نشرت فى جريدة الأخبار
24/1/1984
إنسان الكيمياء والإنتحار
تحت عنوان – كيمياء الأمل والإنتحار – طالع القراء فى صحيفتكم الغراء (الأخبار 10/1/1984) معلومتين مثيرتين: الأولى عن – الإنتحار الحديث - وجماعات ترويجه، وتسهيله، والدفاع عنه، والثانية، عن الأبحاث الحديثة – أيصا – ! التى تعلن الرحلة العلمية الكبرى ! للكشف عن جذور هذه الظاهرة، وحسب نص ما جاء فى المقال.. وزخيرا حقق العلماء هدفهم المنشود.. اكتشفوا الأسباب الكيمائية الدافعة الى الميول الإنتحارية !
ولابد أن القارئ العادى سيتعجب مرتين، مرة وهو يطالع أسماء جمعيات – الموت الجميل – ويحيا الموت – والتجمع لإقرار حق الموت، ومرة أخرى وهو يشكر العلم على العثور على السر الأعظم – عندما توصلت أبحاث العلماء الى أن أمخاخ الحيوانات التى تميل الى العنف تتميز بنقص ملحوظ فى مادة كيميائية حيوية.. وفيما يتعلق بظاهرة الإنتحار، فإن العلماد توصلوا بعد أبحاث مكثفة الى الكشف عن خصائص مشتركة بين الميل الى العنف وبين وجود رغبة خفية فى الإنتحار.
وأقول:
اللهم انا لا نسألك رد الإنتحار، ولكن نسألك نفسيرا له!، هكذا تتمادى تلك الحضارة المرفهة فى الإعلان عن تحطيم نفسها برشاقة نادرة، ولا تكتفى بإعلان ذلك فى صورة الدفاع عن الموت الهروبى، وانما تفرض على عقولنا تفسيرا كيمائيا يتناسب مع ترويج بضاعة شركات الدواء أكثر فأكثر، حيث ينهى المقال العجب بطمأنة الناس الى أنه:.. لذلك يتجه العلماء نحو ابتكار عقار.. يحقق التوازن المنشود فى العمليات الكيميائية بالمخ، ويبعد شبح الإنتحار… ويضع نهاية لظاهرة خطيرة تثير قلق المجتمعات المتقدمة.
ولابد للعاقل منا أن يحمد الله على – التخلف – وأن يتساءل:
.. ياترى هل تختلف أمخاخ العالم المتقدم عن زمخاخ عالمنا الثالث (أو الرابع أو الخمسين؟)
ياترى هل تدافع هذه الجمعيات عن حريج الرنسان فى انهاء حياته الخاصة، أم أنها تعلن احتجاجا صارخا فى وجه هذه الحضارة، حيث تتحدى الحياة المفروضة على البشر المعاصر بالميكنة والعزلة والإغتراب.
وكأنها تقول: لا يفل الإغتراب الا الإنتحار ؟
الإنذار المبكر
وعلى نفس صفحات هذه الصحيفة الغراء، ومنذ خمس سنوات بالتمام ـ الأخبار فى 5/12/1978 – عقب حادث الإنتحار الجماعى الذى قامت به جماعة جيم جونز فى جوايانا، كتبت مقالا أعلن فيه أن هذا انذار مبكر.. لمحنة العصر، حيث قلت فى مقدمة هذا المقال – ولا أحسب أن انسانا على ظهر هذه الأرض قاطبة يستطيع أن يطالع الصحف هذه الأيام، ويرى جثث الأطفال والنساء والرجال تمثل هرما من التحدى المر، ثم يواصل حياته كما كان يفعل من قبل بيفس النمط الإغترابى، والعمى الإغمائى.
ولكن يبدو أن النتيجة أن أحدا لم ينتبه، بل لعل هذه الجمعيات انتبهت لبشاعة وسيلة الإنتحار فذهبت – تتفنن – فى عرض ما هو ألذ، ألذ، لإنهاء الحياة بالرفاهية المناسبة !
