سوء إستعمال العلوم النفسية
د. يحيى الرخاوى
تنشأ العلوم نتيجة للحاجة إليها, شأنها فى ذلك شأن ظهور الأعضاء فى التطور البيولوجى, وهى تنقرض بالتالى نتيجة لتخطى مرحلتها أو سوء استعمالها أو عدم استعمالها.
ولنا أن نخاف على العلوم النفسية وهى تنعثر ما بين المبالغة فى قيمتها دون تأثير فعال, وما بين سوء إستعمالها من أهلها أو غير أهلها ولغير هدفها.
ونركز فى هذا البحث على سوء الاستعمال أساسا, الأمر الذى نبدؤه بمحاولة تعريف هذا المفهوم وبالتالى أبعاد المشكلة فنقول:
إن “سوء الإستعمال” يعنى: أن يوضع العلم فى غير ما جعل له, فيعجز عن بلوغ غايته أو أداء وظيفته, فيترتب على ذلك درجة ما من الأذى بشكل أو بآخر.
وهذا التعريف يضعنا فى موقف غائى نفعى أخلاقى بالضرورة, وهو يجرجرنا إلى منطقة “القيم” بلا اختيار والحديث عن العلم عادة يتجنب عامدا الحديث عن القيم لأنه يفضل التركيز على ما يسميه الحقائق Dataأو المعلوماتInformation, وهو يتصور أنه إذ يتجنب الحديث عن القيم يتجنب بذلك تداخل العوامل الشخصية والمذهبية السائدة, ولكن يبدو أن هذه المحاولة قد باءت بالفشل وخاصة فيما يتعلق بالعلوم النفسية (وخاصة بعد انتشار الاتجاه الإنسانى وما بعده).
إذا فالحديث عن “سوء الاستعمال” يستحيل أن يفهم إلا من خلال الحديث عن “حسن الإستعمال”, وإدعاء العالم أنه يعلن الحقائق دون تحيز, وأنه غير مسئول عمن يستعملها, وفيم يستعملها لم يعد يليق باحتياجات الإنسان المعاصر, وتعاظم قيمة العلم, وتفاقم دوره فى توجيه الحياة وتطويرها, ونستطيع فى ذلك أن نقول:
إن العلوم كافة, والعلوم النفسية خاصة, إنما تهدف إلى الكشف عن أكبر مساحة من معالم الوجود الإنسانى, وعن القوانين التى تنظم هذا الوجود, وعن القوى التى توجه المسار, وذلك لتحقيق وجود أعمق, ووعى أشمل, لعدد أكبر فأكبر من البشر, وباستمرار.
ويصبح سوء الاستعمال, بالمقابلة, هو أن توجه هذه الطاقة المعرفية لغير ما جعلت له مما ذكرنا, ومثال ذلك إن إختبارات الذكاء تفيد فى التوجيه والإنتقاء والتصنيف والتقويم الكمى للقدرات, فإذا ما أعد اختبار ذكاء من واقع وعلامات مجتمع متعلم أبيض, ثم طبق بتوصية خاصة من سلطة بيضاء على مجتمع أمى بدائى أسود, فجاءت النتيجة لصالح تفوق ذكاء الرجل الأبيض, فقد خرجت الوسيلة العلمية عما جعلت له, وهكذا.
ومثل هذا الإستعمال السىء قد يسهل اكتشافه, إلا أن هناك تحيزات خفية ذاتية وطبقية تعمل ليل نهار داخل عقول العلماء دون أن يدرى كثير منهم عنها شيئا, يحدث هذا لا فى مجال التطبيق فحسب بل إنه يؤثر على مناطق البحث واتجاه المعرفة(1)أيضا.
وإذا أردنا أن نحدد خطوطا عريضة مبدئية لمداخل سوء الاستعمال فى العلوم النفسية بشكل عام فإننا لابد وأن نلتقى بمشاكل محدودية المعرفة, وأخطاء المنهج, والأمثلة كثيرة مثل أن يعمم الجزء على الكل, وأن يؤخذ الاحتمال المرجح باعتباره, نظرية ثابتة أو قانونا مؤكدا, أو أن يكتفى بالصدق التجريبى عن الصدق التاريخى الممتد, وهذه كلها مخاطر تقع فى إطار خطأ الإستعمال Misuse مثلما تقع فى احتمال سوء الاستعمال Abuse الذى يتضمن سوء القصد المعلن أو الخفى من أحد الأطراف (على الأقل) المشتركين فى التطبيق.
