مجلة فصول:
(المجلد الرابع-العدد الاول-1983)
مقدمة عن:
إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى
كاد يجمع النقاد والدارسون على أن أحدا لم يدع وصاية لعلم النفس بخاصة، والعلوم النفسية بعامة، على الإبداع الأدبى، ما اتفقت الغالبية عليه”.. أن الأدب وعلم النفس منهجان متوازيان فى إرتياد الحقائق (التى تمثل هذه الحياة، والتى تشكل علاقة الإنسان بها).. وليسا متداخلين”، “.. وأن الميدان الصحيح الذى يمكن أن تستغل فيه نتائج الدراسات النفسية، هو ميدان النقد الأدبي”[1] و”أن الكاتب المبدع يعبر، والعلم يفسر… إن الإبداع يسبق الكشف العلمى بزمان”[2]، بل إن توصية مناسبة بنسيان حقائق هذا العلم (علم النفس) تبدو لازمة”… لتحقيق الشرط الأول للخلق الأدبي”[3]. وهكذا يبدو أن الأدب فى مستواه الإبداعى الأول قد تخلص بوضوح من أى وصاية علمنفسية. لكن الإشكالية إنتقلت دون إستئذان إلى الإبداع. الأدبى على مستوى النقد، على أساس أن العملية النقدية أقل حاجة إلى تلقائية الإبداع، وأنها أكثر حاجة إلى تعدد مصادر المعرفة، ومن بينها العلوم النفسية. وقد يصح هذا الظن أو ذاك قليلا أو كثيرا، وإن كان لا يصح دائما ولا بنفس الدرجة مع تعدد مناهج النقد، وما زال الخوف واجبا من تدخل هذه العلوم تدخلا معطلا أو مشوها، خصوصا إذا كان بجرعة غير محسوبة، أو غير مناسبة. ولكن إذا كان الإبداع الأدبى يسبق إلى معرفة للنفس هى أبعد وأعمق من تلك المعارف المتضمنة فى هذه العلوم (النفسية) بشهادة أهلها[4]، فأى دور يمكن أن تلعبه هذه العلوم فى عملية النقد الأدبى؟
الإجابة ليست سهلة، ولكن المحاولة لازمة، وهذا هو بعض مهمة هذه المقدمة.
على أننا ينبغى إبتداء أن نفرق بين العلوم النفسية، والمشتغلين بها، فقد يكون ثمة مجال لمعطيات للعلوم النفسية تسهم بها فى النقد الأدبى، ولكن هذا لا يعنى -بشكل تلقائى- أن المشتغلين بهذه العلوم”هم القادرون أساسا”على القيام بهذا الدور، فلا يخفى أن أغلب من تناول منهم -بنجاح- موضوع النقد الأدبى كان له دور شخصى مواز فى تذوق الأدب، وربما فى الإسهام فى الإبداع الأدبى بشكل أو بآخر. بدءا من فرويد، نستطيع أن نؤكد أن جماع معرفته العلمية، مع قدرته الأدبية، هو الذى مكنه من خوض هذا المجال المتميز، صائغا رؤيته المبدعة بأبجديته المعرفية النفسية فى تكامل مناسب. كذلك فإن شاعرية يونج ورؤيته ورؤياه هى التى سمحت بالفتوى المضيئة والإسهام النقدى الرحب اللذين تميز بهما. وليس هناك مشتغل بالعلوم النفسية يدعى لنفسه -دون استعداد مناسب أو إعداد منظم- حق النقد الأدبى لمجرد أنه”عالم”فذ فى مجاله.
وحتى شهادته لناقد”نفسي”هى رأى لا ينبغى الإعتماد عليه (هكذا)، لأنها ليست شهادة فى فرعه وإنما هى بمثابة”نقد النقد”، وهى عملية أكثر تصعيدا، من ثم ألزم إبداعا. ثم إن”الإعداد المنظم”أيضا قد لا يفيد بمعنى أنه لا يعطى حق النقد المبدع للمجتهد فيه، على الرغم من أنه قد يفيد فى حذق تطبيق منهج بذاته (سلوكى فى العادة) فى دراسة تص من بعد معين (وهذا ليس نقدا فى ذاته).
وهكذا نجد أنفسنا فى مواقف دائرى محير، فالعالم فى الدراسات النفسية (بما فى ذلك الطبيب النفسي) ليس مؤهلا للنقد النفسى، والناقد الأدبى ليس عالما فى النفس (وإن كان عارفا بالنفس). وهذا الموقف المحير ذاته هو الذى يلزمنا “بحوار ما” بين النشاطين، لعلنا نجد مخرجا (أو مهربا) من هذا المأزق أو به. وهذا ما سأحاوله فى هذه المقدمة.
فإذا عدنا نقول: إن الأدباء ”النقاد” من ”هواة” العلوم النفسية هم الأقدر على القيام بهذا الدور الخاص، لكان أوجب الواجب أن يقدم لهم المختصون الزاد المناسب الذى يعينهم فى أداء مهمتهم الصعبة. وأول ”أطباق” هذا الزاد هو وجوب مراجعة ما شاع بين العامة والمختصين حول ماهية العلوم النفسية مجالا ومنهجا.
وبغير ذلك فلا أمل فى درجة مطمئنة من التواصل لتبادل المعارف ومواجهة المسئولية. وقد تحمل هذه”المراجعة”قدرا من المفاجأة لا يتوقعه القارئ ولا حتى الأديب المجتهد، وقد يختلف حول المختصون أشد الاختلاف، لكن هذا الاختلاف فى ذاته هو الحقل الرائع المتعدد الثمار الذى يسمح للأدباء النقاد بانتقاء ما يساعدهم فى مهمتهم التى تتخطى بالضرورة مرحلة الهواية إلى ريادة متميزة يمكن أن تضيف إلى هذه العلوم (النفسية) ذاتها ما هى فى أشد الحاجة إليه – وذلك من واقع إسهام نقدى إبداعى متجدد.
***
وبداية، فإن تعبير”علم النفس”يكاد يوحى للجميع بأننا اتفقنا على ما هو “علم”وما هو”نفس”، ومن ثم: ما هو علم نفس، من كثرة ما اقترن اللفظان أحدهما بالآخر (علم/ نفس). غير أن حقيقة الأمر تعلن العكس تماما[5]، فالأغلبية تستعمل هذا التعبير بلا تحديد جيد حتى إننا لنكاد نتحاور كما يتحاور الصم. وواقع المرحلة المعرفية الحالية تقول: إن ما هو”نفس”مازال أمرا غامضا، فهو ليس مرادفا للروح (من أى منطلق ميتافيزيقي)، ولا هو محدد بسلوك ظاهر (تحت أى دعاوى منهجية)، ولا هو مظهر لنشاط عصبى جزئى (مع أى تعميم معملى أو”قياس”فسيولوجي). كذلك فإن النفس ليست هى بعض مظاهر نشاطها، حيث إعتاد كثير من الناس -من بين العامة والخاصة- أن يطلقوا ما هو ”نفسى” على ما هو انفعالى أو وجدانى أو حتى ما يشير إلى الشخصية الظاهرة (أو”القناع”). فإذا هربنا إلى (أو”فى”..) تعريف غامض -برغم صحته- وقلنا إن النفس هى النشاط الكلى للمخ البشرى[6]، لم ينفعنا -فى الواقع- شيئا، وإن نفى -ظاهريا، ومن حيث المبدأ- الإختزال التجزيئى. على أن إعتبار هذا “النشاط الكلي” يشير أساسا إلى عمليات التناوب والتكامل والتالف بين مستويات الوعى (بما تشمل من سلوك ظاهر وكامن)، وما يقابله من مستويات تنظيمية تركيبية حيوية مخية – لا بد أن يقربنا كثيرا من مفهوم النفس كما ينبغى أن نتفق عليه من حيث إنه يشير إلى مستويات الوعى ونتاجها معا. إذن: فما النفس (عند الإنسان) إلا ما يرادف ما يتميز به ما هو إنسان، حالة كونه نشطا ذهنيا على مختلف المستويات (“معا”).. و”بالتناوب”). و على ذلك يتسع الأفق إلى رحابة مزعجة، حيث يشمل هذا النشاط الإنسانى كل ما يندرج تحت المعرفة والوعى بكل مستوياته، واحتمالاته، واتجاهاته، ودوافعه، وتكثيفاته، وولافاته[7]. ومع ذلك (أو لذلك) فلا بد من تخصيص، فهل هو ممكن؟ نرجئ الجواب عمدا ثم نخطو إلى منطقة أخرى، حيث نبحث كيف اتصف هذا النشاط المعرفى (العلوم النفسية) بعلميته.
ذلك أن ما يسمى بالعلوم الإنسانية بعامة، والعلوم النفسية بخاصة، يثير إشكالية لم تحل – بحق – بعد.
وقد أدى ذلك إلى إثارة قضايا لم يقتصر أثرها على مدى موضوعية هذه العلوم[8] (بالمعنى التقليدى المطبق فى العلوم الطبيعية)، بل إمتد حتى هدد بقاءها فى حظيرة العلوم أصلا. على أننا إذا رضينا أن يكون”العلم”هو ما يشير إلى” “مجموعة منظمة من المعارف” فإننا نستطيع أن نتصور بالنسبة للعلوم النفسية أننا أمام علم”ما”، أما إذا ارتأينا أن العلم لا بد أن يخضع لمنهج بذاته (تجريبى وقابل للإعادة غالبا)، فإن الحلقة تضيق حتى تكاد تستبعد العلوم الإنسانية من حظيرة العلوم أصلا (اللهم إلا علم السلوك: انظر بعد).
وما دام الأمر كذلك فإننا لا بد أن نراجع الاستعمالات المختلفة لصفة “النفسي” التى يستعملها المشتغلون بما يسمى “المنهج النفسى للنقد الأدبي”. فهناك من قدر أن كل ما يتعلق”بالنفس”، أو الوظائف النفسية (ما يندرج تحت علم النفس العام) أو ما يؤثر فى نفسية الأديب، هو من صميم هذا التخصص. وقد تضيق الحلقة وتتحدد حتى تقتصر على التحليل النفسى بعامة وما يرتبط به من معارف[9]. وقد تزاد الحلقة ضيقا لتقتصر غالبا على التحليل النفسى الكلاسى أو الفرويدى بخاصة[10]. على أن ثمة محاولات قد تواترت فى اتجاه التعريف والتحديد دون اتفاق كاف. ومن ذلك محاولة قميحة[11] أن يطلق تعبير ”المنهج النفسى فى النقد” بشكل عام على عدة ألوان من النشاط المعرفى الإبداعى، تتعلق بدراسة (أ) كيفية الإبداع أو (ب) دلالة العمل الأدبى ومطالعته. وهكذا تمتد المساحة لتشمل دراسات الإبداع السلوكية من جانب، وفلسفة الجمال من جانب آخر.
وفى محاولة تحديد أخرى ميز عز الدين إسماعيل بين التفسير النفسى والتفسير التحليلى[12] على أساس أن التفسير النفسى مهتم أساسا بتشخيص (أو تصنيف) حالة بطل أو مبدع، وهو ما يقع فى مجال علم الأمراض النفسية أو الطب النفسى أو حتى علم الطباع، أما التفسير التحليلى[13] فقد إستعمله الناقد وهو يحاول أن يشير إلى ترجيح جانب التحليل النفسى (الفرويدى حسب ما استوعبت) عن ما سواه، إلا أنه فى التطبيق تجاوز التحليل النفسى إلى آفاق أرحب بتلقائية خاصة. وفى محاولة أخرى إقترح ناقد آخر[14] التفرقة بين المنهج النفسى، والمنهج النفسانى، حيث خص المنهج النفسى بوزن مدى نجاح البواعث النفسية فى إفراغ النشاط أو التعبير عنه بأى صورة حقيقية أو مجازية، وعلى قدر ماتمتلئ الصورة بهذا الباعث يكون حظ التعبير من الحق والجمال والقوة. أما المنهج النفسانى فهو الذى يحاول فهم أسرار الأدب والنقد عن طريق نظريات”علم النفس”. ورغم أن التفرقة واضحة بين النوعين فإن التسمية غير دالة عليها. أما المحاولة ذاتها فهى جديرة بأن تنبهنا إلى مخاطر الخلط ونحن ننسب إلى ما هو نفسى بالمعنى الشائع وبالمعنى الأكاديمى.
وقد أوضح سمير سرحان[15] -مواكبة لتمييز يونج بين الأدب النفسى وأدب الرؤى- إن أدب الرؤى هو الذى يتطلب خدمات عالم النفس…. (حتي) يستطيع… أن يبين لنا أن”عالم المخاوف الليلية، والمناطق المظلمة فى العقل”ليس غريبا عنا تماما..
أما النوع الأول الذى”.. لا يتجاوز فى نشاطه حدود الوضوح والفهم النفسي”فهو.. “الذى يتطلب مجرد الأدوات التقليدية للنقد الأدبي”. وفى هذا الرأى حسن ظن بعالم النفس من ناحية، يتضمن استعمالا متجاوزا للكلمة، حيث إن اليونجيين”المبدعين”وأمثالهم هم وحدهم الذين يمكن أن يقوموا -جزئيا وباجتهاد شخصى- بهذه المهمة على هذا المستوى (مستوى أدب الرؤيا). وهكذا.. نجد أنفسنا أمام إستعمالات شديدة التنوع لدرجة التناقض لما هو نفسى، أو علم نفسى، أو أدب نفسى، أو تحليل نفسى. وليس على الناقد المجتهد لوم فى اجتهاده، بخاصة أن”من يهمه الأمر”من المشتغلين بالعلوم النفسية لم يتفقوا فيما بينهم على معجم علومهم وأبعادها. وقد آن الأوان -إن كان للمنهج النفسى أن يستمر أو يتطور- أن تبذل المحاولات فى إتجاه التوضيح والتجديد لكل نشاط معرفى يقال عنه ”نفسي”، دون أى إلزام بالتماثل أو حتى بالإتفاق. وبهذا سوف يجد أهل الأدب -على المستوى النقدى بخاصة- ما ينتقون منه فيلتزمون به. وبهذا وحده يمكن التواصل فالتقدم، علما بأن الاختلاف نفسه هو مطلب الناقد المبدع، لأنه يعلن أن الظاهرة البشرية ترى فى مجال هذه العلوم بخاصة من أكثر من زاوية، وعلى أكثر من مستوى، ومن ثم تتسع فرص الإنتقاء، والتوليف للكشف عن مستوى عن أعماق النص ودلالاته بأكبر قدر من حرية الحركة الملتزمة وتحديد معالم هذا التنوع داخل هذا النشاط المعروف فى مجال مايسمى بعلم النفس أو الدراسات النفسية هو بعض مهمة هذه المقدمة.
نبدأ بعلم ”الطب النفسي” (وهو مجال تخصصى “الرسمي”)، فهو بوضعه الراهن ليس علما بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ لم يرتق حتى إلى مرحلة العلم التطبيقى. ذلك أن حقيقة الممارسة الطبنفسية ما زالت تقع فى مجال الحرفة (الفنية) المفيدة، حيث تعتمد على معطيات إمبريقية، وتستند إلى اتفاقات”مرحلية”بين المشتغلين بها لا ستعمال”فروض”أو نظريات بذاتها، والتواصل بلغة تصنيفية مشتركة ”إلى حد ما”. وكل هذا قابل للتحوير والتطور، إذ لم يثبت فى أغلب مجالات الممارسة أى تفسير سببى حاسم لحدوث ظاهرة المرض أو لطبيعته أو لمسيرة الشفاء منه. لكل هذا لزم أن أؤكد -بخاصة لغير المختص- أن هذا النشاط الطبنفسى هو أقرب إلى “الفن الحرفي”الذى يستعمل كل المعطيات العلمية المتاحة”كأدوات”تشحذ حذقه ومهارته، ومن ثم يصبح دور الطب النفسى فى النقد الأدبى دورا محدودا من جهة، وفائق العطاء من جهة أخرى. وتظهر حدود هذا الدور ومخاطر تخطيها حين يحاول أديب ناقد أو طبيب مجتهد أن يمارس لعبة ”التشخيص” (التصنيف) لوصف شخص “أو شخوص” العمل الأدبى، أو لوصف شخص الأديب المبدع ذاته. والخطر يأتى من أن مجرد تعليق لافتة التشخيص يغرى بأنه إضافة ”علمية”!!، ومن ثم فإن ذلك قد يثرى عملية النقد الأدبى.
وأحسب أن فى هذا تجاوزا صريحا: “فاللفظ” التشخيصى عادة ما يشير إلى “تعميم” تختص به “فئة” وهذا يتعارض مع ”التفرد المحتم” فى كل من شخوص العمل الأدبى، كما فى شخص مبدعه على حد سواء، أذ إنه لو مثل إى منهما ”نموذجا” بذاته لما كانت ثمة ضرورة للصياغة الفنية أصلا.
وأورد هنا بعض الأمثلة لإيضاح هذه النقطة:
إن تشخيص هملت بأنه كان مجنونا، دون تحديد نوع جنونه[16] لا يعنى شيئا أصلا، فكلمة “الجنون” وحدها لا تعنى معنى علميا متفقا عليه، بل إنها لاتعنى معنى شائعا واحدا، وأغلب ما يشيع عنها (أو يشع منها) أن ثمة شذوذا وغرابة يجب الابتعاد عنهما طلبا للسلامة، وتجنبا لمخاطر الفهم والمشاركة. أما الندرة (من التحليليين والوجوديين عادة) التى ترى فى الجنون عقلا، فإن مجرد”إعلان هذه الصفة التشخيصية لا يبلغنا شيئا عن هذا العقل”الذى فى الجنون، بل إن التشخيص قد يختزل الظاهرة ويزيدها تجهيلا. فإذا راجعنا احتمالين محددين لمرض هملت، وهما”النوراستانيا الهستيرية”[17] والسوداوية[18] لما أمكننا أن نستقبل رسالة جامعة مانعة، لا من واقع استعمال اللفظين التاريخى، ولا من واقع بدائلهما المستعملة حاليا، فوصف السوداوية مثلا بأنها”متى تمكنت من المرء أظهرت تفكيرا مفرطا فى الفعل المطلوب”[19] هو وصف يسرى على القلق النفسى المفرط، وعلى الرهاب الوسواسى، وعلى الوسواس الاجترارى، وحالات البارانويا (وبخاصة أحادية العرض/ الضلال)، وغير ذلك مما يكاد يشمل معظم الاضطرابات النفسية.
