عدد ابريل 1981
الأدب نافذه على النفس
النزهة بين شرائح اللهب
(الرؤية بين شرائح النفس)
ديوان الشاعر: نشأت المصرى
قراءة : يحيى الرخاوى
مقدمة:
لم أفهم صغيرا كيف أن الشعر يواكب عادة (وقبل حتما) المراحل البدائية الأولى من تطور الأمم، ثم يظهر النثر ويسترسل و… وربما يكفى لاستيعاب نبض المعرفة، ونقل المعرفة، إذ ربما يستغنى عن الشعر (هكذا قيل لى صغيرا)، لكنى لا – فقد كان الشعر – ومازال – عندى قدرة تعبيرية أصعب، وعطاء معرفيا أكثف، فلماذا يرتبط بالبدائية والفجاجة؟
ولم أفهم حديثا كيف أن الشعراء أناس يرفضون استعمال اللغة كأداة.. و “أن الشاعر قد إنسحب دفعة واحدة من الموقف الذى يعد اللغة أداة، وأختار نهائيا الموقف الشعرى الذى يرى فى الألفاظ أشياء، لا علامات أو إشارات” (1) وبدا لى أنه من خلال هذه النضارة الإلهامية فى ذاتها لذاتها يعفى سارتر – مثلا – الشاعر – دون الأديب – من الإلتزام حتى ليقال “إن الشعر لا يستعمل الألفاظ بل إنها هى التى تستعمله”، أقول عجزت عن فهم ذلك – أيضا – لأنى رجحت أن يكون الشاعر قد تلاحم مع لفظه وحسه بحيث أصبح كيانه هو تعبيره، لا تستعمله الألفاظ بل يواكبها فى سيطرة قادرة مغامرة، وهذا العجز عن الفهم هو الذى دعانى إلى عدة مراجعات ذاتية وبحثية وقد إنتهيت إلى إنطباع مبدئى حلا لهذه الصعوبة أو هذا العجز، وفى ذلك أقول:
حقا إن الكلمات فى الشعر ترتد من الوظيفة التضمينية (2) إلى الوظيفة اللفظية (الصوتية أيضا) ومتخطية الوظيفة “الدلالية”، ولكن الواقع أن هذا لا يحدث مجردا ونهائيا بدرجة مبالغ فيها إلا عند بعض الذهانيين (الفصامين خاصة) حين يصبح اللفظ كيانا يقود الإنسان …. لا أداة يحملها ويوجهها، ولكن الفرق الأعمق بين الفصامى والشاعر هو خطوة أخرى فى النمو اللغوى النفسى لا تحدث عادة عند الكلام العادي، تلك الخطوة التى تجعل الكلام شعرا تتطلب – حسب تصورى – كلا ما يلى معا:
1- أن يكون اللفظ “كيانا زمانيا مكانيا فى ذاته ” له شخصيته المستقلة وحدوده المميزة المرنة فى نفس الوقت.
2- أن يكون فى نفس الوقت قالبا قادرا ينبض بما يتضمنه من معنى لا ينفصل عنه بل يثريه وينمو به فى آن (مثل الجسد يتضمن الحياة، فالجسد ليس مجرد وعاء للحياة ولكنه هو هو الحياة: يتضمنها، وينمو بها، وينوعها، وتميزه).
3- أن يواكب الشاعر لفظه حتى يندمجا فى بعد معرفى أبعد من مجرد التعريف السطحي.
4- أن يستطيع اللفظ من خلال هذا وذاك أن يتخطى التضمين الذى بدأ به، فيتعدى المعنى المبدئى أو المسبق ليشمل أغوار أبعد ويحرك المحتوى التضمينى إلى مجالات أرحب دالا على معنى حى نام نابض مغامر فى آن.
