عدد ابريل 1981
العلاج النفسى الجمعى (1)
الأسس العامة لتجربة مصرية
د. مجدى عرفة
الموجز
الهدف من هذه الدراسة القصيرة هو تقديم خبرة محلية فى العلاج النفسى الجمعى تحددت معالمها من خلال ممارسة امتدت لأكثر من ست سنوات ولازالت تسعى من خلال التطبيق الحى إلى المزيد من التميز وتحديد المعالم شكلا ومضمونا ….. فهى مهمة مستمرة لانعلم حدودها او منتهاها، وننحن بحديثنا عن تجربة مصرية لانقول بأن هناك علاج جمعى نفسى مصرى بمعنى وطنى خاص، وإنما نعلن ابتداء بهذا العنوان أن البيئة تؤثر فى طريقة ممارسة هذا النوع من العلاج بقدر وافر ينبغى الانتباه إليه ابتداء، كما نشير ضمنا إلى أن طبيعة هذه التجربة التى نقدم جانبا منها فى هذا البحث غير مرتبطة مباشرة بأى تجارب سابقة منشورة، وإن كانت نابعة ضرورة من أغلب التجارب السابقة.
والدراسة تبدأ بنبذة مختصرة عن تاريخ العلاجى الجمعى فى مصر يتضمن نشأة هذه التجربة نفسها ومنه ننتقل إلى عرض الملامح والأسس العامة للتجربة .
نبذة تاريخية عن العلاج الجمعى فى مصر (2)
لعل أول محاولة للعلاج الجمعى فى مصر تلك التى قام بها د. جمال أبو العزايم مع مرضى مستشفى العباسية للأمراض النفسية، إلا أنها كانت أقرب إلى الاجتماعات منها للعلاج الجمعى بالمعنى التكنيكى الحقيقى، وقد جرت محاولة ثانية بواسطة د. فخر الإسلام فى القصر العينى مع طلبة جامعيين إلا أنها لم تستمر طويلا بافتراض أن الثقافة السيكولوجية ليست كافية لاستمرار هذا العلاج لدى المصريين، ثم تمت محاولة ثالثة بواسطة د. يحيى الرخاوى سنة1971 فى شكل مجموعة من الأزواج، (غير المرضى) وقد كانت خبرة خاصة ذات طابع تجريبى.
وفى سنة 1972 قام د. محمد شعلان بتطبيق العلاج الجمعى مع مرضى القسم الداخلى للأمراض النفسية بالقصرالعينى كما قام بمحاولة مماثلة مع مرضى مستشفى دار المقطم للصحة النفسية فى سنة 1973، وفى نفس السنة أيضا جرت محاولة بالقصر العينى للعلاج الجمعى مع مرضى نفسيين من العسكريين خلال وبعد حرب أكتوبر. وفى سنة 1975 شهدت العيادة الخارجية لأمراض النفسية بالقصر العينى مجموعة علاجية تجريبية قام بها د. الرخاوى مع مجموعة من طلبة الطب المتطوعين استمرت قرابة العام، بينما قام د. شعلان بمحاولة لتطبيق السيكودراما مع مجموعة مماثلة.
وقد تبلور الجهد المشترك للرخاوى وشعلان فى شكل جلسات جمعية يومية تقريبا فى مستشفى دار المقطم للصحة النفسية، كما انمر عددا من الأبحاث عن خبرة العلاج الجمعى فى مصر، إلا أنهما انفصلا فى عام 1974 معلنين اختلافهما فى الآراء، واستمر الدكتور شعلان فى تجربة العلاج الجمعى الذى يغلب عليه نظام (المجموعة ككل) مع اهتمامات متزايدة بالتطبيقات العملية فى مجالات الادارة والعمل الاجتماعى والتوجيه السياسى، بينما استمر أ.د. الرخاوى فى التجربة المعروضة هنا مركزا على العمل الكلينيكى حتى اكتسبت من خلال الممارسة وتطور المحاولة معالما محددة ومتميزة، وقد تم هذا التطور بالتدريج من خلال عمل متواز فى ثلاثة مراكز مختلفة:
1- العيادة الخارجية بالقصر العينى.
2- العيادة الخارجية لدار المقطم للصحة النفسية.
3- القسم الداخلى لدار المقطم للصحة النفسية.