وقد يقع سوء الإستعمال فى مجال الطب النفسى فى الحياة العامة بالنسبة للأفراد حين تستعمل معطياته لغرض التبرير: مثل أن يسمى الفشل التحصيلى (فى المدرسة أو العمل أو المؤسسة الزواجية) باسم المرض أو عرض يعفى صاحبة من مسؤليته تخطيه هذه الإعاقة عادة بسوء استعمال العقاقير والإفراط والتسكين, وكذلك فقد يكون العلاج النفسى أحيانا بديلا اعتماديا عن الصحبة المتكافئة بين أقران متقاربين إلى آخر هذه الأمثلة المتكررة.
وبالنسبة لبعض معطيات علم النفس فقد يساء استعمالها فى الدعاية لمقتنيات بلا جدوى وإثارة الغرائز وحمى التنافس على امتلاك رموز طبقية غير ذات نفع فعلى … وهكذا.
وكل هذه الأمثلة قد تكون لها أضرار فردية أو إجتماعية مؤقتة أو محدودة قابلة للتصحيح مع زيادة الوعى وتكرار الفشل واستمرار التعلم.
لكن المصيبة الكبرى تتفاقم حين تستخدم معطيات هذه العلوم فى تضليل الجماهير وتحريك المجاميع لأهداف غير إنسانية, وإن لبست ثوب الحماس أو الوطنية أو حتى الدينية العصبية فى بعض الأحيان, وقد نوقشت مثل هذه المقولات تحت عناوين مختلفة مثل غسيل المخ الجماعى, والحرب النفسية, كما ثارت حركة رفض مضادة احتدت بشكل خاص ذى دلالة فى موقف بعض فئات العلماء(2) تجاه أحداث بذاتها مثل حرب فيتنام.
وكذلك ثارت مؤخرا هذه المشكلة حين اتهموا الاتحاد السوفيتى باستعمال الطب النفسى لو صم وقهر الفكر المخالف لسياسة الدولة حتى وجه إليه اللوم بأغلبية ما, فى ظروف ما, فى المؤتمر الدولى السادس للجمعية الدولية للطب النفسى فى هونولولو 1977, مما أثار احتجاجه, وما زال الأمر قيد نقاش ممتد عينت له ولمثله الجمعية الدولية للطب النفسى لجنة فرعية خاصة لبحث مشكلة سوء استخدام الطب النفسى بشكل عام(3).
مصر وإسرائيل والمشكلة النفسية:
وسوف نتعرض الآن لموضوع يهمنا أمره بوجه خاص, لأنه يتعلق بموضوع الساعة كما يقولون فيما يجرى بيننا وبين إسرائيل فى معركة السلام خاصة وقد أشرنا فى العدد الأول من هذه المجلة إلى أن توقيت ظهورها كان جزئيا على الأقل للمبادرة بالإسهام بالمشاركة الحضارية مع صديقنا اللدود الجديد رأيا برأى, وفكرا بفكر, وإنجازا بإنجاز, وخاصة فى مجال يعتبرونه حكرا لهم(4).
فإذا كنا قد رفضنا أن نلصق اسما نفسيا (أو طبنفسيا) بفشل طالب, أو عجز عامل أو تبلد زوج, فالأولى أن نكون أكثر حذرا ونحن نلصق مثل هذا الاسم بمشكلة سياسة شديدة التشعب عميقة الجذور خطيرة الآثار.
أصل الحكاية:
ويبدو أن الحكاية قد بدأت من إشارة السيد رئيس الجمهورية إلى أن جزءا كبيرا (حوالى 90% فى بعض الروايات) هو مشكلة نفسية, والسيد الرئيس له ثلاث صفات لا جدال حولها: أنه فلاح مصرى, وأنه يحب تراب أرضنا حتى القداسة, وأنه بالغ الشجاعة, والفلاح المصرى صفات خاصة فرضها التاريخ وعلمتها إياه الزراعة وأدواتها ودوراتها عبر آلاف السنين(5) فإذا قال الفلاح الرئيس كلاما مناسبة ما, مثل “أن نسبة كبيرة من المشكلة هى نفسية”, أو “أن إسرائييل تلقت صدمة كهربائية” إلى آخر هذه التصريحات الحدسية الفلاحية المخترقة فينبغى ألا تفسر أقواله إلا من إطار وظيفتها كخطوات وصدمات ومفجآت تربك حسابات العدو على مسيرة طويلة, تحقيقا لهدف بعيد هو كرامة مصر وبناء الإنسان.
إذا فشجاعة الرئيس وتلقائيته الظريفة – بغض النظر عن التفاصيل من قبل ومن بعد – إنما هى من ضمن صفات رئيس دولة مسئول, وهى جزء من مخطط طويل بلا شك, ولكن نص تصريحاته ليست ملزمة للعلم بداهة, ويستحيل أن يكون سيادته قد طلب غير ذلك أو تصور غير ذلك.