وحين يذهب جونز إلى القول بأن هملت إنما يعانى من العصاب النفسى Psychoneurosis[20] فإن ذلك يتنافى -وصفيا- مع رؤيته شبح أبيه رأى العين، وسماعه صوته بكل الوضوح والتكرار[21]. لكن جونز محلل نفسى، والقول بعد ذلك إن العصاب النفسى هو حالة عقلية يهزم فيها الشخص -أو يعاكسه- ذلك الجزء اللاشعورى من عقله، ذلك الجزء المدفون الذى كان ذات يوم عقل الطفل[22]، هو قول صحيح من حيث المبدأ، ولكنه لا يميز مرضا محددا دون سواه، بل إن هذه الهزيمة الآتية من الداخل الطفلى (وغير الطفلي) تحدث فى الذهان والعصاب واضطراب الشخصية على حد سواء. ولعل أهم ما كان مناسبا فى توصيف جونز للحالة هو حديثه عن عرض محدد عده -دون وجه حق- ظاهرة مميزة للتشخيص المقترح، ذلك العرض المسمى بالتعطل النوعى للإرادة Specific abolia ولا شك أن هذا العرض يمكن أن يفسر التناقض بين القرار الظاهر والفعل المؤجل أو المعطل (قرار قتل العم والتردد فى تنفيذه). غير أن هذا العرض لا يصنف مرضا بذاته. حقيقة أننا يمكن أن نعزوه إلى هذا التركيب الصراعى الداخلى، لكنه عرض شائع فى التركيب البشرى بعامة، وفى مساحة واسعة من الأمراض، وفى بدايات الفصام بخاصة (وسنرجع إلى ذلك بعد حين). ولا نترك هذه النقطة دون أن نذكر أن جونز -مثل المحللين بعامة- لم يبالغ فى قيمة ذكر اسم المرض، بل كانت مجرد بداية لا ستبعاد كلمة “جنون”، ثم الانطلاق إلى تفسيرات تحليلية”أوديبية”بوجه خاص. والمحللون -وبخاصة أيام”جونز”- لا يحبون الخوض فيما هو”جنون”، ولا يزعمون اهتمامهم بهذه”المنطقة”من الوجود البشرى. يبدو هذا فى إشارة جونز إلى أن مجرد تصور حالة هملت على أنها حالة جنونية يكفى لأن نصرف انتباهنا عنه، فلا نتعاطف معه، ولا يثير اهتمامنا حتى النهاية (كما هو الأمر فى حالة أوفيليا التى جنت فعلا). وهذا الرأى يكاد لا يعلن إلا جهلنا بالجنون، وخوفنا منه، ومن لغته المثيرة الدالة المتحدية أبدا. وواقع الأمر أن الناقد المبدع، من منظور نفسى على وجه التحديد، لايمكن أن يضيف شيئا ذا قيمة إلا من خلال مغامرة الخوض فيما يضيف شيئا ذا قيمة إلا من خلال مغامرة الخوض فيما هو”جنون”وما يعادله من رؤى وصور. وإذن، فعدم التعاطف مع الجنون غير مطروح أصلا، لا فى حالة هملت، ولا فى حالة أوفيليا.
وهكذا نرى أن موقف الطب النفسى من حيث محاولاته التشخيصية لحالة هملت لم يضف شيئا، بل شوه أشياء وكاد أن يطمس أخرى. أما إذا تجاوز التشخيص إلى المعايشة والاستعانة بأبعاد معرفية (نفسية) أخرى، بالإضافة إلى المهارات الفنية التى تنميها المهنة، فإنه قد يكون قادرا على إبداع نقدى فنى شديد الثراء، ليس بالضرورة مما يندرج تحت التفسير النفسى بالمعنى الشائع (وهذا ما كنت أعنيه بقولى إن الطب النفسى قد يكون”فائق العطاء”ومن ناحية أخرى مشيرا إلى إمكانية أن تعطى هذه الحرفة فرصة لإضافة نقدية من هذا الموقع المتميز).
***
ويندرج تحت أحادية النظرة والتجزئ نتيجة لاستعمال لافتات الطب النفسى تشخيص حالة ديستويفسكى السابقة على ظهور الصرع على أساس أنها حالة”نوبات هستيرية”، كما ذهب فرويد، ليفسر بذلك معالم المنطقة المشتركة بين ديستويفسكى وأبطال قصصه (وخصوصا الإخوة كرامازوف)، فقد رأى فرويد أنه”قد كانت لهذه النويات دلالة الموت، فقد كان مبعثها الخوف من الموت، كما كانت تتضمن حالات من السبات والنعاس. “وقد أصابه هذا المرض فى البداية عندما كان لا يزال صبيا فى شكل حالة من السوداوية المفاجئة التى لا أساس لها، فكان يشعر -كما أخبر هو صديقه سولييف فيما بعد- كأنه سيموت على التو… الخ[23].
ثم يذهب فرويد إلى تفسير هذه الحالات بأنها تدل على الاتحاد مع شخص ميت، سواء كان هذا الشخص قد مات حقا أو أنه ما يزال حيا، وإن كان المريض يرجو له الموت. والحالة الثانية -كما يرى فرويد- “أكثر أهمية، إذ تحمل النوبات عندئذ معنى العقاب.. “ويؤكد التحليل النفسى أن الشخص الخر بالنسبة للصبى هو فى العادة أبوه، وأن النوبة (التى تسمى هستيرية) هى من ثم عقاب ذاتى على رغبة الموت لأب مكروه، فديستويفسكى يعانى من الشعور بالذنب… الخ. ومن هذا المنطق -كالعادة- نفسر عدوانية شخوص روايات ديستويفسكى وإجرامهم، وكذا ساديته الخفية، المتناقضة مع رقته (وماسوشيته) الظاهرة.. الخ.
وهذا كله تعسف لا يؤيده أى قدر من المعرفة العلمية بتشخيص هذه النويات”الصرعية”فعلا، وإن إختلفت مظاهرها عن الشائع عن الصرع الحركى العام، فهذه النويات قد وصفت بدقة بحيث تشير مباشرة إلى أنه ليست سوى نوبات صغرى”، و”نوبات إغفائية”، و”نوبات سوداوية”.. وكلها أنواع وتباديل مما هو صرع فعلا، فليس الصرع هو مجرد فقد الوعى والتشنج الحركى، بل إن مداه قد امتد ليشمل مساحة من السلوك وأشكالا من الوعى تكاد لا تحصى[24]. والشعور بالموت، والخوف منه قبيل النوبة، (وقبيل النوم، كما ذكر ديستويفكى لأخيه أندريا) هو إعلان مباشر للطبيعة البشرية التى تظهرها بوجه خاص”الطبيعة الصرعية”.
ذلك أن النقلة المفاجئة التى يحدثها النشاط الصرعى تعلن التغير النوعى المؤقت من تنظيم وعيى بذاته إلى تنظيم اخر (أو”لا تنظيم “لحظي)، وهذا هو الموت (الذى يمكن أن نعرفه فنخاف منه رأى العين فالموت الحقيقى غير قابل”للمعرفة”فى حدود أدواتنا المحدودة). إذن، فالتفسيرات التى بنيت على تصور رمزى لمعنى الإغماء، وتفسير”تثبيتي”لمعنى الخوف من الموت… الخ. تحتاج جميعها إلى مراجعة جذرية. على أن كل ذلك ينبغى ألا يعنى أنى أريد أن أختزل بدورى حالات (نوبات) ديستويفسكى إلى “مرض الصرع “بمختلف أشكاله، لأطرد كل احتمال للربط بين ظاهرة المرض وفيض الإبداع عند ديستويفسكى، بل لعل العكس هو الصحيح، لأنى حاولت فعلا أن أبين دور النشاط المكافئ للصرع من منظور بنائى فى وجهه الإيجابى، وهو ما أعان ديستويفسكى -فى تصورى- على فيض إبداعه[25]. (انظر بعد)
ونفس الاتجاه التشخيصى قد حاوله بعض النقاد والأطباء على المستوى المحلى، فقد قدم كاتب هذه الدراسة تشخيصا لحالة ”عمر الحمزاوى” بطل شحاذ نجيب محفوظ[26]، وحالة صلاح جاهين (الفرحانقباضية) فى رباعياته بخاصة[27]، و”الغبي “لفتحى غانم[28]. وكان أكثر هذه الدراسات الثلاث دلالة هى دراسة رباعيات جاهين، ربما لأنها كانت تصف حالة لا مرضا. أما دراسة مرض عمر الحمزاوى فى “الشحاذ”، وبالرغم من الاستهلال بأنها دراسة لمحتوى قصة بمفهوم”كلاسيكي”للصحة والمرض، فإن رص الأعراض الواحد تلو الآخر للاستدلال على أعراض مرض الاكتئاب المتخلل بلحظات الهوس كان تسطيحا برغم دقته. وأعترف الآن (أعنى أعلن اعترافى) أنى لم أضف بهذه الدراسة جديدا للنقد الأدبى، وإن أفادت الدراسة”بعض”صغار الأطباء فى تفهمهم لمرض الاكتئاب. وأكثر بعدا عن الصواب كان ما جاء فى دراسة”الغبى “لفتحى غانم بشأن قياس العمل بالمقياس التقليدى. ولا يخفف من الخطأ -إلا قليلا- ما أعلنته الدراسة من أنه”… لولا كل هذا (مثلا: ذكر القياسات النفسية تحديدا، ونقص قدرات النمو مباشرة… الخ) – لوجدنا لها مخرجا رمزيا، ولأمكن اعتبارها من نوع الدراسات التى تستنطق مالا ينطق، وتناقش من لا يفهم… الخ”[29]. ذلك أن هذا النقد ظهر وكأنه يصحح ورقة إجابة طالب، لا يعايش عمق وعى كاتب[30] والأمر نفسه، أو قريب منه، أو مزيد عليه، ورد فى دراسة طبيب آخر لمسرح اللامعقول[31].
وبالنسبة للنقاد، فإن النويهى[32] والعقاد[33] إستعملا اللغة التشخيصية فى نقدهما النفسى لأبى نواس على سبيل المثال. وفى حين إستعمل الأول ألفاظ المرض والإنحراف بشكل مباشر، إكتفى الثانى بوصف ”حالة كذا”و”لازمة كيت”، أكثر من تشخيصه لمرض بذاته. وسوف أعود إلى هذه الأعمال مرة ثانية.
***
أوردنا هذه الأمثلة العالمية والمحلية لنرى كيف أن النزعة إلى التشخيص المبنية على علم الطب النفسى هى من أقل إسهامات الدراسات النفسية فى النقد الأدبى، وإن كان يمكن أن تفيد الطبيب فى تعرف الظاهرة المرضية (إن صح التشخيص) من بعد آخر. ولعل الوقت قد حان للكشف عن جانب آخر أو نشاط آخر مما يسمى “العلوم النفسية”.
نبدأ بأقرب ”العلوم” إلى ما هو طب نفسى، وهو ما يسمى تجاوزا ”علم” السيكوباثولوجى[34]، وهو نشاط معرفى يتعلق أساسا بعملية تكوين الأعراض فى أثناء تطور المرض. ولم يتفق المختصون على طبيعته أو حدوده[35]. وقد وصفت له تعريفا يناسب مرحلة المعرفة الحالية، والتزامى بالفكر التطورى الدورى، وهو تعريف يشمل البعد الطولى التوليدى والغائى معا، كما يغطى البعد العرضى التركيبى البنائى، فعندى أنه”…. العلم الذى يبحث فى أصول المرض النفسى وكيفية تكوين الأعراض وما تعنيه، وفيما يرتبط بذلك من طبيعة تكوين النفس البشرية وبخاصة فى أثناء نموها أو فى أثناء إضطرابها وتفكك مكوناتها، وأخيرا فى أثناء علاجها، بما يشمل تباعد أركانها وإعادة تنظيمها معا. وهذا التعريف يحدد كيف أنه ينتمى إلى الدراسة الدينامية والتركيبية، فى الوقت نفسيه الذى ينتمى فيه إلى التاريخ الطبيعى Natural History، ثم إنه فى النهاية علم لا يمكن فصله عن الممارسة الإكلينيكية العميقة، التى تواكب مراحل التدهور وأطوار إعادة البناء على حد سواء. لذلك فإن هذا العلم لا يقتصر على رصد الأعراض الظاهرة، أو تسجيل المعلومات المستبطنة، وإنما هو النتاج المباشر لتطبيق المنهج الفينومينولوجى فى الممارسة الإكلينيكية. وهو يتخطى الملاحظة الطرفية (دون إهمالها)، ولا يكتفى لا بالملاحظة للرصد، ولا بالاستبطان والتذكر، حيث يعتمد على “الخبرة المباشرة الكلية، القادرة على الاختراق واستيعاب المعطى وإعادة التركيب.[36] “وهذه الطريقة تعتمد إلى حد كبير على “شخصية الباحث: نوعها وخبرتها، وتجربتها ومعاناتها، ومدى وعيها..”[37]. وقد عرجت على الحديث عن منهج الدراسة المحورى لهذا العلم لأنى أراه منهجا موازيا -بل يكاد يكون مماثلا- للمنهج المتبع فى كل من الخلق الفنى والنقد الإبداعى[38]. فإذا كان موضوع الفحص والدراسة مريضا، شمل هذا المنهج”المواجهة والمعاناة والإثارة والتقمص (والتمثل) والاختراق والتخلخل الموازى والعودة وإعادة التوازن”، ثم التعبير والتنظير. وتسمية الناتج علما فى السيكوباثولوجى يعرض عادة فرضا يمكن تطبيقه وتعديله من واقع المنهج نفسه، وبالقياس فإنه إذا كان موضوع الفحص نصا أدبيا واتبع المنهج نفسه، إذن لأنتج إبداعا نقديا (ليس بالضرورة نفسيا).
فهذا العلم، إذن، بالمفهوم الذى أوضحته، يتفق مع النقد الأدبى منهجا ويختلف معه ”مادة” (ونتاجا طبعا).
وعلم السيكوباثولوجى من هذا المنطلق يختلف بداهة عما هو علم بالمعنى الشائع من حيث إنه معرفة دائمة النمو، فائقة المرونة، فمعطياته السابقة تكاد تكون إطارا عاما لمسيرة دائمة التغير من واقع دائم التجدد.
وإذا كان اشتقاق اسمه (باثولوجى=علم المرض) يقصره على ما هو مرض، فإن وجهه الآخر -بنفس منهجه- يمكن أن يدرس الإبداع، إذ هو نقيض العملية المرضية (وذلك بالرغم من أنى ضمنت تعريف علم السيكوباثولوجى الجانب المختص بالنمو وإعادة التنظيم) فإذا كان المقصود فى علم السيكوباثولوجى هو التركيز على العملية التى تتحور بها البنية السوية إلى بنية مريضة، بما يترتب على ذلك من ظهور أعراض، فإن التركيز فى العلم المقابل[39] (الوجه الآخر للسيكوباثولوجي) يكون على العملية البنائية التى تتحور بها البنية المتلقية المستوعبة إلى بنية قادرة على إعادة التنظيم، بما يترتب علية من ظهور الناتج الإبداعى[40]. وبألفاظ أخرى، فإن دراسة الإبداع الأدبى، بمنهج فينومينولوجى، مع استعمال أبجدية نفسية منتقاة من مختلف المصادر، وتخليق العمل الإبداعى فى صورة نقدية جديدة.. هو ما أعده الوجه المقابل لعلم السيكوباثولوجى[41]. ولا بد أن أعلن فى هذا الموقع أن علم السيكوباثولوجى كما قدمته هنا لم يعد له فى أغلب ألوان نشاط الطب النفسى المعاصر مكان لائق. وعلى هذا فإن وجه الشبه بين النقد الأدبى من المنطلق الفينومينولوجى بأبجدية نفسية وبين السيكوباثولوجى لا يعلن ضمنا أن أغلبية الاطباء النفسيين قد اكتسبوا الأداة المناسبة لأى من النشاطين، بل إن واقع الأمر يقول: إن هذا يكاد يكون هو الاستثناء[42]. ولو أننا راجعنا المثالين السابقين (هملت، ديستويفسكي) بمقياس السيكوباثولوجى لنقارن بين هذا المقياس والبعد التشخيصى السالف الذكر، لأمكن معرفة مستويى الدراسة المشار إليهما (أى مستوى التشخيص، ومستوى السيكوباثولوجي). ولكن قبل ذلك يجدر بنا أن نكمل استعراض بقية ما يسمى بالعلوم النفسية.
تحت عنوان ”علم النفس” نقابل ثلاثة أنواع من النشاط المعرفى، لكل منها علاقة مختلفة بموضوعنا فى هذه المقدمة.
1 – فعلم السلوك Behaviourology[43] هو العلم المختص بدراسة ظاهر السلوك، دراسة دقيقة مقننة ومحددة، بمعطيات كمية قابلة للمقارنة وللتثبت بالإعادة. وهو بذلك أقرب ما يكون إلى مفهوم العلم الحديث.
ليحق لأهله أن يكون لهم معمل محدد المعالم مثل معامل العلوم الطبيعية. ولا شك أن هذا العلم – فى الحدود التى رسمها لنفسه – قد أجاب عن أسئلة مهمة فى موضوعنا هذا، وذلك فيما يتعلق”بما يتميز به سلوك المبدع”، أو”ما هو فى المتناول من عملية الإبداع”، أو”الدراسة التحليلية لمحتوى النتاج الإبداعي”. لكن هذا كله لا يغطى المفهوم الإبداعى (الفني) لنشاط النقد الأدبى، برغم أنه يثرى الأبجدية النفسية بما يزيده من مساحة رؤتينا للعمل الفنى، وما يضيفه من أبعاد وصفية. فالنقد الأدبى بما هو إبداع تال يمكن أن يستفيد من الأرضية المعرفية المشارك فى تنميتها هذا العلم (السلوك)، لكن الإغراء الخطر يظهر حين يصبح علم السلوك هذا هو النموذج المطروح على النقد الأدبى فى محاولته أن يصبح ”علما” هو الآخر[44].
2 – وعلى أقصى الطرف الآخر من هذا العلم (السلوك) نجد ما يمكن أن يسمى “علم نفس اللاوعى”- وقد فضلت هذا الاسم بديلا عن الاسم الشائع عن هذا النشاط المعرفى وهو ”التحليل النفسي”.
لأوكد ”مجال “النشاط الذى يقول به أكثر من محتوى “المادة” وطريقة تناولا ويمكن أن نرجع بداية ذيوع هذا النشاط المعرفى إلى سيجموند فرويد ومن تبعه (وليس من انشق عنه، أو تجاوزه، كما هو سائد). وعلم نفس اللاوعى شديد الإغراء شديد الخطر، يحمل من التحدى والتناقضات مالا سبيل لحصره فى هذه المقدمة، ومع ذلك فلا يمكن إنكار التأثير المترامى الأطراف الذى أحدثه ظهور المدرسة الكلاسيكية للتحليل النفسى حتى كادت أن تؤثر بشكل خطر على الإبداع الأدبى فى مستوياته الإنشائية والنقدية على حد سواء. وأول ما ينبغى مواجهته من تناقضات هذا النشاط المعرفى هو أن يكون ثمة علم، ثم يكون موضوعه ليس قائما فى الوعى، فالواقع أن اللاوعى هو فى غير متناول الدراسة إلا من خلال مظاهره فى الوعى. لكن المحللين يرون فى ذلك رأيا آخر على أساس أن “الشعور الظاهر نفسه لا يعدو أن يكون إنكار لهذا اللاشعور، ونفيا له”[45]. وعلى ذلك فإن الدراسة المتوقعة لهذا المحتوى تعتمد أساسا على القدرة على الترجمة المعقدة من ظاهر الوعى إلى حقيقة اللاوعى، فإن كشف فرويد هو بمعنى ما كشف لغوى”[46]. وهى لغة جديدة حتما، وهذا يتطلب بدوره ”معجما” سابق الإعداد (غالبا)، ومترجما فائق المهارة. وكان نتيجة تضخم المعجم وثباته مع تواضع المهارة، أن تعسفت التفاسير وتمادت فى تقييم”الرمزية”فى العمل الأدبى، وهى ليست رمزية مستقاة عادة من مضمون العمل الأدبى وإنما هى مستعارة من أبجدية التحليل النفسى الكلاسى (الفرويدى)، التى كادت تستقر على مقولات بذاتها ضد طبيعة تطورها الحتمية. ومع التركيز على أن لغة اللاشعور هى لغة مصورة بدائية، وأن التعبير أقرب إلى العيانية، فإن ظهور هذه اللغة بصورتها المباشرة فى الشكل الجديد للعمل الأدبى (أدب الحلم – وتيار الشعور) لم يثن أغلب المهتمين بهذا الفرع المعرفى عن الإفراط فى الترجمة، ليذهبوا مباشرة إلى مواجهة المادة التى لم تعد لا شعورا، بل شعورا مباشرا برغم عدم ألفته، مواجهة مبدعة متحررة من وصاية النظرية. وهكذا نجد أنفسنا أمام واقع يكاد يقول: إنه لا يوجد إلا الشعور (الوعي) وإن اختلفت مستوياته ولغاته. ومن ثم، حق للاتجاه الذى يركز على الوعى أن تكون له منظومته المعرفية المميزة تحت اسم علم نفس الوعى.
