الأهرام: 6/12/1994
إلى نزار قبانى: لا يحمل نعش الميت قاتلــه…
نزار شاعر بلاشك، وشعره يتميز بالرقة والتعرى غالبا، وبالإقتحام والإيلام أحيانا، وكنت قد صـدرت ديوانا لى – لا يعرفه الكثير والحمد لله - بكلمة اعتذار عن افتقاره إلى الجمال، كلمة إعتذار تقول: ‘إذا كان أجمل الشعر أكذبه، فإن أصدق الشعر آلمه”، لكننى حين قرأت قصيدة نزار الأخيرة، أدركت أن الشعر قد يكون جميلا وكاذبا ومؤلما معا.
وقد آلمنى نزار بقصيدته عن نكسة 1967، آلمنى ألما شريفا، ولم أكن أحتاج إلى مزيد، لكنه حين عاد يرثى مادحا، مـن سبق أن مـسـح به أرض الهزيمة فى قصيدته الأولى، ساءلت نفسى حينذاك أهو هو نفس الشاعر الذى كتب القصيدتين؟ ثم هدانى إلى تفسير هذا التناقض الظاهر ما ذكره مؤخرا مواطن لنزار: هو الشاعر الناقد ‘بول شاؤول” من أن ‘نزار يصنع أشعاره تصنيعا، (كما تفقيس الماكينات)، كل قصيدة تشبه الأخرى”، فقلت فى نفسى: إذن فهى قصيدة واحدة !!
ثم تأتى هذه القصيدة الأخيرة لتؤكد أن نزار لم يعد عنده إلا أن يكرر نفثات ‘عــديده” فى أثواب تبدو جديدة، لكن المتأمل فيها لابد أن يكتشف علامات الصبغة، بل إن ‘المـعـددة” فى بلدتنا عادة ما تذكر مناقب الميت، لكن نزار لا يفعل.
رسم نزار صورة لأمـة لا وجود لها، ليست هى أمة العرب على كل حال، وحين افتقـدها، لأنها صورة ناعمة ساكنة لا حياة فيها، روع وترنح حتى اقتلع جذوره، ثم راح يتلفـت يبحث عن تصفيقة هنا، أو تقريظ هناك.
وللشاعر، ما دام شاعرا (ونزار مازال شاعرا)، أن يرسم ما شاء من صور يزينها خياله، ويبررها احتياجه، وتزركشها شطحاته، وتخدرها غرائزه، لكن ليس من حق الشاعر، لمجرد أنه شاعر، أن يتصور، أو يصور لنا، أنه يعرى الحقيقة، وهو لا يعرى إلا نفسه وخياله، رسم نزار للعرب (عربه هو)، صورة طفلية رخوة لا تصلح لشيء، إذ أى شعب هذا الذى هو ‘من الياسمين”؟ حتى ‘برلمانه من الياسمين”، وأى أمة هذه ‘.. محررة من جميع العقد” (لاحظ كلمة ‘جميع”)، وحين أراد أن يضيف إلى هذه الصورة الرخوة شيئا من الصلابة، أضاف جمودا ساكنا: ‘سريرى بها ثابت ورأسى بها ثابت…الخ”، فهى صورة تترجـح من نعومة الياسمين إلى جمود الفكر والوجود (ما هذا؟).
ويبدو أن نزار قد انساق وراء قصيدته الواحدة المكررة حتى تسرب المعنى من ثقوبها، فهو حين راح يعلى من قيمة صهيل الخيل نسى أن هذا هو ما يعيب العرب الآن، وليس ما يؤخذ عليهم، فالعرب يـتهـمون بأنهم ‘ظاهرة صوتية”، وغفر الله لعبد الله القصيبى -، وواقع الحال أن العرب فعلا يهبطون من شاهق، ولكنهم يهبطون متألمين مترددين مقبلين مدبرين نزفا دون استسلام: ‘كجلمود صخر حـطـه السيل من عل” !!!!.
ثم يقفز نزار من تواضع ظاهر حين يـبـعـض أحكامه ‘… وبعض القصائد قبر، وبعض اللغات كـفـن..’ إلى تعميم أعمى لا يرى إلا ما هو مطلق بأسلوب الإستثناء، ‘… فلم أر إلا قصائد تلحس رجل الخليفة..، ولم أر إلا قبائل ليست تفرق ما بين لحم النساء وبين الرطب.. ولم أر إلا جرائد تخلع أثوابها الداخلية”.. إلخ، وهكذا يلحس الهامش الذى تركه لنا حين حسبنا أنه إنما يهجو ‘بعض” وليس ‘كل” ما هو نحن، ثم يمضى نزار فى وثقانيته وتعميمه، ليس فقط بأسلوب الإستثناء، ولكن أيضا هو يمارس التعميم الطولى ليدفع كل تاريخ العرب ، فهو – أنار الله بصيرته – مذ كان طفلا لم يجد نبيا أو حكيما أو شاعرا عربيا يستأهل وقفة أو انحناءة، سيدى – عذرا: من خجل مات !!. ثم تعميم آخر: حين يرى ‘كل الحروب”(لاحظ ‘كل”) ولا من حروب” (من خالد بن الوليد إلى صلاح الدين حتى أحمد إسماعيل: أهكذا؟ !! – لا تعليق).
