عدد ابريل 1981
الحـوار يحتـدم
شارك فى هذا الحوار أطراف جدد، دخلوه بتلقائية عنيدة، يتكلم كل منهم بعيدا عن الآخر ولكنه يقترب من الكل المشترك بشكل مباشر وكأنهم واحد أحد، وسوف نحاول هذه المرة أيضا أن نكمل ما بدأناه رغم زيادة الصعوبة مع زيادة أطراف الحوار ومع محاولة صدق أعمق
ونبدأ بالصديق جاد الرب:
لوتيانا LOTIANA ومؤتمر بوسطن
محمد جاد الرب
جاد الرب: إن علم الآثار بكشفه للصور العامة للتطور الإنساني.. إنما يبين لنا أن الإنسان أصبح إنسانا باستعمال عقله وتدريبه، وعندما يتوقف الإنسان عن التعجب والتأمل فإنه سيذبل ويضمحل.
”ليونارد كوتريل” رئيس تحرير الموسوعة الأثرية العالمية.
الرخاوى: نعم يا عمنا، فإن التعجب والتأمل هو نتاج غريزة الدهشة، وهى – بداية- إنفعال أولى عند الطفل يتعرف به على العالم ويستوعبه ليتمثله ويحتويه ليغير، ولكن أخشى ما أخشاه أن نخلط بين هذه الغريزة المبهرة وبين فعل الفرجة المخدرة، وشتان بين رجفة تغير الكيان، وبين إهتزاز تتراقص معه الصور حتى تختلط فيموت الفعل بينما نحن “نمعن فى التأمل” فحسب.
جاد الرب: إذا قبلت التحرك نحو الإتصال بمؤتمر بوسطن(1) دعوت الرحمن لك بالتوفيق، وإذا وجدت لديك من المبررات ما يزين لك إحتقار الأمر فإننى سأضطر إلى التحرك بمفردى باعتبارى واحدا من المجانين داخل مستشفاك، ولقد قررت الهرب من المستشفى لسوء المعاملة وفى نفس الوقت أنتهز الفرصة للإتصال بمؤتمر بوسطن لإعلان رأيي، فماذا ترى أنت؟
الرخاوى: أرى ماترى يا أخى وزيادة، ولكن دخولك مستشفاى دون إذن منى يحتاج إلى مؤاخذة مبدئية، وهروبك منه يحتاج إلى موأخذة تالية، سوء المعاملة قد تحدد بافتراض إختلافى عنك وعدم استجابتى لدعوتك لى أن أحضر هذا المؤتمر الذى سوف يحارب التبلد الإجتماعى كماهو منشور فى القصاصة المصاحبة، إن من أول دعائم الحوار ألا تحبس نفسك فى مستشفاى المزعوم ثم تشكو من سوء المعاملة لمجرد تصورك أنى أحتقر دعوتك إلى هذا المؤتمر العظيم المثالى العاجز فى نفس الوقت.
جاد الرب: ولماذا لا يمكن لى أن أتنبأ بموقفك حتى ولو تعلق الموضوع بالتحرك لإنقاذ كرة الأرض، ومع ذلك فمن غيرالمعقول أن أتحرك دون الشوري.. وأنا أقول لك أنت أكفأ منى بمراحل فأنا لا أعرف الإنجليزية أو الفرنسية كما أننى لا أملك إقناع أحد بنفسى لأننى لست دكتورا فى أى شيء… أنت أكفأ على حمل هموم الإنسان المصرى مني، وعليه فقد وضعت أمامك أوراقى حتى تضع نفسك أمامها وأمام العالم فى مؤتمر بوسطن الذى هو بمثابة (سوق عكاظ) فكرى موضوعه كيف نحاور الذئاب والكلاب والقردة العليا الذين يفكرون جديا فى نسف كرة الأرض؟… وأقول لك أنه ليس هناك من عذر مقبول فى هذا الشأن، فإذا حدث أنك اعتذرت فلسوف اتصل بأى وكالة للأنباء بالقاهرة وأطلب الإتصال بالمؤتمر مفتتحا حديثى بإدانة موقفك أنت إذا تخلفت وهذا ليس تهديدا لك ولكنه مجرد خبر أسوقه أمامك.
الرخاوى: يا جاد يا زاد، أما زلت توجه إلينا فوهات وكالات الأنباء، كما سبق أن صارعت إذاعة مونت كارلو” ما أقدرك يا إبن البركة ومصارع السبع وأنت تلوح بسيف الورق فى وجه شياطين التقاعس والدمار، يا جاد يا من شرفت بلغتك الإنسانية قبل وبعد أى لغة، لا تحسين أن المؤتمرات الحالمة أو حتى حاملة شعارات العلم بقادرة على تغيير العالم، ولا تظنن أن الدكاترة فى أى شيء هم دكاترة بحق، فإن كانوا فلا تنتظر الحل الدكتورى يأتيك فى مؤتمر اسطوري، فالخداع الشهاداتى والمؤتمراتى أكبر من كل تصور، وكل ما تفعله الشهادات والدكتوراهات فى كثير من الأحيان هو أن تبعد الشخص العام عن حق النقد الفعال، ومازلت أذكر أسواط برنارد شو وهى تلهب ظهر الدكاترة الأطباء بتجن ظاهر لكنه قال كلمته ومضي، والدكاترة، الدكاترة أطباء وغير أطباء، لا يملكون إلا حق الدكترة فى كثير من الأحيان، وهو حق مع وقف التنفيذ، أما حكاية المؤتمرات فهى ليست إلا نواد للسياحة الإجتماعية تحت لافتات علمية، وهى ذات قيمة رائعة فى تكوين نظام تحتى قد يؤثر على المدى الطويل فى التكوين الفوقى السلطوي، ولكن الخوف أن يموت الحمار قبل أن يأتيه “العليق”.
إفضحنى يا أخى وأدن موقفي، أو أعذرنى وشاركنى خيبتي ولكن لا “تتركنى هنا وحدي” كما صاح صديقنا حافظ عزيز على صفحة أخرى من هذا العدد، لا تتركنى وحدى حتى لو كنت نزيل مستشفاى أو هاربا منها، فالأمر سواء، ومسئوليتك نحوى ونحو بلدنا لا تنتهى بإعلانك وكالات الأنباء أنى متقاعس متكبر… أو خلافه.
جاد الرب: فقد يصبح هذا المؤتمر افتتاحية جديدة فى حياة البشرية بواسطة كلماتنا الهادئة وربما الساذجة فى نفس الوقت والحكيمة أيضا.
الرخاوى: الكلمات الهادئة الساذجة والحكيمة هى أصل الحياة، ففى البدء كان الكلمة، وكان الكلمة الله، وكل مبررات احتقار السذاجة هى مبررات مسلسلاتية ملونة وغير ملونة، لكن الكلمة “اللوجوس” هى فعل مخترق إرادى نابض، هى التطور المنطقي، هى المعنى يسير على أرجل، فلا تكف عن التغنى فى معبدها، ولكن لا تكتفى بذبح القرابين تحت أقدامها، فدماؤها سوف تسيل أغزر من دماء القرابين إذا ما ظلت حبيسة المؤتمرات ووكالات الأنباء والأوراق.
جاد الرب: أما إذا رفضت التحرك فى مؤتمر بوسطن فلسوف يكون المفتاح عندى أن أطلب أولا باسم أدباء قرية مصر تأليف لجنة فى مؤتمر بوسطن تحمل العنوان التالى لجنة “إيبو”EIBO ، وعندما يسألونى ومن يكون (إيبو) سوف أشرح لهم قصة أقدم وأشجع الأباء، إننى أرجو أن تقدر حبى لك وأملى فيك لأنك أقدر منى ألف مرة مثلما تقويم إيبو أعظم ألف مرة فى نظرى من نهر النيل.