وهذا الاسم ”علم نفس الوعي” غير شائع بالدرجة التى يستحقها، فأغلب أهل ”علم السلوك” لا يعترفون بالوعى “سلوكا” قابلا للدراسة فى ذاته، وإنما فى محتواه. وأصحاب علم اللاوعى لا يرون فى الوعى إلا قناعا لما دونه أو نفيا لما يخفيه. كل ذلك برغم أن الوعى هو النشاط الوسادى اللازم لكل الوظائف النفسية، المتداخل فيها، والمحتوى للأحداث بذاتها، المصنوع منها، كل ذلك معا فى آن واحد. وهو النشاط الكلى الوسادى اللازم لكل الوظائف النفسية، المتداخل فيها، والمحتوى للأحداث بذاتها، المصنوع منها، كل ذلك معا فى آن واحد. وهو النشاط الكلى الوسادى الذى يمثل البنية الأساسية لأى سلوك جزئى، كما أنه تتعدد فيه”المستويات”التى تتبادل وتتناقض فى تضافر ولافى متناوب متصاعد دائما. وقد استعمل الطبيب النفسى هنرى إى[47] هذا التعبير “علم نفس الوعي “ليؤكد أن النشاط النفسى بعامة (فى الصحة والمرض على حد سواء) ليس إلا سيكولوجية الوعى، أو هو البنية المحصلة لكل المستويات المنظمة هيراركيا (النابعة من التاريخ الفيلوجينى والأنتوجيني)[48]. على أن هناك مدارس لا تطلق على نفسها هذا إلاسم المباشر (علم نفس الوعي)، لكنها تعطى أهمية قصوى للإرادة والحرية والمسئولية فى تشكيل الذات ومواجهة الآخر. ومن ذلك مدارس علم النفس الوجودى، وكثير مما يندرج تحت ما يسمى بالاتجاه الإنسانى فى علم النفس، مما لا مجال لتفصيله هنا. وعلم نفس الوعى لا ينفى ما هو لا شعورى، وإنما يعده وعيا آخر كامنا، ونشطا متبادلا فى الوقت نفسه. وهو يسمح من هذا المنطلق باستيعاب مفهوم”تعدد الذوات” فى إطار الوحدة الإنسانية، وبتعبير آخر: تعدد حالات الأنا. وبرغم الشائع، اعتمادا على ما اشتهر من نظرية التحليل التفاعلاتى “إريك بيرن”[49]، من أن هذه التراكيب هى حالات الذات”الوالدية”والناضجة والطفلية، فإن المسألة أكثر تعقيدا، وتكثيفا. فحقيقة الأمر، ومن خلال تبنى المفهوم الأحدث للبصم[50] وفعلنة المعلومات[51] على مستويات متعددة، نستطيع أن أن نفهم العلاقة الوثيقة بين الإدراك الجشتالتى، والذاكرة الكلية، وتعدد التنظيمات البيولوجية (بنيات الوعي)، وبين مفهوم تعدد الذوات[52]. وأهمية هذه الإطالة هى أن هذا التعدد يمثل
أولا: الثروة الأساسية التى يستمد منها الإبداع مادته
وثانيا: أن الإبداع يخلق من هذه المستويات المتبادلة فى الأقوال العادية بنية جديدة من خلال تآلفها الجدلى النشط. وبتعبير آخر فإن الإبداع ينشط أكثر من مستوى من مستويات الوعى (على أساس أن كلا منها تنظيم كامن وليس مجرد معلومات)، من كمونها فى صورتها الجاهزة أولا، ثم من خلال التنشيط”معا”، ليتم التخليق الجديد الذى يظهر فى شكل النتاج المبدع[53].
ويصبح النقد الأدبى، إذ يواكب هذا المنطلق المعرفى، نشاطا إبداعيا من حيث إنه النتاج الولافى المثار من واقع تنشيط نشأ من النص الأدبى موضوع الدراسة. وهكذا نجد أن ما يسمى علم نفس الوعى هو أقرب ما يكون إلى طبيعة النقد الأدبى. ويتأكد هذا بوجه خاص حين نعرف أن طريقة الدراسة إنما تتم أساسا باتباع المنهج الفينومينولوجى. فكأننا بعد هذا العرض السريع نركز -من منطلق ما نتبنى من رأى- على نشاطين معرفيين من بين ما ذكرنا، وهما علما السيكوباثولوجى (ووجهه الإيجابى لدراسة الصحة الفائقة فى حالة الإبداع)، وعلم نفس الوعى. ومساحة التداخل بينهما تكاد تجعل النشاطين ينطبقان من عمق معين – فضلا عن أن منهج الدراسة فى كل منهما هو – أساسا – المنهج الفينومينولوجى.
ولكن، وقبل أن ننطلق إلى الجزء التطبيقى من هذه المقدمة، يجدر أن نشير فى عجالة إلى ما يسمى بمدارس علم النفس، وهى تتضمن بوجه خاص مدارس السيكوباثولوجى، فقد تعددت هذه المدارس وتنوعت بحيث أغرت بأن ترفض جميعها. لذلك فحين يقال إن ثمة نقدا نفسيا فلابد أن نتوقع أن يحدد الناقد مدرسة بذاتها، أو يعلن موقفه الانتقائى المسئول تماما. ولنتذكر أن المدارس النفسية لا تختلف فى المنهج أساسا، وإنما فى التصور النظرى والقيمة.. فيما يتعلق بما هو إنسان، وتركيبه، واحتمالات تغير هذا التركيب فى النمو الصحى والتدهور المرضى على حد سواء. على أن الأسلوب الانتقائى لاتحدده مهارب الاستسهال، وإنما توجهه”رحابة المعرفة”، مما يتطلب قدرة فائقة على الترجمة من منظومة معرفية إلى أخرى. وهو فى نهاية الأمر سوف يشمل -لذلك- المعايشة وإعادة الصياغة الخلافة، مع إستعمال أبجدية نفسية من مختلف المصادر بتوليف ذاتى جديد. ويصعب حينئذ التركيز على أن هذا النقد هو نقد نفسى بالضرورة، لأنه لايعدو أن يكون نقدا مبدعا أولا.. مستعملا الأرضية المعرفية بعامة ، بما فيها المعارف النفسية. وقد يكون هذا هو نفس الحال بالنسبة للإبداع الإدبى بعامة، إلا أن الفرق هو أنه فى النقد الأدبى قد تظهر المعارف بشكل محدد ومباشر، أما فى مراحل خلق النص ابتداء فلا تظهر هذه المباشرة أبدا (فى الأعمال الجيدة). وعلى ذلك، فإن قوة النقد وأصالته إنما تنبع من تماسكه الداخلى وإضافاته الخلاقة، بغض النظر عن اللغة المستعملة: نفسية أو غير نفسية.
وقد آن الأوان لنباشر التطبيق والمراجعة. ولنرجع أولا إلى المثالين السابق الإشارة إليهما (هملت – وديستويفسكي)، فبعد أن رأينا تهافت التفسير التشخيص، نتقدم خطوة محاولين الانتقاء المرن لإعادة تخليق النص من واقع معايشة مباشرة، فنقول: 1 – إن رؤية شبح والد هملت المقتول بواسطة صديقيه أولا إنما يضعنا مباشرة فى مواجهة ظاهرة هى أقرب إلى الأسطورة، أو التخيل الجمعى، أكثر مما يذكرنا بحالة”فردية”ترى هلوسات بصرية وسمعية لا يراها غيرها، لأن الإصرار على الاقتراب بالجنون الثلاثى Folie a Trois من النوع المعدى contamine أو المتزامن Simultan. لكن مسار المسرحية وتطور الأحداث لا تبرر أيا منهما، فالهلوسة بدأت أولا عند من لا يهمه الأمر (مباشرة)، ثم انتقلت إلى صاحب القضية، كما أن الظروف الوجدانية بين ”الأصدقاء الثلاثة” ليست متماثلة لدرجة تجعل اضطراب إدراكهم متزامنا إلى هذه الدرجة. لكل ذلك لا تصبح الهلوسة مفتاحا لمرض هملت، بل لا يصبح المرض مطروحا أصلا كاحتمال حقيقى أو تفسيرى. والفن يسمح بتواجد ”الوعى الآخر” بجوار”الوعى السائد” دون حاجة إلى مرض أو تشخيص.
2 – إن المبالغة فى التركيز على تلكؤ هملت فى تنفيذ ما تلقاء من الشبح (الوالد) هو أمر غير مفهوم، فالأصل فيما يتلقى طريق الهلوسة أو الحلم أو الحدس.. الخ فى هذا الوقت المبكر من الاضطراب هو أن يقابل بالشك والمراجعة، فهذه المراجعة تعلن تماسك الشخصية نسبيا.، فى مواجهة هذا الوعى الآخر (التنظيم/ البنية) الذى نشط مستقلا ليعلن رؤيته أو يملى إقتراحاته فى شكل شبح أو صوت، كما يدل التردد أيضا على أن العملية التفككية ما زالت فى بدايتها لم تستتب بعد، فالمتوقع (بل الواجب) أن يتأجل التنفيذ حتى يتحقق هملت من حقيقة هذه الرؤية، وربما طبيعتها، ثم يدبر الخطة وهو يدرس جدواها. ثم إنه – حتى بعد ذلك – لا يوجد إلزام بالتنفيذ لمجرد أننا نتوقع ذلك بحسبة منطقية سخيفة، لأن دور الفن هو أن يتحدى هذا المنطق الجاهز والحساب المسطح (من قتل يقتل، ومن سمع هاتفا يجبيه.. لماذا؟). هذا المنطق المسطح هو الذى برر – أحيانا – إتهام هملت بالجبن والضعف، وكأن الموقف يحكم عليه من منطلق أخلاقى، وأخلاق من؟ أخلاق العامة أحادية النظرة. إن الفن يحرك الطبقات الأخرى، وإلا فلا ”فن”. استجابه هملت كانت على أكثر من مستوى، فهو قد تفاعل حقا مثلما توقعنا، واستجاب للهاتف -من حيث المبدأ- وخطط للإنتقام، إلا أنه ”رأى” أبعد مما حسبنا، فثارت قضايا أكثر جوهرية وأخطر أثرا. ذلك أنه واجه الطبيعة البشرية فى تركيباتها المتكاثفة من ناحية، وفى مسار نموها من ناحية أخرى، “كما سيأتي).
3 – مسايرة لهذا الاستغراب الأخلاقى المنطقى بدأت محاولات النظر والتفسير، وكان من أكثرها قبولا التفسير التحليلى النفسى الذى يقول: إن هملت تقمص عمه باعتبار أنه (هملت) هو القاتل الحقيقى (لوالده)، وما عمه إلا أداة تنفيذ أحلامه التى تمنت قتل الوالد للاستحواذ على الأم (ومضاجعتها). وهذا التفسير المؤسس على ما يسمى عقدة أوديب يحتاج إلى مراجعة[54].
وقد آن الأوان لنقرأ العمل من منطلق تركيبى ذى أبعاد أرحب، فالتنظيم ”الوالدى “(من منظور تفاعلاتى تطورى إيقاعي)[55] هو كيان داخل النفس يقابل ”بشكل ما “الكيان الوالدى خارج النفس، وهو لا يرتبط ”بالوالد “بالمعنى الأسرى الجنسى الأوديبى، وإنما يستمد تركيبه من ”منطبعات” كل ما يمثل السلطة. ثم إنه يمثل -فى نفس الوقت- أشكالا متعددة -وأحيانا متناقضة- من التنظيمات الوالدية (فوالد هملت هو والده، وأمه، وعمه، وملكه، وحموه،.. جميعا.. وغيرهم). ومن ثم فإن صراع هملت (ومن ثم تردده) كان نتيجة أن حادث القتل قد نشط التنظيم الوالدى الداخلى وقلقله، فى الوقت الذى كان ينتظر فيه -تلقائيا- أن يتقمص الوالد الميت على نحو أعمق. وترجع هذا القلقلة دون التقمص إلى كيان هملت الحساس المرن النامى المعوق معا.
وهكذا واجه هملت مشكلة نموه الأساسية، وليس مشكلة الثأر لأبيه، فأبوه فى الداخل، وسيزداد ”دخولا” كلما تخلص ”فيزيائيا” من ”آباء “الخارج، دون إستيعاب أو تمثل ولافى. وهذا ما جعل هملت يكاد ”يكتشف” هذه الخدعة التى يستدرجه إليها الشبح[56]، بديلا عن مسيرته النموية الذاتية. وهكذا وجد هملت نفسه ملقى فى “مأزق نمو” لا يسعفه فيه كل الاقتراحات المطروحة (من ذاته وأشباحه وأصدقائه وأمه جميعا)- ذلك أنه بقتل العم والحلول محل الوالد لن يكون إلا والده، وهو بترك العم والهرب بعيدا عن المواجهة لن يكون نفسه النامية، بل نفسه الهاربة ووالده المقتول بداخلها يعايره ويلاحقه. وحين يلتقط هملت هذا المستوى من الصراع (ليس بالضرورة إلتقاطا محددا ممنطقا) يعلن بصريح العبارة طبيعة القضية وأنها قضية نموه الكيانى فى مواجهة الداخل والخارج معا. إذن فالسؤال ليس هو اهل ثقيل العم، أو يؤجل قتله، أو يهرب من مواجهته؟”، ولا هو فى “هل يستولى على الملك فيضاجع الأم (فى خياله)، أو يظل طفلا سلبيا معتمدا يضاجعها فى معركة سرية أيضا؟. السؤال هو ما صرح به، نتيجة المواجهة والقلقلة”أن يكون.. أولا يكون”- “يكون” نفسه، مستقلا عن الوالد، متمثلا له فى الوقت نفسه، إذ يستوعبه نتيجة للمواجهة الجدلية البنائية، أو”لا يكون” حين يصبح صورة والده (أى والده)، أو عكسها تماما (حتى لو كان اسمه هملت)، فهو فى الصورتين”لم يكن”الخطوة التطورية الصاعدة منه ومن والده معا، بل ظل إما والده نفسه، وإما عكسه، وهذه هى “اللاكينونة”. وفى مواجهة هذه القضية الجذرية لابد أن تعاد حسابات قتل العم بمحاولة الإجابة عن السؤال: ثم ماذا؟ هل هذا القتل -إن تحقق- سيخدم اتجاه الكينونة أو سيلغى أحد شقى الصراع الذى هو أحوج ما يكون إليه فى هذه المرحلة الحرجة، بعد أن ألغيت مواجهته مع والده المقتول؟ إن الصراع إذن ليس بين ”والد” غريم لا بد يختفى كما اختفى الوالد القديم، ولكنه صراع مع (وليس”ضد”) “والد داخلي” لا يختفى باختفاء أصله ”فى الخارج”، بل يلزم أن يتعتع تنظيما مستقلا، ثم يسارع بإسقاطه إلى الخارج على “والد “أو ”عم “لتنقلب المعركة جزئيا إلى معركة خارجية، إذ لا بد أن يواجه هذا التنظيم المتعتع فى الداخل مثيرا من الخارج. وباستمرار الرحلة بين الداخل والخارج يتولد البناء الولافى للمخلوق الجديد، و”يكون” هملت الذى هو ليس ”مثل” ولا ”عكس” والده، بل ”هو ما نما من خلال هذا التنظيم السلطوى الجاهز وعلى حسابه، دون بتره أو إغفاله. مرة ثانية: كأن التحدى الذى ألقى فى وجه هملت دون هوادة هو إدراكه أن نجاحه فى قهر سلطة الخارج ”الوالد.. فالعم”، والتخلص منها، هو نجاح فاشل، لأنه يؤدى إلى إنهاء معركة هو أحوج ما يكون إلى خوضها.
وربما كانت مشكلته مع أمه (تنظيم والدى أيضا) هى على نفس الوتيرة مع اختلاف نوع القهر، فقهر الأم هنا هو سلطتها الامتلاكية ليظل (هملت) طفلها المعتمد أبدا. وعلاقة هملت بأمه وأبيه هى أوضح دلالة على الفكرة التى ذهب إليها ”رولو ماى “Rollo May فى تأكيد أن الصراع الأساسى -بغض النظر عن شكله الظاهرى- هو صراع النمو للاستقلال. وهذا ما حاول أن يفسر به شخصية “أوريست “(انظر بعد). وهذا الرأى ينطبق على حالة هملت أكثر مما ينطبق فى حالة ”أوريست”، حيث تعلن هنا المشكلة صراحة بلغة النمو والكينونة[57]، وحيث يصبح قتل (التخلص من) العم (بعد الحرمان من الأب) بمثابة إعلان ”إجهاض” نمو هاملت. وهذا الحرص على النمو -ضد الرغبة فى الهرب بالبتر فالإجهاض- هو الذى يفسر عواطف هملت تجاه عمه، فهو”محبوب مكروه”، لأنه”لازم لسد الحاجة وإكمال المسيرة، وفى نفس الوقت هو سبب فى هذه إلانحناءة العنيفة فى مسيرة النمو على نحو لا يحتمل. إذن فمن الضرورى أن يبقى، وفى الوقت نفسه من البديهى أن يدفع ثمن فعلته. وهذه الثنائية العاطفية هى امر طبيعى تجاه”الوالد”(فى الداخل والخارج).
وكونها تتجه نحو العم هو دلالة على أن العم”الآن”يقوم بدور الوالد بكل تناقضاته الطبيعية. وشيكسبير لا يدع مجالا يسمح لنا برفض هذه الطبيعة (حتى لو خفنا منها أو أجلنا مواجهتها بمحاولة تفسيرها وموقف هملت فى مواجهة أمه كان باديا، بل فى علاقته بأوفيليا كذلك. وعلى ذلك فإن رفضنا ”لما هو نحن” هو الذى قد يفسر ادعاءنا عدم الفهم، ومسارعتنا لاتهام المؤلف بالغموض. وحتى التفسيرات الأوديبية الجنسية إنما تستقطب قضية النمو إلى صراع جنسى ثلاثى أو أكثر. وقد يثبت أنه ليس سوى إسقاطات لتركيبات قائمة تبحث عن ”مجال” فى الخارج يساعدها فى الجدل الصعب، وقد تتخذ شكلا جنسيا[58] أو غير ذلك. فالمشكلة هى أساسا ”أن يكون أولا يكون”، ولها أشكال أو المسالك مختلفة. وإذا كان الجنس هو أحد هذه الأشكال أو المسالك، فالعدوان (غريزة أسبق وأخطر) هو وسيلة أخرى. وقد أدت المغالاة فى التفسيرات ”الجنسية” إلى تجاوز المشكلة الجوهرية “الكينونة”، ثم إلى تجاوز تقييم دور العدوان ”فى ذاته “فى رحلة النمو لتحقيق الكينونة، حتى إنه كلما أطل العدوان برأسه سارع المحللون المفسرون إلى البحث عن دافع ”حبني “وراءه، وكأن العدوان ليس دافعا بقائيا تطوريا فى ذاته، وكأنه لا بد أن يجد ما يبرره فى دافع آخر وليس فى صلب الحياة نفسها[59]
***
ثم نعود إلى موضوع التردد الذى أدهش الناس وحير النقاد، وله أكثر من مظهر فى المسرحية، سواء فى الأحداث أو الأقوال (الأشعار) أو الاستغراق فى التفكير أو حوار الأحياء والأشباح.. الخ. والتردد – من منطلق تركيبى – هو إعلان لنشاط مستويين معا، بالتبادل السريع أو بالتنافس المتذبذب، وإلى درجة أقل بالصدام المؤقت. وهذا ما ظهر جليا فى موقف التردد الذى أثار كل هذا التساؤل، لأننا لم نتعود مواجهة هذا التعدد الذى هو طبيعى للكيان البشرى. وقد تم تنشيط مستويين على الأقل من بنية هملت نتيجة لمقتل الوالد.
