نشرت فى الدستور
3/9/1997
إيران والإبداع
لم أكتب نقدا فى السينما إلا مرتين، الأولى كانت عن فيلم “إبنة ريان” – الأهرام 1973- وكيف قدم الفن فكرة تطور الإنسان وانشقاقه فى سهولة جميلة مخترقة، والثانية فى نشرة نادى السينما – حول نفس التاريخ – عن فيلم “الغريب والضباب”، وكان عجبى حينذاك أن هذا الفيلم الأخير كان إيرانيا، إذ كانت صورة إيران التى وصلتنى منذ كنت طفلا مازالت هى السائدة، فهى: الشاه، الأميرة فوزية، وسيدنا الحسين وهو يموت عطشا، لذلك فوجئت وأنا أرى كل هذا الإبداع الإيرانى الذى كشف بأسلوب رائع وبحدس شديد العمق عن طبيعة وجدل العلاقات البشرية، حتى خجلت من نفسى ومن جهلى بإيران (الشاه) وما يجرى فيها، وتمتمت بمثلنا الفلاحى قائلا “إللى ما يعرفك يجهلك”.
وحين قامت الثورة الإسلامية فى إيران لم أنزعج قدر انزعاجى على احتمال موت المعنى الحضارى والإبداعى الذى وصلنى من هذا الفيلم، تصور - عزيزى القارئ- أننى تصورتهم وهم يقومون بإعدام هذا الفيلم جنبا إلى جنب مع إعدام عشرات الآلاف الذين كنا نسمع عن إعدامهم فى بداية الثورة، وقلت – بقسوة لا أفخر بها- إن الثورات تعدم الناس، لكن النساء لا يتوقفن عن الإنجاب، أما مثل هذا الفيلم فمن ينجبه لنا إن كان من نتائج هذه الثورة الإسلامية أن تصبح إيران عاقرا فى مجال الإبداع؟
ثم قبل عام وبضع عام قال لى صديقى المخرج الرائع توفيق صالح أنه قد بلغه أن ثمه قفزة أصيلة وبديلة وعملاقة تحدث فى السينما الإيرانية رغم كل شىء، وأن ثمة مدرسة إيرانية فى الإخراج تدرس الآن على مستوى أوربا والولايات المتحدة ، وما كان لى إلا أن أصدق، لكن خيالى عجز عن فهم الذى يجرى، وأرسلت إلى بعض طلبتى فى إنجلترا أطلب منهم الأفلام الإيرانية الأحدث لأتابع ما يجرى لعلى أفهم كيف خرجت الثورة الإسلامية فى حضورها الشيعى الاجتهادى إلى العالم من هذا الباب الإبداعى الخطير، ولم أنجح أن أحصل على بغيتى، وكدت أنسى، حتى جاء مهرجان “كان”، وإذا بالفيلم الإيرنى “مذاق الكرز” يحصل على السعفة الذهبية مناصفة، وهو فيلم يقول إن الحياة أقوى وأبقى من كل ما نتوهمه عنها، حتى يصبح الانتحار هو أغبى ما يمكن أن يمارسه إنسان “ويبرأ المخرج بعد مساءلته رسميا من تهمة الدعوة للانتحار”، ثم يحكى لى أيضا الصديق الفنان التشكيلى “جميل شفيق” كيف ناقشه ناقد إيرانى بإيجابية مـبـدعـه فى حديث إعلامى حول معرضه الذى أقامه فى بيروت منذ شهور، ثم ينتخب خاتمى- وزير الثقافة – رئيسا لإيران ويعيـن سيدة نائبة له، ويحتفل به السينمائيون فى مظاهرة رائعة، ثم يفوز- أيضا- فيلم “المرأة” الإيرانى للمخرج جعفر باناهى بجائزة الفهد الذهبى فى مهرجان لوكارنو السينمائى الدولى.
فأتساءل: هل يمكن أن يخرج هذا الفن كله من القهر الذى نشيـعه، أو نصـدقه عن إيران؟ وهل هذه هى إيران التى أحلت دم سلمان رشدى – خيبه الله- بدلا من أن تطلق عليه إبداعا مضادا؟ وهل معلوماتنا عن أى ثورة أو أى مذهب أو أى دين يمكن أن تكون من الصحف المضادة، والأخبار السياسية والتصريحات الرسمية، والمضادة، وكلها مصادر غير محايدة.
أم أن الأفضل أن نتعرف على الناس والتاريخ والثورات من واقع الإنتاج، وأصالة الإبداع الفعلى، ومسار الزمن، وحكم الأيام؟ وأهتف هامسا: عاش الاجتهاد.