إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى، من كتاب “عندما يتعرى الإنسان” من حكاية: “الشعلة والحريق”
نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 27-5-2017
السنة العاشرة
العدد: 3556
إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
منذ نصف قرن: (1968)
مقتطفات:
من كتاب “عندما يتعرى الإنسان”
من حكاية: “الشعلة والحريق”
قال الحكيم:
= ….هى حكاية ذلك الفتى الثائر هى حكاية هذا العصر، بل وكل عصر، وقد شغلنا الاستطراد فى حديث “القفص والسجن” عن صديقنا هذا الذى آمن حتى كفر، وعاش الكلمات التى قرأها بكل عمق وإحساس نقى، وحين أراد تحقيقها وجد كل شىء مختلفاً…، أراد أن يضيء فاحترق… أو كاد.
قال الفتى:
- وكيف كان ذلك؟
قال الحكيم:
= هو فتى من أرض هذا البلد الطيب، حمل فى نفسه تراث حضارة قديمة أصيلة، وفى جوفه طمى نيلها القوى الجبار، وانصهرت كل خلية من خلاياه بشمسها المشرقة الدافئة، وكان يؤلمه أشد الألم أن ينبض وجدانه بكل هذا الصدق والأمل، ثم هو لا يجد حوله إلا هذا التراخى والشلل، واتجه إلى الكتاب فعشق الكلمات من صغره، فمنذ العاشرة وهو يقرأ كل ما تقع عليه عيناه، آسف… لم يكن يقرأ الكلمات بل كان يعيشها، لم تكن الصفحات أمام عينيه مسطحة ملساء بل كانت دنيا زاخرة بالأشخاص، تنبض بالحياة، لم يفرق أبدا بين اللفظ والمعنى، كان اللفظ هو معناه فى نفس الوقت… بل هو حقيقته.. كانت الألفاظ حقائق قائمة تسير فى الحياة. بل هى الحياة. وكان من أول ما عرف من ألفاظ هو كلام الله سبحانه وتعالى، ومثل أهل هذه الأرض الطيبة المنبسطة كان الإيمان عنده أمرا بديهياً لا يحتاج إلى منطق أو تفكير، فلأمر ما يدخل الإيمان هنا إلى القلوب مباشرة دون تفسير ودون جهد ودون مراجعة، أهى دعة الطبيعة تثير هذا الشىء بداخل أنفسنا؟ الشىء النابض بالجوع إلى الاتصال بأصل الوجود؟ لماذا ظهرت الديانات السماوية كلها فى هذه الأرض أو قريبا من هذه الأرض؟ وكيف لا؟ كيف يمكن وسط هذه الطبيعة السهلة ألا يتحرر الانسان من قشرته الزائفة فإذا به جزء من كل ما حوله، يحس بالأمن والخير، يحس بالقوة والحق، يحس بالصدق والأمل، إذن هو الدين فى صورته الأصيلة، وقد كان نبض الدين فى عروق صاحبنا أصيل وعميق، ولكنه حين دخل حظيرة الدين دخلها فى صدر شبابه من باب جانبى، وإذا به فى متاهات وسراديب… وابتدأت تجربته.
جاء إلىّ شبه مختار… وجلس..
وقال:
- لقد كفرتُ بكل شئ.
قلت:
= بماذا؟
قال:
– كفرت بكل ما يقال.. وكل ما كان.. وكل ما هو كائن، وكل ما سيكون، بكل ما كتبوه، وما لم يكتبوه، بكل شئ وكل أحد.
قلت:
= ونفسكَ…؟
قال:
– كفرت بنفسى أولا وقبل كل شىء.. كفرت بالأصل والفرع، بالسبب والنتيجة، بالحق والباطل، كفرت بالشىء وضده.