ومن بين هذه المراكز الثلاث كان للجهد المبذول فى القسم الداخلى لمستشفى دار المقطم للصحة النفسية دورا رائدا ، فمن خلال جلساتها الجمعية اليومية التى استهدفت علاج المرضى بالاضافة إلى التدريب الخبراتى تحت اشراف دقيق لمجموعة من المعالجين تشكلت المبادئ الأساسية للأسلوب والطريقة والفكرة أوالرؤية، وأهم من ذلك كله الخبرة الشخصية والنمو الذاتى لتلك النواة من المعالجين التى وصلت بالتجربة إلى حجمها الحالى حيث يمارس العلاج الجمعى بانتظام خمسة أيام أسبوعيا فى القسم الداخلى من دار المقطم بينما تنعقد خمسة جلسات أخرى فى عيادتها الخارجية، وفى نفس الوقت تنعقد جلسات منتظمة للعلاج الجمعى بالعيادة الخارجية النفسية بالقصر العينى….. بدأت بمجموعة واحدة أسبوعيا منذ ما يقرب من عامين، ثم أصبح هناك الآن مجموعتين يشمل هدفهما إلى جانب العلاج التعليم والتدريب حيث أن المجموعات مفتوحة للمشاهدة والمشاركة للراغبين فى التعليم والتدريب من أهل التخصص. (3)
التجربة: الخطوط العامة
نبدأ هذا العرض بمهمة مبدئية لها أهميتها فى تقديرنا وهى نفى التصورات المسبقة التى نتوقع أن تقفز إلى عقول المستمعين فور سماع العنوان، فالعلاج النفسى له ارتباطات شائعة والعلاج النفسى الجمعى له تصورات جاهزة:
اولا: تصورات مسبقة للاستبعاد:
1- إن هذا العلاج ليس نابعا من مبدأ (أرخص بالجملة) creeper by the dozen ولكنه اقرب إلى مبدأ (أقرب إلى الطبيعةMore natural)، فالعلاقة الثنائية فى الحياة الطبيعية هى علاقة الطفل بأمه فى الأسابيع الأولى (أو الأشهرالأولى) فحسب، وكذلك هى العلاقة الجنسية الخاصة، أما ماعدا ذلك فان العلاقات تكاد تكون دائما بين أكثر من اثنين، وهذا لا ينفى أهمية العلاقة الثنائية فى الحياة العامة والعلاج على سواء ولكنه يحددها مرحلة على الطريق لا أكثر ولاأقل، أما حكاية أرخص بالجملة فلاشك أنها حقيقة لأن الوقت الذى يستغرقه العلاج الجمعى أقل بالضرورة من مثيله فى العلاج الفردى بلا انتقاص فى الفاعلية ( بل بالعكس أحيانا) ومع ذلك فليس هذا هو المبرر العملى أو العلمى لممارسة هذا العلاج .
2- إن هذا العلاج لا يهدف إلى التخفيف من الآلام بمشاهدة آلام الآخرين (من شاف بلاوى الناس هانت عليه بلوته) بل إن هذا الموقف مرفوض اخلاقيا وعلميا لما فيه من عوامل:
(ا) الفرجة
(ب) التشفى (اللاشعورى ضرورة).
(ج) التأكيد على الانانية (همى أقل من غيرى)
(د) وأخيرا الشفقة المتعالية
والعلاج الجمعى يرفض كل هذا، وإن قبله مرحليا وابتداء فهو يقبله كنقطة التقاء وإغراء بالاستمرار المرحلى، ولكنه يتناول كل هذه الأدوار ويعريها الواحد تلو الآخر باستمرار
3- ليس هذا العلاج بديلا عن العلاج الفردى بحال من الأحوال، بل هو مكمل له ومتناوب معه
4- ليس هذا العلاج مناقشات عقلية تفسيرية نظرية، ولكنه معايشة تفاعلية خبراتية بالضرورة.
ثانيا مخاوف: تمهيدية اختفت بالممارسة:
1- لايحتاج هذا النوع من العلاج أو يشترط فى مرضاة درجة خاصة من التعليم والثقافة النفسية (تسمى أحيانا بالسفسطة النفسية) حيث صلح له واستمر فيه الآميون وغيرهم على حد سواء
2- لايحتاج هذا العلاج درجة معينة من الذكاء، وان كانت الدرجات الشديدة من التأخر العقلى لاتستمر فيه بداهة وتلقائيا.
3- لا يحتاج هذا العلاج انتقاء متجانسا بالنسبة للسن، أو للتشخيص أوللجنس، أو لمستوى التعليم او للمستوى الإجتماعى، هذا من جانب المعالج وإن كان الانتقاء يفرض نفسه لا محاله بمرور الزمن.