ولكن ماذا فعل أصدقاؤنا انبعاثا من هذه النقطة؟
قام رئيس الجمعية الأمريكية للطب النفسى فى إجتماعه السنوى لسنة 1978 وأشاد بهذا القول – مشكورا- وسجل ذلك فى خطاب الافتتاح المنشور, كما سجل شكره للأطباء النفسيين المصريين وحسن إستقبالهم, وقد أحسسنا بالفخر لذلك وحمدنا له حسن صنيعه.
ثم وجهت الجمعية المذكورة دعوة الى بعض الزملاء الأفاضل من الأطباء النفسيين المصريين, ومعهم بعض العلماء والأطباء الأساتذة الثقات لعقد ندوة فى يناير الماضى بشأن “الدور النفسى فى المفاوضات الدولية” تعقد فى “واشنطن -ووترجيت”.
ولى هنا والأمر يبدوا طبيعيا, ولكن اذا كان الهدف الأخفى هو المفاوضات المصرية الاسرائيلية لا أكثر ولا أقل, وكان الهدف الأخفى من الأخفى هو أن تختزل المسألة من قضية أرض مغتصبة وشعب مشرد وحقوق مسلوبة الى “اسم نفسي” أو “تعبير نفسي” أو قضية نفسية فهنا يكمن الخطر كل الخطر.
لقد نبهنا إلى خطورة وضع لافتة على تصرفات الأفراد تعفيهم من مسؤلية وجودهم واتجاه خطاهم, فما بالك بمصير شعب وحق أرض ومستقبل وطن.
لا أشك فى أن الرئيس المصرى كان صادقا فيما قال, داعيا للهدف منه, وقد تم له ولنا ما أراد من مباغتة, وتغيير اللغة المعادة الممجوجة, والبدء فى استرداد الأرض ومسك زمام المبادرة والمباغتة معا, وإذا أردت ترجمة قوله إلى تصور علمى, لسمعته يقول “دعونا نغتال – بشجاعة المبدعين – التصورات المسبقة لكل منا عن الآخر, لنستطيع أن نعيد النظر من جديد فى كل شيء دون أوهام تعمى البصائر والأبصار, وتبرر استمرار الحال مع الضياع والمناورات الشكلية”, فهو – إذا – لم يعن أن تحل المسألة حلا نفسيا وكأنك يا جندى يا مصرى ما حاربت ولا غزيت.
وعلى ذلك فهذا الذى فعله العلماء الأميريكيون يقولون عنه فى بلدنا وبلد الرئيس أنهم “يسوقون الهبل على الشطارة”.
* * * *
ومن هذا المنطلق وكمواطن مصرى مجتهد, أكثر من كونى أحد المختصين بأحد فروع هذه العلوم, أرسلت مذكرة إلى الزملاء المشاركين فى هذه الندوة قبل توجههم للندوة المذكورة, أجد من المناسب إبرازها هنا بنصها الحرفى.
السيد الأستاذ الدكتور(6)
بعد التحية:
أتشرف بأن أتقدم لسيادتكم برأى اجتهادى يتعلق بمهمتكم الكريمة فى حلقة البحث التى ستعقد فى يناير الجارى فى الولايات المتحدة الأمريكية (واشنطن ووترجيت) بشأن العوامل النفسية التى تؤثر فى المفاوضات الدولية, وذلك بصفتى (أولا) مواطن مصرى من حقه بل من واجبه أن يواكب أحداث وطنه من موقع “منتفع – مساهم” معا (ثانيا) عضو عامل فى جمعيتنا الموقرة.
****
ولا أحسب أن الأمر يحتاج الى تنويه أن رأيى هذا هو رأى فردى اجتهادى ليس له أى وظيفة إلا أن ينقل إلى سيادتكم- وسائر الزملاء أعضاء الوفد.
اجتهاد فرد, ممن يهمهم الأمر, فإذا أفدتم منه فى مهمتكم لصالح بلدى فهذا شيء طيب أحمد الله عليه, وإن طرحتموه جانبا لخلوه مما يضيف إلى رؤيتكم, فهذا شأنكم وقد أبرأت ذمتى, وأنا شاكر لكم فى كل حال.
أولا: أبدأ بأن أبدى تشككى فى جدوى هذا الإجتماع أصلا وفاعليته, إلا أن الشك لا يدفع اليقين, ولكنه يحفز إلى مزيد من اليقظة, وتحفظى هذا لا يعنى أن حلقة البحث هذه بلا جدوى تماما, بل لعل العكس هو الصحيح, إذ مهما كانت النوايا مشكوك فى طبيعتها, فإن النتائج تتوقف على ما نفعله نحن لا ما كانوا ينتوونه.
ثانيا: أود أن أبدى تحفظى ازاء اسم حلقة البحث هذه, وأفضل أن أقصر حديثى مباشرة على ما يهم بلدى, فالظاهر أن الأمر مقصود به تسهيل المفاوضات المصرية الإسرائليلة من خلال إضفاء الثوب العلمى على إتجاهها لصالح الخصم (“الخصم” ليست مرادفة “للعدو”).
