الوفد: 28/3/2002
إنفجروا أو افعلوها…!!
هذا المقال ليس خاصا بمؤتمر القمة المنعقد حاليا فى بيروت، وإنما هو خاص بِسِمةٍ عربية تتزايد كل يوم، حتى أصبحت آثارها خطرا يهدد أمّتنا بأكملها، ليس فقط فلسطين، أو العراق أو الصومال، هذه السمة هى “العمل فى الهوامش دون المتن، “وإحلال الكلام محل الفعل”.
منذ كتب المفكر عبد الله القصيبى كتابه “العرب ظاهرة صوتية” ، حتى صك عادل حمودة تعبير “البلاغة السياسية” كعلم لا يتقنه إلا العرب، ونحن نعانى من هذا المرض الغريب.
مرض “الكلام مع وقف التنفيذ” مرض قديم، انتبه له العرب، ولكنهم – للأسف- كانوا يعالجونه بمزيد من الكلام (وداونى بالتى كانت هى الداء).
سوف أبتعد قليلا، بل كثيرا، عن المجتمعين على القمة داعيا لهم بالتوفيق من جهة، وبأن يجعل الله كلامنا خفيفا عليهم من جهة أخرى.لأتناول الظاهرة بصفة عامّة ثم يطبقها من شاء من القراء كيف شاء على ما يجرى على القمة.
ليلى والمجنون
إن المسألة قديمة قبيحة خبيثة، انتبه إليها فجسَّدها صلاح عبد الصبور فى رائعته “ليلى والمجنون” منذ ما قبل 1970 (تاريخ النشر)، ومن هنا فإن أى اقتطاف من هذه المسرحية لا ينطبق على المجتمعين على القمة إلا على مسئولية القارئ (رأيتَ كيف !؟!) يقو ل صلاح عبد الصبور:
“……… لا يعرف أحُدهُمُو مِنْ أمر الكلمات: إلا غَمْغَمَةً أو هَمْهَمَةً أو هَسْهَسةً أو تَأْتَأًة أو شَقْشقَةً أو سَفْسَفَةً أو ما شابه ذلكَ من أصواتْ …… وتسّلوْا بترامى تلك الفقاعات .
لما سَكِروا سُكْر الضفدع بالطين، طربوا بنعيق الأصواتِ المجنونْ، فانطلقوا فى نبراتٍ مكتظَّةْ، ينتزعون ثياب الأفكار المومِسِ والأفكار الحرَّة، … وتلوكُ الأشداه الفارغةُ القذرةْ، لحم الكلمات المطعونْ.
أظن أن قليلا من الملوك والرؤساء إذا مّر عليهم مثل هذا الكلام اعتبروه فعلا محتملا ، وليس شعرا يردده على المسرح محمود يس أمام سهير البابلى ودمتم.
إن العرب عادة لا يتعاملون مع الكلمات باعتبارها فعلاً قائما قادرا، إنهم- كما ذكرنا – ينقدون الموقف الكلامى بمزيد من الكلام. الشعر العربى ملئ بالتحذير من الكلام، بل إنه ملئ بتفضيل الصمت إذا ما صار الكلام أصواتا وأصداء بلا معنى ولا فائدة. التحذير من الكلام وارد من أول” السيف أصدق أنباء من الكتب” حتى تنبيه المعرى أنه ” ما كلُّ نطقٍ له جوابٌ، جوابُ ما تكره السكوت”” وأيضا ” لو كل كلب عوى ألقمته حجرا ، لأصبح الصخر مثقالا بدينار”.
إذا كان الصمت هو الواجب فى مواجهة نطق نكرهه، فما بالك بمواجهة عدو قذر، وغادر مفترس، وقاتل متوحش، لا يواجه مثل هؤلاء بالبيانات أو الاجتماعات أو حتى المبادرات.
