نشرة الإنسان والتطور
نشرة الأحد: 21-5-2017
السنة العاشرة
العدد: 3550
مقتطفات:
إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى،
منذ نصف قرن: (1968)
من كتاب “عندما يتعرى الإنسان”
من حكاية: “فى القفص” (2)
مقدمة:
عرضنا أمس مقتطف مبدئى من هذه الحكاية، انتهى بكشف موقف المتهم الذى يفضل أن يدخل السجن الرسمى وراء القضبان هربا من السجن الاغترابى خارجه رافضاً سجنه وراء لافتة الجنون حتى لو كان هذا الأخير سوف يعفيه من مسئولية ما ارتكب.
ونكمل اليوم
المقتطف: (من فصل: “فى القفص”)
(المتهم يواصل حواره مع (هجومه على) الطبيب:
……….
المريض:
– هل تريد أن تسمع أكثر
الطبيب:
= أحب أن أسمع كل ما تريد أن تقوله.
- ولكنى لا أعرف ما أريد أن أقوله، هل تعرف أنت؟ ربما أخطأ هذا المحامى الأبله العنوان، وكان ينبغى عليه أن يحولنى إلى ضاربة للودع أو قارئة للكف، لماذا لا تستعين بهؤلاء الزملاء يادكتور، لماذا لا تخصص هذه الحجرة المجاورة لهؤلاء المختصين الأذكى ربما أفادونى أكثر وأرشدونى إلى ما أريد، ربما كان ذلك أجدى من جلوسك هكذا بالساعات تحاول أن تفهم ما لا تعرف، لأنه إذا كنت أنا نفسى لا أعرف، فمن أين لك أن تعرف أنت.
= نعرف سوياً.
- ولماذا تعرف أنت؟ إن ما أريد أن أعرفه غير ما تريد أن تعرفه أنت، أنت تريد أن تعرف إن كنتُ مجنونا أم عاقلا، إن كنت مسئولا أم معتوهاً، أما أنا فأريد أن أعرف أشياء أخرى، أريد أن أعرف من أنا؟.. كيف أنا؟ لماذا أنا؟.. كم أنا؟.. أريد أن أعرف نفسى بكل أبعادها، فكيف نعرف “سويا” أشياء مختلفة أشد الاختلاف.
= ولكنا نلتقى بشكل ما، فكل ما يهمك يهمنى.
- أنا؟.. يهمني؟…أنا لا يهمنى شىء البتة، أى شىء يمكن أن يهمني؟… أنا لا أريد شيئا ولا أستطيع شيئاً، أنا لست أى شىء حتى يهمنى أو لا يهمنى، حتى تهتم لابد أن “تكون” وأنا لا شئ، ماذا عندك، هل عندك جديد.
= ربما وجدنا شيئا.
- أى شىء تتصورونه أنت أو المحامى أو غيركما، هل قضبان القفص عندك من ذهب بدلا من الحديد الصدئ، هل مستشفى الأمراض العقلية أرحم من سجن مصر؟ أنا خبـُرت كل الطرق ولم يعد هناك شىء أنتظره، لأنه لم يكن هناك أحد ينتظرنى.. أبداً، لماذا تحاول استدراجى وأنا لا أثق فيك، إن وسائل التفاهم بيننا مقطوعة من قبل أن أجيئك، أنا أعيش فى سجن الحذر والتوجس ولهذا فضلت “سجن مصر”.. إن تجسيد الأمور فى صورة حقيقية ملموسة أسهل على النفس وأقرب إلى الواقع… يعنى أقرب إلى الصحة، أليست الصحة فى نظركم هى احترام الواقع… إذن فأنا احترم الواقع… لقد عشت سجينا بكل معنى الكلمة، وقد قررت احترام الواقع؟ لهذا أنا دبرت أمورى حتى أدخل السجن الحقيقى حيث أستطيع أن أمسك بالقضبان بين يدىّ بدلا من أن أتحدث عن قضبان وهمية تنتهى بى إلى حضرتك يا سيادة الطبيب النفسى.. بل دعنى أقول لك الحقيقة: لقد هربت، لقد اخترت الطريق الآخر، اخترت أن أكون مجرماً هرباً منك، من أن أكون مجنونا، أليس ذلك أسهل على النفس؟ إن تكسير الحواجز الاجتماعية أسهل من أن تكسر ذاتك وأنت تحاول إثباتها..؟ ولكن ما باليد حيلة… هربتُ إلى السجن لأقع فى قبضتك أخيرا. كان ينبغى أن أخدع وكيل النيابة أكثر، فحين قلت له أنا هارب “إلى” السجن، صحح قولى، حسب أنى أعنى الهرب “من” السجن، وحين أكدت له أنى لم أخطيء وأنى هارب “إلى” السجن فعلا، لم يفهم أننى أعنى أن سجن مصر أرحم من السجن الكبير الذى نعيش فيه جميعا، أرحم من القيد الذى كبَّلونى به صغيرا…، ونظر إلىَّ المحامى- محامى الحكومة، – هى التى عينته لى – وبرغم ذلك راح يحاول الحصول لى على البراءة، ولكن الثمن غال، البراءة مقابل أن يلصق بى تهمة المرض، أيهما أفضل يادكتور أن تكون لصا أم أن تكون مجنونا.. ماذا تفضل أنت؟… لا ترد! وبعد ذلك تقول لى… لابد أن أثق فيك. حتى تساعدنى، تساعدنى فى ماذا؟.. أثق بمن؟…ولماذا؟ هل تعرف ثمن الثقة يادكتور؟ هل تعرف ماذا يحدث حين تثق بأحد الناس ثم يخيب ظنك؟ ثم يتخلى عنك؟ هل تعرف أن الثقة هى أغلى ما فى الوجود؟ وأخطره فى ذات الوقت؟ ماذا عندك يدعونى للثقة بك.
= ربما لأنه ليس عندى شىء معين.. أو فكرة مسبقة.. أستحق ثقتك، ربما لأنه ليس معلقا وراء رأسى ميزان العدالة، تستطيع أن تشعر أن الميزان بيدك أنت، وأن ما حدث هو نوع من اضطراب التوازن… ربما تكون المشكلة فى أن تجد أحدا… يسمع… حتى تعيد أنت وزن الأمور، تعيد رؤية الأشياء من زاوية أخرى، حتى بقصد تقويم ذاتك.
- ربما.. ربما.. كل شىء جائز… حتى ما فعلتـُه أنا هكذا يجوز أن يكون صواباً، ربما، ما دامت هناك “ربما” فليس هناك حقيقة ثابتة، إذن لماذا لا تدعونى أدخل بنفسى حيثما أردت، حيثما وضعنى القانون… أو حيثما ينبغى أن يضعنى.”ربما” يكون ذلك أفضل، لماذا يحاولون حرمانى من تحقيق أفكارى. ”ربما” وجدت حماية فى الداخل أضمن وأوقع من حماية الخارج… ربما.
= ولكن هذا الذى تفعله لا يطمس عليك حقيقة أنك هارب، لقد اخترت الابتعاد عن العالم الخارجى والمسئولية وراء أسوار حقيقية… متصورا أنك بذلك تتحدى العالم… وفى الحقيقة أنت تهرب منه.
– ربما كنت أهرب… بل إنى فعلا أهرب، الناس “فى الخارج” صعب، حين تحتاجهم لا يعطونك، وحين يعطونك تكون قد استغنيت عنهم ولا يعود لعطائهم معنى ولا فائدة، الناس” فى الخارج” صعب، ولذلك فقد قررت أن أدخل برجلىّ إلى الداخل… داخل السجن، هل تعلم يا سيدى لماذا؟ برغم أنى لا أثق فيك ورغم أنك قد تعتبرنى مجنونا وتحاول تبرئتى بذلك إلا أنى ألاحظ أنك تحاول أن تفهم، هذه ميزة فى حد ذاتها: أن تحاول، لذلك سأقول لك…. ربما تفهم، ربما أجد فى النهاية من يفهم وحتى لو لم تفهم فإنى لا أهتم بك… ولماذا أهتم بك… إسمع… ولكن: هل تريدنى أن أقول فعلا؟
(وحين هممت بالرد عليه… أكمل دون أن ينتظر ما كنت سأقوله)
= ……………………..
