حول موقف علم النفس من قضية الأخلاق
نجاة النحراوى
لم تتفق مدارس علم النفس المتنافرة والمتناحرة أحياناً، والمتجاورة وليست متحاورة فى أحسن الأحوال، على شئ فيما بينها مثلما اتفقت على ما مؤداه أن سلوك الإنسان وتصرفاته أمر تحدده عوامل معينة تقع فى الأغلب خارج نطاق مسئولية الفرد الشخصية، سواء كانت عوامل التنئشة الاجتماعية، أو الوراثة، أو عادات الأسرة أو محددات الموقف أو تخييلات الطفولة وظروف الإحباط….. إلخ، ومن ثم فإن السلوك الإنسانى أياً كانت صورته إنما هو أمر شبه حتمى على الأقل بالنسبة للإنسان الفرد طالما هو محدد بعوامل معينة تقررت سلفاً.
ولا يعلن عن هذه القضية الوحيدة المتفق عليها، بالطبع، إنما هى خلاصة الموقف فى كل مدرسة مهما اختلفت نظرتها للسلوك وعوامله ومنطلقاته… إلخ عن المدرسة الأخرى.
وهذا الموقف فيما أرى موقف تبريرى للسلوك، بشكل ما… إنطلاقا من أن تبرير الشئ لا يقتصر على إضفاء الصلاحية عليه بل يتضمن التسليم بحتمية وضرورة تواجده على نحو ما، ليست صلاحية للحاضر أو المستقبل فقط وإنما تحديداً تم فى الماضى.
وبالنسبة للإنسان الفرد فإنه يستطيع بالطبع أن يتحكم فى تحديد ما يصلح للمستقبل أو الحاضر بدرجة ما ، مقارنة بعجزه التام أمام تغيير ما حدث فى الماضى…. ومن ثم تبرز الفكرة الخلفية، فطالما حددت عوامل السلوك فى الماضى من ناحية وبواسطة تأثير الغير وتصرفات الآخرين من ناحية أخرى فثمة عجز عن تغيير هذا الماضى والآخرين.
وينطوى هذا الموقف على خطورة كبيرة حيث أنه يمكن الفرد من التنصل من مسئولية سلوكه، ويجد تبريراً لذلك لدى علماء السلوك أنفسهم، ومن حيث ان تبرير وجود الشئ أمر يفوق فى المسئولية العوامل المسئولة عن وجوده نفسها، فإن الموقف شديد الحساسية.
وتزداد تلك الخطورة وهذه الحساسية إذا ما تعلق الأمر بقضية الأخلاق، وبالطبع فلن نتناول هنا هذا الموقف بالنقد والتقويم بالنسبة لكل أنواع السلوك الإنسانى وإن كان لابد أن نلح إلى عدم موافقتنا على هذا الموقف بالنسبة لكل هذه الأنواع بما فيها الأمراض النفسية ،فالمرض النفسى هو موقف إنسانى أولا وأخيراً، ولكن سوف ينصب تناولنا لهذا الموقف على نظرته لقضية الأخلاق محددين نقطتين منذ البداية:
أولهما : هى إجابة على تساؤل مؤداه لماذا نتناول هذا الموقف من قضية الأخلاق بالذات؟….. فيما أرى فإن قضية الأخلاق تفوق فى خطورتها كل ما عداها دون استثناء….. على اعتبار أنها قضية لاتمس الإنسان الفرد وحده – إن أمكننا القول أن ثمة قضية يمكن أن تمس الفرد وحده – وإنما هى قضية تمس بصورة مباشرة الحياة الاجتماعية للبشر.
ثانيهما : التنبيه إلى أن المجال لايتسع هنا للشرح الفلسفى لمعنى الأخلاق، فهذه قضية فضلا عن إمكان تناولها من منظور آخر تحديداً وتعريفا، فلا أرى ضرورة قصوى للأنحراف عن لب موضوعنا إلى تفريعات، وإن كان لابد من التعريف فأنى أعنى بالأخلاق هنا-اختصاراً- مراعاة الآخرين وعدم التعدى عليهم بأى صورة ظلماً أو عدم عرفان…..إلخ… وما يعنيه عامة العامة بالأخلاق من وفاء وأمانةة وتواضع……وصدق…..إلخ.
ومن الواضح أن هذا المعنى للأخلاق على تواضعه سيجنبنا النقاش والجدال الذى لا ينتهى حول ما إذا كان الإحساس بالمسئولية تجاه مجتمع الفرد أو فئة منه يعتبر موقفاً أخلاقياً فى مقابل السلبية التامة تجاه هذه القضايا أم لا…. أو أى الموقفين أكثر أخلاقاً : الاحتكاك والعلاقة المباشرة بالناس ومن ثم احتمال كثرة الخلافات، أو التقوقع ومن ثم الدماثة…. إلى آخر ذلك من مجالات للنقاش……..