صرخة لم تصل
أيضا: إذا كان الأمر بهذا الوضوح من قديم ، فلماذا الكتابة، ولمن؟
حين كتبت مقال العدد السابق ، كنت أطمع أن أوصل صوتى إلى المجتمعين على القمّة في وقت مناسب، لكننى كنت أعلم يقينا أنه أمل خائب. قلت بالحرف الواحد ” أشعر أن المواطن المصرى العادى يستطيع أن يتحمل ظاهر هذا التناقض) بين الوعى بحتمية الحرب، وبين إعلان الحرب أو الدعوة لها) لكن ما يعـنينى – دون أى أمل – هو أن يصل هذا المعنى للمجتمعين على القمة من الملوك والرؤساء والوزراء والنظراء “. إذن فلم يكن عندى أمل حقيقى أن يصل صوتى إليهم، ومع ذلك، ففى التكرار إفادة؛ قلت أنتهز فرصة هذا المقال وأوجز ما أردت توصيله، إلى أهل القمة شخصيا لعل المجتمعين يعرفون ابتداء، وقبل أى لقاء، أن ثمة أمورا لا تحتاج منهم إلى حوار أصلا، ومن ذلك:
أولا: إن الحرب قائمة فعلا، ولا أحد من المتحاربين يطلب إعلانها، ولا حتى المواففة عليها: لا الأبطال أو الشهداء من أبنائنا الذين أحيوا فينا الأمل أنه ما زال عندنا كرامة تستأهل الحفاظ عليها، ولا السفلة القتلة المجريمين الذين لا ينتظرون أى إشارة بالموافقة أو الرفض من هذه القمة أو من غيرها مادام نور واشنطن الأخضر مضاء باستمرار.
ثانيا : إن المبادرات المطروحة، مع كل الاحترام للمبادرة السعودية ، لا تحمل جديدا، لا نريد أن نقلل من شأن اجتهاد الأشقاء، ولكن المسألة لا تحتاج إلى حوار وإقناع. إن العرب وافقوا على هذه المبادرة المقدمة فى 2002 منذ 1967 (قرار 242 النسخة الفرنسية) . إن المطلوب هو أن يوافق عليها العدو ومن يقف وراءه موافقة حاسمة تلزم بالتنفيذ الفورى لا أن نطرحها نحن على أنفسنا للموافقة.
عندنا نكتة مصرية تقول إن واحدا مسطولا قال لزميله وهو يعزف لهم ” سمّعنا شوية نهاوند عشان ننبسط”، فرد عليه المسطول الآخر العازف أنه “ما أنا كنت باعزف “نهاوند”، فأجاب الأول “يبقى انبسطنا بقى” (لا تعليق).
ثالثا: إن مسألة حضور ياسر عرفات من عدمها ينبغى أن يعاد صياغتها (لا أدرى ماذا تم حتى كتابة هذه السطور – صباح الإثنين) إنه ينبغى على المجتمعين، وعرفات، أن يرفضوا حضوره أصلا للمشاركة فى القمة، إذا كان ذلك لا يتم إلا بسماح من شارون. يرفضون حضوره ليس خوفا من عدم السماح له بالعودة، ولكن لأن شارون ليس له حق المنح أو المنع ولو بعد عشر قرون، ثم إن المجتمعين لا تنقصهم “خطبة زيادة” من عرفات، وهو يمكن أن يرسلها لهم بالفاكس (يعنى حاتفرق؟)
يقول المثل المصري “الله يلعنك يا زمان وانت بقيت بالهم، والكلب لمّا حكم قالّه الأسد يا عم”.
لا تذهب يا عرفات، ولا تقُلْ له يا عم.
حوار الصم
تعبير حوار الصمّ مستورد رغم شيوعه عندنا مؤخرا لوصف الحوار الذى لا يستمع فيه المتحاورون لبعضهم البعض. إن الذى يراجع هذا التعبير فى واقعنا لا بد أن يدرك أن وصف المجتمعين بلا فاعلية، والمتحاورين بلا جدوى، والمتنافسين بلا مسئولية، وصف هؤلاء جميعا بالصّمم هو وصف غير دقيق، وغير مناسب فضلا عن أنه ظلم للصّمْ (البكم) . إن الصم (البكم) يتحاورون فيما بينهم ومَعَنَا حواراً جميلا قد يكون أقوى وأعمق من الأصوات التى يصدرها كثير منا بلا لزوم..
الخواء من المعنى.. فالعجز.
إن الذى يجرى فى اجتماعاتنا ، وربما في حياتنا كلها هو أصعب من حوار الصم بكثير. إننا نتبادل ألفاظا بلا مضمون قابل للاختبار، هى أصوات جوفاء، ترن وتتردد هى وأصداؤها بلا أى فحوى أو فاعلية. يترتب على ذلك أن نصبح عاجزين عن “الفعل”، وعن “رد الفعل” على حد سواء.