وبذلك وحدة نفهم “إستقلالية الألفاظ” فى الشعر، لا باعتبارها خالية من الدلالة، بل باعتبارها صانعة لدلالات جديدة، والشاعر إذ يشكل من الزمان والمكان معا (3)بنية ذات دلالة فيدمج الموسيقى بالنحت فى لغة مميزة لا يفعل ذلك لذاته فى ذاته، ولكنه فى نهاية الأمر يستعمل أداة رائعة مرنة طيعة إستعمال القادر على الوصول بها إلى أغوار سحيقة بضربة مباشرة يخرج منها بهذه الجرعة المكثفة من الرؤية لتؤدى وظيفة معرفية بشكل مخترق مباشر لا يستطيعه النثر الذى يكتفى باستعمال اللفظ كأداة مجردة لتوصيل معنى فكرى يحتاج إلى مركبة ينتقل بها إلى الآخرين لا أكثر ولا أقل، فالكلمة فى النثر (الكلامى خاصة) ليس لها إلا دور الإحتواء للفكر القائم فعلا ثم نقله وتوصيله، أما الكلمة عند الشاعر فهى أيضا كذلك، ولكنها قبل ذلك وبعد ذلك، مما يهز دعوى سارتر (4) – مثلا فى التفرقة بين الناثر والشاعر وزعمه بأن مجال الدلالات هو النثر أما الشعر فهو كالرسم والنحت والموسيقى لا شأن له بالدلالات، ذلك لأن هذه الدعوى إذا صحت فهى لا تتحدث إلا عن مستوى محدود للإبداع الشعرى، هو المستوى الجمالى دون المعرفى، ولعل السبب الذى دعا النقاد والمحللين إلى هذا التمييز الصعب هو أن هذه الجرعة المعرفية المركزة التى يقدمها الشعر فى تكثيف ولافى تبدو للناظر العابر بعيدا عن متناول الإسترسال الفكرى والمسلسل والمترابط، وهكذا تبدو لأول وهله وكأنها تشكيل زمانى مكانى يخدم المطلق ولا يلتزم برسالة معرفية أو فكرية أو إجتماعية أو غيرها، لكن المراجعة والجهد الصبور لابد وأن يكشفا فى الشعر رسالة معرفية إلتزامها الأول هو صدق التجربة، وأداتها هو ذلك التشكيل المكانى الزماني، ومادتها هى تلك الأغوار من النفس البشرية الأبعد من ألفاظ الكلام بمحتواها الثابت، لأنها هى مصدر الخبرة التى ما تكون الكلام إلا ليحاول أن يستوعبها، فينجح جزئيا أو يفشل كثيرا، ثم يأتى الشعر ( ومن النثر ما هو شعر ) ليعيد البحث فى هذه المناطق الغائرة مستعملا – بصفة مبدئية – المتاح من لغة دون الإلتزام المطلق بحدودها (المعجمية مثلا) فيغرف بها “كما هى” من الخبرة المتاحة لكنه، لا يكتفي- ولا يستطيع أن يكتفى بتلك الخطوة، فيمضى يعيد ترتيب المحتوى ويصبر على إنضاجه حتى ليحور فى الأداة المستعملة لتناسبه، أو هى لابد أن تتحور معه وبه ليتناسبا.
ويتطلب هذا العمل الإبداعى بداهة أن تكون الألفاظ – باعتبارها أداة إجتماعية – معرضة للإنصهار مع الخبرة الذاتية المنفردة فى تفاعل جمالى صعب لتتولد منها الصياغة الجديدة التى تهدف فى نهاية النهاية إلى التعبير الأدق فالمعرفة الأعمق.
الشعر وأغوار النفس:
من هنا كان الإقدام على النفس من خلال نافذة الشعر أصعب وأخطر من تلك المحاولة التى قدمناها فى العدد الماضى ناظرين من نافذة الأدب الروائى على النفس، ويستلزم ذلك بالضرورة التخلى بدرجة كبيرة عن الإلتزام بتنظير المعطى الشعرى وترجمته إلى الثابت من العلم النفسى (سرير “بروكست”)، ولكنه يتطلب الإستزادة من المعرفة من خلال تخفيف هذه الجرعة المكثفة باللغة النثرية الممكنة حتى ينتشر “البيت الواحد”على المساحة المناسبة من العطاء المعرفى مهما ترامت أبعادها، فإذا عجزت علومنا، وربما ألفاظنا النثرية (أو الكلامية بتعبير أدق) عن ذلك، فلا مناص من الخشوع أمام هذا البناء التشكيلى زمانيا – مكانيا، المعرفي: جمالا مخترقا، نستلهمه وعيا أعمق، ونعتذر له عن عجز لفظى أو علمى مقصر، ونأمل فى حل علمى فنى مقبل.