وكما ذكرنا فإن الطبع (البصم) Imprinting الذى يظهر فى شكل تقمص شامل كان خليقا أن يتم فور المقتل، فيقفز هملت إلى ما هو”والد” (ليس هو هاملت)، ويحل محله (يحل الوالد محل هاملت) فيبدو قويا”شهما”منتقما. غير أن هذا لم يحدث نتيجة لتنشيط الكيان الطفلى (مشروع هملت النامي) فى نفس اللحظة، فكانت المواجهة، وكان الإسقاط إلى ما هو شبح، وكان الحوار الذى لم ينته فى الخارج، ولم ينقطع فى الداخل، لأنه مع تنشيط الكيانين معا انقلبت المشكلة من ”أنتقم أو أهرب” إلى “أكون أو لا أكون”.
ولم يقتصر هذا التنشيط على المستوى اللاشعورى لنواجهه فى الخارج بمحصلة نتاجه، وإنما ظهر مباشرة فى الوساد الشعورى. ومادام هناك نشاطان متزامنان يحتلان الوعى معا، فلا بد من التردد بشكل قد لا يشل الإرادة فحسب، بل يشل الحركة ذاتها، لدرجة قد تصل إلى الجمود ذاته. فالشلل المؤقت، والانتظار الساهم، والحديث الداخلى – كل ذلك يعلن هذا التعدد فى “قيادة”السلوك. لكن هذا التنشيط”معا”، الذى يظهر بوجهه السلبى فى شكل التردد المعوق، هو نفسه أساس النمو الولافى الناتج من التناقض المواجهى. وثمة احتمالات أخرى تطل بوصفها بدائل يمكن أن نجد ملامحها فى المسرحية، ويمكن أن نقول إن التنشيط معا قد يظهر فى شكل التردد الكيانى، أو المرض المشل، أو يدفع إلى الاغتراب بالإسقاط أو بالإجهاض بالقتل أو النكوض. وهملت كان يصارع طوال الوقت للنمو، إلا أن كل البدائل كانت تطل عليه بلا هوادة. ويظهر ذلك أكثر جلاء إذا ماعشنا المسرحية شعرا ولم نكتف بروايتها أحداثا.
وهكذا نجد أن التفكير البنائى ينقلنا من مستوى “لماذا حدث” إلى مستوى “ماذا حدث”. وهذا المستوى الأخير يمكن أن يكون ”حضورا “فى ذاته، يسمح بأن يعاش ”مباشرة “قبل الإسراع إلى فك الرموز أؤ الترجمة.[60]
***
ثم ننتقل إلى المثال الثانى “ديستويفسكي”، فقد أوضحت فيما سبق خطأ”التشخيص”الذى حاول أن يستنتج أن نوبات الإغماء والسوداوية والخوف من الموت كانت نوبات هستيرية قبل الصرع، ثم ذهب يستنتج من ذلك دلالتها على أنها توحد مع شخص ميت.. الخ. وقد أبنت هناك كيف أن هذه النوبات – بوصفها المتاح – ليست سوى تنويعات لنوبات الصرع. ومع ذلك فإنى لم أقصد اختزال حالة ديستويفسكى إلى “مرض الصرع”على أساس أنه ليس له علاقة بإبداعه، بل لعل العكس هو الصحيح. وقد تناولت هذا الموضوع فى دراستى لروايته الناقصة نيتوتشكانز فانوفا[61]، حيث نبهت إلى وجه الشبه ووجه الاختلاف بين التنشيط المرضى والتنشيط الإبداعى، وبينهما وبين الإيقاع النوابى الدورى فى مسيرة النمو ودوراتها.
والذى يهم أن أعيده هنا بإيجاز هو أن الدراسة الوصفية لما هو”صرع”فى الطب النفسى، والاكتفاء بتشخيصه وعلاجه بمضاداته، هى حائل جذرى دون أى فهم محتمل لهذه الظاهرة المتعددة الأعماق والأبعاد، والمعلنة لطبيعة تركيب المخ ونشاطه بنائيا ونوابيا، وهذا (الحائل) يجعلنا ننظر إلى هذا المرض (وكل مرض) بحسب ظاهر شكله بمقياس الشذوذ والإعاقة فلا نتعمق منبعه أو تنظيماته أو بدائله أو غاياته (ولا أقول أساسا أسبابه ودلالاته كما يركز التحليليون). من هذا المنطلق اجتهدت أن أبين أن الوجه الإيجابى لهذا المرض هو الذى سهل على ديستويفسكى رحلات”الداخل”والخارج”حتى اكتسب هذه القدرة الفائقة التى سمحت له أن يعيش شخوصه – بما فى ذلك الأطفال – فيصف لنا هذه المساحة المترامية من الدراما البشرية الزاخرة، إذ قد افترضت هناك أنه”… لودب النشاط (الصرعي)[62] وانتشر (دون تفريغ فجائى شامل).. وبدلا من أن يعود الحال إلى ما كان عليه، ترتبت المعلومات[63] الكامنة فى شكل جديد…”، ثم “إن درجة النشاط الفجائى التى تفرغ فى شكل سلوك صرعى مرضى، هى ما يعنى الأطباء والأخصائيين، أما درجة النشاط الفجائى الممتد، التى تتيح إعادة ترتيب مبدع وتوليفه فى شكل استعادة إعادة معايشة وتنظيم وصياغة ونقل، فهى الصورة الإيجابية للصحة الفائقة فى حالة الإبداع. وقد كان من ناتج هذا التنشيط الإبداعى النوابى فى أعمال ديستويفسكى أمران:
الأول: أن معظم (وربما كل) المنطبعات الآتية من خارج، والكامنة من الجذور، أصبحت عرضة”لتعتعة”مناسبة تجعلها لبنات جاهزة للبناء الإبداعى الفياض. وقد يكون هذا سر تعدد الشخصيات وفيض الإنتاج وثراء التفاصيل فى آن واحد.
والثانى: أن هذه الشخصيات قد اصطبغت من جانب أو آخر بلون معاناته الذاتية التى لها علاقة مباشرة بالوجه المرضى لهذا التنشيط. ومن هذا نستطيع أن نفهم هذا العالم الهائل من المرضى (تخصص ديستويفسكى الدقيق)، وفى الوقت نفسه نفهم التنوع الهائل فى شخصياتهم، بحيث يستحيل القول الساذج بأنهم ليسوا سوى ديستويفسكى. وإذ نتذكر أن تلك المنطبعات الواردة الكامنة ليست فى النهاية إلا ذوات تنظيمية داخل البناء النفسى، يمكن أن يفيد فهم برجسون[64] حين يرى أن مؤلف الدراما “لا يحتاج أن يرى شخوصه فى الحياة من أجل أن يصورهم، وإنما هو يستخرجهم من ذاته التى تضم إلى حالة الإمكان ذوات أخرى كان يمكن لأى واحدة منها أن تكون ذاته لو وافت الظروف وطاوعت الإرادة. فشخصية مؤلف الدراما تضم شخصيته التى يعيشها لنفسه، وتضم إلى ذلك عددا من الشخصيات غافية أو نائمة، لا يزيد هو على أن يوقظها، فإذا هى تتحرك وتسعى، وترقص رقصها المقابرى، فيأخذ يصورها”[65].
فديستويفسكى إذن مدين جزئيا لمرضه – ونحن كذلك. ولكن لابد أن يتضح أن المرض فى ذاته ليس هو المعنى بصاحب الفضل، وإنما التنشيط الباعث له أو لبديله، ذلك لأنه لويلتقط هذا التنشيط النوبى فى عملية ولافية إبداعية، فإن صاحبه سوف “يرتد” إلى وجود ساكن أدنى. فالاختلاف فى “جرعة النشاط” وما يترتب عليها، وكيفية استيعابها. والإبداع هو المسار الإيجابى المركز لهذه العملية. والنمو يمثل المسار الإيجابى الممتد، أما المسارات السلبية فهى الإجهاض الصرعى، والتناثر التركيبى، والتجمد المشوش، وما يصاحب كل ذلك من مظاهر مرضية.
ومما تقدم نستطيع أن نخلص إلى نتيجة تقول:
إن التفسيرات ”الرمزية “و”العلية” تزداد كلما قلت معارفنا عن الظاهرة المعنية، تركيبا بنائيا حاليا، ومعنى غائيا مباشرا. فتفسير نوبات ديستويفسكى قبل الحالة الصرعية، بعلاقته بوالده بدت مناسبة حين افتقرنا إلى معلومات كافية عن أشكال الصرع الأخرى، والتركيب البنائى للنشاط الصرعى ومكافئاته، واختزال شخوص ديستويفسكى إلى ما هو”ذاته”، و”ذكرياته”تحت تأثيره بمرضه، بدا لائقا حين افتقدنا فكرة”تعدد الذوات”و”وحدات الأنا”، وما يمكن أن يجرى عليها من تنشيط يومى عادى (أثناء الحلم) أو فجائى مجهض (فى نوبة الصرع) أو بنائى ولافى (أثناء الإبداع). وبديهى أن هذا الاجتهاد هو ما استقبل به ديمى – بأرضيتى المعرفية الخاصة – ما هو ديستويفسكى شخصا ومبدعا، دون إلزام بحتم علمى معين.
اخترت المثالين السابقين لشيوعهما أولا، ثم لأنى سبق أن تناولتهما فى مناقشة مخاطر الاختزال التشخيصى ثانيا، ثم رأيت أنه ينبغى أن انتقل إلى أمثلة مقابلة من واقعنا الخاص، فأبدا بتراجم اتبعت المنهج النفسى، ثم أنحو إلى مراجعة عينات محدودة لنقد نصوص أدبية بنفس المنهج، وسوف ألتزم فى حدود المقدمة أن أراجع النقد وما استشهد به، دون أية إضافة من النص الأصلى، فهذه مرحلة لاحقة إن أتيحت لها الفرصة. وبالنسبة للتراجم فمن البديهى أن نختار العقاد نموذجا مناسبا. ولنبدأ برائعته”ابن الرومي”.
يرى جابر قميحة فى المنهج النفسى، فيما يختص بالتراجم الأدبية، صورتين واضحتين، هما الصورة الهادئة المعتدلة، والصورة العلمية المتطرفة. وواضح ما وراءة هذا التقسيم من فكرة مميزة، ولكن اختيار التسميات يحتاج إلى مراجعة، إذ لا يصح أن يقرن ما هو علمى بما هو متطرف، فالتطرف يكون عادة فى العقادة مواكبا للحماسة الدينية والمذهبية، كما أن الهدوء والاعتدال ليسا من صفات التحرر من النظرية، وهما يتنافيان مع التلقائية المبدعة التى ينبغى أن يتصف بهما الباحث الطليق من النوع الأول، بل إن هذا الباحث – وهو العقاد فى ابن الرومى – يمارس عملية متفجرة ومقلقلة، إذ هى خلاقة وطلقة، فى حين أن الباحث من النوع الثانى – العقاد (والنويهي) فى أبى نواس – يسير مكبلا بأبجدية ملزمة. لذلك فإنى أقترح – مؤقتا – أن نسمى الصورة الأولى (ابن الرومي) النقد النفسى التلقائى المبدع، فى حين نسمى الثانية (أبا نواس) التقويم النفسى المحدود[66]. والآن، إلى الأمثلة:
المثال الأول:
حين يتكلم العقاد عن”الطفولة النامية”التى تصف ابن الرومى، تلك الطفولة التى “لا تجف ولا تشيخ”[67] نشهد له بالتلقائية والإبداع. وفى نفس الوقت فهو يتحدث بلغة نفسية صريحة وسليمة، يصف فيها ما وصل إليه، واعتمل فى نفسه بشكل مباشر، ويستشهد على صحته من شعر الشاعر وسيرته. ثم يأتى “إريك بيرن”[68] بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة ليتكلم عن ”حالة الذات الطفلية” فى كل منا. ولو علم بذلك العقاد تفصيلا -حسب ما تطور إليه فيما بعد- فلربما عدل (بغير وجه حق) عن استعمال تعبير ”النامية” ليلتزم بلغة العلم. فإريك بيرن يتكلم عن ”ذات طفلية”، لكنها لا تتصف بالنماء المتجدد كما توحى الكلمة التى اختارها العقاد وصفا لما “رأى”، بل إن الذات الطفلية -من منظور بيرن- تذوب فيما أسماه “الناضج المتكامل “Integrated Adult باستمرار النضج الحقيقى. لكن العقاد بحدسه الأدبى أعطانا بعدا أصيلا لاحتمال أن ”ينمو الطفل فينا طفلا”. إذ يكتسب قدرات متزايدة مع احتفاظه بحلاوة صفولة ونقاء صدقه وتلقائية بساطته.
والعقاد لا يشير إلى فاعلية نضارة الطفولة فى دفع الإبداع – وهى عملية أصيلة وعامة، ولا تتعلق بمفهوم بيرن – ولكنه يشير إلى ظهور ”ملامح” هذا الطفل النامى فى “محتوى” الإبداع ونبضه. كما أن تعبير ”الطفولة النامية” ليس هو المرادف المباشر لتعبير ”الطفل الكبير”، الذى وصف به العقاد ابن الرومى فى موقع آخر، حيث إنى استقبلت التعبير الأول بما يشير إلى طفولة دائمة التجدد والنمو والنضارة، فى حين أن تعبير ”الطفل الكبير”[69] هو تعبير أكثر سكونا. ورؤية العقاد مقبولة فى الحالتين، والسياق يسمح بالاستنتاجين، وربما يرجع ذلك حقا إلى ضعف ”الوصاية” العلمنفسية على فكر العقاد آنذاك.
والمسألة تحتاج إلى بعض النقاش، فالعقاد كان يرى أن كل ”اعتراف” شجاع ذكى بما “فى الداخل” هو نوع من البراءة الطفلية، مع أن ذلك قد يشير أساسا إلى قدرة الشاعر على المخاطرة برحلة الداخل/ الخارج بأقل قدر من الحيل النفسية الدفاعية. لكن السياق كله -أو أغلبه- يجرى فى صالح قبول رؤية العقاد كإضافة محدودة من قارئ ناقد حساس.
إن ما هو طفلى، إذ يرى فى محتوى نتاج شاعر، إنما يحتاج إلى عمق مناسب لنرى تكامله مع ما هو يافع وكهل وغير ذلك مما تتشكل منه المسيرة الولافية التى لا يمكن استيعابها إلا باحتمال رؤية -وممارسة- مواجهة الضدين للتفاعل الخلاق والتوليد التصاعدى. ولكن يبدو أن العقاد لا يحتمل ذلك أصلا، واهتمامه المفرط بتأكيد نمط محدد للشخصية إنما يشير إلى موقفه الساكن، ومن ثم تسكينه لما يرى. ولم يحل ما اقترحه من مسألة “مفتاح الشخصية” من هذا السكون والميل إلى الاستقطاب والاختزال، فهو يميل غالبا إلى إفتراض رجحان أحد الضدين، ويلتمس التأويلات لظهور الضد المقابل. وعلى سبيل المثال نراه يفسر شهادة ابن الرومى على نفسه بالحقد بأنه إدعاء للحقد وليس حقدا، أو بأنه لتخويف الناس من قدرته على الحقد، أو بأنه كان يتعاطى صناعة البرهان فأحب أن يمتحن قوته فى المنطق والفلسفة[70]، ويستشهد على ذلك -ضمن شواهد أخرى- بأنه ذم الحقد كما مدحه. وكل هذه الاستنتاجات والدفاعات تشير إلى أحادية زاوية الرؤية نتيجة للعجز عن استيعاب الحركة الجدلية، وعن عدم تحمل مواكبة”قفزات النمو الكيفية”. وقد يرجع ذلك إلى شخصية العقاد الصارمة – برغم موسوعيته – كما قد يرجع إلى منهجه الفكرى الذى يميل فى أحيان كثيرة إلى الإفراط فى “الالتقاط – فالتعميم”[71]. وقد يكون الشاعر ذاته (ابن الرومي) لم يحتمل هذا التناقض، فسارع بالتراجع رغم روعة الرؤية. ولكن من أين لابن الرومى أن يقول:
وما الحقد إلا توأم الشكر فى الفتى
وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض،
إن هذه الرؤية ليست طفلية، ولا هى مجزأه، ولا هى تحتاج إلى تأويل. ومهما تراجع الشاعر فى البيت التالى فخص الحقد بذى الإساءة، وخص الشكر بحسن القرض[72]، فإنه قد أبلغنا رؤية متداخلة لا فكاك منها وهى تعلن لحظة حدس عميق، اكتشف فيها كيف ينتسب الحقد إلى الشكر والعكس بالعكس. وهذا الانتساب لا يقتصر على وحدة الأصل بل على ولاف المسار. ثم يتراجع الشاعر -وله ذلك- ويؤول الناقد- وله ذلك أيضا. ولكن يظل الاستقطاب الأخلاقى أضعف من الحدس الشعرى. وإذا كان العقاد قد سمح لنفسه برؤية اقتراب الضدين بتبادل سريع ”وربما تعاورته الحالتان فى لحظة واحدة”[73]، فإنه (العقاد) جعل نتيجة ذلك هى (الحيرة) وليس الاستيعاب المتحمل ومن ثم ذهب العقاد ينفى بالحجة تلو الحجة حقد ابن الرومى أصلا، ويذهب إلى أن اعترافه به أدل على عدم وجوده. والناقد هنا أولى باللوم من الشاعر، ذلك أن”حركة”بصيرة الشاعر المخترقة لطبقات وعيه ذهابا وإيابا قد تفرض عليه رؤية ما لا يحتمل وقد يتراجع، وقد يعود، والناقد يواكب”حركته”هذه، لا ليبرر تناقضاتها ويرجح أحد شقيها، وإنما ليجمع مفرداتها فى كل جديد لم يقدر الشاعر بفيض صوره أن يلم به. لكن العقاد بتفسيره النفسى الأحادى البعد، اضطر إلى تثبيت عامل غالب يقيسه بمقياس محدد الوحدات، وأغفل -مضطرا فى الأغلب- الوضع الدائم النمو لما هو شعر وشاعر، حيث تكون الصفة الأساسية هى عنف الترحال بين الداخل والخارج، وسرعة الانتقال من “مستوى رؤية” إلى “مستوى رؤية آخر”، إلى مستوى سلوك، بحيث تتلاحق الصور الشعرية وكأنها بلا رابط واحد، على نحو يحتاج إلى تأويل نقدى. والواقع أنها تحتاج إلى عمق لام، لا يتم إلا بمواكبة ممسكة بالأطراف جميعا. والتفسير النفسى (الأخلاقى والطبعى معا) يفترض منظومة معرفية شائعة تعينه على تأويل التناقض الظاهرى بشكل ما، فتسكن النظرة وتضحل الرؤية:
(1) “فالمطبوع على الصراحة لا يكون مطبوعا على الحقد”، أو
(2) “إن الحقود لا يشهد على نفسه بحقده”[74]. وهو يلقى الرأيين كالقوانين، والرأى الأول يقابل بين ضدين ليسا بضدين أصلا، بل إن الحقد يستلزم قدرا من الصراحة حتى يطلق إرادة العدوان التأثيرى من عقالها، واستعمال تعبير”والمطبوع علي” يحرمنا من رؤية معركة الشاعر مع ”طبعه” وهو ينقده أو يخترقه أو يتجاوزه. والرأى الثانى لايوجد ما يبرر التسليم به كقاعدة أخلاقية أو طبعية، فمن الحاقدين من يفخر بحقده، ومنهم من يؤجر ليحقد ويحسد. والتراث والقصص الشعبى ملئ بما يثبت ذلك، ولكنه الالتقاط فالتعميم.