الرخاوى: تهديد آخر – هو ليس بتهديد كما تؤكد – ذلك لأنه تهديد بعمل لجنة باسم أديب تحبه كما تقول بحب شخصي، وكما يؤكد موقفك حب كل الناس، وحب الإنسان، وكره الحرب النووية وكره القردة الذئاب، لتكن لجنة إيبو أو لجنة ديبو، ولكن أن يكون تقويم ما – أيا كان – أعظم من نهر النيل أيا كان يجعلنى لا أرحب أبدا بوضعك إياى أقدر منك، نتيجة لحبك لى وأملك في..، سأرقد فى الخط يا جاد إذا واصلت إصرارك على أن أحملك على كتفى تحت زعم حب لا أشك فيه ولا يروينى فى نفس الوقت، سأحزن(2) منك ومن غيرك مثل أى بغلة حرناء إذا أصررت على حل مشاكل الإنسان النووى بالمؤتمرات حسنة النوايا، وما بين تفتيت نواة الذرة، والذكر حول قبة حسن النية، يا إنسان لا تحزن، ولكن تبلد ومت من قهر الرغب بلا حساب.
جاد الرب: إننى أبشر بنور جديد شبيه بذلك النور الذى بشر به عيسى الناصرى مسيح فلسطين ولقد كان عيسى يرفع راية موسى أما أنا فرايتى هى “إيبو” أقدم أدباء مصر وأشجعهم دفاعا عن الحضارة، فمن أقوال إيبو قبل 4281 سنة.
”لقد أصبح الكبير والصغير يتمنيان الغناء وأصبح الأطفال يقولون: ليت آباءنا لم يهبونا الحياة”.
ثم يستطرد إيبو ليقول وكأنه يصف عصرنا الحالى “عصر الانتحار النووي”:
”وغصت التماسيح بما أصبحت تقتنصه بعد أن ذهب الناس إليها
من تلقاء أنفسهم”
تقويم إيبو = 100 نهر النيل”
الرخاوى: يا شيخ حرام عليك، بل شكرا لآبائنا أن وهبونا الحياة ولتتأمل معى قول إيبو صديقك (الألف نهر النيل) فإن الناس تذهب إلى التماسيح من تلقاء نفسها، فما ذنب التماسيح يا صنو إيبو؟ أتطلب منها أن تتحلى بفضيلة التخمة فلا تأكلنا ونحن بين فكيها نسعى إلى حتفنا، ثم ليكن إعلاؤك للكلمة الحكمة عن النهر الحياة ذا مغزى عميق وخاصة لمن يتصور أن أنهار البترول وخزائن الذهب هى القوة والغزة ذات نفسها وليست مجرد وسائل إليها لمن وهب بعد النظر وحسم الأخذ بالأسباب ولكن…
أفلم تشبع من هذه “اللكن”.. التى أقذفها فى وجهك كلما هددنى حلمك؟ ومع ذلك.
جاد الرب: (مقاطعا) أذكر أننى قرأت ذات مرة رواية قصيرة من الأدب الصينى الأسطورى الجميل.. كانت الرواية تصور لنا فتى غض الإهاب قد فوجيء بفتاته الجميلة وقد تحولت إلى كلبة وراحت تعض المارة فى الطريق. ولأن معرفتى بالإنجليزية مشكوك فى أمرها كنت أدور على الأصدقاء فى البيوت متسائلا:
- وهل يتحول الإنسان إلى كلب؟
وتمر الأيام ولا أجد سوى قصص الحضارة رواية أقرأها فإذا بى أكتشف أن الإنسان قد تطور عن قرد الجنوب أى جنوب أفريقيا كما يقول بذلك علماء الآثار وأن الكلب صديق الإنسان الصدوق قد تطور عن الذئب عدو الإنسان المؤكد.
ولماذا كل هذه المقدمة أيها الإخوة؟
لأننى أرى الواجب يقتضى أن نصور على السبورة هرما نصف بواسطته بعض الحقائق كالتالي:
ذلك لأن الأنبياء كانوا يحاولون أن يزحفوا بالنوع الإنسانى إلى الضلع الأخير كى لا تحدث الردة حتى لا يعود الإنسان إلى شخصية قرد الجنوب فيكون أن يفقد الإنسان احترامه لنفسه ويروح متقهقرا فوق أعلى الأشجار يصطاد العابرين بالنبال النووية.
الرخاوى: الكلب والقرد يا صديقنا ليسا سبة إذا كانا كلاب أولاد كلاب أو قردة من شهور قردة، لكن أن يلد الإنسان كلابا وتلد أمهات البشر قردة حتى لو كانت عليا.. فهذا هو الخطر الأعظم وقد وقفت أمام “ماذا”؟ (ص 117) هذه فى الزاوية السفلى اليسرى طويلا، بل إنى أقف أمام “ثم ماذا؟” حتى بعد الإنسان، ألم يخطر على بالك وسط تفاؤلك المفرد (وهو قريب مما أتعاطاه أحيانا) أنه إذا واصل الإنسان سعيه التطورى إلى ما بعده فلن يصير إنسانا بداهة، إذا ماذا؟
جاد الرب: المشكلة إذن أننا نبحث اليوم كيف يتقدم النوع الإنسانى بإنسانية فيكون ألا يتقهقر، ولقد قلنا إن الديانات كانت عبارة عن “علامات الميل” خلال هذا الكفاح العظيم ومن هنا فيجب تقديم وافر الاحترام إلى رجال الدين باعتبارهم المظهر الإنسانى لعلامات الميل.
الرخاوى: عفوا.. لعلك تقصد الأنبياء لا رجال الدين المحترفين.
جاد الرب: ولم لا؟ وقد كان عيسى الناصرى مسيح فلسطين من أخطر علامات الميل فى التاريخ الإنسانى بل ولسوف يظل عيسى وتظل قصته علامة بارزة على نجاح الإنسان فى إختراق الزمان، ولم لا وقد كان العقل اليهودى قبل عيسى عبارة عن بركة آسنة لا تقدم إلا الطاعون والنكسات، وظهر عيسى الناصرى كى تتحول على أيديه كل النكسات إلى قوة عجيبة، فلقد عبر الإنسان والضمير مع عيسى الناصرى مسيح فلسطين إلى أعلى الذري.
الرخاوى: فماذا تذكر مما قال..؟
جاد الرب: “للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما إبن الإنسان فليس له أين يسند رأسه”.
الرخاوى: فهكذا قال…
جاد الرب: ولم يتحقق زمان كزماننا تصدق عليه كلمة عيسي، وكيف يجد الإنسان مخدة يسند بها رأسه والكرة الأرضية كلها مهددة بالفناء النووي؟
الرخاوى: رغم كل شيء سوف أسخر بكل السخف مكررا أغنية ثقيلة تقول “إسأل دموع عنيه أسأل مخدتي”.
جاد الرب: ومع ذلك ففى نصف الساعة الأخير لابد لنا من حديث قد ينشأ بناء عليه تقويم جديد للزمان ونظام جديد للوقت.