لسنا مثلهم
ولكننا لسنا مثلهم تماما – بعد والحمد لله – الا أننا نتلقى معلوماتهم التائتة، تلوكها عقولنا فى استسلام عاجز، وأخشى ما أخشاه أن ننساق وراء هذه الحلول الكيميائية البراقة، فنسلم أمورنا – مثلهم – لشركات الدواء لتحل لنا اشكالية التقدم ! اذ علينا ان نذكر ونتذكر، أن شركات الدواء قد أصبحت تمثل اللوبى الثالث – بعد الصهاينة وشركات السلاح – فى الضفط على السياسة الأمريكية فإذا كانت قوتها الضاغطة قد بلغت هذه القدرة على التأثير على الكونجرس والبيت الأبيض، فمن باب أولى هى قادرة على توجيه الأبحاث الى ما يفيدها ويروج بضاعتها وأحسب أنها حذقت هذه اللعبة الخطرة حذقا لم تعد مضاعفاته تقتصر على الطب النفسى والممارسات العلاجية، وانما امتد الى تشويه مفهوم الإنسان المعاصر وتحريف مساره ومصيره.
نمط الحياة الحديثة
ولابد من مراجعة متأنية ونحن نقرأ أخبارهم، ونحن نحاول أن نفهم، وذلك قبل أن نندفع الى الإنبهار أو التسليم – دون وعى فى القارة -، ذلك أن الإنسان الغربى المعاصر – والشرقى العلمانى أصبح لا يعتمد على أخيه الإنسان ولا على الله تعالى، وانما عاى الآلة، أو الحكومة، أو الكيمياء، (الكمبيوتر، والتأمينات، والكحول والمخدرات والعقاقير النفسية )، وبعد أن بدا فى أول الأمر – أوائل هذا القرن – أن الطب النفسى والعلاج النفسى يعدان بحياة أرحب وأسعد نتيجة لإعتناقهما مفهوما انسانيا أعمق وأشمل، اذا بإغارة شركات الدواد تفرض على الأطباد ثم عامة الناس، أن الإنسان ليس سوى تركيت كيميائى معقد، وأن عواطفه وانفعالاته ليست سوى التعبير المباشر عن نقص هذه الماده أو زيادة تلك.
ولم يقتصر هذا الموقف على تسطيح مفهوم الإنسان فى الموقف المرضى فحسب، وانما امتد الى اعلان نوع الحياة التى ساقتنا اليها قيم – السوق – والشطارة -، فمن أجل أن يكسب – لوبى – الدواء مالا كثيرا، وأرض ظفط واسعة: استطاع أن يختزل الإنسان الى هذه الدمية الكيمياذية المضحكة، وينتج عن ذلك أن يستعمل اصحاب المصلحة الأكبر هذه الدمية فى أغراض لا يعلمها هو، بل انى أشك أحيانا فى أن يكون القائمون على شركات الأدوية سدركين ممدى خطورة ما سخروا من أجله، وكأنهم يقومون بدور مرسوم كجزء من آلة متعاظمة الضخامة لم يعد فى الإمكان تحديد من يديرها، أو حتى من يملكها ناهيك عن المستفيد من نتاجها المرعب.
وعلينا – اذن – ان نتدبر الأمر بهدوء فننظر مليا الى الجانب السلبى لنموذج الحياة المعاصرة السائد هناك، والمطروح علينا هنا وهو يقول:
انت حر فلتستعمل حريتك التى منحناك اياها (بعد تخليصك من عبودية الله والإستسلام للغيب) فى تحقيق رفاهيتك – الحسية حتما وعليك أن تواصل الغوص فى مق عزلتك، خوفا على حريتك من أى ـآخر – قد يحول دون رفاهيتك ولكن لابد أن تستعمل هذا الآخر وفى مقابل ذلك دعه يستعملك وحين تضعف أو تفشل، فنحن فى الخدمة، هذا هو – الرحم المخدر – نم فى حضنه، لتصحوا أكثر وحدة وأكثر حرية فى الحصول على تخدير أعمق.. وهكذا.
(الرحم المخدر هنا: هو الكحول المخدرات والعقاقير النفسية).
وهكذا نجد أن من حق شركات الأدوية زن تتصور أنها قامت بالواجب اذ نجحت فى حل المشكلة العصرية بمزيد من النظريات الكيمياذية والعقاقير المناسبة.