ثالثا: إن أهم ما يعنينا هو أن يكون هدفنا واضحا أمام أعيننا نحن إذ نشارك فى هذه المهمة, بغض النظر عن نواياهم, وفى تصورى أنه يمكن أن يكون من بين ما يلى من أهداف, إن لم يشملها جميعا:
1- الظهور أمامهم (الاسرائليين) وأما احتياطيهم (الأمريكيين) بمظهر علمى مناسب يقول “نحن لسنا بلدا متخلفا الى درجة التى تطمئنكم, وعندنا أيضا لغة علمية, ونستطيع أن نتبادل الحوار على أى مستؤى معاصر”.
وأنتم وزملاؤكم أقدر من تبلغون هذه الرسالة بتوفيق الله.
2- إثبات أن صانعى القرار من ساستنا ليسوا وحدهم فى صوابهم وخطئهم, وأننا كعلماء نتفق معهم ونختلف, ولو ثبت أن الخطأ فى جانبهم فسوف يعودون للصواب بفضل إصرارنا ووعينا ومثابرتنا كعينة متخصصة محدودة من قوى الشعب وإن ثبت إن الصواب فى جانبهم فسيجدون الدعم العلمى المناسب دون أن يضطروا لاستيراده منكم فى كل آن.
3- ترجمة إشارة رئيس الدولة إلى أن الصراع العربى الإسرائيلى أغلبه (90% مثلا…) هو لأسباب نفسية, ذلك القول الذى أعتقد أنه بداية فكرة حلقة البحث هذه, ترجمته إلى حجمه العلمى الموضوعى حتى لا تتضاءل بجواره المشاكل الواقعية الأخرى, وحتى لا يؤخذ هذا القول لصالح جانب دون الآخر وحتى لا نبالغ فى مغزاه, فإن قوله ليس مطلقا, ولكن لابد فى حسابات تقويمه أن نضع توقيته وشجاعة قائلة فى حينه, لا أكثر ولا أقل.
رابعا: إن ما يمكن أتقدم به من وجهة نظر فردية سوف يقتصر على عينة محدودة على سبيل المثال لا الحصر يمكن إنجازها فيما يلي:
1– اللغة:
المفاوضات حوار أساسا, والحوار الإنسانى يستعمل اللغة اللفظية غالبا, واللغة كما تقول العلوم النفسية وغيرها هى أسلوب للتواصل يستعمل للرمز, وحتى تصبح اللغة ذات كفاءة حقيقية لابد أن يكون مضمون الرمز (وليس فقط دلالته) متفق عليه بين المتحاورين (المتفاوضين) وبمراجعة بعض الألفاظ التى تستعمل فى مثل هذه المفاوضات قد نلاحظ أنها قد تعجز عن القيام بهذه الوظيفة بالكفاءة التى تضمن عمق المفاوضات وجدواها, ومن واجب العلماء النفسيين أن ينبهوا لذلك حتى لا يكون الحوار أقرب الى حوار الصم Dialogue des sourds, ومن أمثلة ذلك:
(1) إذا استعمل تعبير “الموافقة بالإجماع” نقلا لرأى مؤسسة شعبية, فقد يعنى مثل هذا التعبير نوعا من اليقين المدعم عند مفاوض مصرى, فى حين أن نفس التعبير قد يعنى نوعا من الشك والتوجس, وربما الإستهانة عند المفاوض الإسرائيلي.
(2) إذا إستعمل لفظ “الديمقراطية” فقد يعنى الإسرائيلى حرية أغلبية اليهود فى استيطان الأرض العربية, فى حين أنه قد يعنى عند المفاوض المصرى مثلا أن تكون الصحافة سلطة رابعة, وأن تكون المعارضة مسئولة جدا, ومتفهمة جدا جدا … الخ.
(3) إذا إستعمل لفظ “الحضارة” فقد يعنى عند المفاوض المصرى الهرم الأكبر ورحلا توت عنخ آمون, كما قد يعنى أيضا مسئولية الإنسان المصرى المعاصر بإمكانياته المتواضعة عن سائر البشر طولا (حتى الخلود) وعرضا (حتى قبائل استراليا البدائية ويهود المغرب) ولكن نفس اللفظ (الحضارة) قد يعنى عند المفاوض الإسرائيلى تميز اليهود عامة (لا الإسرائليين فحسب) وحملهم لواءات العلم والفن وإنتاجا عبر التاريخ, لا كتعويض طبيعى لشعور أى أقلية, بعدم الأمان, ولكن كتميز خاص اختص به هذا الشعب المختار, ومن ثم أصبح كلمات مثل “نشر الحضارة” أو “الخطوات الحضارية” تعنى لديهم التفضل بقيادة الأقل تميزا (مثل العرب والمصريين المعاصريين) نحو مستوى أفضل من التغذية والسكن, وذلك بفتح الأسواق بعد إلقاء السلاح حتى يستطيع قادة البشرية المميزون من اليهود حسن استعمال هذه الطاقة البشرية التحتية للتقدم بالإنسانية, وإرساء قواعد “الحضارة” (!!!).