الرخاوى: تأتي! تقويم جديد؟ نظام جديد للوقت؟ والنهر بدل الشهر؟ تأني؟! يخيل إلى أنه آن الآوان لأستأذنك فى إستكمال الحوار بميل آخر مع أحد النظارة فى مؤخر الصالة، سأفعلها مضطرا خشية أن تنقلب المسألة سخرية بشعة أقسى على وعليك من المصيبة الدافعة إليها، هيا معى نحى صديقا جديدا اسمه عصمت داوستاشي.
جاد الرب: …. أما الوجه الآخر فهو صعوبة أن يتحول القلب إلى إنسان فإذا لم يجد القلب واحدا من القردة العليا مختالا يقدم إليه الطعام ويمسح له شعره كى يؤكد من خلال الحركة بشرية القرد وكلبية الذئب… إذا لم يتوافر قرد الجنوب كان على الكلب أن يعود ذئبا يقطع الطريق.. وتلك بالتحديد هى حال عالم اليوم الذى ينهض فيه “مؤتمر بوسطن العظيم”
الرخاوى: ولو. هيا نحى صديقا جديدا.
مرحبا بك يا عصمت الصديق:
فى ملعب المحاولة
عصمت داوستاشى .. والفنان المتعدد
عصمت: معذرة إذ أهجم عليك بذاتي.. كفراشة حائرة جذبها ضوء قوي.. ربما فيه هلاكها، وإن كان هذا لن يحدث معكم، وإنما فى بصيرتي.. هو ضوء مشرق فيه أمل كبير.
الرخاوى: معك كل الحق.. ولكن حاسب علينا، فلسنا نورا ولا يحزنون، والهلاك قائم محتمل معنا وبدوننا، وكل مديحك لما نفعل هو شرف قد لا تستحقه ولكن مسيرتك بجوارنا هى الضمان الأوحد لإستمرارنا، وأسمح لنا أن نعتذر ابتداء عن ذكر مديحك لنا إلا فيما يحتمل الرد، فهو أكبر من قدرتنا، وقد يكون معطلا رغم ما فيه من صدق وتشجيع.
عصمت: هل مثل هذه الدوريات يمكن أن تصدر فى مصر بمثل هذا المفهوم المتفتح للإنسان..!
الرخاوى: الذى حصل هو ما تري، ولكن دون مبالغات أو إعجاز، حقيقة لقد سخرنا موارد أخرى لصدورنا ورفضنا الإسفاف والإعلان عنها أو فيها، ولكن هذا ليس تعاليا أو تباهيا ولكنه أمانة تعطى لحياتنا معني، لا أكثر ولا أقل..، وقد تحقق منها أكثر مما تصورنا حتى الآن، وبقى لك فيها مكان ومجال..، وخاصة فى دائرة الإبداع وما يرتبط به من أبعاد نفسية.
عصمت: ذلك الملعب الذى نلعب فيه جميعا.. وسنبقى فيه فترة طويلة من الزمن حتى ينضج المواطن المصري. فتتضح له أساليب الإبداع.. حيث أن الناضج والمتطور منها حبيس ذاته مخزونا حتى العطب والعفن.
الرخاوى: هو هو ذاك الملعب الحياة، وإن كنت أشك فى إحتمال تعطب أو عفن أى عمل ناضج أو متطور، فاللؤلؤ لا يأكله التراب حتى ولو تراكم فصنع جبلا من الصمت الأملس، المسألة كلها، والأمل كله فى حساباتنا بوحدة زمن أكبر. يصر صديقنا جاد الرب (فى العدد الماضى تصريحا وفى هذا العدد إشارة) أن يغير التقويم ليصنع نظاما جديدا للوقت!! ولعله يعنى أن تتفتح آفاق الكائن البشرى فيحسب البقاء والفناء بحساب المجموع والأجيال لا بحساب الطافى على السطح بضع سنين وإن إمتدت عشرات أو حتى مئات.. لا يا صديقنا لا تخشى على الأصيل من العفن.. وإن كنا لا نملك سويا إلا أن نشفق على أنفسنا من رائحة ما أحاط به.. لا ما لحقه..
عصمت: ولكنك تلمس كل هذا فى رسومى وفى بعض ما أكتب حتى أن الفنانين الزملاء والنقاد منهم بالذات فى حيرة من تفسير أعمالى لأنها حتى على المستوى النقدى متفجرة.. لا يصلح لها أى ثوب تقليدى ليلبسوه لها.. وعليه رأيت فى ما رأيتم أنتم فى “حقيبة خاوية”.. مدخلا هاما للغاية للتفسير النفسى للعمل الأدبي.
الرخاوى: أما افتقارك إلى ثوب تقليدى فليس لى حكم عليه اللهم إلا الوقوف بجانب ما يمكن أن يكون.. مهما أنه ليس كمثله شيء، أو: وخصوصا إذا كان ليس كمثله شيء أما التفسير النفسى (وخاصة التحليل النفسى الملتزم بمفاهيم جامدة.. أو الإحصاء النفسى الكمي) فهو قد يكون سجنا للإبداع لا نافذة عليه أؤ نورا من حوله..، إن تصورى للتفسير النفسى أنه نوع من “إبداع الإبداع” من موقع زاخر بأرضية علمية متنوعة المصادر، هى إعادة قراءة بأبجدية نفسية متفتحة، وأحذرك كما أحذر نفسى من أى إستسهال أو إنبهار بمحاولات الوصاية النفسية أو إعلاء للرموز النفسية أو إحترام للمقولات النفسية دون قياسها بمقاييس الإبداع كما تقيس هى أصلا نفس الإبداع.
عصمت: نحن الفنانون – أو بعض من يعتقد فى نفسه ذلك – يسيح مخه إذا صادف مناخا ملائما لأن يسيخ مخه فيه.. وأنتم قد فتحتم بابا واسعا على أمثالى من المهاويس فتحملوا ما أنا بصدده تجاهكم..
الرخاوى: وتحمل أنت بدورك ما نحن بصدده تجاهكم.. ونبدأ برفض هذا اللفظ “المهاويس أمثالي” – فمجرد ما تأمل فينا وما نأمل فيك يهز من هذا الذى نضطر أن تختبيء فيه تحت هذه الألفاظ مستعملين إياها دعابة أو سخرية أو تقريبا أو تواضعا..، أرفض ذلك كله وأحملك وأحمل نفسى مسئولية وحق “الذى هو نحن” دون إسم.
عصمت:… أعدك لن أكرر المحاولة.. هذه عادتي.. أمد يدى مرة.. ولا أمدها مرة أخري.. أمدها للمصافحة والصداقة.. ومن يرفضها أنساه ومن يقبلها أنسى نفسى من أجله.
الرخاوى: عندك كل الحق، ولكن لنا عليك – وعلى من هو مثلك وليس مثلك – حق أحق، ونحن نصر – كما تواعدنا مع جاد الرب – أن تحافظ على المسافة الآمنة بيننا، فالإقتراب الأكثر أخطر، على الأقل فى المرحلة الراهنة فى مصر المعاصرة.
عصمت: مصر المعاصرة التى تحتضر الآن “ربما نهاية العالم لجزء حلو من مصر سيذهب ولن يعود” ليمسك بكل ما هو أصيل وصادق.. ومفيد أيضا.
الرخاوى: الإنسان لا يحتضر بهذه السهولة.. كذلك الأرض، واليأس رفاهية لا أخالك تحلم بها، ولنمسك.. إلى آخر ما تقول، وعلى فكرة أنا أحذر من هذه الرومانسية التى تجعلك تنسى نفسك من أجل من يقبل المصافحة.. لأنك بهذا تحرمنا منك، فمن أنت إن نسيتها..