وحين تشرق شاعريته – ربما هذه المرة بالرغم منه-تعود تـطـمـس بخلط لا يليق، فهو شاعر شاعر إذ يصف موقف ناس العرب العاديين من رجال المباحث باعتبارهم ‘.. أمر من ‘الله ..مثل القدر” ولكن تفصيل ذلك يخلط بين الصداع و الزكام”، وبين الجذام و الجرب”، ولا يلاحظ أن موقف الناس من الجذام والجرب غير موقفهم من الصداع والزكام، إذ لا يقارن النفور والهرب من الجذام والجرب، بالتحمل والكدر العابر فى حالة الإصابة بالصداع والزكام، فهل لبة عليه شاعرية هشة مثل المبتدئين فاستسهل ؟
سيدى نزار- أطال الله عمره، وشحذ شاعريته بما يناسب سنه- تكتب قصيدتك من لندن، فى لندن، ولست شاعر مـهـجر، ولا مهاجر شعر، إذن فمن حقنا أن نوصيك بأن تنظرحولك (هناك) وأن تكمل قصيدتك، أو حتى تكتبها هى هى، ليمتد ‘عديدك” إلى موت الإتحاد السوفيتى وموت الناتو، وموت الضمير العالمى فى البوسنة وغير البوسنة، وانتصار المافيا شرقا وغربا، لعلك تعرى لنا ما تخـفـى من المخابرات الجديدة فى ثوب النظام العالمى إياه، ولا بأس من أن تلقى نظرة علينا ونحن ‘نـقـبـل نـدبـر” معا – رغم الهبوط – لعلك ترى ما نريد أن نـبـلـغـه شبابنا من أننا مازلنا نحاول، رغم المرارة والتعرى والنزيف.
سيدى نزار، يقولون فى بلدنا على من يبصق: إنه إذا رماها إلى أعلى سقطت على وجهه، وإذا رماها أسفل سقطت فى حجره، فأين سقطت بصقـتك يا ترى؟؟ أم أنك ظننت أنك ألقيت بها -بعيدا عنك، لأنك تنخمـتـها طويلا وعاليا، ثم قذفت بها لزجة ملفوفة، فإذا بها عقرب سام لا بد وأن يلدغك أولا، ذكرتنى يا رجل بشاعرنا العربى شوقى وهو يحكى على لسان ‘الست هدي” كان إذا تنخما، أرسلها إلى السما، فلست تدرى ما رمى، أعقربا أم بلغما
ثم دعنى أستأذنك لأختم ملاحظتى هذه ببعض ما سبق أن كتبته بعنوان ‘الجناز والجنين” (ليس بالضرورة شعرا)، كتبت أنعى فيه ميتا يعلن موته، قلت قبل قصيدتك بأكثر من عشر سنوات (سنة 1983) ‘.. ونعى الناعى: أن الإنسان الميت مات، من زمـن مات، والدفنة سـرا، من خلف ظهور القـتـلة، لا يحمل نعش الميت قاتله..، (إلى أن قلت:) يقضى العصر الملثات: أن التوقيع يتم بخط الميت، والميت يرفض أن يعلن موته، يختلف الورثة [هم ذات القتلة] أبناء سفاح المرحوم، مع فكره، مع أحرف كلماته، مع آلة فتكه; مع كل زناة الخمارة: الساسة (والشعراء)، ورجال العلم المـفـرغ، وبرغم الفحص وتأكيد المشرحة الثلاجة – غرفة نوم العذراء المومس- يملأ وجه الميت أحشاء الحارة، يعلن وسط الجمع الحاشد: لن أتركها إلا حيـا”.
سيدى، لن نترك الساحة – إن كان علينا أن نتركها بفضل أمثالك – إلا أحياء نقاوم أبدا.
ثم أنصحك فى النهاية- من أجل خاطرنا- أن تعيد قراءة بعض شعر أمرؤ القيس، وكامل الشناوى، وعبد العزيز المقالح، ومحمود درويش، لعلك – أخيرا- تكتب قصيدتك الثانية، فقد سئمنا – رغم شاعريتك – نفس القصيدة.