والأمثلة غير ذلك كثيرة, والحذر من مثل هذا الخلط واجب.
ويمكن أن نقترح توصية شبه علمية فى هذا الصدد تقول:
“براعى أن تكون الألفاظ المستعملة فى المفاوضات محتوى تضمينىConnotative واحد, وعدم الإكتفاء بوظيفتها الدلالية Denotative أو الاختفاء فى وظيفتها اللفظية Verbalismic ؟؟!!؟).
2– التمثيل:
إن المفاوض مثله مثل رئيس الدولة أو عضر البرلمان, لا يتكلم نيابة عن نفسه, وإنما هو ممثل لمن أنابه, وحتى تكون المفاوضات مثمرة ينبغى أ تدرس قواعد التمثيل من منظور علمى مثلما تدرس فى عينات البحث, أو عند تقويم الاختبارات النفسية, فالعينة الممثلة Representative Sample لها شروطها الصعبة كما يعرف العلماء, والمفاوض الممثل له مواصفاته, ويمكن للعلم أن يضيف أبعادا جديدة إلى المألوف سايسيا فى هذا الصدد, ومثال ذلك أن يحاول الإجابة على أسئلة إضافية مثل:
(ا) هل المفاوض يمثل “مرحللة” شعبة أم لا, وإلى أى درجة؟
(ب) هل هو يمثل مستقبل شعبه أم لا, وإلى أى درجة؟
(جـ) هل هو يمثل وجدان شعبة أم لا, وإلى أى درجة؟
هذا بالإضافة إلى السؤال الشكلى الأول:
(د) هل هو يمثل أصوات شعبه أم لا….؟
ويمكن البحث عن تقويم وسائل الرجوع الى من يمثلهم أثناء المفاوضات ومدى جدية ذلك … الخ.
وللإجابة على هذه الأسئلة ينبغى أن يتخطى العلم أرقام الاستفتاءات وصور المظاهرات إلى حسابات درجة تطور الشعب الممثل, ومدى رسوخ القيم الديمقراطية فيه (ممارسة لا إعلانا), وحقيقة احتياجات الناس ومدى وفاء ممثليه بها, ودرجة الإستقرار ومعناه وتوقع استمراره الى أى مدى, ومقدار تحمل المعارضة, وقبول الاختلاف مع الاستمرار فى العمل المنتج واحتمال التناقض دون ربكة واستقطاب , الى آخر هذه العوامل ذات الدلالة التى تخرج عن نطاق مجرد إعلان الأغلبية الديمقراطية الرسمية, هذا بالإضافة الى أخذ منطق المفاوض الداخلى مع نفسه فى الإعتبار, الأمر الذى ينعكس على مدى تماسكه, واستعابه الشخصى لمنطق شعبه ومنطق العصر, وتمثله لاحتياجاته .. إلخ.
ويمكن طرح توصية فى هذا السبيل تقول:
“كلما كان المفاوض ممثلا لمن يتفاوض باسمه, ومتماسك المنطق فى ذاته, كان احتمال نجاح المفاوضات أكبر, والاعتماد على نتائجها أضمن.
3– تناسب “كلمة” المفاوض مع “فعل” الواقع:
بديهى أن المفاوضات ليست فعلا لذاته (وإن كانت فعلا فى ذاته) وإنما هى تخطيط لفعل واقعى نتيجة اتفاق على وسيلة تحقيقة, والتناقض بين الكلمة على المائدة والفعل على أرض الواقع لابد وأن يضيف صعوبات بلا حدود إلى المفاوضات الجارية أو التالية.
ومن واجب العلماء المجتمعين أن يؤكدوا على خطورة مثل هذا التناقض فى التأثير على الثقة بين المتفاوضين من ناحية, وعلى الثقة بين المفاوض ومن يمثله من ناحية أخري.
4– التحذير من التفاوض فى البديهيات:
لاشك أن مبدأ “كل شيء قابل للتفاوض” هو مبدأ يدل على المرونة وسعة الصدر .., ولكنى لا أظن أنه يشمل مثلا للتفاوض فى أ اللغة العربية حية ومفيدة أو ان الإنسان المصرى يتمتع بصفات الإنسان الناطق العصرى (من حيث التفكير والوعى والتوريط والقدرة على الإبتسام بلا مبرر ..الخ) وأعنى بذلك أن العلماء أدرى الناس بأن التعرض للبديهان بالتفاوض يقل من فرث نجاح المفاوضات بالنسبة للمشاكل الحقيقيةالقابلة للنقاش, لأنه يشكك فى جدية المتفاوضين وحقيقة الفرص المتكافئة.