4- لا يوجد فى مجتمعنا النامى ذى التقاليد المحافظة ما يحول دون انتشار هذا العلاج بكل أبعاده إلى غاية أعماقه، بحيث يمكن القول أن تصورات الموانع وإشاعات الترهيب قد ذابت أمام احتياج المرضى وصدق المحاولة
5- المقابل المادى ليس ضروريا لجدية العلاج أو عمقه أو فاعليته، وقد نجحت تجربة العلاج المجانى بالقصر العينى بنفس المستوى مثل تجربة العلاج الخاص، وإذا نفينا ضرورة المقابل المادى فهذا لايعنى أنه لايوجد مقابل آخر يدفع بانتظام من جانب المريض (والمعالج) مما لامجال لتفصيله هنا.
الأسس العامة والخطوط المبدئية
إذا كان العلاج لايحتاج أيا من هذا وليس هو كل هذا فماذا يحتاج إذا وماهو؟
إن أى علاج – كما توضح فى بحث آخر(4) – يتوقف على تحديد مبدئى شعورى لماهية الصحة وماهية المرض حيث العلاج هو الطريق بينهما، ولما كانت هذه المقولة مبدئية وأساسية فان هذه التجربة على وجه التحديد تحدد الصحة بالحركة التناسقية دائمة النمو، والمرض بتعثر هذه الحركة أو عكسها او انحرافها، وبالتالى فان العلاج هو تحويل الحالة الأخيرة إلى الأولى أو فىاتجاهها، وهذه هى نقطة البداية، فاذا حاولنا ترجمة ذلك إلى أسس مبدئية عملية لوجدنا:
أولا: النظرية:
إن المعالج عادة ما ينتمى إلى الاتجاه الانسانى التطورى فكرا على الأقل، ثم هو لابد سيكتشفه ممارسة بعد ذلك إذا كتب له أن يستمر فى ممارسة هذا العلاج أو سيختار غيره إذا لم ينجح فى تنمية داخله ، وبألفاظ أخرى فلا يمارس هذا العلاج عادة من يميل إلى تصور المسيرة البشرية حرية مطلقة أو عدمية حتمية أو دائرة مغلقة ، وكلها معانى غير مسئولة، كما يعجز عن ممارسته من ينتمى أساسا إلى فكر ميكانيكى خطى، او كيميائى مشتبكى يفسر بهما المرض أساسا، ويعتبر العلاج النفسى مجرد طمأنة وصدقة عاطفية واجبة على المعالج .
ثانيا: المشاركة:
إن المعالج مشارك إيجابى فى مسيرة العلاج، وبالرغم من أنه المسئول الأساسى، وغير مسموح له بأن يفرط فى مسئوليته لحساب تجاربه أو تغيره هو أو نموه اللهم إلا بقدر محسوب من خلال مسيرة العلاج، وجرعة الاشراف، بالرغم من ذلك فهو مشارك مفتوح الفكر مرن الوجود بالضرورة ، وعليه ان يقيس خطوه ونمو خبرته لابنجاح نتائجه فحسب، بل بتغير موقفه المستمر فى الحياة، لا فى مجال العلاج ذات نفسه ، بل فى سائر قطاعات حياته
ثالثا: الاشراف:
إن هذا وذاك يتطلب إشرافا مستمرا وواعيا، وموضوع الإشراف هو موضوع طويل بحيث يحتاج إلى أن نفرد له بحثا خاصا، ولكنا نوجز القول فى هذا التعريف المبدئى بأنه يتم فى هذا العلاج من خلال:
1- جلسات إشراف أسبوعية لكل المشاركين والمتدربين من خلال هذه التجربة بدأت تحت اشراف ا.د. الرخاوى الذى أرسى دعائم هذا الأسلوب.
2- ثم استمرت منذ أكثر من عام بين المعالجين و بعضهم دون حضور مشرف أكبر، وذلك كوسيلة لتنمية التلقائية والإشراف المتبادل بعد الفترة المبدئية من الإشراف الفوقى.
3- بالإضافة إلى التقويم المباشر عقب الجلسة العلاجية مباشرة بين المعالج الأساسى ومساعده، أو بين المعالجين المشاركين
4- فضلا عن الإشراف الكتابى التسجيلى حيث يقوم المعالجون عادة بتسجيل الملاحظات بعد كل جلسة ويقوم كل معالج على حده بهذه الخطوة ويراجعها مع زميله فى وقت لاحق ما أمكن، ويرجع إليها هو أيضا متى ما أراد مما يمكن أن يسمى الإشراف المتبادل والأشراف الذاتى فى نفس الوقت .