تعريف بالديوان (النافذة) وبداية:
ولابد أن يتوقع القارئ بعد ذلك ما سيبدو منا من قصور إذا نحن حاولنا الإلمام بالبعد المعرفى لقصيدة واحدة ذات أصالة مناسبة فضلا عن ديوان بأكمله، لذلك فإننا سوف نكتفى بعينات منتقاه نتعرف من خلالها على بعض أغوارنا، وقبل ذلك دعونا نتعرف على الأبعاد الشاملة للعمل إذ نتجول بين أنحائه إبتداء:
هو ديوان صغير صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1979 يحوى خمسا وعشرين قصيدة يتراوح زمنها بين 1962 (من أول قصيدة “باختصار”) وعمر الشاعر بضعة عشر عاما، و 1978 “فايتون يتحدث” بعد أن وصل إلى الخامسة والثلاثين، وأهمية هذا التحديد هو أن ما كتب فى سن أصغر لا يفيد فى تقويم النضج الفنى فحسب ولكنه يفيد – من موقعنا هذا – فى تحديد عمق المادة المعرفية حتى لو قصرت أداتها، وقد تكون الأعمال الباكرة قد لمست منطقة فى النفس أعمق وأخطر فى سن مبكرة، رغم أنها قد شكلت بأدوات أقل مهارة، والعكس صحيح، اللهم إلا فى الإبداع المضطرد الذى تحافظ الممارسة المستمرة على تمهيد الطريق بين الداخل والخارج بشكل متجدد يزداد ثراء بالخبرة والتعرى والمعاناة المستمرين، كما يزداد إتقانا بامتلاك ناصية الأداة التعبيرية.
عينات معرفية عن النفس من خلال مقتطفات مختارة :
ثم ننتقل بعد ذلك إلى هذه المحاولة المتواضعة لنعرف ونتعلم مما رأى شاعرنا وما صاغ مما يوافق ما رأى العلم أو الممارسة فى مجالات أخرى وبلغة أخرى أو ما قد يخالفه فيثريه.
1- الموت.. الولادة ..والنمو:
كتب شاعرنا قصيدتين (الأشلاء، وحلم عيد الميلاد) فى نفس العام 1963 وربما نفس المناسبة بل لعلها عيد ميلاده العشرين (وداعا لأمسى، لعشرين عاما مضت من حياتى)، الأولى يودع فيها تاريخه وداعا قاسيا يعلن من خلاله هباء مافات:
“وداعا لأرض النفوس البوار
نفوس لها ضفة واحدة
ودفة مركبها فاقدة “
وتستمر هذه النغمة طوال القصيدة حتى ليخيل للقارئ أنه كهل يكتشف أخيرا ثم يودع حياة اللاجدوى جميعا، فيلعن الذكريات والسنين الضباب، ولكن وسط هذه الحفل الجنائزى يطل شعاع بعيد من بين الأشلاء ذاتها:
”وأشلاؤه فح منها الأنين
تقول غدا
سيتلتئم الكوخ نورا بريئا”
لكن هذا الإلتئام النورانى يبدو حلما مؤجلا وليس أملا محتملا لأنه يحدث خلف الزمن إلى لا زمن، وكأنه يحمل بالرغم منه بذور الخلود أو خوف التلاشى بل كليهما معا وفى نفس اللحظة.
ثم يتجسد الحلم فى القصيدة التالية مباشرة حين يأتى طفل على مشارف الصباح، يأتلق إبتسامة فى غمرة المخاض، كفاه عامران بالدواء وقلبه محبة بلا قرار، ورغم أنه أشار إلى أن هذا الوليد هو يوليو العظيم شارع الشموع إلا أننا يمكن أن نقول أن هذا هو البعد الظاهر، وهو محسوب له بلا جدال، لكنه لا ينبغى أيضا أن نكتفى بالقول أن أسقط الأصل وهو الولادة الجديدة – بعد “الجنازة السابقة”- على حدث خارجى لاشك أن له قيمته فى مسار حياته وأمته، لكن القيمة المعرفية النفسية الى يقدمها هى تلاحق الوفاة والولادة، وهى هى قيمة فكرة “إعادة الولادة”فى عملية النمو النفسى المستمر، فالنمو النفسى لا يتوقف بعد فترة المراهقة، ولا هو خبرة تزداد خطيا بزيادة التجارب ولكنه موت وولادة متتابعان، أو هما متداخلان يحدثان معا معا، وقد يعى بهما الإنسان أو لا يعي، وقد يعنى بأحد شقى المعادلة دون الآخر، وقد يعى بشق يتلاحق تلو الآخر، وهذه من حقائق تكوين الإنسان المرعبة التى تناولها أساسا “أو تورانك””وإريك إريكسون”بالوصف والتسلسل، إلا أن عمق الخبرة يعلنها بوجه خاص مرضى الهوس والاكتئاب الدوري، ويشكلها شعرا مخترقا هؤلاء الذين إمتحنوا بالوعى بما يحدث، ثم شرفوا بالمقدرة على وصفه مكثفا فى هذا التشكيل الإبداعى المميز، لذلك فإن هذه “العملية”تظهر فى “الشعر”عادة فى القصائد التى تحمل إشراقة التحدى المكثف مع الوعى بالتوليد وليس بمجرد الفرحة الطفلية المنشقة، ويبدو ذلك جليا فى قصيدته نقوش جرح فى وجه الزمن:
”أصبح قربانا يتوالد كل عشية” (ص 22)
هذا التوالد – مع أنه قربان – هو التكثيف المعنى لشمول دائرة الوعى لشقى المعادلة، إلى أن يقول:
”ولأنى نبض التكوين العائد” (ص 22)
هنا تشرق فرحة التحدى بالوعى والإختراق حتى تزيح المعوقات “بالأمر”بما فيها الأحزان.