قلت:
= والإنسان.. والغد؟
قال:
– وبالذات كفرت بالإنسان… وبالذات كفرت بالغد.. لقد خـُـدعت بما فيه الكفاية، وما بقى منى هو العفن الطافى فوق الجسد المتآكل، اشتعلتُ حتى احترقت، وحتى الحريق لم يكمل مهمته فيتركنى ترابا مقدسا، بل تركنى جسداً مشوها منتفخا سرعان ما فاحت رائحته… لست رمادا بعد.. لم أمت.. بل جننت. أو هكذا تسمون أمثالى، الموت ينتهى إلى رماد نقى جاف، أما الجنون فهو موت عفن كريه، لم أستطع حتى الموت.. لأنى كفرت بكل شىء حتى الموت.
……………………………
…………………………..
…………………………..
= انت ضقـتَ بكل شئ.. ولكنك لم تكفرْ بعد.. وإلا لما كنت هنا.
- أنا هنا حتى أكفر بك أنت أيضا.. أكفر بالطبِّ وبالعلم، نعم العلم الطبى بعد أن كفرت بالعلم السياسى والاجتماعى.. هل تريد ان تسمع بقية حكاية الإيمان حتى الكفر؟
= …….
- إسمع يا سيدى:
حين تهت فى سراديب الكهنوت، وانتهى الإيمان إلى غيابات التنظيم السرى، وانقلب نور كلام الله إلى إرهاب كلام القادة والأوصياء، حين تصورت ما بين دفتى المصحف حلا لكل شىء فإذا بهم يستعملونى وسيلة للقهر والقتل والإرهاب الفكرى، وجدت نفسى أرتمى فى أحضان النقيض، وذهبت إلى حيث وجهتنى قراءاتى الاشتراكية العلمية، فقد كنت مازلت أتلمس الطريق بما أقرأ من كلمات توجهنى، وهناك فى أروقة المادية الجدلية رأيت الإنسان ينتصر على شهواته، قرأت عن التطور والعدل، عن الرحمة وحسن التوزيع، عن العمل والإنتاج قرأت وطربت ورقصت الكلمات فى وجدانى رغم أنى تململت من بعض التفاسير المادية البحتة، ورغم أن داخلى رفض الإلحاد والهجوم على الدين، رغم كل هذا فقد ارتقيت فى أحضان المادة والعلم المادى بعد أن كفرت بالكهنوت، بالمظاهر الدينية، ولكن داخلى ظل متمسكا بالنبض الإيمانى الذى يحس بالله سبحانه برغم كل شىء، وبلا أية وسيلة، ولا حتى غاية، ولكنى تجاهلت داخلى واندفعت إلى التفسير المادى للتاريخ،
………………………
………………………
كان النشاط سريا منذ البداية، وكنت قد تمرست على الرؤية فى الظلام من أيام الأخوة إياها، فلم يكن غريبا على أن أقبل السير فى الظلام وصعدت السلم من أوله: خلية صغيرة، ثم مسئولية كبيرة، وكلما صعدت درجة أحسست بالغرابة والانزعاج، فقد كانت الكلمات المضيئة تتوارى وراء الإجراءات والأوامر والترتيبات، وبدأ فكرى الحر يحتج، وقالوا أنت تحلم بغير الواقع.
قالوا: إن الحرية خطر على الناس، إنهم يستعملونها فى جمع المال وإذلال الآخرين، إن الحرية بهذا الشكل هى العدو اللدود للبشر، للطبقة العاملة، ونحن نمثل الطبقة التى تمثل الأغلبية، ونحن أحرار، إذن فالأغلبية أحرار، وهذا يكفى لقيام الحرية.
……………
…………….
.. وحين رأيت الأمل يختنق فى الصدور، حين رأيت الكلمات تنحبس فى الحلوق، حين اكتشفت أن أفكارى أنا شخصيا تتردد فى الورود إلى ذهنى، إلى هذا الحد وصل القهر إلى داخِلِنا: أنا أمنع نفسى أن أفكر خشية أن يجرنى فكرى إلى مناطق محظورة تضر بالطبقة الحاكمة – أعنى الطبقة العاملة – فى كفاحها المجيد ضد الاستغلال، الطبقة العاملة هى السيد والباقون طماعون سفاحون خبثاء، ولكن لماذا نفكر نحن رجال الحزب للطبقة العاملة، أليست لهم عقول يفكرون بها، ولكن أين هى الطبقة العاملة؟ إنها بين دفتى الكتب العقائدية…………
………………….