عصمت: وأخيرا هل فى الإمكان أن نقرأ دراسة نفسية عن الشعب المصرى ولماذا يتقبل كل ما يحدث له ويلهث وراء الحياه اليومية مثل الحمار الذى يلهث وراء طعام مربوط فى رأسه ومتدلى أمام فمه لن يتمكن من إلتهامه مطلقا. هل مات الوعى عند الشعب المصري.. أم أنه مازال يرتكن إلى السلام وإلى قفل الشباك الذى يأتى منه الريح ليعيش ويستريح، أو لنموت ونستريح.
الرخاوى: أما الدراسات النفسية – فى حدود علمى – عن شعب ما فإنى أحذر نفسى وأحذرك من منهجها المسطح ونتائجها المضللة، وأفضل أن نحاول إبتداء استقراء التاريخ، ثم وضع فروض من خلال ذلك ثم إحترام وحدة زمنية تتفق مع المسيرة الحضارية لهذا الشعب قبل الإسراع بالحكم على مرحلة محدودة (ولو بلغت مئات السنين) من تطوره.
أما موت الوعى فهذا إفتراض قد رفضته أنت فى أول تحيتك ودوام عطائك وقد رفضناه نحن بما أصدرنا وما تحاول أن نستمر فيه وبه.
أما سلام قفل الشبابيك التى يأتى منها الريح. فلا أعتقد أنه أمل شعبنا اليوم فى أى يوم.. لكن سلام طول البال وبعد النظر والقدرة على تمثل الأحداث ثم إجترارها لإعادة هضمها.. فهذا هو نحن كما أتصور أو قل كما آمل، أو فلنقل كما ينبغي.
ولن نعيش ونستريح … أو نموت ونستريح، بل سوف نعيش ونبدع ونموت ونمتد فيمن بعدنا.. بما أبدعنا وأودعنا، يا عصمت هذه يدنا، وحتى لو لم تصل إليك..، فهى ممدودة بالقدر الممكن.. وعلى من يتراجع أن يدفع الثمن من داخله.، وإلى لقاء آخر مع بعض أعمالك متى أمكن ذلك.
..”والشاعرة” زينب عزب.. تدخل الساحة
زينب: وأذكرك.. وأظنك ما نسيت أنها العذاب.. العذاب بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاناة وقسوة… وإن كان من معانى أحرفها الأصيلة العذب.. السلس.. الحلو..
الرخاوى: العذاب العذب؟!! وكيف ينسى إنسان “يحس” ما هو أمانة حياته وشرف وعيه، ولكن يا سيدتى أرجو أن نتفق على إحترام العذاب وعذوبته.. ثم نتفق على إستيعاب طاقته.. ثم نتعاون على التخفيف من إعاقته ثم نواجه مسئوليته، وأظنك توافقينى أن استعذاب العذاب يتشوه بتسميته مازوخية (أو ماسوشية)، ويتشوه أكثر بإرجاعه إلى مفاهيم تحليلية (جنسية فى الأغلب)، لأنه قد يكون شرف الوعى بإستحالة المستحيل مع الإصرار على تحقيقه، وبمرارة الواقع مع التمرغ فى أشواكه رفضا للهرب وحبا للحياة، لا إستعذابا لما يوجع، ولكن إيمانا بثمن ما ينبغى .. هذه هى الحكاية.
زينب: .. كم شعرت براحة دون حذر لهذا الإهتمام الواعى بالكلمة الحبيسة، من أجل الإنسان والتطور، وعن تجربة طويلة جعلتنى أثق أن نشر أعمال الأدباء المصدومين والمعوقين هو العلاج الشافى لكثير من أدوائهم النفسية.. والجسدية معا.
الرخاوى: كنت أحسب أن الإبداع ذاته هو الترياق الذى تتحدثين عنه، ولم أعرف قيمة النشر العلاجية والوقائية إلا مؤخرا، ويبدو أن الإبداع إذا يعمق الوحدة والإختلاف (وخاصة إن كان أصيلا) هوالحركة الأولى فى نبض حياة العقل الخلاق، ولابد أن يتحرك البندول من الوحدة إلى الناس، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالنشر، ولكن يا تري: هل يمكن أن يكون التأخر فى النشر أو حتى عدم النشر هو إختبار لأصالة الدفع الإبداعى وإصراره؟؟ ألست معى أن الجواب بنعم محتمل؟ ألا يخفف هذا من غلواء الهجوم على التغافل عن النشر وضيق الفرص.. ولكن أرجع فأقول إن ضبط الجرعة بين الرفض المناسب والقبول المناسب بأمانة المسئولية هو الضمان الوحيد…
ولكن لابد من مغامر يقبل ما لا يقبل.
فهل يا ترى نستطيع أن نسهم فى مثل هذا بالقدر المناسب؟
زينب: إنما أرجو أن أقول فى صدق وبساطة إن العمل الأدبى إن لم يعايش الناس ويتفاعل معهم فإنه يضيع ويضيع صاحبه، إذن فمن المسئول؟
الرخاوى: المسئول هو درجة تطور مجتمعنا الذى ارتضينا أن نكون بعض لبناته، وبالتالى فهو هو ليس إلا نحن، ولا سبيل إلى الدوران فى حلقة مفرغة بحثا عن المسئول، إذ لابد أن يلتقى “من يهمهم الأمر” بعضهم مع بعض يوما ما، بشكل ما، على ورق ما (أو فى مكان ما).. وحين تتجمع القطرات تحفر الأخاديد فى صلابة الحجر الصوان فأهلا بالقطرة تلو القطرة حتى ولو تدحرجت من موقع الألم الذى وصل حتى أطلق عليه صدقا أو تقريبا ما هو مرض.
زينب: أخبرت صديقة لى بأنى سأرسل إليك قصيدة “أعيش فى الأرض الخراب” فتعجبت كيف أكشف نفسى هكذا…. قلت لها:… أنا لا أكشف نفسى إنما أواجهها، أنا لا أتعرى وإنما أعرى المجتمع، ولا سبيل إلى ذلك إلا إذا كنت صادقة مع نفسي، ومع الناس، وهبى أن خلطا صابني، فمن سلم؟ بل فليكن من أجل المجموع من أجل أخرى ستولد.
الرخاوى: بل هو من أجلك أنت، إذ المجموع بدءا ونهاية هو أنت، وبالنسبة لى هو أنا، أنت أنت، وأنا أنا، فالمجموع هو نحن أما تلك التى ستولد… فهى أيضا أنت، ليست أبنتك ولا حفيدتك.. وإلا فلعبة التأجيل لا تنتهي.. فالإنسان الذى هو شريف بما هو.. إنما يلد نفسه فتكونين أنت هى الأخرى التى ستولد، وإن لم تصدقيني، فاقرئى بعض شعرك مرتين.
أما حكاية التعري.. ومن سلم.. فإنى معك بشروط قاسية، فالألم أمانة مثل الكلمة، ومن أصعب الصعب وقوف الكريم بباب اللئيم ثم يرده، هكذا قالت العرب، كذلك فإن من أخطر الأسى تعرى المنالم أمام المتبلد ثم يغفله، إلا ما أقسى المغامرة وما ألزمها معا.
زينب: ردت (صديقي) فى كلمتين: هذه شجاعة، هل ترى ذلك؟
الرخاوى: نعم هى كذلك وما أصعبها، ولكنها تهون إذا كان معنا ثالث ورابع وآخرون.. تعالى معنا نواصل عراكا شريفا مزعجا مع صديق ذكى خائف شجاع معا:
د. السماحى يواصل قذائفه المضيئة
السماحى: ربما كان الحوار هذه المرة غير قابل لنشر لقلة إثارته للقاريء، لذلك سأكتب على راحتى وكأنى أتحاورثنائيا معك.