نحن لسنا فى حاجة إلى أن نستورد تعبير “حوار الصم” وأدبنا وتراثنا الشعبى ملئ بالصور والمأثورات التى تدل على أننا نعى تماما هذا النوع من اللقاءات التى تدور حول نفسها، والتى يمارسها عاجز عن الفعل مع آخر هو عاجز بدوره عن التلقى.
هناك مثل مصرى لا أستطيع أن أذكره بألفاظه العامية ، فأقوم بترجمته إلى الفصحى تخفيفا لحدّته، (كما فعل نجيب سرور). يصف هذا المثل عجز كلِّ منِ الفاعل والمفعول به بتشبيههم بـ “عليل يضاجع ميّتة، لا هو يقدر، ولا هى تشعر” . أخشى ما أخشاه أن يكون هذا المثل هو الأقرب لوصف حالتنا من القول المستورد”حوار الصم”.
إن الحاجة إلى المعنى هى أهم ما يحافظ على الصحة النفسية من حيث التماسك سعياً إلى الفعل الهادف. إن أهم ما يسبب نوعا خطيرا من المرض النفسى هو أن يفقد الكلام معناه. المعنى هو الذى يضم الألفاظ إلى بعضها فى تسلسل هادف، ثم يضم الجمل إلى بعضها لتؤدى رسالة لها شكل وفاعلية.
حين يفتقد الانسان معنى الألفاظ و معنى الأشياء، ومعنى الحياة. يتفكك ثم تتباعد مكوناته ثم يتفسخ، فهو الفصام فى أبشع صوره.
إذا كان فقد المعنى هو الذى يؤدى بالفرد إلى الفصام (التفسخ وليس التعدد كما يشاع) فإنه هو هو الذى يؤدى بالدول إلى الانهيار، وقد يؤدى بالجنس البشرى إلى الانقراض (مادام الذى يتصدّى لقيادة المسيرة واحد مثل بوش أو صبيانه فى أمريكا أو أوربا أو الشرق الأوسط).
حَصَلْ يا صلاح
يقول صلاح عبد الصبور فى نفس رائعته “ليلى والمجنون”
“يأتى من بعدى من يعطى الألفاظ معانها ،
يأتى من بعدى من يبرى فاصلة الجملة.
يأتى من بعدى من يتمنطق بالكلمة ويغنّى بالسيف “
ها هم أولاءِ أبناؤنا وبناتنا قد استجابوا لأمَلِكَ يا صلاح، بدأوها بَرَجَزِ الحجارة، ثم راحوا يغنون بالسيف، ثم ها هم يرقصون مذبوحين وحول وسطهم حزام التفجير الذى يعلن رفض الذل والإصرار على الكرامة.
لقد أعادوا لنا الأمل يا صلاح أننا نستأهل أن نواصل الحياة، فهل يا ترى يمكن أن تكتمل الصورة فيقوم المجتمعون على القمة بتحقيق أَمَلِكَ فى أن”يعطوا للألفاظ معانيها” حتى تصير فعلا قادراً لا توصيات ولا بيانات؟
المقابلة مستمرة
فى وصف ما يترتب على فقد المعنى وما يترتب عليه من مرض نفسى جاء فى “دراسة لعلم السيكوباثولوجى” ما يلى:
“والأحياء الموتى فى صخب دائم، ويخيل للواحد منهم أن الآخر يسمعه، والاخر لا تشغله إلا نفسه، أو موضوع آخر، لكنّ الرد الجاهز، دوما جاهز:
ـ ما حال الدنيا # الدفع تأخر
هل نمتَ الليلة؟ # الأسهم زادت
كم سعر الذهب اليوم؟ # المأتم بعد العصر
والكل يدافع عن شئٍ لا يعرفه، بحماسٍ لا يهدأ أبداً، يتعجل كلُّ منهم حتفه، إذْ يلتهم الأيام بلا هدف وبلا معنى” [انتهى المقتطف]
هل ينتبه أهل القمة إلى خطورة ما يفعلون مقارنة بهذا المآل الذى ينتهى إليه الفصامى ؟
قلّته أحسن
حدّثتنى إحدى مريضاتى التى تعزف عن الزواج أن الرجال أصبحوا “ليسوا كما ينبغى”، وقسّمتهم إلى ثلاث فئات: واحد مثل قلّته، وواحد قلته أحسن، والثالث: أحسن من قلّته. وقد فَرِحْتُ جدا بهذا التقسيم وفهمتُ ما تعنى صديقتى المريضـُة، فلما جاء مؤتمر القمّة هذا قفز إلى ذهنى هذا التقسيم، فَرُحت أراجع المؤتمرات السابقة ورجّحت أنها من فئة ” زيه زى قلّته”، لكنى لمّا علمت أن كل مؤتمر يتكلف حوالى مائة وخمسون مليون دولار (والعهدة على الراوى)، انزعجت، وقلت لا بد أن ننقل تصنيف هذه المؤتمرات إلى فئة “قلّته أحسن” توفيرا للمال. لكننى تبينت أننا بمثل هذه المؤتمرات لا نخسر المال فحسب، وإنما نخسر أمورا كثيرة أخرى. إذا نحن لم نخرج منها بشىء غير اتفاق وجهات النظر والبيانات والوعود. نخسر الأمل إذ نكتشف عجز المؤسسات الحاكمة، مما قد يحبط بعض أبنائنا الأبطال الذين نعيش بحسّهم هذه الأيام رغم كل الآلام والنزيف.