رابعا: خطوات التدريب(المعالجون):
لم تستقر بعد الخطوات اللازمة للتدريب على هذا العلاج وإن كانت الأمورقد بدأت تأخذ شكلا منظما فى خلال العامين المنصرمين – بعد عدة تجارب – على الوجه التالى:
(أ) مرحلة المشاهدة:
يجلس الطالب (الطبيب المعالج، غير الطبيب …الخ) فى مدرج مفتوح يتم العلاج الجمعى أمامه مباشرة دون حاجز، ويعلم المرضى مسبقا أن هذا المدرج للمتعلمين والمشاهدين، ويشرح المعالج فائدة ذلك لهم وللمشاهدين ولمسيرة هذا النوع من العلاج (5)وقد لوحظت فائدة علاجية تلقائية وغير مباشرة تعود على المشاهدين.
كما توجد فرصة أخرى للمشاهدة وذلك من خلال الجلسات المفتوحة (مفتوحة بالنسبة للحاضرين) التى تجرى فى مستشفى دار المقطم للصحة النفسية، وإن كانت هذه الطريقة أقل فاعلية حيث لا يعرف المريض من المشارك ومن المشاهد لكثرة الحركة الإبداليةTurn over التى تسمح بدخول أى مريض جديد للمجموعة وبالتالى فإن المشاهد قد يعتبر مريضا جديدا بما لذلك من فوائد ومعوقات على حد سواء .
(ب) يسمح للمتدرب المبتدئ بعد ذلك أن يدخل مجموعة محددة بصفته (متطوعا) Volunteer لايشكو من مرض معين أو أعراض بذاتها، ولكن يسرى عليه مايسرى على المجموعة باعتباره شخصا عاديا لا فرق بينه وبين المرضى تركيبيا وأحيانا نشرح له الفكرة بأنه ليس مريضا، ولكنه مشروع مريض (بالطبيعة البشرية) وقد يعفى من هذه المرحلة لظروف خاصة .
(ج) يسمح له بعد ذلك بقيامه بدور محدود كمعالج مساعدassistant therapist
حيث يلقى إليه المساعد الأساسى بعض الأدوار، مراعيا الجرعة والتوقيت حتى يتدرب على التكنيك تدريجيا.
(د) يصبح بعد ذلك معالجا مشاركا co-therapist وقد يستمر الوضع بعد ذلك باعتبار المعالج الأول هو المعالج الأساسى والمعالج الثانى هو المشارك، أو قد يعاد الترتيب بحيث تصبح المجموعة ذات معالجين مشاركين معا دون إلزام بوجود معالج أساسى وآخر مشارك.
(ملحوظة: إن ذلك لا يعنى ضرورة وجود معالجين اثنين لكل مجموعة، بل إن معالجا واحد قديما محنكا بالضرورة قد يكفى، أما فى بدايات المران فان وجود المعالج الآخر حتى ولو كان أقل خبرة، يعتبر نوعا من الإشراف المباشر الفورى).
الأسس العامة للاسلوب العلاجى (التكنيك):
تتبع هذه الطريقة أسسا شديدة الوضوح صعبة التطبيق فى آن واحد، حيث يعتمد الأمر فى نهاية النهاية على تلقائية المعالج وخطوه هو ذاته على مسيرة العلاج والنمو.
ونورد هنا بضعة خطوط عامة لما يميز أسلوب هذا العلاج:
أولا: العقد الابتدائى والمحاذير:
يتبع هذا الأسلوب – مثل كل علاج نفسى بالضرورة – مبدأ التعاقد، فيحدد المريض – عادة – الهدف من العلاج ويحدد المعالج الوسيلة إلى ذلك حيث يضيف تصوره لواقعية الهدف وأولويته إن تعددت الأهداف، ويعرض كل منهما شروطه، بما فى ذلك المقابل، ويعلن المعالج بالذات المحاذير والمضاعفات المحتملة وهى التغيرات الاربع: تغير العمل، الأسرة المعتقد، الحياة، ولايكتفى المعالج بإعلان ذلك ليبرئ ذمته وإنما يتحمل جزئيا قرار المريض بصفته المهنية ومن خلال خبرته الأطوال.