الرخاوى: لا أعتقد أن هناك حوارا غير قابل للنشر فى إطار سياسة هذه المجلة وهدفها، عن من تخفى ماذا؟ وهل تعرف ماذا يثير القاريء وماذا يخدره؟ لقد أصر تحرير هذه المجلة على شكلها غير المثير، ومازالت الأعداد يتزايد توزيعها إحتراما لمن إحترم عقل من يتخاطبون معا، دعنا نحاول فى صدق، وليشاركنا أكبر عدد ممن يثور فى عقله مثلما يثور فى عقولنا، وأصدق المشاركة هى أن تكون على راحتك “وكأنك” معى فقط، أو حتى وكأنك معك فقط، ولم لا؟ نعم لم لا؟
السماحى: أتحاور ثنائيا معك! معك كصاحب قضية هى “التطور” من محاور صاحب قضية هى الفصل بين المعرفة والأخلاق.
الرخاوى: بصراحة يا أخا القلم: إنى لا أعرف لى قضية أصنف نفسى تحتها، اللهم إلا حب الحياة والتحيز لها فى مقابل الموت والجمود، صحيح أن هذه المجلة هى مجلة للإنسان والتطور، وأن الطب الذى اخترت أن يكون فكرى وحرفتى هو الطب النفسى التطوري، ولكن ما التطور إلا النتاج الطبيعى لحركة الحياة فى قوانينها السليمة، أما قضيتك فأثرنا حولها أكثر لو سمحت.
السماحى: فيما يختص بما تدعيه – تواضعا – بالإحساس بفقد التوازن إذا ما إهتزت فكرة الغائية فى التطور – أو سلوك التطور الهادف – أمام الإعتراضات النظرية أعلق (بناء على حوارك فى العدد الأخير):
أفهم أن حرصك على فهم التطور البيولوجى على أنه عملية غائية هادفة هو حرص بدافع أخلاقي، أى ليس لأنك تريد للتطور البيولوجى أن يكون غائيا فى حد ذاته أو حتى يمكن لنا الإعجاب الفعلى بغائيته وإنما أفهم إنك تريد له الغائية لما يترتب عمليا عليها من مفاهيم أخلاقية تنعكس على حياة البشر.
الرخاوى: لعله كذلك من بعد خاص، ولعل تعليقى السابق حالا من أن قضيتى هى تأكيد عمل قوانين الحياة السليمة ضد قوانين الجمود المخل تكون متعلقة بما ذهبت إليه من أنى “أعتنق فكرة التطور سعيا إلى ترجيح كفة الحياة” ولكن العكس قد يكون صحيحا فقد يكون إندفاعى لحب الحياة هو المظهر الظاهر لقضيتى التطورية بما يكمن وراءها من تصور أخلاقي، دعنى أواصل الإستماع إليك فقد يصح زعمك وقد لا يصح.
السماحى: فإذا صح زعمى فإن إهتزار أسس النظرية الأخلاقية القائمة على التطور البيولوجى (أو الديانة التطورية) الذى قد يحدث فى حالة إصابة نظرية التطور البيولوجى العلمية إصابة كبيرة فى أهم أسسها هو الذى تحرص على ألا يتحقق، وليس ما يهمك فى المقام الأول هو غائية تطور الحيوانات كحيوانات، فإعتقادى الشخصى هو أن أهمية التطور تكمن فى قدرته الضخمة على إثارة إلهام البشر أو إلهامهم بالفعل لإستعارة مبادئه وأخذها للاستعانة بها فى حياتهم، وما أروع أن يكون لنظرية أخلاقية سند طبيعى واقعي.
الرخاوى: ليكن ما تقوله صادقا، ولكن دعنى أتصور تصورا مغايرا أو قل دعنى أبدأ من موقع آخر، لماذا نتحيز للأخلاق (أو لما نتصوره أخلاقا) كل هذا التحيز ، هل تتصور أن قضية الأ خلاق بشكلها النظرى أوحتى بصلاحيتها العملية هى قضية مستقلة عن قوانين الحياة لدرجة تجعلها غاية فى ذاتها ثم نسخر لها الفكر العلمى أو نبحث لها عن السند الطبيعى أو الواقعي؟ ألا يجدر بنا أن نتساءل قبلا أصلا عن حقيقة الأخلاق التى سمحت للأسماك الكبيرة أن تأكل الأسماك الصغيرة ثم تحافظ على نوعها بكفاءة رائعة، بل ويتطور بعضها منه (على حد زعم السلم البيولوجي) إلى ما هو أرقى … بل قل – ولو تجاوزا الآن – إلى ما هو نحن بشرا نتاحور حالا..، إنى لا أحسب أن الأخلاق منفصلة عن قوانين الحياة المتوازنة، ولعل السمك الكبير كان على أعلى درجة من الأخلاق وهو يأكل السمك الصغير حفاظا على نوعه واستمرارره إذ كانت وكمازالت الفسيولوجيا السمكية تسمح بذلك، ومازلت أذكر منظر سمكة مكرونة صغيرة رقيقة وهى قابعة داخل سمكة مكرونة كبيرة سمينة وقد ظهرت داخلها أثناء تنظيفها وخيل إلى – وكنت كبيرا – أن السمكة الكبيرة “حامل” فى الصغيرة ومرت ثوان قبل أن تنذكر أن هذا سمك يبيض ولا يلد، وتمر السنين وأكاد أكتشف أنى قبلت هذاالفرض الطبيعى لميلى إلى إعتبار أن ما يجرى إبتداء وأصلا هو طبيعى حتى يثبت العكس، ومازلت أذكر أن زوجتى (وكانت هى التى تقوم بعملية التنظيف) قد اقشعرت وتألمت ورفضت هذا المنطق لابشع لاذى يسمح بكل هذه القسوة، ولم أشاركها للوهلة الأولى كل هذا الرفض ولم أستشعر كل هذه الشفقة فهل يا ترى نسيت أن هذا السمك سمكا ،أن هذا السمك سمكا وأنه ىبما يكون من أخلاقه الفاضلة أن يأكل بعضه بعضا ليستمر سمكا، فى حين أن البشر بشرا وربما يكون من أخلاقه الفاضلة ألا يأكل بعضه بعضا ليظل بشرا؟ وربما…، وفى تاريخ لاحق وجدتنى أكتب فصلا كاملا فى كتاب مدرسى متواضع (3)عن كيف أن الناس للناس وبالناس (4) فى إطار حاجاتهم الفسيولوجية لتغذية المخ بيولوجيا والتواصل المرتجع حتى ذهبت إلى إحتمال أن تكون الفضيلة هى “كفاءة الفسيولوجيا البشرية” (5)إذا فالمسألة الخلقية عندى ليست سابقة ملزمة أسعى لدعمها بالدليل الواقعى المادي، بل لعلها نتيجة مفيدة أساهم فى تحقيقها بتأكيد سلامة القوانين المؤدية إليها، فما قولك يا أستاذنا فى افتراضك وكيف يستمر الحوار.