ونخلص من عرض هذا المثال المحدود إلى القول:
”إن العقاد بغلبة طبيعته أحادية النظرة (بمعنى الاستقطاب لا بمعنى ضيق الأفق)، لا يحتمل مواجهة التناقض (ريما فى ذاته ابتداء وبالتالى فى طفله الحبيب الكبير ابن الرومى، فهو لذلك لم يستطيع أن يراه حقودا شاكرا فى آن واحد، فكان لزاما عليه أن يفسر ويؤول، وأسعفته معلوماته النفسية والطبيعية فوضع القوانين وأفتى، وكان فى كل ذلك القارئ الحساس المحق، الموضح لجانب رؤية وضوحا نحن أحوج إليه، ولكنه مجرد جانب. ولم تكن قد أصابته -بعد- وصاية تحليلية نفسية، أو طبية غدد صمائية، كما سيأتى حالا
المثال الثانى:
أبو نواس، عند العقاد[75] (والنويهي): من سنة 1931 إلى سنة 1953 (من عمر42 عاما إلى عمر 64 عاما) إزداد اطلاع العقاد -بداهة- على المعارف النفسية وبخاصة التحليل النفسى. ويبدو أنه انبهر بمعطيات التحليل النفسى بخاصة، لأسباب بعينها. وبالرغم من إعلانه قبوله لملاحظات التحليل، وتحفظه إزاء تأويلاتها، فإن لهجته فى الدفاع عنها (وبخاصة فى مواجهة طه حسين) وأسلوبه فى اتباع طرقها واستعمال أبجديتها، يشير إلى اقتناع بتأويلاتها وليس فقط بملاحظاتها. وقد كان أثر كل ذلك “وخيما” على دراسته لأبى نواس، فقد بدا أن هذه المعارف لما دخلت إلى فكره حرمته تلقائيته التى ميزت ترجمته لابن الرومى. ويكفى أن نقرأ العنوان الفرعى لكل من الدراستين حتى نعرف الفرق بينهما: ابن الرومى، حياته من شعره، أما نواس فهي: دراسة فى التحليل النفسانى والنقد التاريخي.. هكذا، مباشرة![76].
وقد عيبت هذه الدراسة من أكثر من دارس وناقد وأديب بما ينبغى، وبأقل مما ينبغى. ولا يمكن لغرض هذه المقدمة وفى حدودها، أن أناقش بعض التجاوزات العلمية والتحليلية النفسية التى اضطر إليها العقاد فى سنه هذه وظروفه تلك، ولكنى أذكر القارئ بما أسميته ظاهرة “الالتقاط-فالتعميم”، فقد غلبت على الدراسة من أولها إلى آخرها. وأكتفى هنا بذكر بعض الملاحظات، مثل:
1 – إن المعلومات الطبية (والفسيولوجية) الواردة عن “أسرار الغدد” فضلا عن أن كثيرا منها قد نسخ علميا) لا مبرر لها أصلا، فهى معلومات جزئية لا قيمة لها فى شعر أبى نواس أو شكل جسمه أو طبيعة نموه (حيث لم يكن مريضا بأى مرض غدى إطلاقا، (كما لا يوجد إلا ارتباط واه بين الشذوذ والغدد). وحتى لو كان، فإنه لا يمكن إثبات العلاقة بين وجود عاهة الغدد الصمائية تلك والسلوك الفكرى بخاصة، والإبداع بوجه أشد تخصيصا.
2 – بالنسبة للتحليل النفسى (وبرغم تحفظ العقاد الموقوف عن التنفيذ كما أوضحنا) فقد ذهب إلى استعمال جزئيات المعلومات من أمثال ”لازمة التلبيس”، “ولازمة الارتداد” الخ، بشكل محدود، وبالمفهوم الذى عثر عليه، ربما بالمصادفة. فالارتداد -مثلا- يقول عنه إنه من لوازم النرجسية; “فهو الذى يعرف أحيانا باسم الصفات الثانوية(!!) ثم يشرح شيئا أشبه بالتقمص، ولعله يقصد الارتداء. وهو كذلك يبالغ فى دلالة ما يبدو أنوثة لأبى نواس ويرجعه إلى النرجسية، برغم أن ثنائية الجنس، من عمق معين، هى من ألزم أرضية الإبداع. ويمضى فى سائر اللازمات يلتقط ويعمم ويشخص بما لا داعى لتكراره هنا، حيث عورض بما فيه الكفاية، وكان نقد طه حسين من أدق ما قيل فى هذا الصدد، برغم ما جاء به أيضا من تجاوزات فى الرفض.
وتقع فى نفس السلة دراسة النويهى لأبى نواس، حيث بالغ فى تجاوزاته وتعميماته وتشخيصاته بما لا يحتاج إلى إعادة تفنيد[77].
ونكتفى بأن نشير إلى أين يذهب بنا الإصرار على التفسير الأوديبى مثلا. لقد ركز النويهى على أن أبا نواس قد قام بإحياء animation الخمر كائنا أنثويا مجسدا[78]. وهو يفسر هذا الإحياء بأن أبا نواس أحس نحوها بإحساس جنسى[79]، ثم أحس بعد ذلك نحوها بأنها أمه[80]. وهكذا تكتمل عقدة أوديب برغم أنف كل شيء، لمجرد أن شاعرا خاطب الخمر على أنها كائن حى يرضى ويسخط، أو أنها العذراء تفض عذريتها، أو الأم ترضع طفلها. والتعيين Concretization والإحياء animation هما من أهم أدوات ما هو شعر، دون أى حاجة إلى تفسير لاحق، بل هما من أخص خصائص الفن بعامة، دون إعلان شذوذ أو إنحراف أو مرض أو أوديبية. ولو أننا تنازلنا عن حشر المعانى والصور فى النظريات، لظهرت الخمر كما رآها أبو نواس وأحبها وطرب بها وطرب لها وعاتبها وحادثها وشكرها وخاصمها ورضع منها وألهها. وكل هذا لا يصف إلا دقة إحساس شاعر سكر أو لم يسكر، بل الأرجح، أنه لم يسكر بالمعنى الغيبوبى الذاهل، وإلا لما قال كل ذلك ,بل لنام أو هام على وجهه عييا حصرا. حتى المخمور، العادى قد ”يحيي” الخمر تؤنس وحدته فى ركن حانة مهجورة، فنراه -قبل أن يغيب- وهو يناجى كأسه ويستلهمه ويواعده، دون جنسنة أو أوديبية. بل إن أبا نواس قد عاش خبرة تأثير الخمر بوعى فائق سبق اجتهاد العلماء اللاحق، فقد عايش -ووصف- فعل الخمر المباشر فى “تعتعة”التركيب الواحدى للذات، ذات شاربها، فتتعدد – دون جنون – كخطوة أساسية فى طريقها (الذات) إلى إعادة التركيب فى إبداع محتمل. يقول أبو نواس:
وما الغبن إلا أن ترانى صاحيا
ومالغنم إلا أن يتعتعنى السكر[81]
“والتعتة” تحديدا هى اللفظ العربى الذى اخترته (دون ترجمة!!) ليصف هذه المرحلة الباكرة من البسط النموى أو المرضى، التى تحقق فض التسوية المؤقتة أو الاشتبك الجامد المحقق لواحدية الذات مرحليا. وهى العملية نفسها التى تحدث – صناعيا – نتيجة للسكر، وهى العملية نفسها التى تسبق الإبداع[82]. وأبو نواس لا يكتفى بذكر الظاهرة، بل هو يصف نتيجتها من تعدد يعيه فيستوعبه فيبدع به فرحا شاكرا:
مازلت أستل روح الدن فى لطف
واستقى دمه من جوف مجروح
حتى انثنيت ولى روحان فى جسدى
والدن منطرح جسما بلا روح
وهذا بعض فعل الخمر -مباشرة- فى كيان مرن قابل للتحريك وليس كيانا هشا جاهزا للتناثر فالإغماء[83].
ثم إن النويهى يذهب إلى تشخيص أبى نواس بالشذوذ والمرض الصريح، ويصر على ذلك بجرأة نادرة، حيث يؤكد أنه ماذهب فى تأويله لأبى نواس هذا المذهب إلا لشذوذه المرضى. وتصل به شهوة التشخيص إلى القول بأن أبا نواس كان فى أواخر حياته على حافة جنون الهوس والاكتئاب[84]، يفسر به فترات زهده ومرارة فلسفته فى ذبذبتها مع حالات نشوته وجذله، بل لا يتردد فى أن يحدد “السبب” لهذا المرض: “والذى أسرع بدفعه إلى هذا الجنون وكاد يقذفه فى حفرته كان نفس الدواء الذى تداوى به: الخمر”!!! والأمر لا يحتاج إلى تعليق، لأنه إذا بلغت الهواية النفسية والشهوة التشخيصية هذا المبلغ الذى عجز عن إدراكه الأطباء فى جامعاتهم ومستشفياتهم ومعاملهم أمام مرضاهم، فلا تعليق. ومع ذلك، فالأمر لا يتعلق فقط بأى التشخيصات اختار، وإنما يتعلق أساسا بالحد الفاصل بين الصحة والمرض، بل بالحد الفاصل بين الإبداع والمرض، فحتى فرويد نفسه لم يعد الشذوذ الجنسى مرضا فى ذاته. ومسار حياة أبى نواس، منحرفا أو شاذا أو سويا أو ثائرا، ليس فيه ما يعلن الإعاقة المرضية أو التناثر المعجز أو الاضطراب المحدد، الذى يصل بحدسه الإبداعى إلى وصف أعمق خلجات النفس على نحو لم نعتده، يضئ لنا الطريق، ولا يظلمه على نفسه أو علينا[85].
ومهما يكن من أمر، فلنذكر أن ”رؤية” تركيبنا الداخلى بطبيعته غير المألوفة لنا فى الحياة العادية لا تعنى أن هذا “الشذوذ” هو كيان معيش فى فعل يومى لمن رآه، لأن مستوى السيكوباثولوجى غير مستوى السلوك، وما يحكم الفرق بين السواء والمرض هو السلوك وليس جذوره. حتى السلوك نفسه لا يحدد المرض بحالة الاختلاف عن النمط الإحصائى، وإنما بشكوى صاحبه وإعاقته وشله. وكل ذلك غير وارد أصلا فى حالة أبى نواس. ونتوقف عند هذا المنعطف لنعود إلى علاقة الشعر بالشاعر ودلالته على قائله فى فقرة أخرى من هذه الدراسة.
هذا فيما يتعلق بعينة “التراجم” المؤسسة على المنهج النفسى، أما بشأن محاولة تفسير العمل الأدبى ذاته بنفس المنهج على مستوى نشاطنا المحلى فسوف أركز على ناقد واحد (عز الدين إسماعيل) لأنه يمثل هذا الاتجاه بشكل متميز، مع بعض الاستطرادات المحدودة لغيره إذا لزم الأمر (مثلما فعلت مع العقاد). وسوف ألتزم بمراجعة نقده دون الأصل كما ذكرت، ولن أخرج عن مقتطفاته.
ونبدأ بمراجعة تفسير مسرحية ”سر شهر زاد” لباكثير كما قدمه عز الدين إسماعيل[86]، حيث أورد فى هذا الشأن محاولات متجاورة -وليست مؤتلفة بالضرورة- يمكن أن نعددها كما يلى:
1 – إن شهريار قتل زوجته الأولى “بدور” وهو يعرف أنها لم تخنه، وقد قتلها لأنها صدته رفضا لشهوانيته، فأحبط (جنسيا)، فثار، فانتقم منها بقتلها (حيث ارتبط معنى الرجولة عنده بتلك الصورة الشهوانية من الحياة التى يحياها).
2 – أن شهريار أقنعه ”لاشعوره”(عن طريق الاستنتاج المعكوس)، أن”بدور”كانت خائنة
(= بما أنه قتلها).
3 – أن شهريار – ليحافظ على هذا الاستنتاج الحامى له من مواجهة الذنب الذى ارتكبه – ظل يكرر قتل بدور: أولا فى قتل زوجاته (البدائل) من العذارى بعد الليلة الأولى، ثم بعد ذلك بقتلها (بدور) فى حلمه فى أثناء سيره وهو نائم.
4 – أن شهريار انقسمت نفسه نتيجة لهذا الشعور الدفين بالذنب، وأنه لم يكن له خلاص من هذا الشعور، ومن ثم لم يكن لتتوحد ذاته ثانية إلا بالاستماع لصوت الضمير (رضوان الحكيم) بأن يكفر عن ذنبه بعمل الخير.
برغم ما فى أغلب هذه الاستنتاجات من وجاهة، وبرغم ما بنيت عليه من ”معلومات نفسية”، فإن بعضها يبدو متأثرا بأبعاد متواضعة لم تستطع أن تغطى هذا التركيب المكثف لشخصية شهريار كما وردت فى المسرحية. وأكتفى هنا – كما وعدت – ببعض المراجعات كعينات لما يحتاج إلى إعادة النظر.
- أما أن الصد قد يؤدى “فى كثير من الأحيان… إلى العدوان ”فهذا صحيح، ولكن بما أن الناقد قد طرح بدائل لمسارات الإحباط، إذن فهو يعرفها، فكان المتوقع أن يكون التركيز على العوامل التى رجحت هذا السبيل (العدوان حتى القتل) دون غيره (العنة مثلا) كرد فعل للإحباط. لذلك فإن الحاجة للبحث عن دلالة القتل تلح جنبا إلى جنب مع محاولة تفسير الدافع إليه.
- أما نظرية ”الاستنتاج المعكوس” فهى جائزة مثلها، وقبلها، – لو صممنا على المنهج النفسى تفسيرا أو تحليلا – أن يكون ثمة إدراك ضلالى Delusional perception[87] قد أكد له الخيانة قبل القتل مباشرة، وفى لحظة بالذات، رغم علمه المسبق بغير ذلك، لأن الصد الجنسى يفسر عند مثل هذه الشخصيات (مثل شهريار) بأن فحولته ليست كافية لإخضاع”بدور”وجذبها، فلا بد أنها تريد من هو أكثر فحولة، أى أكثر حيوانية (ما يمثله العبد الزنجي)، فهو (شهريار) مرفوض”لنقص فى الفحولة”(رغم كل ما يثبت عكس ذلك)، وليس لنقص فى الرقة ولطهارة كما يظهر من سطح حجج بدور (هكذا يفكر داخله)، فتتركز غيرته فى حيوان أقوى منه، ولا ينفع فى ذلك إقناع سابق أو لاحق، فهو الإدراك الضلالى، فالقتل.
- أما أن شعورا بالذنب قد نشأ نتيجه لهذا القتل ”لخطأ”، ترتب عليه انقسام الذات، فإنه جائز أيضا، لكن تكرار فعل القتل له أكثر من وجه، فهو يعلن -أيضا- أن القتل لم ينفع فاعله شيئا (شرب الماء المالح)، وهو يعلن كذلك استمرار المشكلة الأصلية (المبهمة حتى الآن)، وهو يعلن كذلك “إنكار” القتل الأول (وإلا فما الداعى للتكرار).
- أما أن الحل النهائى (الذى لأم ذاته المنقسمة) كان هو التكفير عن الذنب بفعل الخير، فهو حل لايحرر النفس “حتى تعود إلى صاحبها أو يعود إليها صاحبها واحدة بلا إنقسام”، ولكنه حل ينكر الجزء القاتل الشرير حتى يلغيه تماما، بقهر ”ضميرى” مقابل. إذن فهولا يوحد النفس، ولكنه يشكلها من”النصف الآخر”، ليصبح فردا عاديا ماسخا مهذبا وليس هذا ما حدث، فالسندباد ليس هو”فاعل الخير”تكفيرا عن الذنب، ولكن السندباد هو فارس المعرفة بكل طبقاتها.. وهذا هو مفتاح الاقتراح البديل، وفى ذلك نقول (مع احتمال الوقوع فى الأخطاء نفسها)[88].
يبدأ هذا الاقتراح من رؤية المؤلف والناقد (النفسي) على حد سواء، فقد أعلنا -الواحد تلو الآخر- حاجة شهريار إلى أن يرى[89] (يشاف) فجوره الدال على فحولته. وهذه خطوة تعلن حدس المنشئ والناقد على نحو يجعلنا نقف أمامه كما ينبغى، إلا أن حاجة الإنسان إلى أن يرى – عموما – حاجة أصيلة فى الوجود البشري”وهى عميقة الغور، قبل الجنس وبعد الجنس والرؤية المطلوبة تشمل التقبل، وهوية الرائى (المتقبل) لها دلالة خاصة، فأن يرى شهريار من ”بدور” أو شهر زاد غير أن يرى من جواريه، فالرؤية المتقبلة تكون ذات قيمة وجودية خلاقة حين يكون مصدرها شخص آخر، يستطيع أن يبدى قبلولا (ولو مبدئيا) للمرئى “كما هو”، لا ”كما ينبغي” ولا ”كما يريد”. وحين يكون ”الشوفان” كليا، فلا تراه الجوارى إلا فحلا جنسيا، ولا تراه بدور إلا بعلا دمثا، وإنما تراه شهر زاد سندبادا تجمع الاثنين ويتخطاهما بالبحث الدائم عن معرفة متجددة أبدا للداخل والخارج (اللذان هما فى النهاية صورتان لوجه واحد) -عندئذ تصبح القضية التى تعلنها شهر زاد الأسطورة، أو شهر زاد المسرحية (سر شهر زاد) هى قضية النهم إلى المعرفة، والرؤية المتجددة الكشف لى وللعالم، والحاجة إلى القبول الكلى، كشروط أساسية لوجود البشر”معا”، بما يميز البشر. ومن هذا المنطلق تصبح عذراء كل ليلة هى المجهول الذى لم يكتشف من قبل، وحين نفض بكارته فلا ينبئ إلا عن جنس لا يفنى، أو عمى لا يتقبل، ينتهى دوره ليبدأ البحث من جديد[90]، إلى أن تظهر شهر زاد فتمسك الخيوط من أطرافها المتعددة، وتقبل كل ”البدايات” برغم ظاهر تباعدها، فهى تقبل فحولته وتنفخ فيها، وهى ترى حاجته إلى هذا القبول أكثر من الفعل المترتب عليه، وهى تلتقط حاجته إلى معرفة “الباقي”، فتقدمه إليه فى حكايات ”الخارج” (التى هى مساقط لما بالداخل من جانب ما) حتى تجعله يكتشف نفسه سندبادا، لا فحلا جنسيا (فحسب)، ولا زوجا مطيعا ماسخا (فحسب)، بل إنسانا ”يسعي” عشقا فى المعرفة والاكتشاف. وهنا تقع أهمية مراجعة ”النهاية” المختلفة ما بين حدس كاتب المسرحية وتفسير الناقد[91].
ويكاد النص يصرح بما يبرر هذه القراءة الجديدة من التركيز على الحاجة للرؤية من آخر، من ناحية، والشوق للمعرفة من ناحية أخرى:
شهرزاد – يقولون إنك أكبر زير نساء أنجبته امرأة.
شهريار – وتخشيننى من أجل ما سمعت؟
شهرزاد – كنت يامولاى أخشاك من أجل ما سمعت، أما الآن…. ، فقد صرت أخشاك من أجل ما رأيت
ثم تطلب أن يعفيها من ذكر ما رأت.
وعلى الرغم من أن هذا السياق يمكن أن يفسر ببساطة بأنه ”وماراء كمن سمعا”، وأن المقصود بالتمنع فى الرد هو النفخ فى فحولة شهريار بالإشارة دون العبارة، إلا أن ترك الباب مفتوحا (بعدم التصريح)، بالإضافة إلى موقف شهرزاد “القاص” لعجائب ”الداخل”- “فى الخارج”، قد يسمح بتأويل النص إلى ما ذهبنا إليه حين تتجاوز الرؤية التركيز على الفحولة، أو تأكيد عكسها، ومن ثم إغفالها أو رفضها، إلى الرؤية لكل ما يمكن أن يرى فى حكايات الليالى أو عالم الناس.
والحاجة إلى “الشوفان”قد تقبل رؤية جزئية ”كبداية” لا تمنع رؤية الباقى. أما إذا فرضت الرؤية الجزئية نفسها كرؤية نهائية أو مطلقة، مما يترتب عليه فرض الاغتراب أو الانشقاق، فلا. وهذا هو شهريار يرضى، بل يسعد، حين تراه بدور فاجرا، ولكن أن يكون الفجور مرادفا للجنون، فهذا إعلان للاغتراب المرفوض، ولا رد على هذا العمى من جانبها إلا بالقتل، فالجنون فى صورته الاغترابية المنشقة هو عمق التجزئ المباعد. فكأن قبول شهريار لوصف الفجور ورفضه لوصف الجنون يعلن أن ”فجورى هو جزء منى، هو أنا، أما أن تفصليه عنى وترينه اغترابى فأنت لا تريننى، فلتذهبى إلى الجحيم بهذا الجنون الآخر=القتل”.
