لنسبها وينتج عن هذا التفاعل إما الصحة وإما المرض.
[3] – المفهوم الآلى فى الأمراض النفسية يرتكز على النظرية النفسية الذرية La theorie psychologique atomistique فهى تفترض أن العقل أو النفس مكونة من أجزاء وعناصر وأن العلاقة بينها هىعلاقة تجاور Juxtaposition وهو قائم كذلك على مذهب المصدر الآلىLa theorie de la genese mecanique للاضطرابات النفسية، فالآليون يؤمنون بأن الأعراض تصدر أو تولد عن سبب فيزيائى، والمفهوم الآلى يعبتر أن الصورة الإكلنيكية لأى مرض تقف مثل الهرم الذى يرتكز على رأسه المكونة من أحد أو بعض عناصره الأساسية فهو يعزو مثلا “الكاتاتونيا” إلى اضطراب فى الشدة العضلية أو اضطراب نفسى حركى، أى أن الذهان ينتج عن اضطراب تحتى معزول وليس عن تغير بنائى كلى يكون المرض هو احد نتائجه، أما الوجه الرابع للتفكير الآلى فى الأمراض النفسية فهو الميل إلى اعتبار الاضطرابات النفسية بوصفها مكونة من مجموعة من الأعراض التى تتجاور مثل الفسيفساء والتىتكون بتواجدها معا نوعيات تصنيفية مرضية.
[4] – العضوانية هى النظرية القائلة بأن العمليات الحيوية تنشأ من نشاط أعضاء الكائن الحى كلها بوصفها نظاما متكاملا، ولقد استعان هنرى إى بهذه النظرية من منطق مفهومه للمرض النفسى.[5] – لقد سبق أن أشار كل من الطبيبين النفسيين الفرنسيين موناكو Monakow ومورج Mourgue إلى نفس الملحوظة كما أن تفكير هنرى إى فى هذا المجال يتفق مع جانيه Janet حيث أن هذا الأخير يرى التسلسل التصاعدى للوظائف النفسية على أساس أنها متكاملة ومرتبطة مع نظام طاقة قائم على الشدة النفسية La tension psychologique[6] – وهنا يعنى هنرى إى أنه ينتج عن المرض فراغ أو احتياج أو شكل من أشكال العدم.