5– التعصب ولغة لعصر:
لا شك أن الانسان المعاصر يعيش فترة خطيرة من مراحل تطوره فى مواجهة ثورة التوصيل أو المواصلات, ودون تفصيل نقول, إنه إذا رأى كل صاحب بين أو ساكن أرض أو معتنق مذهب مستقبل الإنسان المعاصر (أى مستقبل نفسه وأله) من منظور علمى وبوعى كاف, فاستطاع ببعد نظر متواضع أن يدرك كيف أن الحواجز بين الأوطان والعقائد والمذاهب ليست سوى مرحلة مضروبة إن آجلا أو عاجلا, وأنها سرعان ما ستتلاشى رضينا أم لم نرض, فلابد أن ذلك سوف يتعكس على فعله “الآن” بما فى ذلك دوره كمفاوض.
ولكن علينا أن نتذكر أن هذه المقولة البديهية التى يعرفها العلماء إذا ما استعملت بواسطة السياسيين المحترفين من جانب واحد دون الآخر, فإنها قد تصبح عائقا مخلا ومناورة مضلة, ففى حين يتنازل أحد الجانبين عن حقوقه لصالح مستقبل الإنسان عالميا.., يتمسك الآخر بتعصبه لصالح أوهام (أو حتى حقيقة) سبقه الحضارى العنصرى(7).
ويمكن فى إطار هذا العمق المستقبلى التوصية من موقع علمى بالتالي:
“أن يكون التفاوض “الوطني” على مستوى خطوات الإنسان العالمية نحو إزالة الحواجز” وأن يسرى ذلك على قدم المساواة بوعى الجانبين معا”.
6– تقريب المسافة بين الشعارات وحقيقة الموقف الإيديولوجي:
لعله من الصعب تحقيق التقارب الكافى بين متفاوضين يمثل أحدهم دولة تقوم على فكرة دينية وإيديولوجية عنصرية (ظاهرة أو خفية) ودولة أخرى تعلن التزاما حضاريا بلا حدود برغم ضعف إمكانياتها الحالية, وعلى ذلك وحتى تكون المسيرة واقعية, فعلى العلماء البحث عن الوسائل التى يمكن أن تساهم فى الإقلال من زعم العنصرية المتميزة من جانب, وكذلك تقلل من الغلواء الحضارية المثالية من جانب آخر.
7– احتياجات “الآن” أم أسانيد “التراث”:
إن التفاوض إنما ينجح حين ينبنى على حسابات الواقع ورؤية المستقبل, أما إذا تداخلت فيه عوامل سلفية ثابتة كأساس مسبق, فان العدل يوصى بأن يستمع لنفس المنطق على الناحيتين, فلا يمكن علميا أن نعطى حقا لطرف ما أن يتفاوض مستندا إلى ما جاء فى كتابه المقدس ثم لا نعطى نفس الحق للطرف الآخر بالنسبة لكتابه المقدس, وهنا نستطيع التنبؤ بأن المفاوضصات ستنقلب من محاولة الإتفاق حول الجلاء عن أوض ما, وتنفيذ قانون دولى بذاته, إلى لجنة فى علم الأديان المقارنة وتحقيق التراث لمعرفة السند الأصح لأى كتاب مقدس منهما, أو لمعرفة ما إذا كان الدين التالى قد صدر فعلا بقرار إلهى لاحق, أو أ الدين السابق قد “سقط بالتقادم” .. الخ .. الخ .. وتستمر هذه المجادلات إلى ما لا نهاية لتخرج بالتفاوض من فعل هادقف إلى “دفاعات عصابية” لا أكثر ولا أقل.
وتعميما لهذا المنطق فلابد أن تبنى المفاوضات على أسس متساوية, فاذا رضيت دولة ما أن تصر على أن أساس قيامها هو إيديولوجية دينية فعليها أن تتحمل ثمن مواجهة إيديولوجية دينية بحجم الدين المخالف – إن آجلا أو عاجلا – وليس بحجم المفاوضات الحالية, ولعل المضاعفات التى تحدث مرحليا فى إيزران مثلا هى نتيجة لهذه النكسة الناتجة من إقامة الدولة على أساس دينى بما يتبع ذلك من ازدواج الولاء, ثم انعدام منطق الحاضر والمستقبل لصالح حسابات تفسيرات التراث السلفية, وأخيرا التهديد بحروب صليبية ذرية لا محالة.