وخلاصة القول إن التفسير الذى قدمه الناقد قد وفق فى رؤية شهريار يعلن احتياجه لأن يرى بفجوره غير المنفصل عن كيانه (كخطوة جوهرية نحو التكامل). لكن رؤية الناقد لم تكتمل، ربما لغلبة الموقف الاستقطابى الذى يضع الشهوانية فى مقابل العفة، والإنسانية فى مقابل الحيوانية، وهو موقف أخلاقى أحادى البعد. ويمكن الرجوع به إلى فكر فرويد ذاته، حتى إن علم النفس الفرويدى قد سمى أحيانا بعلم نفس الأخلاق Moral Psychology كما أن الفكر الدينى (التقليدى) السائد فى شرقنا ووطننا يرحب دائما بهذه المواجهة : الشر فى مقابل الخير، بديلا عن التجزئ فى مقابل الرؤية الشاملة.[92]
* * *
وقبل أن ننتقل إلى محاولة الناقد نفسه فى مجال الرواية يجدر أن يتسع الصدر للإشارة إلى محاولته لتفسير مسرحية أخرى من بعد آخر، مما يؤكد موقفه الانتقائى بشكل ما، وذلك فيما حاوله من تفسير مسرحية الحكيم ”ياطالع الشجرة” تفسيرا ”تركيبيا”. وقد كانت أهم نقلة تميز هذا الاتجاه هو أن يعلن منذ البداية أن هذه المسرحية ”ليست من المسرح الرمزى فى شيء”: “فالنقلة بين” شهرزاد (الحكيم) و”ياطالع الشجرة” هى النقلة من الرمز العقلى إلى الوجود الحيوى”، وشتان ما بينهما[93].
ويتضح فى هذا التفسير أن حدس الناقد (وربما الكاتب؟) قد تخطى الإطار النظرى الذى اعتمد عليه فى التفسير. ذلك أنه أسس رؤيته على النموذج الفرويدى لتشريح الشخصية، باعتبار أن فرويد رأى فى “أجزاء”تشريحه شخوصا، أى أنه تبنى فكرة تعدد الذوات، وهو أمر لم يعلنه فرويد مباشرة، فعند فرويد نجد أن الهو (أو الهي) Id ليس إلا طاقة دافعة مشوشة، لا كيانا”ذاتيا”، على الرغم من لغتها وصورها وأهميتها[94] على أن الناقد هنا التقط احتمال التجسيد العيانى لمستويات ”الأنا” و”الهي” و”الأنا العليا”[95] فى شخوص الرواية. لكن رؤية الناقد هى إضافة جديدة سابقة لتأكيد فكرة تعدد الذوات (حالات الأنا) التى لم تتضح بهذا الاكتمال إلا مع ظهور التحليل التفاعلاتى. وهذا (السبق) حقه دون نزاع، ويبدو أنه أيضا قد استوعب المفهوم التركيبى بشكل دقيق حين أكد على أن المسرحية ليست رمزية بل هى تعلن” “الوجود الحيوى” مباشرة، ومن ثم فاللاشعور (الدرويش) هو “ذات” بلا زمان أو مكان أو منطق أو نظام، والرغبة الكامنة فى القتل هى واقع حادث قبل الحدث، بعد تحطيم حاجز الزمان، إلى آخر ما ذهب إليه بريادة مقبولة لكنى قد خيل إلى أنه عاد فتراجع كثيرا أو قليلا عن تجاوز الرمزية حين عاد يقول ”أما الزوج والزوجة فيمثلان الإنسان والكون أو الحياة، وتمثل الشجرة طموح الإنسان كما تمثل السحلية الزوجة”. وأحسب أن هذا لا يتفق مع مواجهة الوجود الحيوى كما هو، دون إشارة إلى أى شئ آخر، اللهم إلا أن يكون قد أراد الحديث عن الوجود الحيوى نفسه مكثفا فى الوجود البشرى، وليس ممثلا فى هذا الوجود الذى فكك النص وحداته ليدير الحوار.
وبصفة عامة فإنى اعتبرت هذا التفسير قفرة مناسبة تخطت محاولات الناقد السابقة، وأفادت ما قصدته من هذه المقدمة من أهمية أن يتجاوز الناقد (قاصدا أو غير قاصد) معلوماته النفسية.
* * *
أما النموذج الذى اخترناه للناقد نفسه ليمثل النقد النفسى للرواية المصرية المعاصره، فهو رؤيته لرواية”السراب”لنجيب محفوظ. وقد اعتمد الناقد فى تفسيرها على عقدة”أورست”. وقد استعار الناقد تفسيرا لشخصية ”أورست” فى المسرحية الثانية من ثلاثية ”أجاممنون” أكد فيه رولو ماى Rollo May أن قتل أورست لأمه كان إعلانا للانفصال عن الأم إلى العالم الخارجي: “لقد اتجه حبى إلى الخارج”. ولن أناقش هنا ما سبق أن أكدته عند تناولى لشخصية هملت من من أن القتل ليس إيذانا بالانفصال بل هو تعويق له نتيجة لاحتمالات الاحتواء والبتر، فهذا يرجع إلى رولوماى، ولكن دعوتى تنصب على الاعتراض على التقاط وجه الشبه الضعيف لمجرد الاتفاق حول فكرة قتل الأم، فبالرغم من أن أورست قد قتل أمه فعلا، فى حين أن كامل قد شعر”وكأنه قتلها ”فإن بقية الملابسات لا تسمح بافتراض شبه آخر من حيث خيانة كليتمنسترا أم أورست لأبيه، ثم تآمرها لقتله، ثم نفيها لابنها. فالذى حدث بالنسبة لكامل يكاد يكون العكس تماما، فالوالد هو الذى هجر، وكأنه تآمر، إهمالا وتخليا عن المسئولية، وكامل كان شديد الالتصاق بالأم، وكأنه لم يولد أبدا، بفعل عدم أمانها وامتلاكه بديلا عن كل شيء. ومن حيث المبدأ، فإن التقاط خيط أن المسألة ليست مجرد تعلق جنسى أوديبى، وإنما هى صراع للاستقلال فى كدح الجهاد للولادة النفسية فالكنيونة المستقلة، هو كل ما يربط بين التفسيرين. ولو انطلق الناقد – دون حاجة إلى عقدة أورست أصلا – فالتقط مراحل هذا الصراع بصوره”الجنسية”و”الاجتماعية”و”الأخلاقية” وغيرهما، لقدم إلينا إضافات جديدة شديدة الثراء لما تمثله رحلة كامل رؤبة لاظ[96] الفاشلة للاستقلال بالانطلاق إلى رحاب العالم بعيدا عن رحم أمه. فمحنة كامل التى عوقت استقلاله لم تكن فحسب علاقته الإحتوائية بأمه، أو علاقته الإستمنائية بجسده، أو علاقته الانشقاقية بالجنس المجرد، بل كانت كل ذلك معا، بالإضافة إلى الحرمان من الأب بكل الصور التى يمكن أن يتمثلها، الأب الخلقى، والأب القاهر، والأب الحانى، والأب الحامى. كل ذلك حرم “كامل” من فرص الصراع مع ”آخر” (واللجوء إليه) فى طريقه إلى النمو، فكان التذبذب بين الخوف لدرجة التراجع إلى عالم داخلى ملئ بالأوهام واللذائذ السرية، وبين أوهام الأمان فى رحم أم (رحم نفسى) لم يعد قادرا على إعطاء أى درجة من الأمان.
وتكرار حوادث قتل الوالد: فعلا (ديمترى كرامازوف)، أو تدبيرا فتنفيذا مؤجلا (أوديب)، أو ثورة وثأرا (أوريست)، أو حلما أو معنويا (كامل) – كل ذلك نابع من صعوبة الصراع تعبيرا مأساويا عن جدل”الأجيال”، فبينما يلزم استمرار وجود الوالد كأحد شقى الصراع، تتأرجح كفة الصراع فى مأساوية خطرة حين يبدو والتخلص منه أحد صور الانتصار (الذى يحمل فى داخله حرمانا حتميا من الشريك الضرورى لإكمال مسيرة التكامل)، وكأن هذا التكرار يعلن – ضمنا – أن مسيرة التكامل لا يمكن أن تتحقق فى “جيل واحد”، وأنه إذا كان على أحد شقى الصراع أن يذهب فى جولة جيل واحد، فليذهب الأكبر، وما بين البداية (المواجهة فى كفاح الاستقلال) والتأجيل (قتل الوالد) وبداية الصراع من جديد (نقله إلى الجيل التالي)، تتحرك الأحداث[97]. وأداة ”التخلص الاضطرارى” (القتل) إنما تنبع من غريزة العدوان أساسا، وتلعب غريزة الجنس دورا مواكبا، حتى لا يكون القتل نهاية مرعبة ساحقة، حيث ثمة ضمان يعلن أنها نهاية ”فرد”، وليست نهاية ”نوع”، أى أن الجنس يتحرك ليسهل “الفناء” الفردى بضمان البقاء النوعى، فلا مبرر -إذن- لأن تترجم كل جريمة قتل والدية إلى ما وراءها من دوافع جنسية، وكأن العدوان القاتل -فى معركة الاستقلال والبقاء- ليس أصلا فى الوجود البشرى. ويعد تفسير رولو ماى لأوريست، وتفسير عز الدين إسماعيل لكامل، من التفسيرا التى لم تدر أساسا حول العلاقة الجنسية الثلاثية بين أب وأم وابن، بل هى معركة استقلال تظهر على السطح من منطلقات متعددة وبلغات مختلفة.
ثم إنى أزعم -إضافة- أن العلاقة المريضة فى حالة رواية ”السراب” كان ينبغى أن يكون النظر إليها من منطلق مشكلة الأم أساسا لا مشكلة الابن. وقد أشار الناقد إلى هذا البعد، ولكن فى موقع الأرضية غاليا، أعنى أن ”العقدة” (مع تحفظى على هذه التسمية) هى ليست عقدة كامل، إذ ينفصل عن أمه، بل هى عقدة أمه أمه إذ ترفض ولادته، وكلما تحرك عنوة بعيدا عنها لاحقته بكل ثقل أنفاس حبها وعنف إغارة عدم أمانها.
فالتفاف الحبل السرى حول عنق كامل وروحه وجنسه كان يعلن طوال الرواية أن الأم قررت ألا تكمل الولادة وأنفذت قرارها، فكانت الرواية كلها محاولات مأساوية متلاحقة لتحقيق”التراجع”المستحيل، التراجع عن أن يصيرا”اثنين”. وفى البداية أسقطت ذاتها الطفلية عليه لتعلن أنها هى هو، فألبسته ملابس البنات، ثم بعد ذلك أعلنت امتلاكه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وحين قرر الانفصال عنها ذهبت”معه”فى داخله، تعجزه عن أى علاقة كاملة، فإما جنس قح، وهو صورة مؤقتة لاستمناء آخر، وإما زواج”نظرى”(مع وقف التنفيذ).
أما أن يكون كامل شخصا كاملا يتصل بشخص كامل، فهذا هو الموت بعينه لكيان الأم المهزوم بالوحدة والهجر والحرمان من قبل أن يوجد كامل بزمن بعيد. فالقتل يصبح هنا نوعا من إعلان إستحالة الإنفصال بالحوار والمواجهة، لأنه ليس ثمة فرصة أصلا لحوار أو مواجهة، فالأولى أن نسمى العقدة بعقدة ”الإحتواء”، أو ”الولادة المستحيلة” (مع التحفظ على كلمة عقدة وتفضيلى لكلمة”قضية”- ولكنه الحرص على المقارنة).
وهذه العقدة أظهر عند كامل منها عند أوريست، فطغيان كليتمنسترا كان طغيانا صريحا ملاحقا (بحيث يغرى بالمواجهة، بل هو يدعو إليها)، فى حين أن طغيان أم كامل كان سلبيا إمتلاكيا يحرم الابن من أى معركة صريحة، فليس أمامه إلا الهرب، وأين المهرب، وهى – أيضا وقبلا – بداخله؟.
على أن جذب الأم المستمر ينثت كل ابن – دافعا أصيلا أيضا يغريه بالتراجع عن محاولة الاستقلال، وهو ما يظهر فيما يسمى الحنين للعودة إلى الرحم. وقد يأخذ شكل الجنس”رمزيا”، فتتعقد المشكلة، ويصبح الجذب من”الخارج”(الأم) والدفع من الداخل (التراجع إلى الرحم تجنبا للإستقلال والمسئولية) من أقوى التى تحول دون الحياة (الأمام/ الآخر).
* * *
وبديهى أن هذه الشروح الجانبية ليست سوى “هوامش” على النقد المقدم، حيث لا مجال لإعادة النظر بشكل متكامل إلا بدراسة مفصلة مستقلة، ولكنى أردت فقط أن أعلن إحتياجنا إلى الإنتقاء (من أكثر من مصدر نفسي)، وإلى المراجعة، وإلى إعادة الصياغة، ما ظل النص مثيرا مولدا، وما واصلت المعارف النفسية وغير النفسية كشوفها وتعديلاتها. كذلك أردت أن أنبه إلى أنه قد يكون من الأفضل مواجهة كل نص أصيل (بما هو) وليس بقياس ملزم بأسطورة قديمة أخذت مكانها ومكانتها فى وجدان المجتمع البشرى، حتى لو تشابهت بعض الجزئيات، فينبغى ألا نشير إلا إلى هذا التشابه، ليصبح كل نص جديد بمثابة فرصة جديدة لإضافة جديدة. وقد بينا منذ قليل أوجه الإختلاف البالغة بين النص والأسطورة المستشهد بها[98]. وأعتقد أن معركة كامل مع أمه قد بلغت من الثراء ووعدت بالعطاء بما لا يستدعى إقحام موضوع موت الأم (وكأنه القتل الفعلي) إلا بما قد يمثله من أرضية داخلية كامنة، أو بوصفه النتاج الطبيعى للعجز عن الولادة النفسية، فالولادة (النفسية) الطويلة المتعسرة هنا تنتهى بموت الأم، وإخراج جنين عاجز مشوه.
بقى تعقيب مهم على أبعاد أخرى عرضها الناقد بشكل يذكرنا – مرة ثانية – بموقفه الاستقطابى الذى سبقت الإشارة إليه، فقد رفض الناقد”فجأة”التناقض فى شخصية كامل ”الأوديبية الأورستية” التى نشأت من “إقحام موضوع آخر مناقض هو قتل الأب”.. “فالشخصية إما أن تمثل هذا الوجه الحضارى الإجتماعى أو ذاك، أى أنها إما أن تكون بكل مشكلاتها النفسية وليدة حكم الأب أو حكم الأم”[99] ويرفض الناقد إحتمال ”أن تكون وليدة هذين النوعين من الحكم معا” على المستوى “الفردى”، ولكنه يقبله على المستوى الرمزى (للمجتمع)، مع التحفظ ضد ”الصناعة المقصودة مسبقا”. وهذا رأى لابد أن يثير الدهشة، لأن العكس يكاد يكون هو الصحيح، فمعركة الإستقلال البنوى تسير دائما فى خطوط متوازية ثم متداخلة، وتصارع كل الصور الوالدية بنفس الحتمية، وإن اختلفت اللغات. وأعتقد أن هذا الميل إلى الإستقطاب قد ساعدت عليه شدة رغبة الناقد فى تطبيق نموذجه الذى ارتضاه : “.. ومن ثم أرى أنه لو إقتصر الكاتب على تقديم كامل فى إطار”أورست” وحده لكان ذلك أكثر إقناعا لنا بوجوده الحى”[100] (الرمزى). وأحسب أن هذا الإقتراح هو الذى يجعل العمل ماسخا، لأنه هو الذى سيقدم لنا شخصا مصنوعا يسير فى “خطوط هندسية مصنوعة له من قبل”. وهى مصنوعة من إلزام – ضمنى – بأبعاد أسطورة قديمة أدت دورها فى حدودها، ولو تكررت لما كان ثمة حاجة إلى فن جديد. وأخشى أن يكون هذا هو بعض مضاعفات الحماسة لهذا المذهب (النفسي).
والرواية بوضعها الواقعى الفردى، لا الرمزى الإجتماعى، قد وصلت فى أوار مشكلة تعسر الولادة النفسية إلى أبعد مما أتاحته المعرفة النفسية المتاحة للكاتب وقت صدورها، (أو حتى لغيره أو حتى الآن)، وبهذا تصبح مصدرا معلما نقيس عليه (إن شئنا) ولا نقيسه بغيره.
كذلك أدخل الناقد بعد ذلك”فجأة إيضا”قضية تحرر المرأة، خوفا من أن يدل تمرد كامل على أمه على انتكاس رجعى فى حياتنا، حين ينكر الابن سلطان أمه (وحقوقها) ويجاهد للتخلص منها. ولنفى هذا الظن يورد تفسيرا من محاكمة أورست (لا”كامل”!)[101].
وقد كان الأولى أن نذكر أن تحرر الأم يستحيل أن يتم إلا بتحرر الابن (جدل ”العبد” و”السيد” عند هيجل)، ومن ثم -دون إستعارة أى شئ من أورست- يكون تمرد كامل على أمه هو لصالح أمه، ولصالح قضية تحرر المرأة التى لا أجد مبررا لإقحامها أصلا بالطريقة التى أوردها الناقد.
وقد خيل إلى أن وقفة أرحب عند نهاية القصة -متحررين من وصاية أورست- كان يمكن أن تضعنا ”مباشرة” أمام ”سيدة العباسية” وقد حضرت للعزاء (أو الزيارة أو الدعوة أو الإثارة) وكأنها جاءت لتحل محل الأم والزوجة جميعا. ومع أنها نقيض الأم (على الأقل من الناحية الشهوانية) فإنها هى هى الأم من ناحية الاحتواء، مع اختلاف نوع الإحتواء، وكأن ”كامل” قد تخلص من الرحم النفسى -أخيرا- ليرتمى فى أحضان الرحم الجنسى (لا ليتحرر إلى الاستقلال).
وكأن ”السراب” هو أن يخيل للفرد أنه قادر على أن يكون ”كاملا” بذاته، أو بالتخلص من غريمه، دون هذه الرحلة الدائمة من وإلى الرحم، حيث تتاح الفرصة للاستقلال بالنمو الولافى المتناوب، لا بالبتر المندفع العاجز[102].
* * *
بقيت كلمة فيما يخص هذا المنهج بالنسبة لنقد الشعر، وهل يمكن معالجته بنفس هذا الأسلوب النقدى. وفى محاولة الإجابة نجد أنفسنا أمام عدة إشكاليات لا أحسب أنى بمستطيع تناولها حالا بالكفاية اللازمة، ولكنها جديرة بالطرح لتناول قادم.
وقد سبق أن ناقشنا تراجم لشاعرين، إتبع فيها هذا المنهج النفسى، إلا أننا لم نتناول أصلا مدى دلالة الشعر على صاحبه، وهى قضية سابقة لنقد النقد الذى أوردناه. ويجدر بنا هنا أن نتبين معالمها من خلال محاولة الإجابة عن أسئلة مثل:
- إذا كان الشاعر هو هو شعره، فلماذا الشعر أصلا؟
- أليس الشعر (فى أحوال كثيرة) نفيا لما هو الشاعر”ظاهرا”؟
- أليس الشعر بديلا ”استطلاعيا” أو”ثوريا” لواقع يتحدى بجموده؟
- أليس الشعر تجديدا للغة، ومن ثم فهو تجديد للشاعر؟.
إذن، فثمة فرق بين الشاعر”سلوكا”، والشاعر”رؤية”، والشاعر”رؤيا”.