ولكن يبدو أن جمعيات – الموت الحديث – وقد ذهبت تدعو لترويج رحم منافس لهذا الرحم المخدر الذى تعرضه شركات الدواء ومادامت المسألة رحما يرسم، وما دام الإنسان مازال يرتع فى غروره فتصور له التكنولوجيا أنه قادر على كل شئ حتى الموت، وما دام يدور فى وهم حريته، فهو صاحب حياته – رغم أنه لم يستشر فى المجئ اليها – وله أن يلهيها وقتما يريد، خاصة أنه على يقين (لست أدرى كيف ؟) من أنه لا حياة بعدها – لن نعيش ياروحى – مرتين !
فضل التخلف
ولكن، ألا يجدر بنا أن نتركهم فى – تقدمهم – بعض الوقت، لننظر فيما هو – نحن – حسب الإحصاءات المتاحة، فنجد أن مصرنا المحروسة أقل دول العالم انتحارا، ومع ذلك، فلا ينبغى أن نسارع بالفخر، ذلك أن عدم الإنتحار الجسدى لا ينفى وجود أنواع أخرى من الإنتحار المعنوى، واذا كان الإنتحار هو قتل للجسد، فإن قتل العقل بالجهل، وقتل الوعى بالغيبوبة – والإستسلام – وقتل الحس باللامبالاة، كلها اشكال من الإنتحار ليست نادرة فى مجتمعنا بل أن بعض المتشائمين يذهبون الى أنه ما دام – ليس لجرح بميت ايلام – فلا يوجد عندنا الدافع للإنتحار أصلا، أما النظرة الأحرى فهى تقول، أن انسان مصر انسان خالد متدين قبل كل شئ وعلاقته بالله وبالكون الأعظم علاقه ايجابية لا تسمح له بالتصرف فيما لا يملك، وهو لا يملك حياته لانه لم يخلقها، وبالتالى فليس من حقه انهاؤها وهو ليس الا حلقة فى سلسلة، وكسر حلقة واحدة لايضر بذات الحلقة فحسب، بل هو يقطع اتصال السلسلة، وهذه جريمة فى حق الخلود، وانساننا يدرك كل هذا بحسه الحضارى العميق رغم ظاهر بؤسه وعدم مبالاته.
الصحوة والرؤية
فاذا صح التفسير الإيجابى لندرة الإنتحار لدينا، وما دامت الحياة قد كتبت علينا بهذا الإختيار الضمنى، فلتكن حياة بحق، ولتكن وقفتنا ضد الإستسلام للتفسير الكيميائى المجزئ هى وقفة مسئولة لا ترفض جزئيات العلم، ولكنها تضعها فى كل أكبر من الوجود والمسئولية، فهل نستطيع أن نمارس بديلا حقيقيا قادرا على أن يرد على – جمعيات الموت – وتفسيرات الكيمياء- بأن مفهوم الإنسان -الحديث – ليس حكرا على أوهام يأسهم ونتائج ابحاثهم الجزئية؟ وأن مفاهيم الإنسان والحياة- والمسار- والمصير ينبغى أن تتأكد، وتتولد باستمرار من واقع القيم المتطورة فى مجالات النشاط الحياتى والفكرى فى أى موقع وكل موقف دون استثناء لإبداع الإيمان وعطاء الفلسفة ونبض الناس التلقائى ؟
وبعـد
لاشك أن تخلفنا مصيبة ومكروه لا يحمد عليه إلا رب العالمين ولكنه فرصة تأمل ومراجعة قد تسمح لنا بالنظر الإبداعى المتجدد فى ما يصلنا من – أخبارهم – دون الإستسلام لتفسيراتهم، وفى نفس الوقت لا ينبغى أن يركبنا الغرور فنتصور اننا مادمنا أقل انتحارا وأنقى كيمياء ! فنحن الأفضل كلا وألف كلا، وأنما يمكن أن نكون أفضل حين تصبح حياتنا التى نحرص عليها كل هذا الحرص ! ذات معنى وذات طعم مختلف، وذات ايمان مبدع، وذات نموذج يقتدى!