– ما أجمل أن تكون القضبان ملموسة… واقعاً محسوساً، بدلا من وهم الحرية فى الخارج، هذا تصرّف ربما تعتبرونه غريباً، ولكنه ليس جنونا على كل حال… فقد فشلت أن أجـَنّ: هذه مأساتى.
= مأساتك أنك لم تجن؟!
- نعم أليس الجنون فى تعريفكم بعد عن الواقع وعدم احترامه؟ أليس هو تحطيم الأسوار العادية فى دنياكم التقليدية؟… أليس هو تغيير كامل فى الشخصية؟ لقد فشلت فى كل هذا، فأنا مازلت أحترم الواقع بدليل أنى لجأت إلى السرقة حتى أوضَع بحكم القانون فى السجن بعد أن فشلت فى الخروج عن الواقع بالجنون، بعد أن فشلت فى تغيير شخصيتى تغييرا جذريا يسمح لكم بلصق تهمة الجنون بى، هل تعلم ما الذى جعلنى أعدل عن قرار الجنون؟
= …….؟
- الشفقة.. وأسوار الألفاظ، لقد أبيت أن يشفق الناس علىّ، لقد أبيت – أو قل لم أستطع- أن أبدو ضعيفا أمام أحد، لم أرضَ أن أُسجن وراء تشخيص من تشخيصاتكم التى لا معنى لها… الجنون الحقيقى هو الحرية الكاملة، ولا توجد حرية كاملة حتى وراء أسوار مستشفى الأمراض العقلية، لذلك فقد رفضت الشفقة والضعف ووشم التشخيص الذى سوف تلصقونه بى، وفضّلت أن أكون مجرما بمحض إرادتى، فضلت تجسيم الواقع بالعيش وراء أسوار السجن على تزييف الحرية بتحطيم أسوار الواقع بالجنون، اكتشفت ببعد نظرى أن تشخيصاتكم ومستشفى الأمراض العقلية واقع أمرّ من واقع الحياة التى رفضتها، هل تذكر أنى قلت لك فى أول الحديث لقد اخترت أن أكون مجرما هربا منك… هرباً من أن أكون مجنونا؟ فى الحقيقة أنا لم أهرب من الجنون ذاته ولكنى لم أستطع أن أقبل الضعف ولا الشفقة، ولا الصورة التى ترسمونها فى أذهانكم للجنون، وجدت أن الجنون ذاته له أسوار، وأن مأساتى ستنقلب إلى ألفاظ لاتينية تتشدق بها أنت وزملاؤك، فرفضت كل ذلك، رفضت أن أصبح سجينك أنت بعد أن عشت سجين الناس والمجتمع، لذلك فأنا أنصحك لوجه الله أن توفر جهدك، فأنت تحاول أن تثبت ما لم أستطع أن أحققه، تحاول أن تثبت أنى غير مسئول، وأنا أحكى لك مسئوليتى كاملة، مسئوليتى عن الجريمة، عن الحياة، بل عن فشلى فى أن أجـَنّ لأصبح كما يزعمون.
= أنا لا أحاول شيئا الآن… لابد أن تدرك أنى أحاول مساعدتك ليس إلا، أحاول أن نناقش اختيارك الجديد، هل سيفي بغرضك أم لا؟ وأنا أطرح سؤالا عليك: هل اختيارك هذا حل لمشكلة وجودك؟
- اختيارى؟ وجودى؟ هل أنا اخترت اصلا؟، وهل يمكن أن أختار؟ يبدو ذلك ممكنا فى الظاهر، ولكن عندك حق… أين وضعنى اختيارى هذا؟ هل السجن الحديدى أفضل من السجن النفسى؟ لم أعد أدرى، هذه هى مشكلتى فعلا، أريد أن أختار “أنا” بنفسى، وهذا ما لم أحققه أبدا رغم أنى قضيت حياتى كلها أصارع من أجله.
وبعد
غدًا آخر مقتطف من نفس الحكاية
أما الحكاية كلها فيمكن الرجوع إليها فى العمل الذى عمره خمسون عاما.