كذلك، فمن حق الشاعر، بل من حق شاعريته أن يتجول طليقا فى ذاته، وأن يتذبذب -من ثم- عنيفا فى رؤيته[103]، حتى لانكاد نلاحقه، أو نحدده، حيث تتداخل مستوياته الثلاثة السابقة (سلوك/رؤية/رؤيا)، بل مستوياته غير المعدودة الكامنة فى تكثيف قد يتناثر فى إيقاع”ضام”، ثم.. هكذا من جديد.
لكل ذلك فإن ترجمة “نفسية” شاعر من شعره من بعد سلوكى محدد، أو تحليلى واحد، أمر محفوف بالمخاطر بلا جدال.
أما بالنسبة للشعر ذاته ومحاولة تفسيره بالمنهج النفسى فالأمر يحتاج إلى دراسة خاصة، فالشعر لا يفسر أصلا (أو ينبغى ألا يفسر)[104]، ومع ذلك فلا مجال لإصدار”قرار”يحرمنا النظر فى “رسالة” الشعر، ومن ثم فيما يطرحه من إضافة نقدية معرفية قد تثرينا (فيما هو نفس وغيره) ثراء بلا حدود.
لكن الشعر ليس واحدا، ومستوياته وأبعاده أكثر من أن يضمها تناول واحد. لذلك.. فإن موقع المنهج النفسى فى نقد الشعر لابد أن يختلف باختلاف مستوى الشعر ووظيفته، لا من حيث الجودة أو الأصالة، ولكن من حيث العمق والأداة. وسوف أكتفى هنا بالإشارة إلى بعض ذلك فيما يتعلق بموقع المنهج النفسى فى نقد مستويات الشعر المختلفة: فالشعر الذى يتناول المعانى الشائعة فيصوغها صياغة مألوفة لكن بإعادة تشكيل يظهر جمالها ويضبط إيقاعها، لدرجة تسهل توصيلها إلى أصحابها، هو شعر جيد، لكنه أقل أهمية من ناحية إمكانات كشفه لطبقات الوعى. ومن ثم فإن تناوله بالمنهج النفسى قد يكون تناولا تقريريا من نوع تناول الحياة السائدة، ولكن من منظور يتصف بوجه خاص بجماله المتميز. وقد يصلح تطبيق نظرية نفسية بذاتها على نص بذاته.
والشعر الذى يعلن رؤية صاحبه التى تخطت المألوف حتى تميزت شكلا ومحتوى، فتكثفت فى رسالة إيقاعية تشكيلية مركزة، يمكن أن يحوى بين ثناياه اختراقا حقيقيا لسابق معرفتنا عن أنفسنا ونفس صاحبه، فيكون تفسيره النفسى إضافة حقيقية قد تتخطى كل المعارف النفسية السابقة. وقد نجد هذه الإضاءة فى شطر بيت واحد، وقد نجدها فى وحدة القصيدة كلها. وقد تتخطى القدرة الشعرية تشكيل الرؤية إلى تكثيف الرؤى. وهنا يستطيع الشعر بما له من وظيفة تكاملية، أن يقدم النغم والصورة والرمز الواردة من أكثر من مستوى للوعى فى ذات التعبير المكثف الجميل، وكلما غاصت الرؤية فى دنيا الرؤى وتعددت مصادرها، زاد عبء التفسير النفسى، وتطلب الأمر ريادة إبداعية غير ملتزمة بنظرية أو فرضيات مسبقة جامدة.
أما إذا كان الشعر فى ذاته إقتحاما للغة وتخليقا فى الرؤى وتحليقا بالنغم، فقد تخطى الأمر كل مستوى معروف للتفسير النفسى، لأن مادته حينئذ لن تخضع لأى ترجمة ممكنة، وإنما هى قد تكون قابلة للمعايشة المباشرة، فى محاولة لإستيعاب أطرافها بإعادة تشكيل وعى المتلقى، الأمر الذى قد يماثل -مع الفارق- مواجهة كلام المريض الفصامى المتناثر، مع رفض حاسم لاعتبار هذا التناثر بلا رابط، ومن ثم التزام حتمى بتشكيل الوعى المقابل الذى يستطيع أن يغوص للعمق الموحد الذى ينبع منه هذا التناثر الظاهرى. والتحدى قائم فى التجربتين (الفصام وهذا المستوى من الشعر)، والخطر قائم أيضا منهما معا، والفرق بين المثيرين شديد الأهمية، لأن الشاعر من هذه الطبقة لا يسمح لقارئه بتركه لمجرد أنه لم يفهمه، بل هو يتحدى وعيه لأنه (الشاعر) تشكل مع شعره من موقف قصدى مسئول، وعلى المتلقى أن يغامر نفس المغامرة مهما أعاقته معارفه القديمة (وما ألف بصفة عامة). أقول إن هذا النوع من الشعر يكاد يكون من المحال تناوله بأى تنظير مسبق، نفسى أو غير نفسى، لكن من الممكن -وكما هو الأمر فى المنهج الفينومينولوجى- أن يعد مادة لبحث متجدد، يحتاج لباحث (ناقد) له أرضية معرفية شاملة، من عناصرها ما هو نفس، ولكن له -فضلا عن ذلك- ممارسة ذاتية مباشرة، مع تجارب موازية ومغايرة، يتناولها بإبداع متجدد. وقد خيل إلى أنه من فرط إصرارى على رفض أى وصاية مسبقة فى تناول هذا النوع الأخير من الشعر – خيل إلى أنه قد تخطى مرحلة اللغة بوصفها رمزا، إلى مرحلة اللغة بوصفها كيانا مولدا لكل ما يمكن أن يتولد منه. وهنا يكاد يذوب الحد الفاصل بين اللغة وقائلها، وتصبح الصور المطروحة عيانات قائمة فى ذاتها، لا دلالة على غيرها، على ألا تقود اللغة صاحبها وتشكله (كما هو الحال فى الفصام)، بل تكونه ليكونها وبالعكس: تصعيدا متصلا. إذن فهذا المستوى من الشعر لا يصلح أن يكون دالا على نفس قائله أو على رغبته أو على سماته أو على تركيبه، لأنه مواكب لإعادة النظر فى كل ذلك.
ومجال الحوار بين السيكوباثولوجيا بخاصة والمستويين الأخيرين مما هو شعر، مجال واعد بكل أمل فى رحلة المعرفة غير المحدودة.
وأكتفى بهذه الإشارة لموقع الشعر فى هذه المقدمة، لأختمها بتحديد الموقع الذى كتبت منه هذه المقدمة.
كتبت هذه المقدمة محاولا الالتزام بصفتين جاءتا فى خطاب رئيس التحرير إلى كاتبها: “.. على مستوى الدراسة العلمى وعلى مستوى الإبداع الفني”. غير أن المستوى الثالث الذى تحدثت من خلاله هو أساسا -وقبلا- مستوى الممارسة العملية لمهنتى. وقد تجنبت أن أستشهد بأى من هذه المستويات استشهادا مباشرا لسببين، الأول: الحرج من الحديث الشخصى حتى يطلب منى ذلك تحديدا، والثانى: الخوف من الابتعاد عن لغة القارئ غير المتخصص فى مجالى. غير أنى أعتقد أن الإشارة إلى كيفية مرورى ببعض التجارب الإبداعية التى تطورت من خلالها هو من حق القاريء، لما قد يكون لها من دلالة متعلقة بما قدمت فى هذه المقدمة. ومن ذلك:
- إن محاولتى الشعرية الأولى “سر اللعبة” بدأت بفكرة تكاد تناقض كل ماورد فى هذا المقال، حيث إنى تصورت -تحديا لنفسى أساسا، وللوصاية اللغوية الأجنبية بعد ذلك- أننى يمكننى أن أكتب علما من أصعب العلوم النفسية باللغة العربية شعرا. ولم أكن أعرف حينذاك الفرق بين الشعر والنظم، إلا أنى عند تنفيذ المحاولة، وبرغم رغبتى فى التعبير عن أفكار بذاتها، وجدت التجربة تتحور حتى تخوض بى فيما لم أحسب حسابه أصلا، فجاء الناتج الشعرى متجاوزا التنظير السابق حتما، على نحو جعلنى -نتيجة لنقاش من ذى صفة[105]- أكتب شرحا لهذا الديوان الصغير، تخطى بدوره الديوان. وتصورى الآن أنى لو عايشت بعض محتواه فى تجربة شعرية جديدة، لتجاوزت الشرح بما يتطلب شرحا جديدا، وهكذا. لقد تعلمت من هذه التجربة، وما تلاها من محاولات فى الشعر والقصة والممارسة، ما أظهر لى بعض ما أشرت إليه طوال المقدمة.
- كذلك الحال فى محاولتى الروائية ”المشى على الصراط”، فقد بدأت من البداية نفسها، حتى إننى صدرتها بعنوان خاطئ يعلن أنها ”رواية علمية”، وكنت أقصد من ذلك أنى أستعمل اللغة الفنية لتسعفنى فى “توصيل” ما بلغنى بعد أن عجزت عن التعبير عنه بلغتى العلمية. لكن التجربة -أيضا- تحطت هذا التصور، وخاضت بى إلى بحر من المعارف لم أضعه فى الحسبان، وكاد الأمر يحتاج إلى “نقد نفسي” ذاتى، لولا خشية المسخ وغرابة الاقتراح[106].
الهوامش:
[1] – عز الدين إسماعيل (1963) التفسير النفسى للأدب. القاهرة. دار المعارف ص 26.
[2]- فرج أحمد فرج (1982) التحليل النفسى والقصة القصيرة فصول مجلد 2 عدد 4 ص 175.
[3] – سامى الدروبى (1971) علم النفس والأدب: القاهرة. دار المعارف ص 120.
[4] – تصل هذه الشهادة إلى درجة بالغة الوضوح فى قول يونج عن رؤية جيمس جويس”أظن أن جدة الشيطان وحدها هى التى تعرف كل هذا عن سيكولوجية المرأة، أما أنا فلا… “- يحيى عبد الدايم (1982) تيار الوعى والرواية اللبنانية المعاصرة – فصول، مجلد 2 عدد 2 ص 158 مقتطفا من موسوعة جيمس جويس د. طه محمود طه (1975) الكويت وكالة المطبوعات.
[5] – مصطفى سويف (1967) علم النفس الحديث: القاهرة. مكتبة الأنجلو المصرية الفصل الأول ص 3 – 23.
[6] – يحيى الرخاوى (1980) دليل الطالب فى علم النفس والطب النفسى – الجزء الأول – فى علم النفس – القاهرة – دار الغد للثقافة والنشر، ص 18.
[7] – ولاف (بضم الفاء) استعملها بمعنى Synthesis، وقد شرحت فى موقع آخر أسباب تفضيلى لهذا اللفظ على كل البدائل (مقدمة فى العلاج الجمعى : عن البحث فى النفس والحياة) القاهرة. دار الغد للثقافة والنشر 1978، ص 110.
[8] – انظر إن شئت : صلاح قنصوه (1980) الموضوعية فى العلوم الإنسانية – دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة.
[9] – فرج أحمد فرج.. انضر هامش (2)، ص 26، 27 وكذلك “فصول “مجلد 2 عدد 4، 1982 ص : 169 – 171.
[10] – مثل دراسة العقاد والنويهى لأبى نواس. وسنعود إليهما فى هذه الدراسة بقدر أكبر من التفصيل.
[11] – جابر قميحة (1980) منهج العقاد فى التراجم الأدبية، القاهرة مكتبة النهضة المصرية، ص 318، 319.
[12] – عز الدين إسماعيل التفسير النفسى للأدب “سبق هامش (1)”، ص : 144.
[13] – استعمال تعبير “التفسير التحليلي “يفتح الباب لخلط بين التحليل النفسى كما قال به فرويد وأتباعه، وبين علم النفس التحليلى Analytic Psychology كما أنشأه يونج، والخلاف ليس ثانويا، وانشقاق يونج عن فرويد ليس تفريعا لنظرية فرويد، وإنما هو إختلاف نوعى يصل إلى درجة سلب نظرية فرويد ، ثم تجاوزها. كما أن إستعمال هذا التعبير دون إضافة صفة “النفسي “بعد لفظ التحليل قد يوحى بتحليل آخر، والمقترح أن يكون الاسم المناسب لما قصد الناقد هو “التفسير التحليل النفسي”.
[14]- محمد خليفة التونسى، عن قميحه ص 321.
[15] – سمير سرحان (1981) التفسير الأسطورى فى النقد الأدبى – فصول مجلدا عدد 3 ص 100.
[16] – تيرش Tierich وسيجمند Sigmund واشتنجر Stenger.. دون أن يخصصوا شكل جنونه (فى عز الدين إسماعيل : التفسير النفسى ص 144).
[17] – روزنر Rosner نفسه ص 144.
[18] – برادلى، نفسه، ص 144.. ولم أرجع إلى الأصل
Emest Jones : Hamlet And Oedipus Doubleday And Comp.، New York. 1949
لا هنا ولا فى أغلب المقتطفات، حيث إن شمول الدراسة كمقدمة إكتفت بالمعلومات على سبيل العينة المحدودة الوافية لغرضها.
[19] – نفسه 144.
[20] – نفسه ص 150.
[21] – لكن سماع الصوت بالاشتراك مع آخرين يشاركونه نفس الإدراك الحسى قد يشير إلى أن المسألة كلها لم تكن مرضا بل معنى، فالمريض المهلوس لا يشاركه آخر فى اضطراب إدراكه. أما الاحتمال الآخر فهو أن المسألة كلها إيحاء من آخرين (بقصد أو نتيجة وهم جماعي) استقبلة هملت المتعطش إلى محتواه، فعاشه كأنه الحقيقة. ولكن القابلية للاستهواء لا تتفق مع كل هذه الصلابة الخلقية والمعاناة الوجودية اللتين تميز بهما هملت – حيث إنها تصف – فى العادة – الشخصية الهسستيرية أو غير الناضجة، وعدم نضج هملت الذى تكرر وصفه من أكثر من ناقد لا يعنى هذه الفجاجة البدائية، وإنما هو يشير إلى معاناة إعادة الولادة Rebirth كما يسرد فى محاولة التفسير البديلة فى هذه المقدمة.
[22] – نفسه ص 150.
[23] – نفسه ص 223.
[24]- كاد الظاهرة الصرعية (ومكافئاتها) بمعناها الفسيولوجى، ثم دورها التفريغى، تفسر غالبية السلوك البشرى، وقد يفسر هذا الاختلاف الشاسع حول تعريف ما هو صرع بحيث يرد فى المرجع الشامل لفريدمان وزملائه:
Feedman H. and Kaplan H. (1967) : chapter 21 By Ervin، E.، p. 796
اقتطافا من ستراوس Strauss أنه يكاد توجد تعريفات للصرع بعدد المرضى والأطباء المتهمين بالظاهرة!! وسوف أعود إلى هذه الفكرة فيما بعد.
[25] – يحيى الرخاوى (1982) قراءة فى ديستويفسكى: من عالم الطفولة – الإنسان والتطور، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر، مجلد 3 عدد4،
[26] – يحيى الرخاوى (1972) حياتنا والطب النفسى. القاهرة دار الغد للثقافة والنشر ص 32-49.
[27] – نفسه ص 50 – 64.
[28] – نفسه ص 65 – 76.
[29] – نفسه 75.
[30] – رغم أن الكاتب كان كثيرا ما يستعمل التعبيرات الحرفية والتقنية بشكل مباشر لا يصلح معه اعتبارها رمزا.
[31] – عمر شاهين (1963) الأسس النفسية لمسرح اللامعقول “المجلة “العدد 78 السنة السابعة.
[32] – محمد النويهى (1970) نفسية أبى نواس، القاهرة.. مكتبة الخانجى (الطبعة الثانية) – وأيضا قد أورد قميحة : (انظر هامش 11) مزيدا من هذا الاتجاة فى كتابات النهويهي; انظر ص 309 وما بعدها (مما لم أطلع عليه بعد فى أصله).
[33] – عباس محمود العقاد (1980) أبو نواس : الحسن بن هانيء – القاهرة دار نهضة مصر.
[34] – يمثل هذا العلم محورا خاصا فى تطورى الشخصى، ومازال هو المحور الأساسى المنشور لنظريتى فى هذا العلم وممارستى للطب النفسي; وهو المنشور بعنوان “دراسة فى علم السيكوباثولوجى : شرح سر اللعبة “حيث كتب المتن شعرا.
[35] – هناك من يعد مجاله هو دراسة المظاهر الشعورية للاضطرابات النفسية الأساسية بحسب الوظائف الملموسة ك. ياسبرز K. Jaspers، وهناك من يقصره على ما هية الأغراض تحديدا سلوكيا (فيش Fish)، وهناك من يخص به آلية تكوين الاغراض (المدرسة التحليلية عموما).
[36] – يحيى الرخاوى (1979) دراسة فى عالم السيكوباثولوجى. شرح سر اللعبة، ص 12.
[37] – نفسه، ص 13.
[38] – حيث يكون المبدع فى الحالين هو نفسه أداة إبداعه وحقل هذا الإبداع، بما هو يمثله معا; إذ لا يصدق على الفعل الإبداعى قول أكثر مما قيل فى ذات الباحث تصبح ذاته هى “الذات المشاركة، الملتحمة المنطلقة معا”. “ذلك أن الذات فى هذه الحال لابد أن تنتظم دوراتها مع دورات خارجها الموضوعى، بحيث تصبح حساسية إلتقاطها ومدى وعيها وعمق رؤيتها متسقة مع نفس القوانين التى تشملها”، وكأنها الأداة إنتقاء وتسجيل واستيعاب وقياس حدسى، ثم هى أداة فحص وإعادة ترتيب وتعبير وإعادة تشكيل; أى أنها أداة التقاط وقياس وموضعة عبر وجودها المستقل المرن القادر على الإتصال والإنفصال دون ذوبان أو إنشقاق”. انظر المرجع السابق ص 17.
[39] – خطر ببالى أن أسميه علم “السيكوإبداع “مفضلا تعريب الجزء الأول من الاسم حتى لا أخلط بينه وبين ما يمكن أن يسمى “علم نفس الإبداع “الذى يغلب عليه المنهج السلوكى، ولكنى فضلت إثبات هذا الخاطر فى الهامش دون المتن لأنى أتوقع المبادرة بالهجوم على الاسم وما يعنينى فى المقام الأول هو التواصل حول المضمون.
[40] – أرجو ألا يجزع الذين يخافون الجديد، فإن هذه الممارسة قائمة فعلا تحت أسماء مختلفة، والبنيوية التوليدية – مثلا = تكاد تعلن نشاطا موازيا أو مماثلا.
[41] – إستعمل فرويد تعبير السيكوباثولوجى فى الحياة العامة، وحدث خلط نتيجة لتداخل مفهوم السواء بالمرض بالصحة الفائقة.
[42] – المهتمون المعاصرون بعلم السيكوباثولوجى أغلبهم من المحللين النفسيين، وهم لا يزعمون لأنفسهم – إلا قليلا – علاج “الجنون”. لكن العطاء الأكبر فى هذا العلم وما يقابله من نشاط إبداعى لا يفيض إلا مع مواجهة خبرة الجنون. وهكذا نجد أنفسنا فى مأزق مؤلم : فالذين عندهم الفرصة (يواجهون الجنون) لا يأخذونها (لايهمهم عملية توليده السيكوباثولوجية)، والذين يهتمون بعملية التكوين المرضى لايخوضون البحار الأعمق – فكانت النتيجة أن تولى الأدباء النقاد بعض هذه المهمة فى مجالهم وبإمكاناتهم.
[43] – تعمدت أن أطلق على هذا النشاط إسم “علم السلوك “وليس “علم نفس السلوك”، إحتراما وحذرا فى آن; حيث إن المغالين من السلوكيين يعدونه هو علم النفس وما سواه خارج عن نطاق العلم أصلا. ولا يهمنى هنا أن أناقش هذه القضية، ولكن يهمنى أن أؤ كد طبيعة المنظومة المعرفية، حيث يحدد مجالها منهجها. وفى هذه الحدود، فقد أجاب هذا العلم عن أسئلته وبطريقته، وميزته أنه لم يدع غير ما يستطيع، ولم يحاول غير ما أعلن، فكان عطاؤه متميزا بالدقة، واعدا بالإثراء فى حدوده.