ففضلا عن ضرورة وضع الأمر فى أبسط صورة فإذا ما تمت معالجتها أمكننا أن ننطلق إلى سواها…. فإن بؤرة اهتمامنا فى هذا المجال ليست تحديد ما هو أخلاقى وما هو لا أخلاقى، وإنما هى طرح تصور معين مؤداه أن الإنسان مسئول مسئولية تامة عن سلوكه وتصرفاته، الأخلاقى منها وغير الأخلاقى، وكافة أنواع السلوك التى يسلكها ومن ثم فلا أجد ضرورة التحديد هذه طالما كانت الفكرة الأساسية هى مسئولية الإنسان عن سلوكه….
الإنسان الفرد مسئول فيما أرى مسئولية تامة عن كل سلوك يسلكه، كما أنه مسئول أيضاً عن تخطى هذه المحددات التى تطرحها المدارس المختلفة للسلوك، مسئول عن الارتفاع فوقها وتخطيها فى اتجاه التكامل، مسئول عن تحرير نفسه وسلوكه من عبوديته لهذه المحددات، فهو ليس مجرد مرآة تعكس ما صدر سلفاً أو ما يعامله به الآخرون سواء المسئولون عن تنشئته طفلا – الأكبر منه سناً – أوالذين يتعامل معهم فى الكبر – من هم فى مثل سنه – إنما هو إنسان يعى بكل ما حوله وله موقف خاص به من كل ما يعنيه ويحتك به، ومن ثم فهو مسئول عن موقفه الخاص به… مسئول عن طرح نفسه بكل ما وعيت به للتساؤل وتصحيح المسار فى كل لحظة وأمام كل اختبار، وهذه المسئولية مسئولية أزلية أبدية وهى نفسها الدليل الأساسى على إنسانية ( بالمعنى الحرفى) الإنسان… فلا مبرر إطلاقاً فيما أرى ولاسبب يملى نفسه يسلكه الفرد إلاعنده هو بمحض اختياره وبكامل حريته فى أن يسلكه أويسلك سواه.
وبعد… أما يحق لنا أن نقف وقفة أمام تساؤل مؤداه ما معنى هذا الموقف، ولماذا تتفق عليه المدارس التى تختلف فى كل شئ سواه ؟
ألايمكن أن يكون هذا الموقف نابعاً من خوف تنطوى عليه نفوس العلماء من تقدير مسئولية الإنسان عن سلوكه… وبالتالى مسئوليتهم كبشر عن سلوكهم…. ؟
ألا يمكن أن يكون ذلك هو السبب الأساسى فى طرح المسئولية إلى عوامل الماضى التى يصعب تغييرها وعوامل البيئة والتنشئة والأسرة و الآخرين عموماً ؟
هذا سؤال أطرحه، وليس تفسيرا أقدمه….. هل يستحق وقفة ومراجعة أمينة ربما تكشف عن رؤية أكثر مسئولية وأكثر فائدة فى نفس الوقت لواقع طالما واريناه تراب البيئة والوراثة والتنشئة الاجتماعية والعادة…….. الخ….؟؟؟
****
كلمة للمحرر: رغم أن هذه الرؤية الحماسية لاتقع ظاهرا فى باب الخبرة الذاتية أو التحربة المعاشة، إلاأننا فضلنا أن نضعها فى القسم الثانى من المجلة لأنها أقرب ماتكون إلى ذلك، فلاشك أن صديقتنا الناشئة الثائرة قد أصدرت أحكاما طيبة من واقع موقف نقدى شخصى إيجابى فى بواعثه كما يبدو، إلا أن الأمر ربما يحتاج إلى مراجعة موقف اتجاه علم النفس الإنسانى برمته الذى جعل من الدوافع البعدية أعظم غرائز الأخلاق، وقد نشرت فى العدد السابق الخطوط العامة لهذا الموقف، كما قد يحتاج الأمر إلى مراجعة فكر( يونج) من قبل ذلك، وحتى فكر فرويد الذى انهم بالحتمية السببية هو فكر أخلاقى فى غائيته بشكل أو بآخر ، إلا أننا نرحب بهذه الصيحات الشابةة المتوثبة ليشارك الشباب فى صناعة عقولهم وعقول أمتهم بالقدر المسئول مهما فاته بعض مالا بد أن يفوته.
ومرحبا بالمحاولة من كل عقل متى جرؤ على التفكير وإعادة التفكير.