نبذة: بمناسبة مرض ألم بالاستاذ نجيب محفوظ (فى مستشفى الشرطة ثم المنزل) حال دونه والخروج مع أصدقائه كعادته ستة أيام فى الاسبوع كتبت هذا المقال تذكرة لنا، وربما له أن الذى يبغيه بيننا مبدعا متجددا هو قراره أن نعيش ، وفى المقال وتحذير واضح من أن يسرقنا المرض إلى الانسحاب لا قدر الله.
الأهرام: 10-2-2003
إرادة الحياة والخوف من قرار التوقف
.. حتى من خلال أزمة المرض، مازال شيخنا يعلمنا. كنت أفضل ألا أكتب عن هذه الأيام الصعبة بعد أن من الله على شيخى نجيب محفوظ بالشفاء بفضله تعالى، وفضل الزملاء أطباء مستشفى الشرطة، ونبض حب أسرته، ونبل وفاء أصدقائه، لكن رسالة جديدة وصلتنى وجدت من الأمانة أن أبلغها للناس.
عاصرت إرادته وهو يدرب يده اليمنى مقطوعة العصب من بدايته، كل يوم لمدة ثمان سنوات، حتى استطاع أن يكتب أحلام فترة النقاهة، فتعلمت منه كيف نقول ‘لا’ للإعاقة مهما بلغت. عشت معه وهو يحرك وعى المحيطين به ليعيدوا النظر فى كل شيء حتى فى آرائه، وهو يسمح بكل رأى، خاصة ما يخالفه، وهو يستمع لكل محاولة مجتهد مبتدئ حتى لو شطح أو تسطح. لم أكن أعلم بعد تسع سنوات أنه قد بقى لى جديد أتعلمه منه إلا أن أستزيد مما وصلنى، لكننى تعلمت فى الأزمة الأخيرة جديدا أجدنى ملزما بالإشارة إليه، أمانة ومسئولية.
فى عز أزمة مرضه، حين سمع صوتى، وهو يعرف موقفى النقدى من الجارى هناك، ابتسم وهو يتمتم’.. الحضارة الغربية!!’. فهمت أنه يعلننى أنه وصله حضورى، وأن حديثنا حول هذه المسألة ما زال متصلا. قلت له ‘سوف نصنع أحسن منها’، فرد مطيبا خاطرى ‘.. إن فعلتم، فأنا معكم’ . لم يكن فى الأمر جديد، لكن الجديد أن درجة حرارته كانت لا تزال مرتفعة، وحالته كانت ما زالت حرجة، ومع ذلك فقد أيقنت ساعتها ضد كل مخاوفنا أنه قرر أن يشفى من هذه الأزمة . وصلنى قوله’.. فأنا معكم’ كأنه قرار أن يواصل دوره ‘معنا’ بكل هذا التواضع والإصرار جميعا.
لكننى فزعت فزعا شديدا وأنا أقرأ له رده على الصديق محمد سلماوى حين سأله عن موقع الأحلام بعد مرضه بقوله ‘إنها تحطمت’. وتأكد فزعى وهو يردد له بعد ذلك أن ‘السلامة أصبحت الآن بعيدة المنال’. كنت أعرف أنه قد ألف خمسة أحلام وكتبها فى خلايا دماغه، دون الورق، لظروف خاصة. كما كنت أعرف ماذا تعنى كتابة هذه الأحلام له، وكيف تحافظ على حياته متواصلا مع ناسه، تذكرت رده عن سؤالنا له يوما عن قيمة هذه الأحلام بـ’إنها،حياتي’. خفت أن أفاتحه فى تفسير كلمة ‘تحطمت’، كان أخشى ما أخشاه من هذا المرض العابر، أن يكون سببا فى خلخلة برنامجه الذى حافظ على استمرارعلاقته بالناس والحياة خلال تسع سنوات. كان تقديرى أن هذا البرنامج اليومى البسيط قد تثبت فى خلايا مخه حتى تنظمت به أيام أسبوعه السبعة. كان همى الأكبر ألا يترتب على هذه الحرارة اللعينة ما يهز هذا البرنامج حتى يتحطم. ربما هذا هو السبب الذى رأيت معه أن يعاود هذا البرنامج فى نفس يوم خروجه، وقد كان. تعجبت يومها حين لقى صديقه القديم (أكثر من نصف قرن) ‘هارفى أسعد’ فبادره بالسؤال عن صحته، هو الذى يسأل صديقه، قلت: إن البرنامج الذى تصورت أنه تحطم بإعلانه تحطيم الأحلام، مازال يمكن تنشيطه.
أعرف أن الأعمار بيد الله سبحانه وتعالى، لكننى أعرف أيضا أن الله يبارك فى عمر من يرعى حق الحياة، ويصر على مواصلة حمل رسالتها. إنها ليست القاعدة، لكنها آمنية واردة لمن توثقت علاقته بالحياة وخالـقها إلى هذه الدرجة التى عرفتها عن شيخى الجليل.
فى يوم عرفة المبارك، آدعو الله أن يتم نعمة الشفاء عليه، وألا يحول دونه ودون أحلامه لنا، وأحلامه معنا حائل، وأن يلهم محبيه ومريديه أن يشاركونى الدعاء، إذ يبلغهم المعنى الذى أردتـه. كما أدعو الله أن يلهم شيخنا الجليل ألا ييأس منا إذا ما آذته غفلتنا بحسن نية، أو عطله سوء تقديرنا حين نتصور أن حرصنا على وقايته، يمكن أن يرجح فهمنا لمعنى وضرورة استمرار برنامجه. هل يا ترى هذه هى مهمته هو بعد كل هذه المعاناة، والضعف، والمقاومة؟ أم آن علينا نحن أن نعرف كيف نحب، وكيف نرعى، وكيف نتحمل المسئولية؟
يا شيخنا الجليل، حتى لو هز بعض محبيك برنامجك دون قصد، فلا تتوقف. لا تتركنا. أنت قادر على أن تعيدنا إلى الصواب بإصرارك على أن تظل معنا، نبنى حضارتنا لكل الناس بفضل مشاركتك، وريادتك، كما وعدتنا فى عمق معاناتك. حفظك الله منـا، ومن المرض.