ثانيا: الفرد فى المجموعة (والمجموعة فى الفرد):
تعود الدارسون للعلاج الجمعى أن يتكلموا عن أنواعه من زاوية علاج الفرد فى المجموعة فى مقابل علاج المجموعة ككل، وإذا كان لنا أن نحدد نوع هذا العلاج الذى نقدمه فهو أقرب إلى الفرد فى المجموعةindividual in the group، بمعنى أن تركيز التفاعل والتناول ينصب على فرد بذاته فى موقع بذاته يعبر عن سلوك بذاته فى وقت محدد، وهذا ما يسمى أحيانا بشغل الكرسى الساخن hot seat، إلا أن ذلك لايعنى اطلاقا أنه يعالج دون الآخرين أو فى وجود الأخرين، فقد وجدنا بالممارسة (دون تعارض مع تأكيدات سابقة) بأن أفراد المجموعة بلا استثناء تقريبا تعالج من خلال التركيز على فرد منها، ليس فقط كمثل لها، ولا من خلال التقمص النشط فحسب، وإنما من خلال التعلم والوعى والبصيرة والتقمص والتفسير جميعا، وتظهر فاعلية ذلك فى أفراد لايشاركون إطلاقا ومع ذلك ويحققون نتائج إيجابية غير متوقعة، حتى أننا نقترح بديلا عن ( تعبير الفرد فى المجموعة) ان يسمى هذا النوع من التفاعل (المجموعة فى الفرد) the group in the individual .
ثالثا: الهنا والآن وقواعد أخرى:
يؤكد المعالجون الجمعيون على هذا المبدأ بغض النظر عن العلاج، بما فى ذلك بعض أنواع العلاج الجمعى المسمى بالعلاج ذى الرؤية النفسية التحليلية Psychoanalytically oriented
(6)وهذا النوع الذى نقدمه يلتزم بنفس المبدأ ، وقد وجدنا صعوبة (ومازلنا) فى دعوة المرضى إلى التخلى عن فكرة أن العلاج النفسى هو(حكى الماضى) أو(التنفيس للترييح) أو ما إلى ذلك، ولكن لابد أن نعترف فى نفس الوقت أن هذه الصعوبة لم تحل دون الالتزام بهذا المبدأ، ويعانى الطبيب (المعالج) المبتدئ، تحت التمرين، من هذه الصعوبة أكثر مما يعانى منها المرضى، ولكنه يتغلب عليها بالمران لامحالة، وتساعد الدراما النفسية و( الألعاب) على إحضار الماضى فى الحاضر كما سيرد ذكره .
ويرتبط بهذا المبدأ عدة مبادئ أخرى مثل مبدأ التفاعل بصيغة (أنا) و(أنت) ويشمل رفض الحديث عن النفس بألفاظ مثل (الواحد)، (الانسان)، كما يشمل رفض الحديث عن آخرين أو مايسمى (بالنميمة)، ثم مبدأ رفض الأسئلة وتحويلها إلى بيانات أو إقرارات محددة ……. وغيرها من المبادئ التى تهدف كلها إلى تحقيق توحيد بين المشاعر والأفكار وتعميق الخبرة بالوجود الحقيقى للفرد وعلاقته بوجود آخرين وما يترتب على هذا من مسئولية و اختيارات .
رابعا: الألعاب Games
يستعمل هذا العلاج أسلوب الألعاب التى تعتبر دراما مصغرة mini-drama بطرق مختلفة تماما، ويساعد هذا التكنيك على كسر الصمت، والتفعيل، والبصيرة والتقمص وإعادة الاختبار مما لامجال لتفصيله هنا حاليا والألعاب التى مارسناها فى هذه التجربة جديدة تماما وهى بلا حصر؛ وهناك بضعة ألعاب محفوظة إلا أن الغالبية العظمى تبدأ وتتكون من خلال التفاعل مباشرة وقد يقترحها أحد أفراد المجموعة .
وقد استغرقنا وقتا طويلا فى البداية (أكثر من عام ونصف) غلب فيه على الألعاب التى تقوم بها المجموعات الأدوار التركبية لمفهوم اريك بيرن التفاعلاتى (أى: الطفل، الراشد، الوالد) إلا أننا لاحظنا أن التركيز على هذه الألعاب يؤكد الانشقاق (الواعى) بدرجة تحول دون التوليف المطلوب كنهاية للمطاف، فعدلنا عن ذلك بشكل واضح، فإذا لجأنا إليه كان لزاما على المعالج أن يوفق بين أطراف اللعبة فور انتهائها إما بقلب العبارة أو ( تبادل الادوار) حسب نوع اللعبة.
خامسا: الدراما النفسية:
لا يمارس فى هذا النوع من العلاج الدراما النفسية بالمعنى التقليدى أو الشائع، فاذا شئنا التحديد فهى نوع من اللعبة المطولة Prolonged game أكثر منها (دراما) من النوع المألوف فى التراث، وقد غامر هذا النوع من العلاج بلأن يقوم المعالج فى أحيان ليست قليلة بالدور الذى يطلبه منه المريض أو يقترحه هو، ولايكتفى بدور (المخرج)، وفى هذا ما فيه من مخاطر التأثير والإسقاط، إلا أننا وجدنا أن المعالج القديم يستطيع أن يتصرف بتلقائية وأن يبادل الادوار بسرعة ومن خلال هذا وذاك يوصل مفهوما تركيبيا تفسيريا لبعض نواحى السيكوباثولوجى للمريض المتفاعل ولسائر أفراد المجموعة على حد سواء، وهذه المغامرة بالذات تحتاج إلى جرعة أكبر وأكبر من الاشراف والتبصر والمراجعة .
