مقتطف وموقف
نقرأ معا مرة ثانية:
شجاعة مولانا الإمام الغزالى .. وأزمته..
المقتطف:
جاء فى حديث عبد الغافر بن إسماعيل الفارسى المتوفى 529 هـ وهو معاصر للغزالى قوله “ولقد زرته مرارا, وكنت أحدث نفسى بما عهدته عليه فى سالف الزمان من الزعارة[1], وإيحاش الناس والنظر إليهم بعين الازدراء والاستخفاف به كبرا وخيلاء, واغترارا بمارزق من البسطة فى النطق والخاطر والعبارة وطلب الجاه والعلو فى المنزلة, ولكنه صار على الضدمن ذلك, وخلص من تلك الأكدار وأفاق بعد الجنون”.
عن هامش المنقذ من الضلال.
الموقف:
هل جن حقا مولانا الإمام الأكبر أبو حامد الغزالى؟
هذا هو السؤال, وإذا كان قد جن كما جاء فى حديث عبد الغافر بن إسماعيل, فهل الجنون – فى ظروف خاصة – يصلح النفس ويخلصها من تلك الأكدار مثل الحدة والشراسة والاستعلاء والاستخفاف والغرور؟
ان الموقف الذى نحاول أن ندعو القاريء إلى أن يعيد النظر معنا فيه هو معنى هذا الجنون وروعة شجاعة إمامنا الغزالى التى فاقت كل شجاعة, حتى يكتب بعضا من خبرته فى ‘المنقذ من الضلال’ ويعترف بمرضه بصراحة الشرفاء وإن كان قد حبس كنه خبرته شديدة العمق, خوفا من عجز الألفاظ عن الوفاء بها, ومن ثم سوء استعمالها لمن لا يحسن فهمها .. كما قال فى الإحياء عن علم المكاشفه بأنه “… لارخصة فى إيداعها الكتب وإن كانت هى غاية مقصد الطالبين’ ثم أردف ‘أما علم المكاشفة فلم يتكلموا فيه إلا بالرمز والإيحاء على سبيل التمثيل والإجمال, علما منهم بقصور أفهام الخلق عن الاحتمال”.
إذا فهذا المقتطف يثير ثلاث قضايا:
1 – شجاعة الاعتراف بالمرض مع تحمل مسئوليته: وهذه القضية لو فتحت ملفاتها بإصرار وأمانة, وليس بتهريج واستهانة, لأثرتنا بلا حدود.
2 – إعادة النظر فى احتمال أنه بعد خبرة ما يسمى مرضا يمكن – فى ظروف ملائمة – أن تتغير طباع الإنسان إلى أحسن، تتغير فعلا لتغيير التركيب الداخلى وليس لمجرد تعلم شرطى جديد.
3 – إدراك هناك من الخبرات الإنسانية ما تعجز الألفاظ عن الوفاء بوصفه, وتمسك العلماء بقيود الألفاظ العاجزة لابد وأن يؤخذ على أنه أمانة واجبة ضد أى شطحة غير مسئولة, ولكنه لابد وأن يؤخذ أيضا على أنه قصور عن حقيقة الخبرة الإنسانية بأعماق معينة, وعجز عن وصفها بما يسمح بالتواصل دون سوء فهم أو تسطيح, وهذا الموقف الذى ندعو إليه القارىء فى صحبة مولانا الغزالى خليق بأن يزيد احترامنا لهذا الإمام الفحل, وفى نفس الوقت أن يحسن رؤيتنا للتجارب الإنسانية قبل الإسراع بشجبها خوفا منها.
وبحور الإمام الغزالى لا نهاية لها, وإن كانت قد نالت بعض حقها فى دراسات نفسية سابقة, فإنه مازال ينتظر مزيدا من الإسهام والبحث والمراجعة من موقع آخر, لهدف آخر !!
[1] الزعارة: الشراسة