د. السماحى: لو كان ما افترضته حتى الآن سليما فأنا أعطى لنفسى الحق فى التساؤل عن مدى ضرورة الربط بين نظرية تطورية وصحة نظرية علمية؟ أليس من المتاح لأى مفكر إنسانى أن يضع تنظيرا لفكرته الأخلاقية بمعزل كامل عن الواقع المادى للأشياء من حوله؟
الرخاوى: إسمح لى أن أقاطعك بلا ذوق كاف (ولاعدل لأنى موزع مساحات الحوار أيضا) فأقول: لعل العكس هو الصحيح من منطق آخر، بمعنى أن نربط المعرفة العلمية وصحتها بالموقف الأخلاقى شريطة أن نعيد تعريف الأخلاق، وقد وجدت نفسى وقد كتبت مقدمة لبحث ماجستير (6)أشرفت عليه وشاركت فيه كتبت تعريفا للخلق (بعد سرد مؤلم عن أنه لا مفر من الاعتراف بأن مشكلة البحث العلمى – وخاصة فيما يتعلق بفرعناهذا (الطب النفسي) – …هى هى المشكلة الأخلاقية) أقول عرفت فيه الخلق على أنه “تناسب مساحة الرؤية مع إلتزام الفكر وحسم الارادة وتحقيق الفعل وتحمل مسئولية كل ذلك فى كل آن بما يتضمن فعل العقل من عائد الممارسة لتعميق الاتجاه ذاته أو تعديله أو كليهما “-ولاشك أنه تعريف محدود لغرض محدود ولكن أهم ما فيه هو شروطه السابقة حيث كان ينبغى على أن أحدد ابتداء العلاقة بين الأخلاق ومساحه الوعى وما يترتب على ذلك من فعل الارادة ومفهوم الأختيار، إذ لا مجال للحديث عن الأخلاق أصلا إذا كانت مساحة وعى الإنسان الفرد أقل من درجة معينة .
د. السماحى: (عندك..عندك ). إن الموقف الأكثر أمانا هو عدم الربط بين الأخلاق (الفكر العلمي) والمعرفة لاختلاف طبيعة نوعى الفكر هذين، ولتجنب حدوث تأثر للواحد إذا ما تغير الآخر.
الرخاوى: إن الأخلاق بمعنى الفكر العلمى ليست قضيتى الأساسية كما قلت، ولكنها بمعنى كفاءة الفسيولوجيا من جانب ثم مساحة الوعى وقوانين التوازن من جانب آخر هى هى قضية المعرفة، لأن المعرفة ليست فعلا منفصلا عن الوعي، وقد قلت فى نفس الموقع أنه: لا مجال للحديث عن الأخلاق أصلا إذا كانت مساحة وعى الانسان الفرد أقل من درجة معينه، ذلك أن هناك درجة من فقدان الوعى أو اختزالة لا يمكن معها استعمال لغة الأخلاق (كما أقدمهاهنا) أصلا، ومن تنازل عن وعيه إلى هذه الدرجة، حتى لو برق محتوى عقله فإنه يلجأ إلى مفهوم للاخلاق يقع تحت ما يمكن أن يسمى “حسن السير والسلوك ” وهوإ ذ ذاك يلجأ بأمانة محموده إلى الاحتماء بأجهزة وحسابات تحميه من نفسه ومن شكله فى أخلاقه ، واحتمال تشوهات معرفته من خلال تواضع مساحة وعيه …. وكل هذا طبيب محمود، إلا أن تعممه ليصبح هو القاعدة هو الخطر الخطير.
د.السماحى :…
د. الرخاوى: كدت أسمعك تعترض على ما وصلك من احتمال “طبقية المعرفة” بما يفتح مجالا للباطنية والحدس الصوفى ليزيد خوفك على ما ” هو علم ” حسب تعريفك له، وكل هذا صواب، ولكن الأصوب منه أن الآخلاق كما قدمتها هى “مرادفة للموضعية الذاتية” ، وهذه الدرجة من الرؤية (التى تشمل الداخلى والخارج بالضرورة ) ليست منحه تمنح للخاصة أومزية يتداولها – أو حتى يتوارثها – الصفوة، ولكنها نتاج تربية ومعاناه مستمرة، يستطيعها كل الناس، .. ، الباحث العلمى فى مجالنا هذا ينبغى أن يضع نفسه، أو يسمح للتنظيم العلمى الذى يعمل فى إطاره أن يضعه حيث يستطيع أن يواصل سعيه لشحذ بصيرته واتساع وعيه، وكما يتم تقويم بعض قيمة العالم من خلال تقويم الباحث وتحديد ماهيته وقد بنى “علم” بأكمله (رغم إختلاف المجال ودون تعرض للمحتوي) هو علم الحديث على هذا الأساس.
ثم أرجو أن تعذرنى إذ خرجت عن موضوعك الأصلي، ولكن لابد من اتفاق مبدئى عن ماهو “أخلاق” وما هو “علم” قبل أن نناقش تفسيرك لغائية التطور مثلا بالحاجة إلى “أخلاق تطورية”.
د. السماحى: .. ومن المباح أيضا للمفكر الأخلاقى إتخاذ مذهب “كأني” أى أن يدعم فكرته الأخلاقية بافتراض أن فكرة أخرى مستقلة عنها يمكن أن تعامل معاملة الصحيحة (كأنها صحيحة) مثل أن يقال أن على الإنسان أن يتصرف وكأن الروح سوف تخلد أو أن يتطور الإنسان فى حياته البشرية وكأن ذلك امتداد لتطوره البيولوجى المقترح، وقد اتبع كانط فى فكره العملى مذهبا “كانيا” بناه على إيمانه الوجدانى غير القائم على حجج منطقية تبرره بأن الله موجود والروح خالدة ثم دعا الناس إلى التصرف أخلاقيا وكأن هذا الاعتقاد صحيح.
الرخاوى: شعرت بك يا أخى تهددنا وأنت “تسمح” بافتراض يرضى خاطرنا مادام افتراضا مفيدا شريطة أن نبتعد عن “مساحة علمك المصون والمؤكد” – شكرا على رقة عواطفك، ولكن سحقا لاحتكارك تعريفا للعلم هو تعريف- واسمح لى بالتجاوز – الخائفين الأمناء، حتى افترضت أن ما ذهب ليه “كانط” كان مبنيا على إيمانه الوجدانى دون دليل على ذلك، أفليس الاحتمال الأقرب هو أن يكن نتيجة لحدس (موضوعي) قريب من حدس ديكارت (لذى لم يفهمه الكثيرون حين أصر على مواكبته لمنهج ملتزم!!) ومرتبط بمساحة وعيه التى تعدت المنطق المتاح لك أولى (أو لهم) فاضطر إلى إستعمال الأبجدية المتاحة، حتى فى استعماله المبدأ ”الكأني” إنما كان يقرب للناس ما لا يقترب من مساحة وعيهم بالافتراض للتواضع.
لك كل الحق أن تخاف، وخبرتى فى أبحاثى العلمية مع طلبتى نؤكد لى شرف خوفك على العلم من المعرفة غير القابلة للضبط والإعادة، كما تفسر لى خوفك من الطبقية والباطنية (المعرفية.. ومن ثم العلمية).. ولكن الخوف شيء والصعوبة شيء آخر، الخوف ليس مبرر للجوء إلى “المنهج الأضمن” طول الوقت، ولا هو مبرر لإنكار “المنهج الأصعب”، الخوف أمانة علمية تشكر عليها ولكنى أرفض أن أحبس نفسى فيها احتراما لأمانتك وخوفك (ولنا مثل ذلك).