8– التحليل التركيبى والتفاعلاتى :Transactional & Structural analysis
وأخيرا إذا كان للطب النفسى ( أو لعلم النفس أو علم الشخصية) أن يعمق الحوار بين المتفاوضين, فإنه يمكن أن يقوم بتحليل عينات من الحوار اللفظى الدائر والمسجل بطريقة علمية, حتى يتنقل من السطح اللفظى إلى التحليل التركيبى Structural analysisمثلا كنموذج مساعد يتخطى مناورات الحوار الكلامى إلى أعماق رؤية احتياجات المفاوض الوالدية والطفلية .. الخ كشخص فى ذاته, وكممثل لشعبه, ويمكن أن تحلل العلاقة مزدوجة الوثاق Double-Bind بنفس العمق وأكثر.
ولعل خير ما أنهى به هذه الآراء العابرة هو أن أذكر السادة المؤتمرين أن حدس شعبنا التلقائى قد لخص هذه “العلاقة المزدوجة الوثائق” فى مثل عامى تقوله الحماة لزوجة أبنها على “بوابة المتولي” Mitwally – gate (وليس بوابة الماء – ووترجيت) إذ تقول لها وهى تعزم عليها بالعيش “صحيح ما تكسرى .. ومكسور ما تاكلي.. وكلى يا بنتى لما تشبعي” فإذا تمادينا فى الفكاهة الولمة لكان واجبنا علينا أن نحذر من منطق مواز معطل بالضرورة(8).
وبـعـد
فقد قدمت كل هذه النقاط الموجزة وأنا على يقين واضح من أن تدخل علم النفس والطب النفسى بهذه الصورة فى السياسة هو أمر محوط بالمخاطر وينبغى تناوله بحذر إلى أكبر درجة وذلك ما يلى:
أولا: إن هذه العلوم النفسية هى علوم حديثة, وما زالت فى قسم كبير منها اجتهادية فرضية, رغم ما يحيط بها من غلواء, فى حين أن السياسة ممارسة أخطر وأعمق, وهى فى ذاتها علم قائم بنفسه, تقوم نتائجه اختبارات الزمن, ولذلك فإنى أؤكد أنى ما كتبت ما تقدم من منطلق علمى متخصص, بل من منطلق مواطن عادى مجتهد.
ثانيا: إن تأثير هذا التداخل والخلط بين ما هو علم وما هو سياسية, يرجح الميزان الجانب الأقوى والأحذق, مما يجعل المناورة غير متكافئة ويزيد من ثقل الحرج الأخلاقي.
وبعد كل هذا, ورغم كل هذا, فإنى من أشد الموافقين على الإسهام الفعال فى مثل هذه المناورات العلمية السياسية المثيرة, لأنى أثق فى أهلى وحقى وزملائى, وأعتقد أن أى انسحاب هو تقليل من فرص المواجهة بما تحمل من مخاطر وآلام وآمال فى آن واحد.
وإنى إذ أتمنى لأعضاء الوفد الكرام التوفيق فى مهمتهم الغالية بما يرفع رؤوسنا, ويظهر حقنا ويشرف تخصصنا, أدعو الله جلت قدرته لمصرنا أوسع الفرص وأكرم الحياة.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
د. يحيى الرخاوى
مواطن مصرى
وأستاذ الطب النفسى. جامعة القاهرة
ملحوظة: كتبت هذه المذكرة باللغة العربية فخرا بلغتى وعلى من يريدها بلغة أخرى أن يتحمل عبء ترجمتها.
مرفق طيه عدة صور أرجو أن تصل إلى الزملاء مشكورين كما أرجو أن تحولوا نسخة للجنة العلمية لجمعيتنا الموقرة على زعم أن هذا موضوع علمي.
(انتهت المذكرة بحروفها).
و بـعـد
فهذا مجرد مثال لخطورة الخدعة حين تتضخم لتمس مصير شعب وأرض, وهو تحذير من إعطاء علم متواضع مجتهد أى حق فى الوصاية على ممارسة أعمق وأكبر, لحساب جانب من جوانب السلطة المتصارعة.
وإذا كان رجال الدين قد أسيء استخدامهم لصالح السلطة حقبة من زمان (فى القرون الوسطى فى أوربا كمثال) فأساؤواهم بدورهم استخدام السلطة حقبة أخرى من الزمان, فالأولى برجال العلم أ يتيقظوا كل اليقظة حتى لا تتكرر المأساة بالنسبة لهم, علما بأن العلم باعتباره هذا الإله الجديد هو أعجز وأخطر من إله كهنة القرون الوسطى بلا جدال, ولست فى مكان أقترح فيه حلا لسوء استعمال على هذا المستوى العام لأنها قضية خطيرة ومتشعبة وغير قاصرة على فرعنا, بل لعلها تحتد أكثر وأكثر فى مجالات العلوم التى تساهم فى اختراع وتطوير آلات التدمير والتجسس!!