”فى طرقاتى يلتزم الموت يمينه
أغرق أعشاش الحزن البائد
أنبض أكثر” (ص 22، 23)
وهذا كله إعلان لخروج النقيض من النقيض فى حركة مستمرة بناءة يترجمها الوعى الإبداعى إلى هذا التشكيل الجمالي. وإعادة الولادة لاتعنى أن كيانا نفسيا يذهب ليحل محله كيان جديد بقدر ماتعنى ولافا من بين ظاهر التناقضات التركيبية يتكون على مستوى أعلى من النمو، ويشير الشاعر مباشرة إلى هذا التصالح بين التراكيب المختلفة (لعلها الذات الوالدية والطفلية عند إريك بيرن) فى نفس القصيدة الثانية حلم عيد الميلاد:
”حتى عصا العجوز لم تعد لتخويف الصغار
أمست تعينها على المسير” (ص 70)
وهذا التصالح الداخلى بين الكيان الوالدى والطفلى ليس تسوية متأدبة أو حل وسط معطل، ولكنه ولاف (جزئى لا محالة) نتاجه المولود الجديد (التركيب النفسى الجديد).
2- أنواع الوحدة وضرورتها:
فى قصيدة أغنية على مفارق الإفتراق يقول الشاعر:
”ووحدتى فى وحدتى إنتهاء
كيف لفاقد الفؤاد أن يصلي
فوحدتى إلى جوارك الرجاء والدعاء” (ص 73)
لقد تعودنا أن نبكى الوحدة بلا تحفظ، وأن نتصور ونصور أن الحب والحياة الصحيحة يوجدان فى اللاوحدة بشكل أو بآخر، لكن شاعرنا يعلمنا ماقال به وينيكوت (5) من أن الصحة – فى هذا الصدد – هى أن تحافظ على “وحدتك مع” (6) (فى وجود أو بجوار) وليس أن تتخلص منها أو تذوب فى الآخر هربا واستجداء، والشاعر يعلن هذه الحقيقة بهذا التكثيف المباشر مما يؤكد هذه المعرفة التى صاغها العلم فى صورة أخري: “ومع تأكيدنا للوحدة كبداية مفروضة، ثم إختيار صعب، ثم نتيجة طبيعة لعمق وانتشار الوعي، نعود فنؤكد أن ذلك كله هو نقطة بداية لوجود تواصلى مستمر مع الناس وبالناس، أما شكل التواصل فى حركته الجديدة، فهو ما يشير إلى صلابة الذات التى تسمح لها بالدخول فى علاقة حميمة دون خوف من التلاشي، كما تسمح لها بإنهائها والعودة إلى مركز وحدتها دون التهديد بالتناثر “تمضى أحد الناس: تدخل فيهم لا تتلاشى تبعد عنهم لا تتناثر” (7)، وشكل الوحدة الصحيح هو مايمكن أن يسمى “الوحدة الإرادية المرنة ….. التى تدل على الإستقلال وتؤكد على قدرة الإنسان (وليس إضطراره) على التواجد بذاته لذاته بعض الوقت، مع شجاعته فى رحلة التواصل من نفسه إلى الناس وبالعكس” (7)
3- الزمن: بعد أخطر فى تركيب النفس:
ويعبر الشاعر على لحظة أخرى هى النقيض لمسيرة “النمو – الانسلاخ – الولاف”(الموت الولادة فى آن) وهى لحظة “التوقف الموت”حين يتوقف الزمن بحيث تصبح الحياة مكررة اضطرارا وحينذاك يتجمد كل شئ، ويختفى إحتمال التواصل (الحب) ويختفى المستقبل (الحلم) وتتوقف الأرض (الحياة – الإنسان) فى عملية حساب خاسرة.