د. السماحى: لا أقول هذا الرأى خوفا على الأفكار الأخلاقية التطورية من التأثر إذا تعرضت نظرية التطور البيولوجى للنقد الضعيف ولكن انطلاقا من رؤية نظرية تعتبر أن على الأخلاق (بالمعنى الفلسفي) أن تنفصل إلى الأبد عن المعرفة تجنبا للتأثير المتبادل بينهما الذى لو حدث دون وعى به فقد ينتهى إلى اختلاط عقلي.
د الرخاوى: لا داعى لأن أكرر لك ما سبق قوله حالا من شكى فى أن يكون الدافع الخلقى كما صورته أنت لا كما عرفته أنا كامنا وراء “الإيمان التطوري” وبالتالى تصبح مقولة “الأخلاق التطورية” غير مطروحة أصلا، وبإعادة النظر فى التعاريف المحتملة لما هو أخلاق وفضيلة (بما فى ذلك كونها الكفاءة الفسيولوجية التوازنية) لابد ن يفتح باب الشك فى قيمة هذا الفصل الأبدى بين ما هو علم وما هو أخلاق..
ولك منى فى النهاية بضعة سطور هى حقك على (وحق القاريء إذ هو مشارك بالضرورة) أفيدك فيها عن منابع الفكر التطورى البيولوجى فى داخل نفسى حسب ما أتصور (1) فقد نبع من فكرى البيولوجى لفهم الإنسان صحيحا ومريضا (2) ثم نبع من “عجز المنهج” التقليدى فى مجال على هذا عن تغطية احتياجات المعرفة الضرورية لمسيرة المرض والشفاء (3) كما نبع من حدث المجنون المحترق لتاريخ خلاياه وما يقابله من حدث المعالج (والباحث الفنومنولوجي) بالمقابلة المعايشية (4) وتدعم بعلم الأجنة المقارن (4) ثم يرفض فكرة السببية الخطية التى تضرب السببية الظاهرية لمجرد التتابع الزمنى كما سيأتى فى نقاشك مع الزميل مجدى عرفه. وعلى ذكر تعليقك على مقالة المترجم أستأذنكم معا لأعود أو لا أعود.. فإن صح الخير فإلى العدد القادم.
د. مجدى عرفه يشارك فى الحوار:
د. السماحى: لى رأى فى المقال المترجم بعنوان “الميكانزمات التطورية للسلوك العصابي” والذى نشر بالعدد الماضي فالكاتبان يدللان على أن بعض أنماط السلوك العصابى تشبه أنماط من السلوك البيولوجى لكائنات أقدم وأبسط (بلغة التطور) من الإنسان، وبصرف النظر عن مدى صدق هذا التشابه المقترح فإن الكاتبين يقفزان مباشرة إلى الاستنتاج التالي:
بما أن (ا) تشبه (ب) إذن (ا) نتيجة (ب).
وذلك بإعتبار (ا) تمثل السلوك العصابى و (ب) تمثل السلوك البيولوجى كما ورد فى المقال. هذا هو الشكل المنطقى للاستدلال الذى تم فى البحث وهو ما أعترض عليه بقوة نظرا لأنه لا يوجد سند منطقى ولا تجريبى يبيح الشبه بينهما، فالمعروف أنه يجوز منطقيا إفتراض السببية بين حادثين إذا توفرت بينهما علاقة التتالى الزمنى المباشر كالغيوم قبل المطر، والسخونة قبل تمدد المعادن، ولكننا لم نصادف من قبل أى دراسة نظرية أو تجريبية عن السببية بين شيئين يجمع بينهما التشابه، ولذلك فإن المحتوى العلمى للفرض التطورى فى بحث الكاتبين تعوزه الجدية لضعفه المنطقي، وأرى أن التعقيب الذى نبه فيه الدكتور مجدى عرفه مترجم المقتطف إلى خطورة هذا المدخل البيولوجى إلى الأمراض النفسية وإلى ضرورة الحذر فيه كان تعقيبا ضروريا وفى محله.
د. مجدى عرفه: لا أتفق معك بلا تحفظ فى هذه الرؤية للمقال المذكور فالكاتبان لا يحاولان- فى تصورى – الوصول إلى نوع الاستنتاج المنطقى الذى ذكرته وهدفهما ليس إثبات مثل هذه العلاقة السببية الساذجة أو غير المنطقية، وإنما هو توضيح التناظر analogy بين ميكانزمات السلوك العصابى لدى الإنسان وميكانزمات أخرى موجودة لدى الكائنات السابقة له فى السلم البيولوجي، بتعبير آخر فإن الهدف ليس إثبات أنه: بما أن السلوك العصابى الإنسانى يشبه بعض مظاهر السلوك البيولوجى القديم إذن فالأول ينتج عن الثاني، وإنما الهدف هو توضيح أن السلوك العصابى هو هو هذا السلوك البيولوجي، أو بتعبير أدق أنه فى جزء أساسى منه – المناظر على المستوى الإنسانى لمظاهر من السلوك البيولوجى الأدني، وهو تناظر يصل إلى درجة من التطابق فى بعض المظاهر الفسيولوجية، وهو ما حاول الكاتبان إثباته من خلال الأمثلة التى قدماها، وهذا الأمثلة ليست مجرد استنتاجات نظرية وإنما تقوم على دلائل إمبيريقية وتجريبية عديدة، ولعل هذه النقطة لم تكن واضحة بالدرجة الكافية فى الترجمة المقدمة لسببين:
1 أن المقال – كما أشرت فى التعليق – هو مجرد ملخص لعمل أكبر وأكثر تفصيلا.
2- أننى لم أورد فى الترجمة المراجع التى أستند إليها المؤلفان (محيلا ذلك إلى أصل المقال) ومعظمها أعمال تقدم مثل هذه الدلائل الإمبيريقية أو التجريبية.
وإذا جاز لى توضيح نوع العلاقة السببية التى يسعى إليها المؤلفان كما فهمتها فيمكن القول بأنها العلاقة التى تربط بين مظاهر السلوك العصابى الإنسانى والتطور الذى يمثله المخ البشري، وهى علاقة تستند فى الاستدلال عليها إلى المعطيات التى يقدمها التناظر بأمثلته المتعددة بين مظاهر السلوك العصابى والمظاهر البيولوجية الأدني، بالإضافة إلى المعطيات الإمبيريقية المتعلقة بتركيب ونمو المخ البشري.
وإذا جاز لى فى حدود معرفتى بالمنطق – أن أضعها فى صيغة منطقية مبسطة فإننا نجد أن المسألة ليست علاقة سببية بين (ا) (السلوك العصابي) و (ب) (السلوك البيولوجي) وإنما هى بين (ا)، (جـ) حيث (جـ) هى التطور الذى يمثله المخ البشري)، بينما العلاقة بين (ا) و (ب) هى مجرد خطوة فى عملية الاستدلال المنطقى تفيد أن (ا) تناظر أو تطابق وليس تشابه (ب).
ومثل هذا التصور يعد محاولة للتبسيط الشديد لعملية الإستدلال الأكثر تعقيدا وعمقا التى قدمها الكاتبان ولكنه قد يفيد فى توضيح الأمور.