وكل ما أملك فى هذه المرحلة هو بعض التوصيات فى شكل آمال أكثر مما هى فى شكل احتمال:
1- لابد أن نهتم بطرق بطرق تنشئة خلقية متعلقة بالقيم الانسانية وأن يعتبر ذلك جزءا لا يتجزأ من مقومات دخوله المعمل أو مكتبة البحث لضمان أمانته العلمية المتصلة أوثق اتصال بتطوره العملى لمثل هذا الاقتراح هو إضافة “مقرر” تافه فى علم النفس للكليات العملية, أو فى علم الأخلاق للكليات جميعا يحفظ وينسى, بل إنى أعنى طريقة التربية وتنمية الالتزام الانسانى وإطلاق سراح الفكر من الأحكام المسبقة, ويبدأ هذا مبكرا منذ الطفولة ثم يتركز خاصة بعد المرحلة الجامعية الأولية, وخاصة بالنسبة لمن سيواصلون مسئولية التصدى لأمانة حمل كلمة العلم, ويتضمن ذلك عدم الاعتماد الكامل على الخطوط الخارجية لقانون وضعى, وإنما يهدف إلى تنمية جادة وعميقة للقانون الداخلى أساسا وباستمرار.
2- لنا أن نأمل على المدى الطويل أن يصبح للعلماء بهذه المواصفات من كل جنس ولون قوة مستقلة ضاغطة على الحكومات(9)موازية للسلطة السياسية العالمية والوطنية وليست بديلا عنها.
3- إلى أن يتم ذلك لابد وأن نحذر الفتاوى المطلقة, والألاعيب المنمقة, وإلا فالخطر كل الخطر سوف يرتد إلى العلم والناس على حد سواء, ولعل التدهور الذى أصاب الدين وقلبه من علاقة نمو بناءة متجهة إلى التكامل, إلى علاقة طقوسية كهنوتية تابعة لأوصياء حاملى مفاتيح الرحمة والجنان, لعل ذلك يرجع جزئيا إلى مثل ما نحذر منه العلماء حاليا, وبتركيز مضاعف.
[1] – هذا البعد من المسألة خطير وخفى لدرجة يحتاج معها الى بحث مستقل عن علاقة ذات العالم وطبقته وإيديولوجيته بنظريته ورؤيته ومناطق بحثه.
[2] – مثل منظمة علماء النفس الأمريكيين من أجل النضال الإجتماعي.
[3] – يمثل مصر فى هذه اللجنة الأستاذ الدكتور عمر شاهين وستنعقد اللجنة فى لندن فى وقت قريب هذا العام.
[4] – وخاصة إذا خلطنا عامدين أو متغافلين بين ما هو يهودى وما هو إسرائيلي
[5] – القياس الحقيقى للشجاعة هنا هو القدرة على اتخاذ قرار يقتنع به الفرد ويتحمل مسئوليته مخالفا للسائد (حتى الإجماع) فى حينه, فإذا أضيف بعدى الإستيعاب الحدسى لموقف عصره, وما يصاحب هذه المخالفة من إبداع خلاق… اكتملت الصورة وتأكدت الصفة مهما اختلفنا حولها.
[6] – فضل الزملاء الذين تولوا القيام بهذه المهمة الشريفة الصعبة أن يعزفوا عن نشر ما يتعلق بها لفترة ما, واحتراما لما رأوه لائقا مرحليا رفعت كل ما يشير إلى شخوصهم شاكرا لهم أن جعلوا الأمر بهذه الصورة أقرب إلى القضية العامة الموضوعية منه الى مناقشة حدث بذاته.
[7] – النموذج الواضح لمثل هذه المناورة من تاريخنا العربى والإسلامى هو لعبة التحكيم فى مفاوضات عمرو بن العاص وأبى موسى الأشعري.
ويمكن أيضا الرجوع الى خطاب الرئيس المصرى فى الكنيست ورد السيد مناحيم بيجن عليه, ودراسة فرق الروح وقياس مدى النقل الحضارى, والمسئولية العالمية فى خطاب الرئيس المصرى, فى مقابل الزهر العسكرى والخيلاء العنصرية لدى خصمه, ويمكن أن يتم ذلك بواسطة دراسة المحتوى وتحليله Content analysisمن دراسين محايدين, وتكون العينة هى كلمات الخطابين وكذلك تسجيلاتهما السمعية والبصرية.
[8] – للأمانة حذقت جملة واحدة من هذا الموضع كانت قاسية السخرية ووضعت بدلا منها ‘معطل بالضرورة”.
[9] – وربما تحقق بذلك قول أبو الأسود: ليس شئ أعز من العلم: الملوك حكام على الناس والعماء حكام على الملوك ( الإحياء الكتاب الأول ص 13)