“فالحب عملة فى الكون – مستحيلة
والشمس تطلع إضطرارا
والأرض قرفصاء عند بؤرة الزمن (ص 18)
تحصى دموعها
والحلم …. يفقد المدارا “
ورؤية البعد الزمنى فى أغوار النفس بهذا الوضوح من عبور حاجز الزمن إلى “لا زمن”إلى توقف المدار عند بؤرة ساكنة، هى رؤية شاعر ينبه العلماء إلى ضرورة مواكبة مسيرة العلم الطبيعى حين دخل الزمن بعدا حيويا لا غنى عنه فى إدراك أبعاد الوجود، والزمن من هذا المنطلق هو كيان متداخل فى الخبرة والمسار وليس مجرد أرضية توقيت سطحي، وليس هنا مجال لتوصيف هذا البعد واضطرابه ولكن المجال يحتم علينا أن ندرك كيف قال حدس الشاعر ما ينبغى “أن نعرفه”وكيف يحتاج علم العالم إلى الإنطلاق من هذا الحدس إلى ما يكمل علمه بلغة أخطر، وربما قياس أشمل (9).
4- خبرة الحزن .. وأبعادها:
فإذا إنتقلنا إلى ظاهرة نفسية أخرى كثر حديث علماء النفس والطب النفسى عنها تحت عناوين مختلفة أكثرها ماعرف بالإكتئاب، وجدنا الشاعر وقد قدمه لنا فى عدة صور تحتاج إلى وقفة متأنية بالمقارنة بما يقدم به الحزن بلغة العلماء التى تتراوح بين ربطة بعقدة أوديب وما يقابلها ويلحقها (فرويد)، وبين علاقته بالتأنيب إزاء أحلام قتل الأم مصدر الحب خوفا من هجرها (ميلانى كلاين، فيربيرن، وجانترب)، فالحزن عند شاعرنا كيان (وجود) قائم يقاتل ويخاطب.
“أقاتل حزنى …. لأصبح دمعة عينيك خلسة ” (ص 12)
وتنبهنا مثل هذه الصور (التى تترجم فى لغة البلاغة إلى مصطلحات التشبيه والإستعارة) أن لهذه المشاعر الكيانات بعد نفسى يحتاج النظر فى طبيعة الخبرات باعتبارها “كيانا”لا “ذكري”، أو باعتبارها “ذاتا”وليست “معلومة”، وهذا البعد المتجسد ينقلنا نقلة هائلة من مجرد تفسير وتأويل العواطف من خلال أحداث قصصية تتبعية إلى مواجهتها ومعايشتها باعتبارها “كيان”ذاتى فعال.
والبعد الثانى فى هذه المواجهة هو ما يشير إليها الشاعر من أبعاد المشاركة التقمصية، فهو إذ يقاتل حزنه رفضا يقبل فى نفس الوقت أن يكون هو ذاته “حزنها دمعة مختلسة”وفى هذا ما فيه من معنى أكثر عمقا لمشاركة مطمئنة حيث يصبح الحزن ترياقا ومصدر عطر وشجرة بشر، وفى هذا التداخل إحترام للحزن المشرق اليقظ إذ هو هو مصدر للبشر الوليد، وهذا التداخل الولافى يحتاج إلى فهم مباشر قبل وبعد تفسير الإستقطاب بين العواطف، أو حتى الإبدال بالتناوب بين أى إنفعالين متضادين ظاهريا فحسب، ولعل هذا الولاف إذا ما تناسق نسجا جديدا أصبح هو مجرد “خاطر حي”بلا إسم شائع، هنا يصبح “الحزن عبقريا”مثلا كما قال فى نفس العرض، ومن نفس البعد الولافى المتداخل نشاهد “جحيم النبالة المستعادة”فى تركيبة يصعب قبولها للوهلة الأولي، إلا أنها تحمل نفس العملية الولافية الصعبة التى لايستطيع لمسها ثم صياغتها فى هذا التركيز المكثف إلا شاعر
“… وأنت تفتش بين الصدور عن الخاطر الحي، تنقذه حزنك العبقرى ….