سادسا: تجنب التكرار:
من القواعد الهامة فى هذا النوع من العلاج ألا يتكرر دور أو(لعبة) أو(تفاعل) وخاصة بالنسبة للفرد الواحد حيث أننا لاحظنا أن التكرار لا يفيد بل بالعكس قد يؤكد انشقاقا بذاته . كما لاحظنا أن عدم التكرار يساعد على الإبداع المستمر مما يكشف مناطق أكثر فأكثر من الشخصية ويساعد على استيعاب ما يظهر بدرجة مناسبة.
سابعا: وقت الجلسة ومدة العلاج:
يختلف وقت الجلسة من ساعة (النوع المفتوح المتبدل فى دار المقطم) إلى ساعة ونصف (النوع التعليمى بالقصر العينى) إلى ثلاث ساعات ( النوع المكثف بالعيادة الخاصة) وقد تمتد إلى أكثر من ذلك حتى تصل إلى ما يسمى بالماراثون، وان كنا قد عدلنا عن ذلك مؤخرا بعد أن تبين لنا أنه قد يساعد على انهيار الميكانزمات بجرعة أكبر مما يسمح لنتائج ذلك ان تستوعب نتيجة للموانع الإجتماعية والمعوقات .
أما مدة العلاج فهى أيضا تتراوح بين سنة وثلاث سنوات حتى الآن، وهى تتوقف على الهدف من المجموعة (علاج – تعليم – بحث – نمو – استكشاف – إبداع ……إلخ ).
كما تتوقف على التعاقد العلاجى therapeutic contracting وإعادة التعاقد recontracting حسب كل مرحلة .
ثامنا: التفاعل الجسدى:
من العوامل الهامة فى هذا النوع من العلاج الانتباه إلى لغة الجسد جنبا إلى جنب مع اللغة اللفظية، وقد يسمح بالتفاعل الجسدى ( يد اليد) دون غيره، وقد مرت الخبرة فى أولها بأكثر من هذا السماح إلا أن التتبع ودراسة النتائج انتهت إلى أن يكون هذا النوع من التفاعل هو غاية المسموح به .
علاقة العلاج النفسى الجمعى بالعلاجات الأخرى:
من واقع هذه الخبرة أو التجربة فإن هذا العلاج لاينفصل عن غيره من العلاجات المتاحة فى تخصصنا وأنما يكتمل بها بشكل أساسى ولاغنى عنه فى معظم الأحوال من هذه العلاجات .
1- العلاج الكيميائى أو العضوى ….. وهو يستعمل فى احوال كثيرة جنبا إلى جنب مع هذا العلاج وترتبط جرعته بتقدم هذا العلاج وتفاعلاته بشكل حيوى وهذه العلاقة لاتعنى مجرد الإضافة الكمية لتأثير الادوية إلى تأثير العلاج الجمعى وأنما هى علاقة اكتمال دقيق، ونفس الشئ يمكن أن يقال عن الصدمات الكهربائية التى يمكن أن يكون لها دور حيوى فى توقيت مناسب ولامجال لتفصيل هذه الأمور هنا فقد وردت فى مواضع أخرى يمكن الرجوع إليها (7).
2- العلاج النفسى الفردى …….. وهذا النوع من العلاج كما أشرنا لايتعارض مع العلاج الجمعى، ودوره المناسب يأتى عادة كمرحلة تمهيدية للعلاج الجمعى، وفى حالات قليلة قد يتبعه او يتبادل معه ولكنه فى معظم الأحيان لايكون مناسبا جنبا إلى جنب مع العلاج الجمعى .
4- العلاج العائلى family therapy … وهذا النوع من العلاج يرتبط بالعلاج الجمعى ارتباطا حيويا من عدة اوجه:
- بشكل عام يحتاج علاج المريض إلى نوع من التعامل مع عائلته بهدف سد الثغرات التى يمكن أن يضيع بها تأثير العلاج الجمعى .