أحسن من قلّته
قلت أحاول أن أرتقى بالمؤتمر الحالى إلى فئة “أحسن من قلّته”، فتصورت أن ذلك يمكن أن يتم إذا انتهى المؤتمر إلى الإعلان -وليس البيان- التالى:
أولا: قرر المجتموعون فى المؤتمر ألا يصدروا بيانا ختاميا أصلا.
ثانيا: إن هذا لا يعنى أن المجتمعين لم يصلوا إلى قرارات، ولكن القرارات التى وصلوا إليها لا تحتاج إلى كلمات، وسوف يرى الناس فى الشوارع والمصانع والتبادل التجارى والاستكفاء الذاتى، وفى أرض المعارك، ومحاولات الإبداع، سوف يرون أثر ما انتهى إليه المؤتمر واقعاً حيا يجعلهم يدركون الفرق بين ما قبله وما بعده.
ثالثا: سوف تظهر آثار الاجتماع خلال عام واحد يبدأ بعد شهرين من انتهاء المؤتمر.
رابعا: لن ينعقد مؤتمر القمة القادم إذا لم تظهر هذه الآثار ويشهد بها الناس مباشرة فى المواقع السالفة الذكر.
انفَجُروا أو افعلوها
يُنهى صلاح عبد الصبور يوميات النبى المهزوم الذى يحمل قلما وهو ينتظر نبيا يحمل سيفا بصرخة ختامية تقول (لاحظ مرة أخرى أن ذلك قد نشر سنة 1970 فلا تأخذ الكلام على أحدٍ آخر)
رعبٌُ، أكبر من هذا سوف يجئ. لن ينجيَكم أن تعتصموا منه بأعالى جبل الصمتْ، أو ببطون الغاباتْ لن ينجيَكُمْ أن تختبئوا فى حجراتكمُ أو تحت وسائدكمّ، أو فى بالوعات الحمّاماتْ. لن ينجيَكم أن تلتصقوا بالجدران، إلى أن يصبح كل منكم ظلاًّ مشبوحاً عانق ظلاَّ، لن يجيكم أن ترتدّوا أطفالا، لن ينجيكم أن تصغر هاماتكموا حتى تلتصقوا بالأرض، أو أن تنكمشوا حتى يُدخَل أحدكُمُو في سَمِّ الإبرة، لن ينجيكم أن تضعوا أقنعة القردَةْ، لن ينجيكم أن تندمجوا، أو تندغموا حتى تتكون من أجسادكموا المرتعدة ، كومة قاذورات. فانفجروا أو موتو، انفجروا أو موتوا
(انتهى المقتطف)
لا أريد أن أقول إن هذه الصرخة رغم قسوتها لم يعد لها مكان بعد ثلث قرن، لكن التفاؤل الذى غمرنا به أولادنا وبناتنا جعل للكلمات معان أخرى . فهم “ينفجرون” فعلا استشهادا لا غيظا.
فهل آن الأوان أن نحترم هذ التغيير الذى أحدثوه فى مضمون ما يخصهم، فنقول للمجتمعين بدلا من انفجروا أو موتوا:
إنفجروا، أو دعوهم ينفجرون فيهم
انفجروا أو افعلوها، دون بيانات أو وعود.
يرحمنا ويرحمكم الله.