رفضت أن تكون هناك وصاية مذهبية على الفكر والتفكير.. أو وصاية طبقية على الحكم أو على الشعب: طبقة الحزب وصية على الحكام، والحكام أوصياء على الشعب، والشعب مسموح له أن يفكر فى الطريقة التى يحقق بها المادية الجدلية ذاتها.. ممنوع الجدل فى الجدل..لقد حلت النظرية كل شىء، الانسان يستغل الانسان منذ الأزل، وقد آن الأوان لتوقف كل هذا، وإذا بالانسان يستغل الإنسان من أجل زعم أن يتوقف الانسان عن استغلال الانسان.
وكفرت، كفرت…
ذبـُلَتْ شمعةٌ جديدة..ويئستُ وأنا أتحسس طريقى وسط الظلام على ضوء خافت يتراقص، وحين مددت يدى نحو الضوء احترقت وأفقت، ووجدت أن جذوة النار لم تهدأ.
وانحرفت.. هكذا قالوا!!
…………………..
…………………..
قل لى ياسيادة الطبيب النجيب ما هو ذلك الشىء الذى يُنسى الإنسان نفسه؟
= الخوف
- هو ذاك.. الخوف.. لقد خفت كل شىء، إنك إذ تخاف تفعل أى شىء وكل شىء حتى تنجو من الرعب الذى يتملكك، لقد خافوا على الانسان حتى قضوا على الإنسان، خافوا على العمال حتى خنقوا الحرية، خافوا على أنفسهم حتى نسوا أنفسهم وخفت أنا أيضا، كما أن من حقهم أن يخافوا، فمن حقى أيضا أن أفر بجلدى وفررت… ولكن إلى أين؟ ياوحشة الطريق.. إليك، إلى الأمان المطلق إلى الجنون المطبق.. آه.. يا إنسان يا غريب الأطوار.. تبا لك من حشرة جبانة تهرب إلى الجحر بمجرد سماع وقع الأقدام.
= إن تجربتك مرة، ولكن لا تمتهن الإنسان، فقد عاش حتى الآن يصارع نفسه وهو يصارع الخوف.. وهو مازال دائم التقدم بالرغم من كل شئ.
- نعم بالرغم من كل شئ. بدليل أنك جالس خلف كرسيك ترتزق من أشلائه المتناثرة
= أنا أعيش وأفعل ما أستطيع
- وماذا تستطيع حين يكفر إنسان بنفسه.. ماذا تستطيع أن تفعل له أنت؟
= أستطيع أن أحترمه رغم كل شىء، أحبه جزءاً جزءاً حتى يجمع شتات نفسه، أثق فيه وهو فى قمة تصدّعه.. أصاحبه حتى يستمر كما ينبغى.
- ينبغى؟ وماذا ينبغى ياسيادة الطبيب؟ ينبغى أن أغمض عينى وأكتفى بأن أذهب إلى وظيفتى وأقبض راتبى آخر الشهر؟ أن أقتنى امرأة حضّانة تنتفخ بطنها بين الحين و الحين ببعض ما ألقيه فيها من فضلات اللذة، حتى تزيد عدد الأحياء التعساء، ماذا ينبغى يا سيادة الطبيب؟. قل لى بربك ماذا تفعل بالناس من على كرسيك هذا؟ أنت تساعد فى”ميكنة” الإنسان وقتل مشاعره.
قطع
(خارج النص:
قال الفتى: إن هذا الرجل بالغ الصدق، حاد المنطق حتى يكاد يفحم الطبيب أولا بأول
قال الحكيم: هذا صحيح، وعلى الطبيب أن يحترم ويصبر ويواصل كما سنرى.
قال الفتى: .. لا مفر من الانتظار والصبر آملا فى التعلم)
2017-05-27