- وبشكل أخص فإن مرض المريض كثيرا ما يكون تعبيرا عن ظاهرة مرضية تمثلها عائلته بأكملها بتكوين أفرادها وطبيعة علاقاتها، وفى بعض الأحوال يحتاج الأمر إلى علاج هذه العائلة كمجموعة علاجا جمعيا مستقلا، وفى ممارستنا أمثلة لهذا النوع من العلاج كان لها نتائج مشجعة .
- علاجات أخرى ذات طابع جماعى …… من خلال الممارسة العلاجية فى القسم الداخلى من مستشفى دار المقطم بوجه خاص نشأ نظام متكامل من النشاطات العلاجية ذات الطابع الجماعى تشمل العمل العلاجى واللعب العلاجى وبعض النشاطات العلاجية الثقافية، وقد وجدنا ان ارتباط مثل هذه النشاطات بالعلاج الجمعى يحقق فعالية ملحوظة، ومرة أخرى فان هذه العلاقة ليست مجرد اضافة تأثير إلى تأثير وإنما هى علاقة اكتمالية تخضع لاختيار دقيق، فمريض معين بعد تفاعل معين فى العلاج الجمعى يمكن ان يحتاج نشاطا محددا بعينه مثل العمل العلاجى أو اللعب العلاجى الجمعى، وبالتركيز على هذا النشاط جنبا إلى جنب مع مسيرته فى العلاج الجمعى تتحقق فاعلية العملية العلاجية بصورة لايحققها عادة أى سبيل آخر منفرد .
ويتوج هذه الفعالية علاج الوسط milieu ككل الذى يعتبر خلفية حيوية حيث يتحقق يتناسق مبادئه مع ما يجرى فى العلاج الجمعى درجة ونوعية من العلاج لاسبيل إلى قياسها بالوسائل التقليدية وإنما يعرفها جيدا من يخبرها .
النتائج والمضاعفات:
يستحيل فى هذا العرض القصير تقديرالنتائج التى أتاحها هذا العلاج بالنسبة للحالات الفردية وان كانت فى أغلبها تشير إلى تغير نوعى بالضرورة يختلف عن سائر أنواع العلاج . كما أن المضاعفات، وخاصة فيما يتعلق بعلاج الذهانيين من خلال هذا النوع من العلاج، قد تم تناولها فى بحث آخر فلا مبرر للتكرار. إلا أننا نستطيع بصفة عامة أن نحدد الخطوط العريضة لمسار النتائج حتى الآن على الوجه التالى:
1- إن المجتمع المصرى يقبل هذه الطريقة العلاجية ولا يرفضها، والمريض فى هذا المجتمع قادر على استيعابها والاستمرار فيها، وهذه النتيجة من واقع خبرتنا غير محدودة بطبقة معينة ولا بمستوى ثقافى معين .
2- إن التدريب على هذه الطريقة ممكن وإن كان طريقة صعبا وغير محدود بنهاية، فطبيعة دور المعالج فى هذا النوع من العلاج لاتقف عند حدود الطبيب الخبير المحايد وإنما هى تتطلب بالضرورة إنسانا مشاركا بعمق ومسئولية وهى أشياء لا تجعل من التدريب عملية تنمية لمهارات بقدر ماهى عملية نمو لشخصية المعالج وتعميق لوجوده.
3- إن نتائج هذا العلاج وإن اقتربت كميا (بمعنى نسبة المرضى المتحسنين) من نتائج بعض العلاجات الأخرى إلا أنها تختلف نوعيا بشكل أساسى، وإذا كانت النتائج تقاس ظاهريا بمقاييس مثل اختفاء الأعراض والارتباط بالواقع والتكيف فإن هناك بعدا آخر متعلق بنوعية وجود المريض وعمقه لايسهل قياسه وقد لايظهر تأثيره إلا المدى الطويل بعد أن يتمثل المريض خبرة العلاج بدرجة كافية .
4- لهذه الطريقة مضاعفات إلا أنها لاتزيد فى الحقيقة عن أى علاج جذرى فى أى فرع من فروع الطب كما أنها لاتزيد عن مضاعفات الطرق العلاجية النفسية الأخرى إذا أخذنا فى الاعتبار مميزات هذا العلاج من حيث نوعية النتيجة ودرجتها ومداها، ولاينبغى أن يكون الخوف من المضاعفات مبررا أو عائقا يحول دون تقدم هذه الطريقة العلاجية وانتشارها بما يتناسب مع اهميتها وفائدتها .