[44] – مسألة موقع النقد الأدبى كعلم مسألة تكاد تثير نفس القضايا التى أثارتها إشكالية علم النفس. لكن المسألة فى النقد أخطر; لأن النقد عمل إبداعى ذاتي/ موضوعى بالضرورة; ومن هنا فهو إما يؤكد أحقية النشاط المعرفى ذى المنهج الفينومينولوجى أن يكون علما، وإما أنه سينسلخ من جوهر صفاته فيتكلم لغة “علمية “لا تصلح له.
[45] – فرج أحمد فرج (1981) التحليل النفسى للأدب، فصول، مجلد 1، عدد 2، ص 26.
[46] – مصطفى صفوان (1981) مقدمة ترجمة تفسير الأحلام لسيجموند فرويد، القاهرة. دار المعارف.
[47] – EY، H. Bernard ، P. and Brisset C. (1967 Manual de Psychiatrie. Paris: Masson.
[48] – يرتبط تصور “إى “بتصورات الفيلسوف عالم الأعصاب هوجلنج جاكوسين Hughining Jacobson عن التركيب الهيراركى للجهاز العصبى تشريحياً ووظيفياً وتطورياً.
[49] – Berne، E. (1961): Transactional Analysis in Psychotherapy. New Yourk: Grove Press Inc.
[50] – Imprinting، اقرأ إدا شئت ملمحا عن التحوير الذى أدخلته على هذا المفهوم فيما يتعلق بالتعلم: دليل الطالب الذكي: علم النفس (1980) ص 100 وما بعدها.
[51] – Information Processing
[52] – انظر تفصيل الفكرة: يحيى الرخاوي: الوحدة والتعدد فى الكيان البشري: (1981) الإنسان والتطور، عدد أكتوبر ص 19 – 32.
[53] – وهذا يحل الإشكال الصورى المتعلق بما إذا كان الكاتب يكتب نفسه، أم يسقط منطبعاته، أم ينسخ مخلوقات جديدة تماما (لا شخصية) كما يتمنى إليوت; فالواقع أن ذات الكاتب هى حاضن مرن، وحقل خصب، لتخليق هذه المنطبعات الكامنة فى مخلوقات جديدة. كذلك فإن الأدب الذى يندرج تحت ما يسمى تيار الوعى إنما يمثل مستوى (أو أكثر) من مستويات الوعى وقد انساب فى تنسيق متميز يتجاوز – عادة – التنظيم الوحدى الطاغى المألوف.
[54] – بل إنه قد آن الأوان لمراجعة تلك العقدة التى لصقت بأوديب شخصيا; ولا بد لذلك من العودة إلى عمل سوفكليس الأصل; وقد حاولت تفسيرات أخرى فى مواقع أخري.
[55] – يعتمد التفسير على فكرة الولاف بين تعدد الذوات (البنيات) مع حتم النمو الدائم، فى إيقاع تطورى ولافى شبه منتظم. وهذا ما صنعته فى النظرية الإيقاعة التطورية Evolutionary Rhythmic Theory فى “دراسة فى علم السيكوباثولوجي “(1979)، ومحاضرات مختارة فى الطب النفسى (1983) لم تنشر.
[56] – الشبح تركيبا= الوالد المقتول الذى زاد تقمصه له بعد قتله، لكنه لم يستقر إذ تتعتع نتيجة لهذا الكيان النامي، الذى أثارته الأحداث فى نبضة بسيطة نشطة.
[57] – لاحظ جيمس مولوفى ولورنس روكلاين (مجلة علم النفس – المجلد السابع – يونيو 1951، باب المجلات والدوريات، تلخيص مصطفى سويف أن تفسير جونس لتردد هملت غير كاف، وأضافا أن خوف هملت من النمو (النضج; الإحساس بالمسئولية; امتلاك الأم) كان وراء هذا التردد، ونقل الثقل من الفهم. إلا أن الخوف من النمو لا يعلن العجز عن النمو رغم كل الحنين إلى النكوص البادى فى المسرحية بقدر ما يعلن البصيرة بحتم النمو. فإذا أضيف أن النمو ليس مجرد الاستقلال بالبتر أو الهرب، وإذا رأى النامى هذا المأزق، إقتربنا من التفسير المقترح هنا.
[58] – أشار رولر ماى أيضا فى تفسيره إلى أن تحريم مضاجعة المحارم وما ترتب عليها من كبت (وعقد) هو محاولة من جانب التطور لإطلاق “الطاقة “إلى خارج حدود الأسرة، وكأن مضاجعة المحارم هى المستوى الثانى للاستمناء العقيم.
[59]- انظر أيضا “العدوان والإبداع “ليحيى الرخاوى -الإنسان والتطور، عدد يوليو 1980 ص 49 – 81.
قد يصل التردد فى بعض الحالات المرضية إلى العجز عن أن يحسم المريض أمره; هل يمد يده للسلام أو يبقيها بجواره فتتوقف اليد فى وضع وسط بين السلام واللاسلام يسمى Propf handومن المناسب أن نذكر القاريء أن المسرحية كتبت شعرا، وان التركيز على تفسيرها “بالأحداث “الجارية دون طبقات الشعر المتكاثفة الموحية قد سطح الموقف تسطيحا مخلا.
[60] – خشية الافراط فى التأويل، تجنب الإشارة إلى نهاية المسرحية التى تعلن إفلات الملك (الحياة) من كل الأطراف المتصارعة، ماداموا قد فشلوا فى “أن يتصارعوا”… الخ.
[61] – يحيى الرخاوى (1972): من عالم الطفولة (قراءة فى ديستويفسكي) – الإنسان والتطور، عدد أكتوبر – نوفمبر – ديسمبر – ص 129 وما بعدها.
[62] – ما بين الأقواس فى هذا المقتطف إضافة لم ترد فى النص، وإنما لزم إضافتها لتوضيح المعني.
[63] – نستعمل كلمة المعلومات هنا بمعناها الأوسع، فهى لا تشير إلى المعارف اللفظية المسجلة بالذاكرة فحسب، وإنما تشير إلى كل الكيانات الكلية المنطبعة فى تنظيمات معقدة متكاثفة، كما أن لهذا علاقة بنظرية فعلنة المعلوماتInformation Processing
[64] – عن سامى الدروبي: علم النفس والأدب، ص 99.
[65] – أقول يفيد فهمه.. ولا نسلم – بالضرورة – بتفاصيله; إذ يكاد يكون من المحال أن ينفى برجسون أن المنطبعات الآتية من الخارج هى فى تآلف مع مكمون الداخل مصدر تلك الشخصيات الغافية، وأن الإبداع ليس إطلاق سراح من استيقظ، وإنما هو إيقاظ من أغفى لإعادة تخليق الوحدات المكونة للتركيب الوليد. والتنشيط المكافيء للصرع يساعد فى هذا الإيقاظ، ثم تعتمد النتيجة على الخطوات التالية.
[66] – لست مرتاحا لهذه التسمية بصفة نهائية.
[67] – عباس العقاد (1968) ابن الرومى “حياته من شعره “بيروت، دار الكتاب العربي، ص 149.
[68] – سبق الإشارة إليه، هامش (49).
[69] – العقاد: ابن الرومى 153.
[70] – السابق، ص 161.
[71] – وقد يكون العقاد فى وسط العمر أقدر على تحمل الغموض منه بعد ذلك; ومع ذلك فأحادية النظرة غلبت فى كثير من أعماله وتراجمه. ولا نزعم أنه وهو يكتب ابن الرومى كان متأثرا بفرويد (المستقطب غالبا) أكثر من يونج (صاحب المحاولة الرائدة فى تجميع الأقطاب على مسيرة التفرد) – إذ يبدو أن هذا الكتاب قد خلا من التأثير الخارجى أصلا، وإن ظل متأثرا بما هو “العقاد”.
[72]- فحيث ترى حقدا على ذى إساءة
فثم ترى شكرا على حسن القرض
العقاد: ابن الرومى ص 160.
[73] – العقاد: ابن الرومي. ص 165. كما آمل أكون مبالغا حين أقف أمام استعمال ابن الرومى للفظ “شوب “فى وصفه اختلاط اليقين بالشك “ما وجدت امرأ يرى يوقن إلا وفيه شوب امتراء “وأتذكر هذا التداخل اللازم لاستعمال لفظ “شوب “يطلق على تمازج السوائل أساسا (العقاد ابن الرومى – ص 165).
[74] – نفسه ص 160.
[75] – عباس العقاد (1980): أبو نواس; الحسن بن هانيء، القاهرة دار نهضة مصر للطبع والنشر.
[76] – أبو نواس: 45 – 63، ثم إن الطبيب وهو يفحص مريضا بعاهة فى الغد الصماء حقا، ويمسك بالتحاليل الحديثة، ويقرأ الأرقام ويشاهد الأشعة، لا يستطيع أن يربط مباشرة بين مظهر سلوك واحد ونقص هرمون واحد. وهذا لا ينفى تأثير العاهة على الإبداع، ولكن التأثير يأتى من كيفية مواجهة العاهة وتمثلها وتحديها واختراقها، وليس فى أثرها المباشر فى الصفات ثم فى الشعر.. مما لم يثبت أصلا عند أبى نواس. ومقتطف واحد قد يظهر مدى خطأ التعميم. يقول العقاد ص 68″ ولا يخفى أن جهاز النطق شديد العلاقة بالنمو النفسي; فإذا عم النقص لسانه وحنجرته كان لذلك علاقة بوظائفه الجنسية مدى الحياة”!!.. لا تعليق!!
[77]- محمد النويهي: نفسية أبى نواس (1970) الطبعة الثانية، القاهرة مكتبة الخانجى بمصر.
وقد استشهد فى هذه الطبعة برأى اثنين من” الأساتذة المتخصصين فى الدراسات النفسية” (ص9) -” فكان حكمهما كليهما أنهما لم يجدا مأخذا على عرضى لحقائق ذلك العلم أرائه – ولم تصل الناقد أى” دراسات نفسية” قد اختص بها من سألهم، كما لم ينتبه إلى هذه الطريقة فى تقييم الصحة بالمحكمين validity by refrees تحتاج إلى تقييم المحكمين أساسا لا من حيث مكانتهم العلمية فى مجال تخصصهم، بل من حيث خبرتهم فى هذا المجال التطبيقى الخاص.
[78] – نفسه ص 31 وبعدها.
[79] – نفسه ص 44
[80]- نفسه ص 52.
[81]- نفسه ص 151.
[82] – انظر عن التعتعة” دراسة فى علم السيكوباثولوجي” للكاتب، وبخاصة صفحة 93 كخطوة نحو الاستيعاب الإيجابي، وصفحة 366 كخطوة فى المسيرة الفصامية
[83] – لم أحاول أن أنظر فى تشبيهات أبى نواس للخمر من باب المجاز الشائع كما حاول ناقدو النويهي، لأنى أرى المجاز فى الشعر بخاصة ليس هو الجوهر، بل لعله يبعدنا عن المباشرة العيانية الجديدة التى تلتقى فى مساحة” ما” مع بعض الصور والرموز القديمة، دون حاجة إلى الإسراع بتجديد وضيفتها الرمزية وبلاغتها الجازية
[84] – يذكر الاسم بالإنجليزية manic – depressive دون ترجمة، لاندرى لماذا. ص 156
[85] – ذهب أدونيس إلى إعتبار أبى نواس رائد ثورة مبدعة، كشفت”.. بشكل عام عن قضايا أربع متلازمة ومترابطة: عن محسوس. جديد، .. وعن تجربة جديدة، وعن لغة شعرية جديدة”، بل إن نفس الناقد جعل الخمر وسيلة هذا الثائر لا ختراق نفسه/ عالمه:” إنها مفتاح يصلنا بالأبواب كلها.. إنها صيغة لوجود كل شيء”. فهل يحق لنا أن نفترض أن هذه الجرعة من الإبداع المتحدى هى التى دفعت هؤلاء النقاد النفسيين إلى حبس أبى نواس داخل تشخيصاتهم كما يفعل بعض الأطباء أحيانا مع مرضاهم (الذين قد لا يكونون مرضى بعد) أدونيس: (1977) الثابت والمتحول: الكتاب الثانى ص 108، 109
[86] – عز الدين إسماعيل: التفسير النفسى للأدب:” سر شهر زاد”، ص 190 – 203
[87] – الإدراك الضلالى يحل كالصاعقة فى أقل من ثانية فيستقبل الشخص المثير الحسى بتأويل ذاتى ضلالى محمل بكل شحنة إقناعه وإنفعاله. وقد ذكرته هنا ليس لقيمته كعرض (وإلا وقعت فيما نهيت عنه)، وإنما لدلالته فى حقائق الوعى الأعمق متى حلت فى الوساد الشعورى الظاهر فرضت ما يترتب عليها فعلا حقيقيا لايحترم المنطق أو يرتدع بالإقناع.
[88] – مع الاعتراف بأنه” قراءة” من الواقع السابق الإشارة إليه، الذى لا تحكمه – تفصيلا – نظرية بذاتها، وإنما لا يستبعد أيا من المعارف أو الموقف الشخصي
[89] – انظر الحاجة إلى الشوفان فى دراسة لعلم السيكوباثولوجى (1979) للكاتب صفحات 193، 529، 700
[90] – هذا الرأى ليس بديلا لفكرة عدم الأمان من” يوم آخر” يحمل” خيانة أخري” وإنما هو مستوى آخر متداخل من الرؤية
[91] – يمثل سندباد معنى عاما يكاد يكون مؤكد لهذه الرؤية. ولعل أقرب المعانى لما نريد إظهاره هنا ماورد على لسان “بلوم” (جيمس جويس) يحيى عبد الدايم” الطفل الرجل، مجهد; الرجل الطفل فى الرحم -رحم؟ مجهد؟ يستريح.. لقد طاف مع سندباد البحار (فصول 1982 المجلد 2 عدد 2 ص 158) وهنا تعلن الرحلة بشقيها، وأنه لكى يستطيع الواحد أن يكون سندبادا فإنه لابد أن يطمئن -فى نهاية كل جولة- إلى رحم ينتظره صفلا رجلا ، رجلا طفلا، يستجمع نفسه ليبدأ من جديد كل يوم جديد، مثلما علمته شهر زاد; فطمأنينة شهر يار لرحم شهر زاد المنتظر القابل الرائى هو الذى يسمح له أن يجوب آفاق المعرفة بشقيها.
[92] – ذلك لأنه مبنى على فكرة أن سعى الإنسان يتصف أساسا بمحاولته التكيف “أخلاقيا” مع مجتمعه بالإعلاء والتسامى على حساب الطاقة الجنسية الفجة. وبرغم أننا نجد فى كتابة فرويد ما ينفى هذا التمادى فى الاستقطاب، حيث نلمح إشارات جيدة إلى إحتمال الولاف، إلا أن تفسيره للفن والحضارة بالتسامى يؤكد الاستقطاب المحدد للعمق -وقد سمى بهذا الاسم” علم نفس الأخلاق” من جانب من تسموا ب” علم نفس الكينونة”، حيث التركيز على مشكلة الوجود والعلاقة بالآخر أساسا. (راجع إن شئت مقدمة فى العلاج الجمعى (1978)
[93] – عز الدين إسماعيل (1963) التفسير النفسى لمسرحية ياطالع الشجرة -مجلة المجلة، فبراير 1963 عدد 74، ص 36 – 40
[94] – يمكن مراجعة فكرة تعدد الذوات التى سبق ذكرها فى هذا المقال والمرجع المذكور هامش (52).
[95] – مع بعض التجاوز، حيث الهى ليس مرادفا للاشعور تحديدا; فمحتوى اللاشعور، حتى عن فرويد، أكثر شمولا من الهى بكثير. كذلك فإن الأنا العليا ليست مرادفة (هكذا) للضمير
[96] – فضلت أن أورد هذا الخاطر فى الهامش دون المتن لما يحمل من احتمال خطأ أو مبالغة; فالاسم” كامل رؤية لاظ” شديد الغرابة على الأذن المصرية، حتى لو افترضنا جذوره التركية. وقد رجعت إلى محاولة معرفة دلالته فوجدت أن الرؤية: القطعة تدخل فى الإناء ليرأب (ورأب الإناء أصلحه)، ولاظ من مادة لظ، ولظ به لظا لزمه ولم يفارقه (الوسيط); فياترى هل قصد نجيب محفوظ أن ال” كامل” (ولادة جسدية مكتملة شكلا) لم يكن نفسه أبدا; فهو لم يكن سوى” أداة” ترأب بها أمه صدعها، إذ تفرض عليه أن يلزمها لا يفارقها، لأنها قررت ألا يولد نفسيا أبدا؟!.
[97] – يظهر هذا أيضا فى روايات” الأجيال” – مثلا حرافيش نجيب محفوظ، وإلى درجة أقل كثيرا ثلاثيته
[98] – القتل الضمنى الذى اعتبره الناقد مقابلا للقتل الفعلى عند أورست يحتاج – بالذات – إلى مراجعة; فكامل لم يقتل أمه فعلا، ولم يكن سببا فى موتها، حتى حين أغضبها إلى ذاك الحد، حتى لو أعلنت هى بنص الألفاظ أنه يقتلها بكلامه. ولا يوجد أى تأييد علمى مباشر يسمح بالربط السببى بين أى وفاة وبين إنفعال سابق، برغم أنه رأى شائع بين العامة. وأرى أن الناقد اضطر إلى هذا ليسهل المقارنة بأورست دون حاجة إليها
[99] – التفسير النفسى للأدب – عز الدين إسماعيل، ص 269
[100] – نفسه ص 270
[101] – يقول إن الذى رجح براءة أورست وأعطاه حريته هو صوت الإلهة أثينا التى جاءت من جبهة زيوس دون المرور برحم الأم، وعلى ذلك، فقد يكون النضج (والحكمة) هو رفض العودة إلى الرحم، وعلى هذا فصراع كامل بعيدا عن رحم أمه هو فى اتجاه الحكمة (والنضج) – وهذا إقحام لأورست فى كامل دون مبرر أو وجه شبه، كما أن التقابل بين الحكمة والرحم هو الدليل جديد على الموقف الاستقطابى، ونرد عليه بالقول بأن النضج لايتم برفض العودة للرحم، بل برحلة الداخل الخارج (إلى الرحم/ بعيدا عنه ) بشكل مرن ومتغير ومرجع للخطوة الأمامية قليلا بعد كل جولة (رحلة).
[102] – تجنبت قاصدا، لظروف هذه” المقدمة”، مراجعة بعض عينات من المحاولات الأحدث، مثل دراسة فرج أحمد فرج فى عددى فصول (يناير 1981 – المجلد الأول العدد الثاني، وعدد يناير 1982 المجلد الثاني، العدد الثانى). وهى وإن كانت أصرح إعلانا بالالتزام بالتحليل النفسي، فهى -فعلا- أكثر تحررا من قيوده الكلاسية، وأكثر تحملا لرؤية التناقضات الهيجلية الكامنة فيما تناولت من أعمال، وإن كانت تحتاج إلى حوار متجدد قد تتاح له فرصة أخري
[103] – راجع ما ذكرناه فى شأن حقد ابن الرومى فى هذه الدراسة
[104] – انظر الفقرة الأخيرة فيما يتعلق بتجربتى الشخصية فى هذا الصدد
[105] – المرحوم الشاعر صلاح عبد الصبور، حين كان يناقش الديوان المذكور فى البرنامج الثاني، وأصر على أنه شعر قح، فرحت أحاول إقناعه بأصل الفكرة فكاد لا يصدق، فذهبت أكتب هذا الشرح لأثبت ما ذهبت إليه، فى علم السيكوباثولوجي: شرح سر اللعبة”.
[106] – وما زال الاحتمال قائما، هذا – ولم أشر إلى محاولاتى التالية غير المنشورة