… تصفق أجنحة الفجر إن شاع جحيم نبالتك المستعاد” (ص12)
وهذا النوع من الحزن الحى المشارك المولد يختلف كل الإختلاف عن حزن ثلجى دائم الفجاجة لا ينضج أبدا، منهمر بلا إنقطاع
“والدمع نيئ بلا مصب” (ص 15)
وهنا يعاد صياغته بعد النضج والحركة فى ضربة واحدة، إذ “نئ”ضد “ناضج”، واختفاء المصب إما يعنى دورة ملقة أو جمود ثلجى يتماشى مع عدم النضج، وبعد “النضج الحركة”بصفته حدث آنى مستمر ينبغى أن يقفز إلى بؤرة إهتمام النفسيين – وقد فعل نسبيا – حتى لا يكتفوا به “معلومة تاريخية سابقة”.
وآخر مثالين – دون حصر – نتعلم منها أبعاد حزن الإنسان وتضايقه يظهران فى إبداع شاعرنا مرة وهو يلتحف بالحساب الضابط المتأنى ضد ظهور حزنه الداخلى حتى لينكر على نفسه حق إظهار الحزن، راضيا أن يدمغوه بالجنون (ربما رفضا وخوفا من خبرته) إن هو أعلنه رغم مابه من “عذاب ينجيه فى القلب عذاب”فهو يعود عاقلا بالكاد ويتعهد بالتزام “النظام”وإلا:
”والآن: أحدثكم من آخر أبراج العقل
فأعاهدكم أن أحيا كالعقلاء
بالكامات المخنوقة تحكى بحساب
وعذاب ينجيه فى القلب عذاب” (ص 57)
ثم يأمل أن تنصفه الكلمات مادام الحزن غائرا حتى ليكاد يكون محظورا:
”وهنا يبقى أن تنصفنا الكلمات
فإذا بانت فى عينى للحزن متاهات
قولوها – هذا مجنون” (ص 57)
ووقفة أمام هذه الصورة جديرة بأن تحتم علينا ضرورة تخطى “شكاوى الحزن” … ومظاهره السلوكية إلى حزن لم يبح به الفعل السطحى والظاهر المتاح، وهذه المنطقة من الحزن ليست فى متناول الآخر (وخاصة إن كان فاحصا) إلا من خلال رحلة المشاركة والتقمص الفنومنولوجية المغامرة، وبدون هذه الرحلة فالناس تتعرف على بعضها من خلال عينات وجود محسوبة على قدر تحمل الألفاظ (الكلمات المخنوقة تحكى بحساب) لكن الموقف العلمى والمعرفى فى مجال النفس يتطلب أدوات أدق واختراق أشق، وكلمات الشاعر – إذا – هى مفتاح هذا الطريق من إستعمال جديد للصور مرسومة بالألفاظ النابضة المرنة.
أما المثال الأخير فهو يتناول إتهام الدموع هذه المرة باعتبارها التعبير المناسب عن الحزن، وهذا المظهر (البكاء) قد يبدو عند المبتدئين والمتعجلين مرادفا لدرجة ما من الحزن، وقد يتصور البعض أن “كم”الدمع يتناسب مع “فرط الحزن”، كذلك هناك شائعة علمية عن تلازم الشعور بالذنب مع الإكتئاب الحزين وكلا الظاهرتين تحتاجان إلى إعادة تقويم وها هو حدس شاعر يحاول، فيعلن أن ساكنة العام الحزين تدرك من خلال يأس متسحب (يسرق الأيام من خلف الزمن) أن الدمع لا يفيد تنفيثا، ولا يكفى “الشعور بالذنب” (بكاء عيبا) أن يغفر الذنب:
“وتدارى دمعة الأعياء
لم يعد يصلح دمع العين للغفران صكا”(ص 51)
وللشعور بالذنب قصص وروايات عند المحللين الذين يربطونه إما بعقدة أوديب خاصة وإما بمضاجعة المحارم عامة، وأخيرا بالندم على قتل الأم تخيلا، لكنه من بعد تركيبى مباشر قد يعلن “التوقف عن الحدث”أكثر منه “التعلم من الحدث”أى أنه قد يكون مفيدا لتقويم بعد “الحركة والنمو”أكثر منه تفسيرا لموقف “تاريخي”معين، وكل ذلك يشير إلى قدر إحتياجنا إلى منطلق متجدد من وعى مغامر مع المبدعين والمجانين معا لنرى “مباشرة”الصورتين الإيجابية والسلبية لما “هناك – هنا ” فى تفاعل لا يهمد.