البحث العلمى:
يعتبر العلاج الجمعى مجالا خصبا للبحث فى النفس بمقاييس جديدة تقوم بالضرورة على المدخل الكلينيكى المستمد بدرجة كبيرة من المنهج الفنومنولوجى، ومازالت مشاكل المنهج تمثل صعوبة فى هذا المجال مثل أى مجال آخر يتناول البحث فى ماهية الإنسان، وقد فتح العلاج النفسى الجمعى نوافذ نأمل استعمالها فى تعميق البحث العلمى بشكل متكامل يليق بالظاهرة الإنسانية ونعدد هنا بعض الأبعاد الواردة فى هذا الصدد:
1- يعتبر العلاج الجمعى مجالا لتحقيق نظريات فى مفهوم الإنسان تركيبيا وديناميا، ثم فى مسيرته طوليا فى طريقه إلى الشفاء بما يستتبع استنتاج طريقه السابق إلى المرض .
2- يعتبر ظهور اعراض جديدة من خلال التفاعلات الحادة مجالا مباشرا وعيانيا لدراسة عملية تكوين الاعراضsymptom formation .
3- يتيح العدد المتواجد معا، ووجود أكثر من معالج درجة من الصدق التوافقى consensual validity، مع الحذر من التمادى فى الاعتقاد عليه آخذين فى الاعتبار بعض التداخلات الفردية حسب التشخيص و الميكانزمات وغيرها .
4- يتيح تسجيل بعض الجلسات كاملة واقتطاف بعض عينات ممثلة ما يسمح بتحليل المحتوى لدراسة ظاهرة نفسية بذاتها .
5- اتبعنا مبدأ الحضور المفتوح فى تجربة القصر العينى والتعليق المباشر المسجل على كل جلسة والنقاش الذى يستغرق وقتا قد يصل إلى نفس وقت الجلسة، مما يحمل فرصة الاختلاف للإثراء العلمى، وكذلك فان هذا الحضور المفتوح يتيح فرصة تقويمه من (الخارج) نادرا ما تتاح مباشرة فى العلاجات الأخرى وان كان حولها تحفظات كثيرة.
هذا وقد تم فعلا بحث رسالة ماجستير من واقع مجموعة علاجية استمرت حوالى ثلاث سنوات قام به زميل(8) عن طريق (العينات) غالبا والتسجيل أحيانا ثم تحليل المحتوى، كما يقوم نفس الطبيب ببحث الدكتوراة عن (تركيب الشخصية) من واقع تفاعلات العلاج الجمعى متبعا فى ذلك التسجيل الكامل لجلسات متلاحقة، وأخيرا فان كاتب هذا المقال يقوم بجزء من بحثه فى الدكتوراة عن اضطرابات الوجدان عند الفصاميين من واقع التفاعل الموقفى داخل مجموعة علاجية .
[1] – قدمت هذه الدراسة فى الندوة التى عقدها المركز القومى للبحوث الاجمتاعية والجنائية عن: (العلاج النفسى فى مصر) فى25،24 يونيو سنه1980، ورغم أنها تحمل إسم مقدمها إلا أنها ليست عملا فرديا بقدر ماهى حصيلة جهد مشترك.[2] – المعلومات الواردة فى هذه النبذة هى نتاج محاولتنا لاستقصاء كل الحقائق فى هذا الشأن وإذا كان هناك ما يمكن إضافته إليها بمالم يرد إلى علمنا فترجو من أصحابه التقدم به من اجل استكمال الحقائق بامانة كافية.[3] – وصل عدد هذه المجموعات الآن إلى أربعة مجموعات تنعقد كل أسبوع .[4] – ى. الرخاوى (1981) العلاج انلفسى للذهانيين- مجلة الإنسان والتطور، العدد الأول، السنة الثانية (ص26)[5] – وقد ثارت تحفظات كثيرة فى بداية هذه التجربة لما يشيع حول طبيعة العلاج النفسى من ضرورة السرية، واستحالة عرض داخل النفس على آخرين داخل المجموعة فضلا عن خارجها، وقد يتردد بعض المرضى لمدد متفاوتة ولكنها لم تزد أبدا عن جلسة واحدة وبضع جلسة، يصبح بعدها كل المشاهدين بلااستثناء فى أرضية وعى المجموعة ككل ولم نلاحظ أى إعاقه بسبب وجودهم طوال عامين كاملين.
[6] – Foulkes S.H & Anthony EJ(1971)Group Psychotherapy: The Psychoanalytic Approach London: Pelican Books. .
[7] – الرخاوى .ى (1978) (مقدمة فى العلاج الجمعى) القاهرة: دار الغد للثقافة والنشر. .[8] – د. عماد حمدى غز (1978) (العلاج الجمعى: دراسة دينامية لاتجاه مصرى) القاهرة ، دار الغد للثقافة والنشر