وهنا أود أن أشير إلى نقطة هامة من الناحية الابستمولوجية وهى أن “العلاقة السببية” كهدف أساسى للبحث العلمى سعيا إلى المعرفة والمنفعة معا ليست – رغم أهميتها وغلبتها على نمط التفكير الإنسانى – هى نوع العلاقة الوحيدة التى يمكن أن تحقق المعرفة، وإنما أصبح واضح من خلال تطور مفاهيم الفكر الإنسانى وخاصة تلك التى يقدمها الإطار المفهومى الشامل لما يسمى بنظرية النظم العامة general systems theory، أصبح واضحا أن علاقة التناظر (7) analogy والمقصود بها التناظر بين أنساق أو مستويات الوجود المختلفة الحية منها وغير الحية هى علاقة هامة إلى أقصى درجة فى إكتمال فم ومعرفة هذه النظم، وهى علاقة لا تفسر الأمور سببيا، وإنما تقدم وضوحا وشمولا وعمقا فى معرفة “ما هي” الظواهر وعلاقاتها، وهو ما يمكن أن يتلوه التفسير السببى على أساس معطيات واضحة وشاملة وصادقة بقدر ما هو ممكن، ولعل أبرز مثال يجسد قيمة وأهمية علاقة التناظر فى تاريخ العلم هو ذلك الكشف العملاق عن بنية الذرة (بوهر) والذى تم ببساطة من خلال مناظرتها بالنظام الأعلى للمجموعة الشمسية.
تبقى نقطة أخيرة وهى أن التحفظ الذى قدمته فى التعليق ليس المقصود منه التقليل من قيمة المنهج الذى اتبعه الكاتبان، فإننى على العكس من ذلك أرى أنه من أهم المناهج التى يمكن أن تؤدى إلى معرفة حقيقية عامة وفى مجالنا بصفة خاصة، وكل ما قصدته هو التحذير من بعض المزالق التى تكتنفه.
وللدكتور سيد حفظى كلمة:
د. سيد حفظى: بعد قراءة المقالة عن عمر الخيام مجلة الإنسان والتطور عدد يناير 1981، قلت: الله ! ما دام التاريخ هكذا، ألا يمكن أن يكون التطور غير موجود أصلا؟ والإنسان قد خلق على هذه الوتيرة الواحدة المتكررة، هذا الذى يتكرر دائما.
د. الرخاوى: وهل التكرار ضد التطور؟ وهل تتصور أن التكرار هو دائرة مغلقة “محلك سر” ألم يخطر ببالك تقويم الاختلافات النوعية شديدة الدقة بين كل حلقة وحلقة، ألم تتصور احتمال التكرار اللولبى بدلا من التكرار الدائرى المغلق؟
د. سيد حفظى: إن التاريخ يعيد نفسه، وهذه الشطحات والنزعات الغريبة التى تطرأ مقدور لها أن تطرأ وتظهر فى ناس دون ناس، ومقدور لها أن تنتهى كما بدأت فى نطاق ضيق، دون أن تؤثر فى المجموع تأثيرا ذا فاعلية فى تغيير ما، إن التغيير والتطور إنما هو شكلي* لكن فى جوهر الأمر أن الأمور مستتبة ومستقرة، وهى تتكرر بالرغم من محاولة غير ذلك.
د. الرخاوى: لقد خيل لى أحيانا أن على أن أقوم ببحث حول ظاهرة شديدة الأهمية قد تصلح فرضا جيدا للحصر والدراسة وهو وجود انفعال أساسى (أو حتى غريزة) يمكن أن تسمى “الخوف من التطور” وقد سبق أن أكد فرويد على “الخوف من العدوان” “ومن الجنس” ثم أضاف إريك فروم مفهوما رائعا عن “الخوف من الحرية” وتكلمت فى بعض المواقع التى سبق نشرها عن “الخوف من الإيمان”، وأكاد أتأكد الآن من احتمال وجود خوف أعمق هو “الخوف من التطور” (يصاحبه ويرتبط معه خوف من التقدم للأمام ومن الحركة، ومن السلسلة والتتابع) أو لعل مثل هذا الخوف الشرعى هو بعض ما يكمن وراء رفض صديقنا د. السماحى ووراء بعض ما أدعي، وهذا الخوف بديهى ومشروع، فعلى حد علمنا: لم يتطور كائن حى وهو يعى بذلك (أو حتى يختاره) ومجرد افتراض أن الإنسان سوف يتطور عن نوعه هو تهديد لنوعه، حتى إذا تصور (حقا أو خطأ) أن النوع الآتى أفضل منه، لأنه – كفرد لن يلحقه، وكنوع لا يجد مبرر للتنازل عن نوعه، إن مصيبة الوعى بحركة التطور (وحركة التدهور المقابلة) التى ابتلى بها الإنسان إنما تجعله فى موقف شديد الصعوبة شديد الحرج، أكاد أقول أن بعض مظاهره هى بعض أنواع المرض النفسى دون تفصيل حالي، أما حكاية “مقدور له” فهذه قضية طويلة شائكة اسمح لنا أن تكون مجال حوار آخر قادم لا محالة.
د. سيد حفظى: وأنا صغير كنت أفكر أن أصبح طبيبا مخترعا مبتكرا وأشفى الناس.. واحقق ما لم يتحقق من قبل.. وأن يقال عنى أنى مخترع جبار عالم، ثم فكرت أن أكون عالم ذرة لأتوصل إلى ما لم يعرف من قبل، لكن أول ما علمت بالكمبيوتر، وأنا صغير، أصبت بإحباط، أحسست أنى لابد أن أكرر الوجود، الحياة ستبقى متكررة…، الأجهزة موجودة وأنا سأعمل فقط فى هذا، لا يوجد أشياء أكثر من هذا، أو أكبر من هذا.
د. الرخاوى: يا صدق طفولتك وخيبة استسلامنا لما يتكرر حتى ولو كان أعجب العجب، ولكن بالله عليك هل تتصور أن الإنسان سوف يستسلم لما يتكرر وحتى لو أراد هل يستطيع، وأنت..أنت,، حين شاهدت القصة المعادة فى عمر الخيام أو غيره هل كان تساؤلك عن احتمال فساد عقيدة التطور تساؤل الفرح المطمئن أم تساؤل المحبط المثار؟
د. سيد حفظى: ثم أجد هذا الكلام، وأحتار، هل حقا يوجد شيء اسمه التطور؟ ولو لم يكن يوجد أعلينا أن نرضى بأى شيء؟ ولو كان يوجد لم تتكرر القصة على مر العصور؟ إذن هناك شيء، جزء من حلقة مفقودة، وقد لا يكون مفقودا إنما قد كون غير واع به.
د. الرخاوى: لعل كل ما قلت رغم تناقض وله مع آخره – هو الصدق نفسه، الصدق الذى يلزمنا بالاستمرار لنا ولك ومعا – إن أمكن.
[1] – أرسل صديقنا جاد الرب مع هذا التلكس (هكذا أسماه) فصاصة من أهرام 14/1/1991 فيها نبأ من بوسطن عن “أول مؤتمر عالمى لمنع الحرب النووية” وكيف أن 3000 شخصا يحاولون أن يفعلوا شيئا لمنع استخدام أسلحة “الإنتحار الدولى”.
[2] – حرفت الدابة حرانا: وقفت حين طلب جربها ورجعت القهقرى.
[3] – ى . الرخاوى (1980) دليل الطالب الذكى فى علم النفس والطب النفسى: الجزء الأول: فى علم النفس، جمعية الطب النفسى التطورى: القاهرة.
[4] – الفصل الثانى، نفس المرجع
[5] – ص 48 ، نفس المرجع
[6] – د. يسرية أمين سليم (1978) أنواع الفصام، جميعة الطب النفسى التطورى، القاهرة.
[7] – التناظر هنا شئ مختلف عن مجرد التهابه أو التشبيه كصورة بلاغية لغوية مثل تشبيه الإنسان الشجاع بالأسد … الخ.