4- إستشراف الجنون وعالم التحدى:
وإذا كان شاعرنا قد تناول “الحزن”من أكثر من جانب حتى تم “الضبط والربط”بآخر “أبراج العقل”ليعاهدنا أن يحيا كالعقلاء، فإنه ما فعل ذلك إستسلاما وغفلة، بل لأنه أدرك “حجم الجنون”وغامر بتحمل مسئولية التحكم فيه، وإخفائه، بل – ربما – إستيعابه، والنمو من خلاله، فهيا نرى مارآه كيف رآه، علنا نتشجع فى مواجهة داخلنا بعض الشئ وربما نهلنا ما نستطيع “من داخل أنفسنا مما هو نحن مما لا نعرف”.
1- فهو يرى الجنون هو الإغتراب، حين يقول ما لا يعني، أو يعبر وجهه عن غير ما يعطى أو “يصلى دون أن يكون هو”، أو أن “يتخلى عن حواسه بعد الخمسة”، حين يحدث كل هذا فهى ملهاة جنون يرفضه بالعذاب، ولا دواء لرفض الإغتراب اللامبالى إلا تحمل العذاب الباني:
”إن يسألنى ربي
- حين تصلى من أنت ؟
هل وجهك ما أعطيت ؟
سأجيب – نسيت
قهقه فى الصدر عذابي
ملهاة جنون أن ينتحر الضوء الحابي
أن أتحول أطرافا وحواسا خمس” (ص 35)
وهو إذ يرفض هذا الإغتراب والوقوف فى طابور التزاحم حول الفتات يقبل غربة عنهم، تتمادى حتى تصبح غربة عن جسده وأعضائه بل وحروف كلماته، ويعيش بوعى أعمق رغم معكوس المنطق:
“أدرك أنى عنهم صرت غريبا
مبتعدا عن وجهى ولساني
منتبها لحروف تنبض فى شرياني
حتى بات الصمت ضجيجا، والصفحة خرساء النبرة
وتلاشى فى أذنى صخب الأشياء
.. ألا إنى أسمع أكثر”(ص 38)
وهذه التركيبة بادية التناقض تكاد تكون هى هى خبرات الجنون، (مع فارق الترتيب والنتاج كما سيرد حالا) ذلك أنه فى الجنون ينفصل الأنا الجسدى عن الأنا النفسى (لانج: النفس الفرغة من الجسد (10) ويصبح الصمت ضجيجا (الرخاوى: وهتفت بأعلى صمتي) ويحتد الوعى فيما يسمى الوعى الذهانى (11) (وليس البصيرة الذهانية (12) التى وصفها أريتي) وهذا الوعى لا يختلف عن وعى المبدع المحتد (أسمع أكثر) إلا فى نتاجه ومساره التالي، ففى حين ينتهى المبدع إلى مثل هذا يتناثر المجنون إلى ضد هذا، وحين يبتعد الشخص عن وجهه ولسانه وتتفكك الحروف من خلال وعى محتد تهتز الأشياء وتكاد تتناثر، فالوعى المفاجئ بجرعة مفرطة لا يحمل أمانا لأن المسار القادم مجهول فى العادة:
“والصحوة ملاح راجف”(ص 45)
والتناثر إذ يهدد يفرع الأشياء إلى أجزاء لتصبح بقايا غير متماسكة :
“وضجيج مخبول زائف
وكيانى وجه مهجور
فيه بقايا أشجان وبقايا فرحه
وضمير أضحك جرحه”(ص 45)
2- بندول الفرحة والحزن والكلمات (مايقابل ذهان الهوس والإكتئاب) :
والشاعر – عادة كل شاعر أصيل – يستطيع أن يواكب بندول عواطفه المتلاحق، مرة يحركه الجانب الآخر بإرادته أو بأمنيته، ومرة يرجو سرعة خطوته ومرة يستسلم لأرجو حته يتمايل معها أو يقع منها، وهذه الفرحة التى تحل محل الحزن هى ماعبر عنها فى قصيدته “لما تنصفنا الكلمات”فهو يتمنى إبتداء أن يتخلص من أحزانه الغامرة حتى لو “فلت منه العيار” لدرجة أن تستعبده الضحكات:
“كم أتمني، أصبح مأوى للأحزان
حتى لو تستبعدنى الضحات”(ص 56)
ولكنه يخاف من التمادي، فهذا النوع من الضحك، رغم أنه تصوره فى البداية “عطاء للإنسان” سرعان ما فصله عن الأحداث فضحك للضياع، ولخيانة الصديق، وتساوت الأمور عنده مادامت القصة قديمة تتوالى نصرا وهزيمة، ثم هو يتمنى – مع حركة البندول المقابل – أن يصمت لأن هذا الضحك إذا تعدى حدوده إلى “كل الأحياء”أصبح جنونا صريحا لا يكتمه إلا صمت مطبق “رباه ، أعط المجنون الصمت” ، لكنه يرفض هذا الحكم ” مجنون ؟؟؟ سامحهم يارب “وتمضى القصيدة حتى يعتبر أن ظهور الحزن سلوكا هو أيضا جنون (كما ذكرنا) ” فإذا بانت فى عينى للحزن متاهات، قولوها هذا مجنون “.
وكأنه قد رأى ما رآه العلماء (فى الطب النفسى مثلا) من أن فرط الضحك بلا إلتزام أو فرط الحزن بلا فاعلية هو خروج عن السواء، لكن رؤيته – بخلاف رؤية العلماء فى الأغلب – ترسم الصورة الصعبة التى تتمنى أن يرقص الضحك ويحتد الألم ومع ذلك نحافظ على توازننا، وبرؤيته – ورؤية الشعراء أمثاله – هذا البعد الأعمق ثم إحتفاظه بضبط خطاه، نستطيع أن نفيد فتح صفحة الحديث عن الفرق بين الإبداع والجنون.
فالمجنون عبد لجنونه، ورغم أنه يبدو أعمق من الشخص العادى إلا أنه غير موجود فى جنونه، اذ حل داخله الفج محل خارجه المتماسك أو فيما بين بقايا تماسكه، أما المبدع فقد أطل على جنونه وأطل عليه جنونه، وسمح له دون خوف من مثل، لكنه يظل طول الوقت ممسكا بناصيته، مديرا لدفته، دافعا – بالضرورة – ثمنه، وما أقساه فى كثير من الأحيان.
و بعـد:
فقد كففت نفسى عن التمادى فى موسوعة المعرفة التى فتحتها على هذا الديوان إلتزاما بحجم الدراسة وخوفا من تشتت الفكرة، لكن لابد أن أشير إلى أن ماعرضته هنا ليس سوى دراسة عينات محدودة لعطاء معرفى عن النفس غير محدود، وإذا كان لى عودة أتناول فيها بعض ما عرج إليه شاعرنا من تراكيب النفس سواء فى علاقة الذوات ببعضها ” أبى لم يجئ أبى يختبئ، بأحشاء غيب صدئ ” (ص 78) أم بإعادة النظر فى عقدة أوديب من خلال بعد تشككى آخر ” فالأم تنتشئ بحضن قط الحارة المسن ” (ص 50)، أم من خلال دعوته للنكوص البانى ” لأعود إلى أول يوم فى عمر الكون ” (ص 44) دون غيبوبة، حيث يعلن إصراره أن يظل باب الدار (النفس) مفتوحا ” لا يغلق بابا إلا أبناء الضعف ” (ص48) .. أقول إن هذا كله وغيره يحتاج إلى تفاصيل أشمل وحيز أكبر قد يحين حينه أولا يحين، ولكن دعونا نأمل أن نتعرف أكثر على ” ماهو نفس”من خلال “ماهو إنسان مبدع”جنبا إلى جنب مع معلومات العالمين بالسلوك والمسالك.
إستدراك:
فاتنى أن أقول مالم يقله الديوان، إذ لعل المتروك له نفس دلالة المطروق، فهذا الشاعر منذ شبابه لم تستدرجه حاجته ووحدته إلى النعيب الغرامى، أو الذوبان الإلتهامى، ولم يحلم بروما نطيقية منشقة، ولميتشنج فى عبث غاضب دون ألم ذاتى، وكل هذا واجب الذكر ونحن نتحسس معالم الإبداع الجديد آملين أن يتضاعف “أدب المواجهة”على حساب “أدب الحلم”أو “أدب التخدير”أو “أدب التبرير.
1 – سامى الدروبى (1971)، علم النفس والأدب – دار المعارف، (ص 51).
2 – Connotation
3 – عز الدين إسماعيل (1963)، التفسير النفسى للأدب، دار المعارف، (ص56).
4 – سارتر (1961) ما الأدب، ترجمة محمد غنيمى هلال، مكتبة الأنجلو.
5 – Winnicot
6 – To Be alone with.
7 – يحيى الرخاوى (1979) دراسة فى علم السيكوباثولوجي، دار الغد للثقافة والنشر (ص 603).
8 – نفس المرجع (ص 24).
9 – يمكن الرجوع إلى الزمن كبعد فاعل فى دراسة فى علم السيكوباثولوجى (مرجع سبق ذكره) بما يقابل حدس الشاعر.
10 Laing. -مرجع سبق ذكره (ص 57).
Psychotic awareness – 11
12 – Psychotic insight